شبكة ذي قار
عـاجـل










مع الرصافي في شعره السياسي

فؤاد الحاج

 

 

خلال مطالعتي لكتاب (معروف الرصافي حياته وأدبه السياسي) الصادر عن دار الكتاب العربي بمصر – محمد حلمي المنياوي، وهو رسالة للباحث (رؤف الواعظ) والتي تمت مناقشتها في كلية الآداب بجامعة القاهرة بتاريخ 10/5/1961، وجدت فيه معلومات كثيرة مما يمكن أن تفيد القارئ العربي في كل مكان وزمان، على الرغم من الرصافي كان في نزاع نفسي كما يبدو من خلال الفصل الرابع من الكتاب لأنه كما يقول الباحث "إن الرصافي كان يجمع بين شعورين متصلين ببعضهما البعض كل الاتصال، فهو عربي، يتمنى للعرب كل مجد وسؤدد، وهو مسلم، بطبيعة نشأته الدينية المتغلبة على تفكيره ونفسيته، ولهذا كان يعطف على الدولة العثمانية باعتبارها دولة مسلمة، ولم يكن من رأيه في هذا الوقت انفصال البلدان العربية عن الدولة العثمانية، وإنما كانت غاية أمانيه، تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة العربية".. لذلك "خاصم ثورة الشريف حسين مخاصمة فيها شيء كثير من الشدة والغلظة".. كما جاء في الصفحة 167 في سياق البحث الذي يتحدث عن فترة إعلان الشريف حسين الثورة العربية الكبرى في الخامس من حزيران/يونيو 1916، ويضيف "وقد عارض تلك الثورة كل من الأمير ابن الرشيد في الجزيرة العربية والإمام يحي في اليمن، كما عارضتها مصر والسودان"، التي يصفها الباحث بـ"العداء الحقيقي تجاه الثورة"، ويقول الباحث أيضاً أن "أمراء آخرون قد أيدوها مثل ابن السعود وابن الصباح، ليس بدافع الرغبة في هذه الثورة، أو انتصاراً للقضية العربية، أو مودة للشريف حسين، وإنما مرد ذلك راجع إلى الإخلاص العميق الذي يكنه هؤلاء لبريطانيا التي علقوا مصائرهم بمصائرها، وأطماعهم بما قد وعدوا به من وعود خلابة". وكي لا نطيل في شرح تلك المواقف المخزية التي لا زالت كما هي ولم تتغير منذ ذلك التاريخ، فإن القارئ يجد في هذا الكتاب بعض من تاريخ العراق في العهد العثماني ومعاناة العراق والعراقيين في عهد الانتداب البريطاني كما أسموه آنذاك وهو تحريف لكلمة احتلال مباشر، وفي هذا السياق فصل كامل عن مرحلة الانتداب البريطاني ونضال العراقيين ضد المستعمرين.. واليوم نعيد قراءة بعض من صفحات ذلك الكتاب ليقارن القارئ العربي بين تلك المرحلة والمرحلة الحالية من احتلال العراق وكأن التاريخ يعيد نفسه، ففي الفصل الخامس الذي يحمل عنوان (بين الانتداب والاستقلال) صفحة 172 يتحدث الباحث عن كيف "تم تأسيس الحكم الوطني في العراق" بعد ثورة عام 1920 التي "كانت هي السبب المباشر الذي حمل الإنكليز على أن يذعنوا لإرادة الشعب العراقي ورغبتهم في تأسيس حكم وطني في العراق، يرأسه ملك يختاره العراقيون أنفسهم عن طريق الانتخاب، بعد أن استبان لهم أن الحكم في العراق بات عديم الأهمية والفائدة، وأنه يمكن تأمين مصالح بريطانيا فيه على الوجه الأكمل بواسطة العملاء والمأجورين دون الحاجة إلى الحكم المباشر"!.. 

يذكر أن (السير بيرسي كوكس) "المندوب السامي البريطاني في العراق"، كان قد مهد لذلك بإعلان تشكيل "حكومة مؤقتة" برئاسة عبد الرحمن الكيلاني – نقيب أشراف بغداد، وأن مخطط بريطانيا كان منذ البداية من وراء ذلك اختيار الأمير فيصل بن الملك حسين ملكاً على عرش العراق.. لذلك عقد مؤتمر في القاهرة في 12/3/1921 برئاسة ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية حينذاك، وقد حضره بعض العراقيين، وتقرر فيه بصفة نهائية ترشيح فيصل لعرش العراق، ووضعت الخطة التي تسهل أمر فوزه، لأنه لم يكن هو المرشح الوحيد لهذا العرش، إذ كان هناك مرشحون آخرون من العراقيين وغير العراقيين، كما هو حاصل في هذه الأيام، أمثال: عبد الرحمن الكيلاني – نقيب أشراف بغداد – و"رئيس الحكومة المؤقتة"، وطالب النقيب – نقيب أشراف البصرة، وعبد الهادي باشا العمري رئيس الأسرة العمرية المشهورة في الموصل، ومن غير العراقيين برهان الدين نجل آخر سلاطين بني عثمان، وقد رشح البعض آغا خان لعرش العراق، كما ورد في (محاضرات عن العراق من الاحتلال حتى الاستقلال) لعبد الرحمن البزاز صفحة 62-64.. وبما أن إدارة الشر الصهيو-أمريكية وبحسب اعتقادي قد درست تلك المرحلة بعد الهزائم التي منيت بها على أيدي أبطال المقاومة الوطنية العراقية لذلك جلبوا المدعو الشريف علي من بريطانيا ومن ثم عدلوا عن ترويجه إعلامياً كما فعلوا مع عناصر ما أسموه "مجلس الحكم"، كما استفادت إدارة الشر الصهيو-أمريكية من دراسة تلك الحقبة من تاريخ العراق أنهم جلبوا تاجراً عراقياً من عشيرة معروفة على الرغم من أن قدماه لم تطأ أرض العراق منذ أكثر من ثلاثين عاماً ولا زالت عائلته وأعماله التجارية في بلاد نجد والحجاز وعينوه رئيساً كما عينوا عميلهم "رئيس حكومة مؤقتة" كما تباهى هو بذلك! فما أشبه اليوم بالبارحة!.

وفي 23 آب/أغسطس 1921، أقيم حفل تتويج فيصل ملكاً على العراق بعد انتخابات صورية بطبيعة الحال فاز فيها فيصل بأغلبية الأصوات.. وقد حضر التتويج المندوب السامي البريطاني والقائد العام للجيش البريطاني، ورجال "الحكومة المؤقتة"، ولفيف من كبار الموظفين العراقيين.

وبعودة إلى الباحث رؤف الواعظ الذي يقول في كتابه في الصفحة 173 "...ولقد كان الرصافي حينما جرت حفلة التتويج هذه.. ولا شك في أنه نقل إليه كيف أن المندوب السامي السير كوكس، قد تأخر عن عمد وسابق إصرار، عن الوقت المحدد لبداية هذا الاحتفال ليكون الملك فيصل في انتظاره، لا أن يكون هو في انتظار الملك، حسبما تقتضي بذلك قواعد البروتوكول.. ولا ريب في أنه قد نقل إليه أيضاً، كيف جلس هذا المندوب عن يمين الملك، والقائد العام للجيش البريطاني عن شماله، فأدرك –وهو الثاقب البصيرة، العميق الإحساس- أن الملك الجديد لا محالة سيكون تحت إرادتهم ومشيئتهم، وأنه سوف يراعي مصالحهم الخاصة، دون مصالح الشعب العراقي"!.

ويضيف الباحث "فتشاءم الرصافي من ذلك -ومن حقه أن يتشاءم-  وأحس بأن العراق الذي كان تخلص من الحكم الإنكليزي المباشر، سيقع من جديد في مصير أشد قسوة، وأفظع أمراً، ذلك بعد أن يتولى الأمر فيه ملك، ولكن ليس له من الملك إلا الاسم، وبعد أن يتولى الأمر فيه حكام من أبنائه لا يستطيعون أن يأتوا بعمل ما دون رغبة سادتهم الإنكليز ومشيئتهم.. ومن البديهي بعد ذلك كله أن يندد الرصافي بالوضع الجديد، ويسخر من الملك، ويهزأ بالوزارة، ويدعو إلى الثورة على الإنكليز، والقضاء على من يسير في ركابهم، ويأتمر بأوامرهم، ممن باعوا وطنه وقومه في سبيل تحقيق منافعهم الشخصية، ومآربهم الذاتية".

وما كان بين الرصافي والملك فيصل، حقيقة يمثل طبيعة كره العراقيين عبر التاريخ للغزاة ومقاومتهم الشديدة ورفضهم لهم انطلاقاً من الفلوجة وهو ما لم تفهمه الحكومات البريطانية المتعاقبة كما لا ولن يمكن أن تفهمه إدارة الشر الصهيو-أمريكية في واشنطن.. فالرصافي كان يرى الملك ألعوبة بأيدي الإنكليز، وأنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً دون موافقتهم ورضاهم، ولذلك فأن الملك الحقيقي هو الذي يسكن في الجانب الغربي من بغداد، المقر الرسمي للمندوب السامي البريطاني، وليس الملك الذي يسكن في الجانب الشرقي من بغداد حيث بلاط الملك فيصل الأول.. تماماً كما هو مقر المندوب السامي الأمريكي في بغداد المحتلة اليوم!

وفي ذلك قال الرصافي في قصيدته (بين الملك والمفوض السامي) يشير الباحث إلى أن هذه القصيدة غير منشورة في ديوان الرصافي:

في الجانب الشرقي من بغدادنا / ملك عن الزوار غير محجب

والجانب الغربي فيه مفوض / فوق الحكومة لندني المنصب

والأمر بين كليهما متردد / والناس بين مشرق ومغرب

يذكر هنا أن عبد المحسن السعدون، رئيس الوزراء لاحقاً، أراد أن يصلح بين الرصافي وفيصل، وأن ذلك لم يتم لموقف الرصافي الجريء في حضرة الملك، وبعد أن خرج من البلاط قال أبياته التالية:

أبلاط ملاط أم لواط / أم مليك بالمخانيث محاط

غضب الله على ساكنه / وتداعى ساقطاً ذاك البلاط

لقد استطاع الرصافي في قصائده أن يظهر زيف الانتخاب الصوري وأن الحكم كله زائف حيث قال:

أنا بالحكومة والسياسة أعرف / أألام في تفنيدها وأعنف

سأقول فيها ما أقول ولم أخف / من أن يقال شاعر متطرف

ويمضي بعد ذلك ليبين زيف مظاهر الحكومة ورموزها، ومن يطالع ديوانه يجد العديد من القصائد التي سخر منها من تلك الحكومة، ومنها قصيدته المشهورة (حكومة الانتداب) التي قال فيها بعد تشكيل الحكومة ووضع الدستور وتغيير علم العراق حيث يقول:

علم ودستور ومجلس أمة / كل عن المعنى الصحيح محرف

أسماء ليس لنا سوى ألفاظها / أما معانيها فليست تعرف

من يقرأ الدستور يعلم أنه / وفقاً لصك الانتداب مصنف

من ينظر العلم المرفرف يلقه / في عز غير بني البلاد يرفرف

من يأت مجلسنا يصدق أنه / لمراد غير الناخبين مؤلف

من يأت مطرد الوزارة يلفها / بقيود أهل الاستشارة ترسف

وبما أن الحكم والحكومة من صنع الاستعمار فلا عجب أن يصف الرصافي هكذا حكومة وحكم بقول:

أفهكذا تبقى الحكومة عندنا / كلما تموه للورى وزخرف

كثرت دوائرها وقل فعالها / كالطبل يكبر وهو خال أجوف

كم ساء منها ومن وزرائها / عمل بمنفعة المواطن مجحف

تشكو البلاد سياسة مالية / تجتاح أموال البلاد وتتلف

تجبي ضرائبها الثقال وإنما / في غير منفعة الرعية تصرف

حكمت مشددة علينا حكمها / أما على الدخلاء فهي تخفف

وبعد ذلك يدعو الشعب العراقي إلى الثورة ضد الحكم الغاشم فيقول:

وإذا دعا داعي البلاد إلى الوغى / أنظن أن هناك من يتخلف

أيذل قوم ناهضون وعندهم / شرف يعزز جانبيه المرهف

كم من نواصي للعدا سنجزها / ولحى بأيدي الثائرين ستنتف

إن لم نضاحك بالسيوف خصومنا / فالمجد باك والعلى تتأفف

وفي قصيدة أخرى بعنوان (طيف نحن في العراق) ديوانه يقول الرصافي:

أيكفينا من الدولات إنا / تعلق في الديار لنا البنود

وإنا بعد ذلك في افتقار / إلى ما الأجنبي به يجود

إذن فالهند أشرف من بلادي، وأشرف من بني قومي الهنود

ويقول أيضاً عن "الحكومة الوطنية":

وكم عند الحكومة من رجال / تراهم سادة وهم العبيد

كلاب للأجانب هم ولكن / على أبناء جلدتهم أسود

وليس الإنكليز بمنقذينا / وإن كتبت لنا منهم عهود

وببلاغة الرصافي استطاع أن يصور هذا الوضع السياسي في عشرينات القرن الماضي في العراق، وما وصل إليه الوضع من سوء بالغ، كذلك قال في قصيدة له ألقاها في الحفلة التي أقامها المعهد العلمي تكريما لأمين الريحاني عند قدومه بغداد في أوائل أيلول/سبتمبر 1932، وعنوانها (تجاه الريحاني شكواي العامة)، ففي تلك القصيدة أكد الرصافي أن العراق ظل باقياً على ما هو عليه الحال تتناوله معاول الهدم، وتتناوله أيدي التخريب حيث يقول:

من أين يرجى للعراق تقدم / وسبيل ممتلكيه غير سبيله

لا خير في وطن، يكون السيف / عند جبانه، والمال عند بخيله

والرأي عند طريده، والعلم / عند غريبه، والحكم عند دخيله

ونمضي مع الرصافي في سخطه وثورته واستنكاره للوضع في العراق حتى نقف وإياه عند عام 1929، حيث وصل إلى بغداد آنذاك (المستر كراين) الثري الأمريكي المعروف، وقد أقيمت له حفلة تكريم دعي إليها الرصافي وألقى قصيدة هناك ذكر فيها أن الحكومة العراقية تتصرف في الظاهر كأنها حكومة ولكنها في الواقع هي مجلس دمى بأيدي الإنكليز وتحقق خططهم ومآربهم الاستعمارية حيث يقول:

وإذا تسأل عما / هو في بغداد كائن

فهو حكم مشرقي / الضرع غربي الملابن

وطني الاسم لكن / إنكليزي الشناشن

عربي أعجمي / معرب اللهجة راطن

فيه للإيعاز من / لندن بالأمر مكامن

هو ذو وجهين وجه / ظاهر يتبع باطن

قد ملكنا كل شيء / نحن في المظاهر لكن

نحن في الباطن لا / نملك تحريكاً لساكن

أفهذا جائز في / الغرب يا مستر كراين؟!..

وعن الوزير والوزارة قال الرصافي:

فوزير القوم لا يعمل / من غير إشارة

وهو لا يملك أمراً / غير كرسي الوزارة

يأخذ الراتب إما / بلغ الشهر سرارة

ثم لا يعرف من / بعد خراب أم عمارة

وفي بداية الثلاثينات أصبح الرصافي نائباً في المجلس النيابي العراقي، حيث كان نوري السعيد رئيساً للوزارة وقد اعترض الرصافي على توقيع المعاهدات التي قدمتها بريطانيا بواسطة نوري السعيد، وكشف في كلماته في المجلس النيابي مخاطر تلك الاتفاقيات متسائلاً: أية معاهدة هذه تقوم بين طرفين أحدهما قوي "محتل" والآخر ضعيف؟!.. وأية منافع سيجنيها العراق من جراء عقد تلك الاتفاقيات؟!..

وفي مطلع قصيدة (يوم الفلوجة) يقول الرصافي:

أيها الإنكليزي لن نتناسى / بغيكم في مساكن الفلوجة

ذاك بغي لن يشفي الله إلا / بالمواضي جرحة وشجيجه

هو كرب تأبى الحمية أنا / بسوى السيف نبتغي تفريجه

هو خطب أبكى العراقين والشام / وركن البنية المحجوجة

حلها جيشكم يريد انتقاماً / وهو مغر بالساكنين علوجه

ويختمها قائلاً:

أخصب الله أرضه ولو أني / لست أرعى أرضه ومروجه

كل يوم بعزه أتغنى / جاعلاً ذكر عزه أمزوجة

ما حياة الإنسان بالذل إلا / مرّة عند حسوها ممجوجة

فثناء (للرافدين) وشكراً / وسلاماً عليك يا فلوجة

هذا باختصار كان موقف الشاعر معروف الرصافي من ما سمي بالحكم والحكومة الوطنية آنذاك.

 






الخميس ١٧ شعبــان ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / أذار / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب فؤاد الحاج نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة