شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يسبق لأي معركة من معارك الحرية أن كانت نزهة. كلها كانت تدفع الى اليأس أيضا. القهر والفقر والضيق والعزلة والغدر والقتل، هي من جملة ما تنتظر وأنت تتحدى قوى عاتية، كلية القدرة، إلا أنك، وأنت تغرق في الظلمة، سترى شيئا لم يسبق لك أن رأيته بالوضوح نفسه من قبل: انه الظلمة نفسها. أنظر فيها، وسترى انها تتحرك. وستدرك أن شيئا في طبيعتها يجعلها زائلة.


الظلام قد يدوم طويلا، فينتج يأسا. وقد يتوحش، فيملأ جرحك ملحا. إلا أن الفجر دائما ما يولد من رحمه. بل أنه يكون أسطع كلما كان الظلام الذي استولده أشدّ عتمة.


لهذا السبب، إن لم تر نجاحا، آمن بالفشل.


انظر من حولك وسترى أن الاحتلال مشروع، بطبيعته، فاشل. لم ينجح في أي مكان، ولن ينجح في أي مكان. المحتلون أنفسهم يعرفون أنهم قد يصنعون تاريخا، إلا أنه خارج التاريخ. فهم يخوضون اللعبة لمتعة خاصة باللعبة نفسها. القوى العظمى لا تفعل بامتلاك مشاريع احتلال وغزو، إلا ما يجب أن تفعله. أن تتوسع؛ أن تنشر ثقافتها أو ديانتها أو أيديولوجيتها؛ وأن تذهب لتفرض نفسها بالقوة. ذلك جزء من طبيعتها أصلا. ولكنها تندحر في النهاية. يأكلها العفن.


قد تدوم الإمبراطوريات أطول إذا صدرت عن منظومة قيم، وإذا نجحت في إثبات أن تلك القيم جديرة بالإعتبار وقابلة للدمج والاستيعاب في الثقافة المحلية. ولكن أنظر الى ما فعل الغزاة في العراق، لترى أن هؤلاء البقر لم يقدموا إلا العفن. قتلوا وعذبوا واغتصبوا وهجروا ودمروا وارتكبوا الأهوال من أجل أن يفرضوا على العراقيين أفّاقين ولصوصا ومرتزقة.


ولقد أثبتوا أنهم بقر، ولا حتى رعاة بقر، عندما جعلوا الفساد والإرهاب والقهر هو القوة التي يملون بها إرادتهم، وهو الوسيلة التي يشترون بها الضمائر (القابلة للشراء)، فخسروا كل مبرر كان يمكن أن يسمح بتوليد قيم أو باستيعاب ثقافات.


وأنظر الى ما يفعل الاسرائيليون. انهم يجسدون الإنحطاط نفسه حيال المجتمع الفلسطيني الذي قهروه بالقوة، ولم يقدموا له إلا الفساد والخوف وشراء الضمائر.
أمبراطورية روما، على وحشيتها، كانت تلعب دورا إستعماريا أفضل بكثير، وأنضج مليون مرة. ولعله من حسن حظنا أن أثبت خصومنا في هذا المعترك إنهم بقر بكل معنى الكلمة.


نعم توجد لديهم مراكز أبحاث عملاقة. نعم، لديهم "براميل" تفكير (ثينك تانك)عميقة أيضا. ولكنها أثبتت بالتجربة أنها مراكز لسوء الفهم، وبراميلها مليئة بالروث لا بالفكر.


لقد بدا العراق وكأنه منخفض سهل، بعد حربين مدمرتين، وبعد حصار دام اكثر من 10 سنوات، وبعد اهتراء عنيف طال كل مقومات الحياة. ولكن أنظر الى الحصيلة، وسترى أن ذلك المنخفض تحول، بقدرة قادر، الى مرتفع شاق وشاهق. وكلما رفعوا فيه صخرة، نزلت على رأسهم صخرة.


أي شيء، في ذلك المنخفض، كان يمكنه أن يكون "أحسن". أي شيء فعلا، (هكذا افترضوا). ولكن أنظر من حولك، وسترى بلادا كان فيها كهرباء فصارت تغرق في الظلام. وكان فيها نظام، فصارت مستنقع فوضى، وكان فيها مؤسسة تعليم، فصارت مؤسسة عربنجية، وكان فيها خدمات، فصار فيها نهب، وكان فيها "دكتاتور" (على ما كنا نعتقد) فصار يحكمها حرامية، وكان فيها انتهاكات فصار فيها القتل على الهوية وبالجملة.


ولقد ظن الغزاة أنهم، إذا قسموا العراق الى طوائف متصارعة، كسبوا القسمة. ولكنهم خسروا السنة، ولم يكسبوا الشيعة. ولم يجنوا من جانبي المعترك إلا الفساد والفوضى من جهة، والمقاومة والتمرد من جهة اخرى.


لو كانت الطائفية تشتغل، ولو كان يمكنها أن تنتج نظاما مستقرا، لكان أولى بسنة العراق (بما انهم القوة المدينية المتعلمة، وبما انهم كانوا وراء بناء دولته الحديثة) أن يقيموا هذا النظام، وأن يحموه بالوسائل التي يحمي بها أي نظام طائفي نفسه. ولكنهم لم يفعلوا. لانهم كانوا يعرفون أنهم سوف يخسرون العراق كله. أولا، لأن نظاما كهذا سيجر وراءه الكثير من المظالم وأعمال القهر وهندسة القسوة. وثانيا، لأنه سيجعل العراق نهبا لقوى وتدخلات خارجية، فلا يكسب أحد منها شيئا. وثالثا، لأنه سيكون حكومة كتل لا تنتج إلا الفساد والفوضى. ورابعا، لأن من يبحث فيه عن "حصة"، لا يخسر شيئا أسرع مما يخسر تلك الحصة، لأنها ستكون موضع نزاع خارجي (بين الطوائف) وصراع داخلي (بين العوائل) في آن معا.


فقط الحمقى (في مراكز الأبحاث "العملاقة") هم وحدهم الذين لم يسألوا أنفسهم: لماذا ننشئ نظاما عافه أولى الناس به وأكثرهم قدرة عليه؟
لقد كان المرء يحتاج أن يكون فرانسيس فوكوياما لكي يفهم انه غبي. وانه صموئيل هنتغتون لكي يعرف انه برميل محشو بالسخافة. بل إن المرء يحتاج، بالأحرى، أن يكون حمارا لكي يرتكب كل ما ارتكب الغزاة من جرائم وأعمال قهر وهندسة قسوة، من دون أن يدرك أن مشروعه مشروع فاشل.


والحمد لله، على ما وهبنا من غزاة. إذ أثبتوا انهم بقر، وأستعانوا على أمرهم ببقر، وأنتجوا من نظرياتهم روثا.
فإن لم تر في مقاومتنا نجاحا، فأجلس على ضفة النهر، لتستمع بالمنظر. فالقارب السكران آتٍ، يترنح بما حمل.
ساعتها سترى ما لم تكن تراه.
لقد كانت الظلمةُ ظلمةً، إلا أنها، في أحلك الساعات، كانت تستولد من رحمها فجرا.
فاصبر على أمرك. وعض على جرحك. إن مع العسر يسرا.
 

 





الاثنين١٦ ذي الحجة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٢ / تشرين الثاني / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي الصراف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة