شبكة ذي قار
عـاجـل










توقفت سيارتين حديثتين ذات عجلات دفع رباعي قرب دار أحد جيراننا المطلة على الشارع العام في أحد أحياء بغداد , وترجل من أحداهما ثلاثة أشخاص يرتدون ملابس تدل على الثراء ويسر الحال , ويضعون نظرات شمسية من النوع المعتم على وجوههم على شاكلة ضباط السي أي أي , ووضعوا على الجدار لافتة تقول ( أنتخبوا مرشحكم لرئاسة العراق الدكتور موفق الربيعي ) , ثم طرقوا الباب على صاحبة الدار مهددين متوعدين بالويل والثبور وعظائم الامور أن تجرأ أحد ومسح هذا الشعار . حدث ذلك في الاسابيع الاولى من الاحتلال ولم يكن أحد يعرف بعد ماهو شكل النظام السياسي القادم . كانت الشوارع خالية من المارة , سوى الغرباء الذين جاءوا مع الاحتلال , وكان ذلك أول عهد لبسطاء القوم بمعرفة هذا الاسم خاصة من الذين ليست لديهم أية أهتمامات سياسية , بعد أن أنتشرت هذه الافتة على الكثير من الجدران , ولم يطلعوا على مقابلاته التلفازية التي كانت تغري المحتلين للانقضاض على العراق والتوسل بهم لتدمير شعبه ونهب ماضيه وحاضره , ومصادرة مستقبله الى أفاق مجهولة .


نشير الى هذه الحادثة للتدليل على أن المنصب قد كان ساكنا في عقول وقلوب غالبية الطبقة السياسية التي قدمت مع الاحتلال , وكذلك الذين ركبوا سفينة المحتل بعد 9 نيسان 2003 من وجهاء القوم وشيوخ عشائر ورجال دين , حتى غص بهم المركب فراحوا يتدافعون بالمناكب


ويتقاتلون بالمليشيات ويفجرون الوزارات السيادية وغير السيادية والاسواق , بل وصل الهيام بالمنصب الحكومي الى الحد الذي لازال بعضهم يبشر بأندلاع الحرب الطائفية مرة أخرى , أن لم يحصل على مايريد هو وحزبه وطائفته , ويثقف الناس على ذلك بقنواته الفضائية وصحفه الصفراء وبمعمميه من رجال دين السلطة , كي ينتزع المنصب الحكومي من يد منافسه حتى لو كان ثمنه دماء أهله وشعبه , وقد أفرزت لنا تجربة السبع سنوات الماضية صورا مقززة عن العلاقات السياسية فيما بينهم كأحزاب وكأفراد داخل الحزب السياسي الواحد , فوجدنا من يترك حزبه وهو يحتل موقعا متقدما فيه مفضلا الاستمرار في المنصب الوزاري حين أنسحب حزبه من التشكيلة الوزارية , ليتبين لنا بأن (نضاله ) في أيام المعارضة لم يكن من أجل المبادئ والشعب والحزب كما كان يزعم , كما رأينا الكثير منهم كيف كان يقف على أرض متحركة يميل كيفما مالت الريح , فيتحول من المنهج الاممي الشيوعي الى المنهج السياسي الطائفي الشيعي


ومن المنهج الاسلامي السياسي الى المنهج العلماني , بل حصلت الكثير من المؤامرات السرية والعلنية للاطاحة بالامناء العامين للاحزاب , كي يتصدر المتامرون المشهد السياسي وينالوا حظوة لدى المحتل في منصب أو مال كان قد قرره الحاكم الامريكي لكل زعيم حزب سياسي , فيرسل أحدهم رسولا للامريكان بأن أمين عام حزبه يتعاون مع ( الارهابيين ) فيظهر ذلك الامين العام في التلفاز ممدا على الارض ويطأ جندي أمريكي بحذائه على ظهره , ثم يقود المتامر التيار الذي يتزعمه في الحزب للتثقيف بأن ليس من المنطقي أن يبقى الامين العام في منصبه في ضوء مالحق به من أهانة على يد الامريكان , ولابد من تبديله فيكون له ماأراد ويصبح أمينا عاما للحزب , وما أن فشلت سياسة الحزب وتبين أن الانتخابات لن تأتي للحزب بالاصوات الكافية , أستقال الامين العام وذهب الى تيار سياسي أخر أملا في تحقيق فرصته بأن يتحول من كرسي الانابه الى كرسي السيادة , كما كانت واقعة خروج نوري المالكي على الامين العام لحزبه بعد أن وجد أسلحة السلطة بين يديه , دليلا أخر على أن الاحزاب ليست أكثر من وسيلة للوصول الى المنصب في تفكير من يتصدرون المشهد السياسي العراقي اليوم , ولعل ماذكره الحاكم المدني الامريكي في مذكراته عن فترة حكمه في العراق , عن التقاتل الذي جرى من أجل تبوء منصب ( رئاسة الجمهورية ) الشكلي تحت حراب الاحتلال , والمؤامرات والدسائس والتذلل والتزلف والولائم ل(بريمر) , أنما يعطي أنطباعا واضحا بأن الذي يجري اليوم من نزاع سلطوي أنما هو نتيجة طبيعية لهذا النمط من التفكير الذي يجعل الحصول على المنصب الحكومي في سلم الاولويات لاجل الثراء لا لاجل خدمة الشعب والوطن .


أن ما تتناقله وكالات الانباء والقنوات الفضائية والصحف من تصريحات زعماء القوائم السياسية , التي بشرت وتبشر بلقاء أياد علاوي ونوري المالكي وكيف تشكلت اللجان وما هي أفاق سير المفاوضات , وتصف كيف تبادلوا الطرائف وتناولوا الشاي والفواكه على بعد أميال قليلة من أحياء بائسة فقيرة تعج بالناس البسطاء المتضورين جوعا والمسكونين بمختلف الامراض في ظل أنقطاع الماء الصافي والكهرباء مثل ( الوشاش , والاسكان , والطوبجي , وحي العامل ) وغيرها الكثير من احياء بغداد , أنما تخدعنا مسامعنا وكأن اللقاء سيكون بين زعيم الاتحاد السوفيتي سابقا ورئيس الولايات المتحدة الامريكية لحل أزمة مدمرة من أزمات زمن الحرب الباردة , ولم يعد أمام علاوي والمالكي الا الاعلان عن أنشاء خط ساخن بينهما كالذي كان بين السوفييت والامريكان لمنع نشوب ازمة قد تدمر العراق , فالطقوس السياسية بين زمر الطبقة الحاكمة اليوم أصبحت طقوسا دولية وليست محلية , فالمصطلحات السياسية التي يوردها الاعلام عنهم غالبا ماتكون تحت بند خبر عاجل من مثل ( لقاء قمة بين زعيمي القائمة س والقائمة ص ) و ( وصول وفد التحالف ك للتفاوض مع وفد الحكومة من أجل المناطق المتنازع عليها) وكاننا أمام دول متنازعة كل يهدد الاخر ويحاول أن يقضم من أرضه وثرواته فيشكلون الوفود ويعقدون لقاءات قمة .


لقد أوغلت بعض القوى والشخصيات السياسية المتشاركة في العملية السياسية في أنتهازيتها السياسية واللعب على المصالح الوطنية العليا في ظل المشهد والمأزق السياسي الاأخلاقي فراحت تتنصل من تاريخها المعروف , وارتمائها في أحضان هذا الطرف أو ذاك , لتغازل قوى أقليمية أخرى بعد أن وجدت نفسها خالية الوفاض وأن وهج المنصب الحكومي قد اصبح بعيدا عن المنال , وأنها قد تركن جانبا بعد أن أدت دورها المرسوم لها حسب تخطيط المحتل , فلاغرابة أن نسمع اليوم من كان بالامس ( مستشارا للامن القومي ) ولم ينبس ببنت شفة عن الدور الايراني في العراق يقول عن قاسم سليماني الضابط الايراني في فيلق القدس ( أن له القول الفصل ) في الملف العراقي , ويقلب الحقائق ليرسم لنفسه دورا بطوليا مدعيا أنه هو من أستخدم الامريكان ولم يستخدموه دمية تنفذ أهدافهم حين يقول ( خدعنا الامريكان وأتينا بهم لاسقاط نظام صدام حسين ) ناكرا أنه تم تعيينه بأمر بول بريمر في منصبه ولمدة خمس سنوات بل أنه يتحدث عن الفساد وعيوب الدستور والجهلة والطائفيون الذين تحكم قراراتهم تأثيرات دول أقليمية كما يصفهم هو , وكانه لم يكن في نفس المركب , بل أنه يعلن لنا أكتشافا جغرافيا مهما بأن المملكة العربية السعودية تقع غرب العراق , فيقول ( لايمكن أن نستعيد هويتنا العربية الا من خلال البوابة السعودية ) , لكنه لم يسعف ذاكرتنا ويقول لنا من هو الذي قطع أوصال العراق عن محيطه العربي والغى العراق كجزء من الامة العربية ؟ اليس هو وزملاءه من طاقم الحكم المتحالف مع أيران والامريكان .


أن المراهنة على أياد علاوي ونوري المالكي والجعفري والحكيم وغيرهم , لن يرمم البيت العراقي لانهم هم من بذر الطائفية وشتت الوطن وأنتهك حرماته وأهدر ثرواته , وكانوا عرابين للمحتل ومروجين لمنهجه المسمى ( العملية السياسية ) التي جعلوها هي الصراط المستقيم الذي لابد أن يسير عليه كل العراقيين , وأن المنصب هو هدفهم الستراتيجي كما صرحوا هم بذلك , وما هذه الفعاليات الاستعراضية التي نراها اليوم في المشهد السياسي العراقي من التقارب بين هذه القائمة أو تلك وأفتراق هذا عن ذاك , أنما هي فصل جديد من فصول الصراع على السلطة والتفاهمات بطريقة الصفقة , من أجل الثراء ونهب المال العام وأهدار المزيد من الدماء .


د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي





الاثنين٢٣ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٥ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة