شبكة ذي قار
عـاجـل










 

الحَضَارَةُ قِيَمٌ ومَبَادِئٌ أخْلَاقِيَّةٌ

والبَعثُ ايْمَانٌ وحَضَارَةٌ.....

الجزء الثالث والأخير

البَعثُ فِكرٌ ومَنْهَجٌ جَوهَرُهُمَا قِيَمٌ أخْلاقِيَّةٌ رَاقِيَّة

 

د.محمد رحيم آل ياسين

 

في الجزأين المُتَقدِّمَين عرَضنا استهلالاً بيَّنا فيهما التكامل الذي حصل بين إرث وقيم العروبة مع كل تلك القيَم الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، وكيف تَحوَّلت هذه القيَم الراقية من مفاهيم ايمانية في العقول والصدور الى سلوكٍ وواقعٍ عمليٍّ تَجسَّدت في حضارةٍ عظيمةٍ هي الحضارة العربية الاسلامية التي مَلأت الدنيا وشَغلت الناسَ لأكثر من ستمائةِ عامٍ حافلةٍ بالإنجازات الفكرية والعلمية والتطبيقية والفلسفية والثقافية. وقد وجدَ البعثُ أنَّ خلاص الأمة العربية من تداعيات ضعفها وهوانها وتَخلّفها اليوم، وبداية نهضتها ووثبتها انَّما يكمن في استلهام تلك الرُّوحية المُتَحفِّزة والقيم والمُثًل التي انطلقت منها وبها الحضارة العربية في العصر الوسيط، مع الانفتاح على متطلبات ومقومات العصر الحالي لتحقيق الموازنة بين الاصالة والمعاصرة. من هنا كانت رؤيته بأنَّنا كأمة عريقة يمكننا الحرص على مُثُلنا العُليا وقيَمنا الأخلاقية الراقية، لتَمتلئ نفوسنا وصدورنا بذلك الفيض الرُّوحي الذي اندفع به أجدادنا العِظام فحققوا اروع الانتصارات والانجازات، ولنستند على الثقة بالنفس اللازمة لمواجهة المعارك والتحديات المصيرية التي تتعرض لها الامة في هذه المرحلة التاريخية.

وحين نَعجز عن احداث التَغيِّير الجوهري في أنفسنا، فلا فائدة من الأفكار والنظريات لأنَّها ستَبقى مجرَّد شعاراتٍ خاويةٍ لا أثر لها في الواقع. لذلك فحزبنا العظيم يرى أنَّ التَغيِّيرَ يكون ابتداءً من النفس، من الذات العربية، ولنا عِبرةٌ كما ينظر البعث فيما عرضناه عن ولادة الحضارة العربية الكبرى، التي تفجَّرت بأثرٍ وتأثيرٍ قوىً روحيَّةً جديدةً، وعندما فُقِدَت هذه الرُّوحيةِ القيَميَّةِ، كانَ طبيعياً أن تنطفئ شعلة هذه الحضارة ويأفل نورها البهيّ، وتخمد أضواؤها الوهَّاجة.

 

 لقد وُلِدَ البعثُ بعد أن تَسَرَّبت الرُّوح الانهزامية الى نفوس أبناء الأمة، فصارَ العربُ تابعينَ، مُعتَمدين على الآخر في كلّ شيء، ولا يَنتجون لأنفسهم أيّ شيء. وكما مَرَّ معنا في الجزأين السابقين ممَّا كان يمثِّله انطلاق الثورة بظهور الدين الجديد والتي حمل رايتها العرب، من حافزٍ روحيٍّ وأخلاقيٍّ للإبداع والابتكار والاختراع، وتالياً التأسيس لأعظم حضارة عرفتها البشرية. كذلك هو البعث الخالد الذي كان بحقّ هو المُحفِّز الفكري والرُّوحي لأبناء العروبة في نهضتها وانبثاقها وانبعاثها من جديد، لتكون أمة فاعلة وحيَّة بين الشعوب والأمم. فقد استدعى البعث تاريخ الأمة الزاخر وتراثها المُشرق الى الحاضر، ولم يرحل بالحاضر الى ذلك الماضي قريبه وبعيده. وفي هذا الجزء الذي يُمثِّل جوهر القضية التي نحاول البحث فيها وتَسليط بصيصاً من الضوء عليها، وهي قضية الأخلاق والقيَم التي نادى بها البعث منذُ بداية التأسيس، ولم يتزحزح فكره ومنهجه قيدَ أُنملةٍ عنها، بل أنَّه اشترط في أعضائه أن يَتَمثَّلوا بكلِّ تلك الأخلاق الرفيعة والسلوك الاجتماعي القويم، وأن تَتمَثَّل بهم قبل غيرهم من أبناء الأمة.

 

جاءَ البعثُ في مرحلةٍ تاريخيةٍ يسيطر فيها التشاؤم والقنوط واليأس على العقل العربي الجمعي، بسبب قسوة الاستعمار الغربي وما أنتجه من ظروفٍ سياسيةٍ خانقةٍ، وأحوالٍ اقتصاديةٍ مُتَدهورةٍ، وعسرٍ في الحياة وما تَتَسبَّب به من ضغوطاتٍ ومُنغِصاتٍ وهمومٍ على الانسان العربي ومجتمعه. فكان التشاؤم الجماعي سِمة المرحلة تلك، عندها كانت ولادة الأفكار والمفاهيم القومية الجديدة، كردّ فعلٍ عمَّا تعيشه الأمة من أوجاعٍ وهمومٍ بالغةٍ، وعرَضت نفسها بديلاً عن كلّ تلك الاضطرابات التي تعيشها الأمة، وفي مقدمة هذه الأفكار، كان الفكر البعثي العربي القومي، فكان البعث انطلاقةً جديدةً وتَجربةً جادَّةً وفاعلة في تلك المرحلة التي تحمل أعمق ملامح التشاؤم في الوسط العربي، فكانت رؤية البعث في التَغيِّير الجذري والانقلاب الشمولي على ذلك الواقع الفاسد وفق مفاهيم ورؤى جديدة تلامس مشاعر الأمة كلّها، جوهرها استِنهاضٌ روحيٌّ قِيَميٌّ وأخلاقيٌّ يسري في النفوس والعقول، وهذا لا يكون إلَّا بالتفاعل مع هذا الواقع المُتردي بأسبابه ونتائجه وتداعياته، وليس بالقفز والتعالي عليه (انَّ الذي لا يُحب أمته إلَّا اذا كانت خاليةً من العيوب لا يعرف الحبّ الحقيقي).

 

البَعث واعدَاد المُنَاضِلين

وكان البعث قد طرح أسئلةً جديدةً حول ضرورات وجود الأمة وشروط نهضتها، ووجد الاجابة الحقيقية التاريخية والواقعية عن كل تلك التساؤلات، واكتشف معنى وجودها بين أمم وشعوب الأرض، وهذا المعنى هو أقرب بكثير من الجوانب القيَمية والأخلاقية منها عن الجوانب المادية، وفي مقدِّمتها أنَّها مُجتباةٌ من الحقّ تعالى في أن تحمل أمانة الرسالة الخالدة التي خصَّها في حملها دون أمم الأرض، فوجودها مُناطٌة بحملِ هذه الرسالة ما حَيِيَت في هذه الدنيا. ولأنَّ أمةً كأمتنا العربية لها رسالة انسانية نبيلة، وتالياً فهي بحاجة الى رجالٍ من نوعٍ خاص، يَتقدَّمون الصفوف ويَتوَّلون قيادة الجماهير لتحقيق هذه الرسالة الخالدة، من هنا فقد وجد البعث أنَّ عليه واجبٌ تاريخيٌّ وأخلاقيٌّ وعقيديٌّ في القيام بهذه المهمَّة الشاقَّة والطويلة. لذلك كان من أساسيات فكره ومنهجه النضالي أن يقوم بأعداد مناضليه بشكلٍ خاص، يَتلاءم وطبيعة واجباتهم النضالية، وفي البدء أن يكونوا بمستوى هذا الفكر العظيم الذي آمنوا به، وانشغلوا بكيفية تجهيز أنفسهم لهكذا دربٍ طويلٍ ملآن بالمطبات والأشواك والمُعرقلات.

ومن أولى الأعمال الذاتية لكلِّ مناضل منهم، هو يَقينهم التام بأنَّ البعثَ هو المنقذ للأمة، فقد ألهبت مبادئ البعث العقولَ، فتَفَتَّحت قرائحها، وعبَّأت النفوسَ فامتلأت وعمَرَت بالإيمان، ووضعت المناضل البعثي أمام مفهومٍ جديدٍ للزمان والمكان، وجعلته أكثر قدرةً على استثمار جهده ووقته والافادة منهما بشكلٍ عقلانيٍّ صحيحٍ. وهكذا وجدوا أنَّ عليهم مغادرة ما كانت تعيشه الأمة من تَشاؤمٍ جَمعيٍّ، والبحث عن الخلاص، من خلال استحضار مبادئ وقيم العروبة الأصيلة، وروح الدين الوثَّابة ومنهج البعث القيَمي والأخلاقي. فالبعثُ يحرصُ كلّ الحرص على بناءِ انسانٍ عربيٍّ جديد، ذي مواصفاتٍ قيَمية وأخلاقية راقية.

 

إنَّ حالة الركود والتَخلف والتَردِّي التي تعيشها الأمة، مع سيولٍ من الفوضوية والثرثرة واللغو الذي تَنتهجه الأحزاب اللاوطنية، ومنها أحزاب الإسلام السياسي (الإسلاموية) وغيرها من الذين يدفع بهم أعداء البعث والأمة في محاولاتٍ يائسةٍ بائسةٍ لوضع العراقيل أمام المناضلين في البعث، لإرباكهم وتَشتيت مسيرتهم النضالية المُتقدّمة باتجاه أهداف البعث والأمة الكبرى، فالمناضلون اليوم ورغم المؤامرات والمحاولات الخبيثة لأربابِ الشرِّ مُتَفائلون مُندَفعون مُتَوثّبون مُنتَفِضون على الضُعف والهَوان والتَردُّد. 

يُوَجِّه البعثُ مناضليه أن يَتعلَّموا ويَتَّعِظوا من دروس وعِبَر الماضي، من تاريخ الأمة، وما سبقته من أفكار ونظريات وأحلام انتهت وغطَّاها الغبار، دون أن تَتَحقَّق أو تُحَقِّق شيئاً على الأرض، لأنَّ عدم الأخذ بالدروس والمواعظ من التاريخ، كما هي نظرة حزبنا المناضل، تَتَسبَّب في الادمان على الأخطاء وبالتالي التخلف.

وقد كان أفول حضارتنا العربية التي كانت زاهرةً يعود الى جفافِ المنظومة القيَمية والأخلاقية لدى الكثيرين من العرب آنذاك، مما دعاهم الى تقديم العرقية والطائفية والشخصية على المصالح الأساسية للأمة. وكما خَفَت العقل العربي آنذاك وتَراجَعت ابداعاته واندَثرت نباهته، وتَخلَّفت رؤاه بسبب انحدار وَعيه، وهبوط فاعليَّته، بعد أن كان خلَّاقاً مُبدعاً يسبق العقول الأخرى في العالم، عندما كانت النفوس مَلآى بالرُّوحية المُهَذَّبة، وبالمُثُل العليا. واليوم تَتكرَّر الأخطاء ويقف العقل العربي شبه مشلول وعاجز عن التَبصُّر بالحقائق التاريخية والتَداعيات الخانقة التي تعيشها الأمة.

 

الفَيض الرُّوحي وانتِعاش الذَات العَرَبية

وهنا نشيرُ الى مسألةٍ نَجدها في غايةِ الأهميَّةِ، وهي تلك العلاقة الرابطة بين العقل والذات في الانسان السويّ، بل هي متلازمةٌ تربط بين العقل العربي والذات العربية، فقد وجدنا كيف انطلق العقل العربي في مجالٍ رَحبٍ وواسعٍ من الابداع والابتكار، لذلك يُناضل البعث من أجل اعادة التَوَقّد والحيويَّة للعقل العربي، كيما يُبدع وينتج ويَخلق.

إن البعث هو حضارةٌ بكلِّ معانيها وأُطرها وموجباتها، من حيث دعوته لانبعاث الأمة، فالأمة كما جاء في المادة الثانية من دستور الحزب:(أنَّ الأمة العربية وحدةٌ روحيَّةٌ وثقافيَّةٌ.....) وبالتَّالي فالبعث يدعو الى حضارةٍ جديدةٍ لأمة العرب، فهل بعد ذلك لا يحقّ أن نصف حزبنا المناضل بأنَّه حضارة؟!.

 

الأخلاق...ارادة المناضلين

ونحن نتحدَّث عن الأخلاق، وما يَتَّصِف به مناضلو البعث من سماتٍ أخلاقيةٍ رفيعة، وسلوكٍ اجتماعيٍّ قَوِيم، يَلِّحُ على مسامعنا سؤالٌ مهمٌ وهو: هل أنَّ الأخلاقَ ذاتيةٌ؟، وبمعنى آخر هل يمكننا أن نتصوَّر أنَّ هناك ذات أخلاقية؟، وبالتالي ما هو المُحَدِّد للأخلاق، هل هي القوى الذاتية للفرد، أم السياق العام الذي يعيش فيه الفرد والمُتَمثِّل بالأسرة والمدرسة والبيئة، بما يعني أنَّ الأخلاق مُكتسبة؟ وقد رأى أغلب الفلاسفة وعلماء الاجتماع أنَّ القيَم الأخلاقية هي نتاج الاكتساب، فكلّ من الأسرة والبيئة تصنع الأخلاق وتُحدِّد مساراتها، بالاتِّجاه (الأخلاقي) أو (اللاأخلاقي). مع أنَّنا نرى أنَّ الذات (الفرد) بإمكانه عندما يكون قادراً على التفكّر والتَدبُّر والتَّقدير أن يَتَحكَّم في أخلاقه، عندما يكون حاملاً لفكرةٍ واضحة المعالم أو أيديولوجيةٍ يعتمد عليها في نمط حياته وتصرفه وسلوكه الاجتماعي، كما هو البعثي الحقيقي في الحزب، وليس البعثي المُنتَسِب، عندها يكون قادراً في توجيه العقل بالاتِّجاه العقلاني، وتوجيه السلوك بالاتِّجاه الأخلاقي. لأنَّها عندئذٍ تكون صادرة عن مَلَكةٍ تكوَّنت في النفس على أساسٍ من تطويع الارادة والتدريب على هذا السلوك الأخلاقي، من خلال المِران والمثابرة على تربية هذه المَلَكة الخاصة، تَتَعزَّز بالممارسة في الميدان، من خلال النضال اليومي. ولذلك فالبعث يُقدِّر كلّ التقدير لمناضليه مسيرتهم النضالية الطويلة، وهم مُتَمسِّكون بقيَم البعث وأخلاقه الرفيعة.

 

إنَّ ما يبغيه البعث من رفاقه المناضلين، هو أن يكون هناكَ رِباطٌ وجداني يجمع كلّ البعثيين في الحزب، ويوَحِّد فيما بينهم في المشاعر والأحاسيس النبيلة، ويجعل منهم وحدة قويَّة متماسكة، هذا الرِباط هو رباط الايمان بالبعث وقيَمه ومبادئه الأخلاقية الرصينة.

 

ونود هنا أن نَتَبيَّن مع رفاقنا في الحزب، بأنَّ البناء الأخلاقي للذات لا يَتَشَكَّل من خلال الفِطرة الطيِّبة أو الصالحة، لأنَّها يُمكن أن تَتَهاوى وتَتَلاشى إذا حُوصِرَت بظروفٍ صعبة او مغريات لا أخلاقيةٍ مَحيطةٍ. كما هو حال شعبنا في الأقطار العربية التي تتعرض الى الاحتلال والهيمنة الاجنبية والحروب وغيرها من التحديات، وخاصَّةً النشء الجديد الذي يُعاني الأمَرّين في البيئة والمدرسة والاعلام الفاسد. ولكنَّ الإنسان بإمكانه أن يُطوّر فطرته الأخلاقية، إن هو تحصن بالوعي والمعرفة وامكانيَّة التَّأمل والنقد (الذاتي) كما جاء في أدب البعث ومنهجه التنظيمي. بل يمكنه أن يُحاصِر كلّ الظروف والمُسَبِّبات غير الأخلاقية في المجتمع والمدرسة والجامعة والاعلام المعادي، أستاذاً كان أم دارساً ام موظفا ام عاملا، وهذا هو دور المناضل البعثي في المجتمع العربي، بشكلٍ عام، لما يتعرَّض له هذا المجتمع من محاولاتٍ خبيثةٍ لانتزاع قيَمه الأخلاقية، وثقافته الوطنية والقومية، من قبل العملاء الحاكمين والاحزاب التي تدين بالولاء للأجنبي وخاصة النظام الايراني، بل ويسعون خاسئين إلى انتزاع عروبته وانتمائه القومي للأمة العربية. نعم هذا هو دور المناضل في الحزب، فهو يَعي قيمة ورسالة وجوده في الحياة وفي المجتمع، ومِن ثمَّ يكون مُدركاً وواعياً بدوره المُناط به في المجتمع، وتالياً فهو يدرك الواجب الذي اختاره لنفسه والذي يجد ان ذاته الحقيقية ومعنى وجوده في هذه الحياة يتحقق من خلاله، كونه ارتقى بنفسه الى المستوى اللائق به، من خلال ايمانه المطلق بفكر ومنهج البعث ورسالته الخالدة وتطبيقها في حياته العملية.

 

وهذا الإيمان الذي تَعتمر به نفسه ويَستَقرّ في وجدانه، يمنح ذاته طاقةً نضاليةً وأخلاقيَّةً هائلةً. ويبقى السلوك الأخلاقي للبعثي الأصيل، هو حصيلة الفضيلة والقيمة العليا التي تؤسِّس لهذا السلوك، والمناضل البعثي فيه من الفضائل الكثير والكثير، وفي أولها: حُبّه لقيادته العليا (القيادة القومية)، وقيادة القطر الذي يعمل به، ورفاقه في الحزب، ثمَّ الأمانة والصدق والاخلاص في الواجب واتِّقان الفعل الذي يقوم به. من هنا وعندما تَتَجذَّر هذه الأخلاق والفضائل في وجدان الذات (البعثية)، فإنَّها لا تكون مجرَّد ألفاظٍ وكلماتٍ تلوكها الألسن، أو شعاراتٍ رنَّانةٍ دون فعلٍ واقعيٍّ يثبت التزام البعثي بها، وتَتَجلَّى في السلوكِ الأخلاقي الفعلي. فتتَدَفَّق كالفيضِ من الممارساتِ والسلوكيات الراقية، ويَتَجسَّد السلوك الأخلاقيّ في شخصية المناضل البعثي من خلال ما يُقدِّمه من عطاءٍ غير مشروطٍ، أي العطاء الخالي من المصلحة الشخصية، ودونما مقابل مادي أو معنوي، بما يؤشِّر من مُبادرةٍ واقدامٍ وتَطوّعٍ وتَضحيةٍ. والعطاء هذا هو أسمى أنواع السلوك الأخلاقي، وهو برهانٌ ساطعٌ على أنَّ البعثي لا يكتمل وجوده، ولا تَتَحقَّق سعادته، إلَّا بالآخرين من أبناء شعبه وأمته، والذين يناضل ويُضحِّي من أجلهم. بل أنَّ البعثَ ينظر الى الاهتمام بالآخر، وفهمه والتواصل معه والعمل من أجله، والتضحية في سبيله هي من الضرورات الأخلاقية الواجبة. وأنَّ التعالي على هذا الآخر أو رفضه والاستعلاء عليه تُعتَبَر تجاوزاً على الأخلاق وتتقاطع معها.

 

 من هنا يُوَجِّه حزبنا المناضل رفاقه منذ بدايات التأسيس بالنزول الى الشارع، والتواصل مع أبناء الأمة ولكلِّ المستويات والأعمار، واعتَبَرها قيمةً أخلاقيةً قبل كل شيء. لقد نجح البعثيُّون في الاختبار الأخلاقي، وفشل الآخرون من إسلامويين، وطائفيين لأنَّهم غادروا القيَم الأخلاقية وغادرتهم، ولأنَّهم إما تعالوا على الآخرين أو اتَّخذوها شعاراتً زائفةً ليَتقرَّبوا بها زلفى لأبناء المجتمعات العربية، فلم يكن في قاموس سلوكهم وأفعالهم اية اولوية للقيم الاخلاقية.

 

تَجربَة البَعث في العِرَاق ومَنظومَة القيَم الأخلاقيَّة

 في علاقة المنظومة الأخلاقية في المجتمع والنظام السياسي الحاكم، نُسلِّط ضوءً على تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في قيادة الدولة والشعب في القطر العراقي بعد ثورة 17تموز المجيدة في العام1968م، وهي أكبر وأرقى تجربة للحزب خلال مسيرته النضالية، فالثورة أحدثَت تغيِّيراً فاعلاً في منظومة القيَم الأخلاقية في المجتمع العراقي، وكانت العلاقة بين قيادة الثورة والشعب في أرقاها، مما كان له أبلغ الأثر في انتعاش منظومة الأخلاق في المجتمع العراقي. وهي تَنمُّ عن تفاعلٍ وتأثيرٍ متبادلٍ، فالتطوّر في مؤسَّسات الدولة الرسمية ومنظمات المجتمع المدني حدَّدت أنماطاً من العلاقات الطيِّبة التفاعلية والايجابية بين القيادة والشعب. وقد أسهمت هذه العلاقة في تغيِّيراتٍ متقدِّمةٍ  لصالح الفرد والمجتمع، ولم يَفُت الحزب وهو يقود الدولة في العراق، بأنَّ منظومة القيَم السائدة بين أبناء الشعب، لها تأثير فعَّال على الهوية الوطنية والانتماء القومي في تَوَجِّه الشعب. ولا يمكن الفصل بين منظومة الأخلاق التي تسود في المجتمع من جهةٍ والهوية الوطنية والانتماء للأمة، وكان هذا واضحاً ابّان نظام البعث في العراق حتى الاحتلال الأمريكي الغاشم في العام2003م.

 

ودائماً المُخالفات الأخلاقية في المجتمع تتَراجع وتَضمَحِلّ في حالة كون بيئة النظام السياسي الحاكم تقوم على أسسٍ ثابتةٍ من منظومة أخلاقية راقية، وتالياً فأخلاق المجتمع ومنظومة قيَمه تكون في أوجِّها وأرقاها، وبالعكس من هذا اذا كان النظام الحاكم يقوم على مخالفات أخلاقية جسيمةٍ، فإنَّ المجتمع تَستَشري فيه المخالفات القيمية والقانونية، من جرائم وسرقات وادمان على المخدرات وهبوطٍ في الممارسات الأخلاقية. ولنا فيما يجري اليوم في الأقطار التي أشرنا إليها أعلاه وفي مقدمتها العراق الذي تحكمه مجموعة من العصابات والأحزاب الولائية وميليشياتها المنفلتة، والتي تفتقد لأبسط القيَم والمعاني الأخلاقية، دلالة واضحة على انحسار هذه المنظومة الأخلاقية النبيلة.

 

ونضيف لهذه العلاقة الثنائية قضية العلم، فتكون العلاقة كالمتلازمة الثلاثية: النظام السياسي الحاكم ، ومنظومة القيَم، والعلم. فقد كانت الحضارة العربية من أرقى حضارات الدنيا، لأنَّها احتوت على هذه المتلازمة الثلاثية، فالنظام السياسي الذي كان يقود الدولة العربية الكبرى، هو نظامُ حكمةٍ ورشدٍ وخُلُقٍ رفيعٍ، وحضارةٌ أساسها قيَمٌ ومبادئ أخلاقيةٌ، وعلومٌ ومعارفٌ وفلسفاتٌ راقيةٌ. فالتطوّر العلمي لايأتي من فراغٍ، ولا يمكن أن يحدث دون مساهمة المجتمع فيه، فالعلماءُ والمفكرونَ والباحثونَ والفلاسفة هُم من المجتمع، من هنا وجدنا قيادة البعث قد مَهَدَّت لبناء تجربتها الوطنية في العراق والتنمية النهضوية الشاملة، ببناء الانسان أولاً، الذي سيكون الغاية والوسيلة في البناء والعمران، فهو الهدف من خلال تحقيق رفاهيته وسعادته وأمنه واستقراره. وهذا ما يفتقده العراقيون اليوم، فلا نظام سياسي حاكم مخلص للوطن والشعب، وحدث ولا حرج عن انعدام النزاهة وتفشي الفساد والسرقات من قبله، وغياب كلي للعلوم أو المعارف، بل استشرى الجهل والتخلّف والخرافات.

 

مَناضِلو البَعث والمِيثَاق الغَلِيظ

 

قد لا نُغالي إذا وصفنا صورةً للمناضل البعثي، وهو يضطربُ حَياءً يَتخلَّلها حُمرة الوجه! بطريقةٍ لا إراديةٍ عند شعوره بالخجل والحرج بسبب احساسه بأنَّه تجاوز على أخلاق البعثي الصميم في ظرفٍ أو موقفٍ مُعيَّن، فهو يشعر بالاستحياء الجارف في هكذا موقفٍ أو ظرفٍ ما، خاصة إذا كان الموقف يَتعلَّق برفيقٍ آخر في خليَّته أو مسؤوله الحزبي، أو أحد من مواطنيه. ولذلك نجد أن مناضلي الحزب يمتنعون من الاتيان بما يتقاطع مع أخلاقهم الحزبية، ويأنفون أن يرتكبوا أخطاءً توصلهم لهكذا موقفٍ محرجٍ، وهو دائماً يشعر بالرِضا والغِبطة حينما يجد نفسه غير مُتَزحزِح قيد أُنملةٍ عن الصدق والامانة والخُلُق الرفيع والسلوك القويم. انَّها العلاقات الحميمة بين البعثي ورفاقه وأبناء مجتمعه وشعبه وأمته.

وفي هذا نود أن نقف على مسألة هامة وهي: أنَّ على أحدنا أن لا يخجل من ارتكاب الخطأ غير المقصود، لأنَّنا بشرٌ خَطَّاؤون، ولكن علينا أن نخجل من عدم الاعتراف بالخطأ، او الامعان فيه كيما نتجاوزه بكلِّ صدقٍ وأمانةٍ.

 

إنَّ مناضلي البعث قد أخذوا على أنفسهم ميثاقاً غليظاً في النضال حتى آخر رمق من حياتهم، من أجل تحقيق أهداف الحزب القومية الوحدوية، ورسالة الأمة الخالدة، وهم بذلك يستلهمون الدروس والعِبَر من ماضي الأمة وتاريخها. وبعد ذلك فإنَّ من مهام حزبنا المناضل اليوم، هو اقتلاع جذور الثقافات الدخيلة والفاسدة، من خلال التخلص من الركام الثقافي الذي أنتجته ظروف التردي والتبعية للأجنبي، وذلك بتنقيةٍ جذريةٍ وتصفيةٍ لكلّ الشوائب التي عَلقت بالمجتمع العربي، بفعل الثقافات الغربية والطائفية التي تحاول ازاحة وتجريف ثقافتنا العربية وارثنا التليد. وفي البدء يكون التركيز على القيم الأخلاقية التي تسهم في نهضة أمتنا وانبثاقها كأمة حيَّة وفاعلة بين الشعوب والأمم.

 

ونختم مقالنا بمقولةٍ للرفيق القائد المؤسِّس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله: (لسنا ندَّعي أنَّنا أفضل من غيرنا، لكنَّنا مختلفون عنهم، وهذا الاختلاف هو الذي يجعلنا عرباً ويجعلهم غير عرب).

 

        

  

 

 






الخميس ١٦ ربيع الثاني ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / تشرين الثاني / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د.محمد رحيم آل ياسين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة