شبكة ذي قار
عـاجـل










لم تكن الجريمة المروّعة التي هزّت كنيسة سيّدة النجاة في بغداد هي الأولى في سياق استهداف الوجود المسيحيّ في العراق، فهذه الكنيسة نفسها تعرّضت لاعتداء سابق قبل حوالي ستّة أعوام، والمسيحيّون في بغداد وفي الموصل وفي غيرهما من مدن العراق تعرّضوا لأكثر من اعتداء وأكثر من تفجير وأكثر من تهديد.


لا يعني هذا أنّ الوجود المسيحيّ وحده هو المستهدف في العراق، كما لا يعني أنّ المسيحيّين وحدهم يدفعون ثمن الاحتلال الأمريكيّ والفوضى الناتجة عنه، إذ لم يسلم أتباع أيّة طائفة أو مذهب أو دين أو عرق من التصفية والإرهاب.. والدماء التي سالت في الكنائس لا تختلف عن تلك التي أريقت في المساجد والحسينيّات.. على الجسور وفي الجامعات.. وكذلك في الأسواق والمطاعم والحافلات.. في بغداد وفي البصرة وكركوك والموصل وديالى.. وفي كل مدن العراق..


إنّ الجرائم التي تستهدف العُبّاد والعمّال والطلاب وغيرهم إنّما تستهدف العراق كلّه، أرضا وإنسانا وهويّة وتاريخا ومستقبلا. لذلك لم تلق تلك الأعمال الإجراميّة سوى التنديد والإدانة. وكان الوعي بخطورتها متزامنا مع الوعي بالأسباب التي أدّت إليها. ولم تكن إدانتنا لها انحيازا إلى مذهب أو تحاملا على طائفة، وإنّما كانت انحيازا إلى العراق العظيم بكلّ مكوّناته، بل دون النظر إلى مكوّناته إلاّ من زاوية الموقف من الاحتلال وطريقة التعامل معه.


لم تكن الحملة التي شنّتها مؤخّرا قوى ودول ومنظّمات غربيّة مسيحيّة مفاجئة للمتابعين. وهي حملة كانت تركّز على أمر أساسيّ هو أنّ الوجود المسيحيّ في الوطن العربيّ أصبح مهدّدا، وأنّ الوقت قد حان لاتّخاذ موقف غربيّ جماعيّ لإنقاذ "مسيحيّي الشرق" من آلة القمع والقهر التي تستهدفهم. وانبرت وسائل إعلام غربيّة كثيرة تصوّر ما حدث في كنيسة النجاة ببغداد على أنّه حرب إبادة وتهجير تستوجب ردّا سريعا وحاسما.


لم يكن الأمر مجرّد هَبّة عارضة دفع إليها عدد الضحايا، كما لم يكن ذرّا للرماد في عيون الضاغطين على القوى المسيحيّة في الغرب، وإنّما بدا أنّه عمل ممنهج ودقيق يأتي استكمالا لخطوات أخرى تمّ قطعها على ذات الطريق منذ سنوات. فقد استقبل برنار كوشنير وزير خارجية الحكومة الفرنسيّة الساقطة قبل أيام عددا من ممثّلي الطوائف المسيحيّة، وبعدها اجتمع مجلس الأمن الدوليّ بناء على طلب فرنسيّ للنظر في أوضاع المسيحيّين بالعراق والهجمات التي يتعرّضون إليها.


كان هذا الاجتماع حدثا غريبا حقا، إذ لم يُدْع مجلس الأمن للانعقاد مطلقا لمناقشة تفجير أو اعتداء أو جريمة حصلت في العراق على كثرة ما حصل فيه، ولم يُبد مجلس الأمن مساندته أبدا لأيّة طائفة على كثرة ما لحق أتباع الطوائف والأديان من ضيم وقهر وقتل. ومنذ سلّم هذا المجلس أمر العراق للغزاة كفى نفسه مؤونة الانشغال بالمخاطر التي تناوشته من كلّ جانب.


لقد قُتل في العراق مئات الآلاف، وهُجّر ورُمّل ويُتّم الملايين.. بل كانت بعض الجرائم بشعة إلى حدّ لا يصدَّق كجريمة جسر الأئمّة التي ذهب ضحيّتها أكثر من ألف عراقيّ، ومجزرة الزركة التي نفّذتها حكومة الاحتلال وطائراته.. ومع ذلك فلم نسمع لمنظمة الأمم المتّحدة صوتا، ولا عرفنا لها موقفا. فما الذي حدث؟


حتّى نفهم الأمر جيّدا علينا أن نعود بضع سنوات إلى الوراء، فالعراق ليس جزيرة معزولة عن محيطها، وما يُخطَّط له لا يختلف كثيرا عمّا يتمّ إعداده لباقي الأقطار العربيّة، وإن كانت الأدوات مختلفة.


في شهر جوان الماضي استمع الكونغرس الأمريكي، في سابقة هي الأولى من نوعها، إلى منصّرين طردتهم الحكومة المغربيّة بسبب تورّطهم في عمليّات منظّمة لتنصير أطفال يتامى تحت ذريعة العمل الخيريّ.


وفي الفترة ذاتها ولنفس السبب شنّت الأحزاب والمنتديات المسيحيّة في أوروبا حملة إعلامية ضدّ المغرب، من نتائجها أنّ لجنة الشؤون الخارجيّة في البرلمان الإسبانيّ وافقت على اقتراح يطالب المغرب باحترام حرّيّة الأفراد في اعتناق أيّ دين، مشيرة إلى أن كلّ المجموعات البرلمانيّة الإسبانيّة (كلّها دون استثناء) أيّدت الاقتراح الذي يطالب أيضا الحكومة الإسبانيّة بالقيام بإجراءات لدى السلطات المختصّة في المغرب.


قبل حوالي عام وعلى إثر مقتل عدد من الأقباط في مدينة نجع حمّادي المصريّة، أعرب الفاتيكان عن تضامنه مع مسيحيّي مصر ودعاهم إلى "الاتحاد في وجه الظلم". وقال رئيس مجلس أمناء (منظّمة الاتحاد المصريّ لحقوق الإنسان) نجيب جبرائيل، إنّه بعث بمذكّرتين إلى الأمم المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ للمطالبة بإجراء تحقيق دوليّ في الاعتداءات الأخيرة على الأقباط.


وتحت دعاوي حماية الأقلّيّة المسيحيّة من الاضطهاد نظّمت الجمعيّة الخاصّة"السينودس" لأساقفة الكنائس في الشرق الأوسط مؤتمرها الثاني قبل حوالي شهر في الفاتيكان، وخلص المشاركون إلى أنّ المسيحيّين في الشرق الأوسط، خاصّة في مصر يعانون من القمع، الأمر الذي يدفعهم إلى الهجرة إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا، داعين إلى وقف ما أسموه بـ "نزيف الهجرة" وإبداء الدعم الغربي لهم، حتى يتوقفوا عن الرحيل من "أرض الأجداد".


بل إنّ البابا بينديكت السادس عشر قال إنّ "من المستحيل تجاهل الوضع الاجتماعيّ والسياسيّ الحسّاس والمأساويّ في بعض البلدان في الشرق الأوسط".
ما خلاصة كلّ ما سبق؟


المسيحيّون العرب في خطر، ولا بدّ من توفير حماية غربيّة لهم حتّى يتمكّنوا من مواجهة محاولات اجتثاثهم من أرضهم... وبعبارة أخرى أصبح التدخّل الأجنبيّ مباحا وضروريّا لتحقيق هذه المهمّة.


قبل ذلك سيتمّ توظيف المال لمنع العرب المسلمين من طرد إخوانهم المسيحيّين، لذلك تتحدّث أوساط مسيحيّة عن مشروع مارشال بتمويل أمريكيّ وتنفيذ فاتيكانيّ لإعادة توطين حوالي مليونين من المسيحيّين اللبنانيّين، وهو مشروع تصل ميزانيّته إلى 20 مليار دولار!!!


إنّنا نعتبر المسيحيّين إخوة لنا وشركاء في الوطن، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، مثلما نعتبر أنّ تكوين الأمّة العربيّة اكتمل بتنوّعها الدينيّ وثرائها الثقافيّ وبالتعدديّة في إطار الوحدة.. وتلك هي القوميّة العربيّة التي نحمل لواءها وندافع عنها.


لكنّ من حقّنا أيضا أن نتوجّس شرّا من كلّ الدعوات المشبوهة التي لا نشتمّ من ورائها سوى التخطيط للتدخّلات الأجنبيّة والتشريع للاحتلال، لا سيّما عندما نتذكّر أنّ بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر، كان قد دعا العام الماضي إلى ضمّ كلّ البشر إلى المسيحيّة واصفا هذا الأمر بـ "الواجب" و"الحق الثابت". فبأيّة أداة سوف يتحقّق هذا "الواجب"؟



akarimbenhmida@yahoo.com

 

 





الجمعة١٣ ذي الحجة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٩ / تشرين الثاني / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الكريم بن حميدة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة