شبكة ذي قار
عـاجـل










أن يحدث ذلك أخيراً أفضل من أن لا يحدث أبداً، أم أن لا يحدث ذلك أبداً أفضل من أن يحدث أخيراً؟ يصعب الاختيار بين الأمرين عندما يتعلق الموضوع بعودة الحياة إلى "الهيئة العربية للطاقة الذرية". فبعد سنوات معاناة المنطقة من مرض الذعر الذري، تبحث الآن الدول العربية مشاريع "استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء وإزالة ملوحة البحر". هذا عنوان أول مؤتمر عربي يعقد حول الموضوع في الشهر الحالي في مدينة الحمامات بتونس. ويجعل مؤتمر "الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية"، والذي يعقد ببغداد في ديسمبر القادم، هذه السنة "الذرية" مباركة. فعلماء العراق أسسوا "الهيئة العربية للطاقة الذرية" عام 1989، وقد يردد الباقون منهم على قيد الحياة عبارة الترحيب الحميمة: "هاي وين هالغيبة"؟



تقدّر كلفة هذا الغياب اقتصادياً بمليارات الدولارات، وبشرياً بملايين القتلى والجرحى والمشردين بدعوى امتلاك العراق للسلاح الذري. لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ هذا السؤال سيرفرف مع رايات الدول العربية على حواجز إسمنتية تحرس المؤتمر، فهل يمكن أن يجيب عنه البرادعي، المدير العام السابق لـ"الوكالة الدولية للطاقة الذرية"؟ هل يأتي البرادعي إلى بغداد ليعيد من على منبر المؤتمر اعترافاته المشهورة لمجلة "تايم" الأميركية، و"بي بي سي" البريطانية: "كان ينبغي قبل حرب العراق أن أصرخ، وأصيح بصوت أقوى وأعلى لمنع أناس من إساءة استغلال المعلومات التي قدّمناها"؟ ومتى ينظر في عيون العراقيين حين يذكر "أسوأ لحظة في حياتي كانت عندما بدأت الحرب"، وينحني أمامهم، ويقول "فقدان مئات الآلاف من الناس أرواحهم استناداً إلى الوهم وليس الحقائق يجعلني أرتعد"؟! هذه الوقفة مهمة، ليس للاعتذار للعراقيين عن الماضي، الذي لن يكون قط ماضياً بالنسبة لهم، أو لبلدان المنطقة التي توظف حالياً مليارات الدولارات في إنشاء مفاعلات وبرامج نووية، بل الوقفة مهمة للتأكيد على أن للعراق وللمنطقة وللعالم مستقبلا.



وهذا ما تسعى إليه مشاريع ونشاطات "الهيئة العربية للطاقة الذرية" التي استهلّتها بداية العام بالاجتماع الأول للشبكة العربية للمراقبين النوويين والإشعاعيين. والشبكة هيئة رقابية مستقلة تشترط "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" وجودها في كل دولة لديها برامج متعلقة بالاستخدامات السلمية للطاقة الذرية. وتتقدم الدول العربية، حسب التقرير الصادر عن الهيئة، الإمارات والأردن اللتان أسستا هيئاتهما الرقابية الوطنية حسب معايير "الوكالة الدولية للطاقة الذرية".



وينمو الاستخدام العالمي للطاقة النووية في توليد الكهرباء بسرعة فائقة، حيث يتوقع بناء 56 محطة جديدة في السنوات العشر المقبلة. ولا يوجد مجال لا تدخله التقنيات النووية التي تستخدم في تحسين الإنتاج النباتي والحيواني، ومعالجة الأغذية بالإشعاع، وتشخيص وعلاج الأمراض بالطب النووي، وإدارة الموارد المائية، وفي دراسة وحفظ الثروة الوطنية ذات القيمة الأثرية والتاريخية. ناقش هذه الجوانب "المؤتمر الدولي الثاني حول التكنولوجيات النووية لخدمة المجتمعات الإقليمية" الذي عقد ربيع العام الجاري في المنامة، وتحدث فيه 60 خبيراً عن أمن وسلامة التكنولوجيات النووية في المجتمعات الإسلامية، ومعاهدة منع الانتشار، والرصد الإشعاعي، والإنذار المبكر، ومخاطر التلوث، وكيفية التعامل مع النفايات النووية.



وعندما يتعلق الموضوع بمخاطر استخدام الطاقة الذرية لا يمكن المزاح مع العراقيين؛ إنهم "المستحيل في عالم مستحيل" الذي يتحدث عنه كاتب الخيال العلمي راي برادبري. فالعراقيون أسسوا أول لجنة للطاقة الذرية في المنطقة عام 1955، وتغيرت العهود والأنظمة، فيما استمر علماء الذرة العراقيون في تطوير "الكتلة الحرجة" التي تشكل القاعدة الصناعية للبلد. وكالمقياس الإشعاعي الذي يقيس عمر كل شيء، قاس عمل البرنامج النووي العراقي قدرة أنظمة الحكم المتعاقبة على تحمل أعبائه، حتى النظام السابق الذي كان "المستحيل في عالم مستحيل". إلغاء الاحتلال "منظمة الطاقة الذرية العراقية" عام 2003 كان الهدف منه القضاء النهائي على "الكتلة الحرجة" التي واصلت عملها حتى بعد وقف العراق برنامجه النووي عام 1991.



قصة عمل "الكتلة الحرجة" التي كانت تضم نحو 8 آلاف عالم وباحث وفني وإداري في إعادة بناء الجسور المهدمة والهياكل الارتكازية المدمرة، في الظروف الاستثنائية للحصار، وتحت سياط استجوابات مفتشي... الأسلحة تحتل ثلثي صفحات أهم كتابين صدرا عن البرنامج النووي العراقي. ألف الكتابين أربعة علماء شاركوا سنوات عدة في قيادة "منظمة الطاقة الذرية العراقية" و"البرنامج النووي" العراقي. كتاب "الاعتراف الأخير" الذي شارك في تأليفه جعفر ضياء جعفر، ونعمان سعد الدين النعيمي، كقطعة سمفونية تتناغم أصواتها المتصارعة باحتدامها. وكتاب "استراتيجية البرنامج النووي في العراق"، الذي شارك في تأليفه همام عبد الخالق عبد الغفور وعبد الحليم إبراهيم الحجاج، مرجع أكاديمي تختتمه وثيقة اعتذار تاريخية لعلمائنا "لأننا لم نحطهم بسياج أمن وأمان وافيين، كما فعل الرئيس الفرنسي مثلاً عندما نقلهم في الحرب العالمية الثانية إلى خارج مناطق الاحتلال النازي، بينما وقع علماؤنا فريسة للمعتدي... لم تعطِ السياسة فرصة للعلماء ليوصلوا بلدهم إلى بر الأمان".



عندما ندخل موقع "الهيئة العربية للطاقة الذرية" في الإنترنت نعثر في فقرة "المديرون العامون السابقون"، على اسم "الأستاذ الدكتور علي عطية عبد الله، عراقي 1989- 1993"، ونستنتج أنه أول مدير للهيئة التي أقرت القمة العربية إنشائها عام 1988، ومقرها تونس. ويخلو الموقع من ذكر لسيرته الذاتية وأطروحاته للماجستير والدكتوراه في "الفيزياء النووية" في جامعة أوكلاهوما بالولايات المتحدة، حيث قام بالتدريس، وعودته إلى بغداد لإدارة "معهد البحوث الذرية". ولا ذكر لمؤلفاته وأبحاثه في الفيزياء النووية، والإدارة العلمية، والدوريات التي أنشأها بما فيها "مجلة الذرة وتنمية المجتمع" التي تصدر عن الهيئة لحد الآن. هذه المعلومات عرفتها صدفة، الشهر الماضي، عندما وصلتني رسالة بالبريد الإلكتروني مرسلة إلى منير نايفه، أستاذ الفيزياء في جامعة إيلينوي تسأله: "هل التقيت يوماً ما بشخص اسمه علي عبد الله"؟ حرّك السؤال مشاعر نايفه المشهور في تاريخ العلم بتحريك الذرات المنفردة، وأجاب فوراً: "لقد كان شعلة وقادة بالنسبة لنا جميعاً".



وأردف علي عبد الله رسالته باعتذار ساخر أنه لا يبحث عن عمل، فهو منذ عام 1993 أستاذ الفيزياء في كلية العلوم بجامعة بغداد. هكذا يفكر علماء الفيزياء النووية على غرار أرنست رذرفورد الذي مُنح جائزة نوبل عن اكتشافه العالم الداخلي للذرات، وكان يعتبر العلوم صنفين: الفيزياء وجمع الطوابع! والمصيبة أنه مصيب في تصنيفه الساخر، إذا علمنا أن كل مادة في الكون، سواء كانت حية أو ميتة، كوكباً أو شجرة، طيراً أو إنساناً أو حجراً... تتكون من ذرات، والذرات تعمل بموجب قوانين الفيزياء !

 

محمد عارف - مستشار في العلوم والتكنولوجيا





الاربعاء٠٤ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٦ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد عارف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة