شبكة ذي قار
عـاجـل










جاء الانفجار – المأساة الذي ضرب العاصمة بيروت في الرابع من آب الجاري , لا ليكون فقط بمثابة كارثة وطنية بحجم ما خلفه من ضحايا بشرية بريئة وخسائر مادية وتداعيات اجتماعية واقتصادية وبيئية وسياسية , وإنما ليكون أيضا حدثا مفصليا في التطور المساري لمسلسل الأزمات اللبنانية التي تلاحقت على مدى العقود الثلاثة الأخيرة التي أعقبت تسويات الحرب الأهلية عبر ميثاقية الطائف لعام ١٩٨٩ , وهي الميثاقية التي جاءت مخرجاتها لتكرس دستوريا وقانونيا لنظام طائفي سياسي كبديل سلطة حاكمة للدولة ومؤسساتها لمرحلة ما قبل الحرب في وقت راح يشهد الاقطاع السياسي القديم سقوطه المدوي كنتيجة افرزتها الحرب التي تواصلت لأكثر من خمس عشرة سنة بين عامي ١٩٧٥ – ١٩٩٠.

أرست ميثاقية الطائف نظاما سياسيا بمرتكزات أربعة أساسية :

الأول , تكريس الطائفية السياسية دستوريا في مؤسسات الدولة ومرافقها العامة بعد أن كانت عرفا تقليديا سابقا , الأمر الذي باتت معه الدولة عبارة عن شركة توزيعية للادارات والوظائف والخدمات على قاعدة المحاصصة الطائفية والمذهبية بين الأحزاب والقوى السياسية الجديدة.

الثاني , صياغة حياة سياسية تقوم على تثبيت النظام الحاكم للدولة عبر آليات تكفل إعادة إنتاجه في كل دورة انتخابية نيابية , وفي كل تشكيلة وزارية لسائر الوزارات التي تألفت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي اعقبت التوقف الميداني للحرب الأهلية المشؤومة.

الثالث , على مستوى بناء السلطة الحاكمة للدولة كرّس النظام الجديد معادلة جديدة انتقلت معها الحياة السياسية من إقطاع الطائفة السياسي الذي ساد مرحلة ما قبل الحرب اي قبل العام ١٩٧٥ الى حزب الطائفة السياسي لمرحلة ما بعد الحرب اي بعد العام ١٩٩٠.

الرابع , الولاء الشديد للخارج الاقليمي والدولي , بحيث كان لكل أحزاب وحركات المنظومة السياسية لما بعد الحرب تفاعلات ولائية شديدة للخارج على غير مستوى سياسي وايديولوجي ومذهبي ومالي واعلامي وعسكري.

لقد تمكّن النظام المحاصص للدولة من السيطرة على كل شيء , على المؤسسات والادارات والمرافق العامة , ووضع اليد على مالية الدولة , وراح يعتبر أنّ كل شيء هو ملكية خاصة يتصرف بها في السر والعلن.مع هذا النظام الريعي التسلطي على المال العام , باتت المديونية على الدولة ومجتمعها هي السياسة الثابتة المعتمدة مع كل الحكومات المتعاقبة , الى أن وصل إجمالي هذا الدين الى أكثر من مئة مليار دولار أميركي , ووصلت معه الموازنة الى عجز غير مسبوق , الأمر الذي أدخل الدولة في دائرة الفشل المالي والنقدي , واغرق المجتمع اللبناني تحت ضغط الأزمات الخانقة معيشيا وحياتيا.

جاء انفجار العاصمة بيروت في الرابع من آب لا ليكون أزمة مضافة على مسلسل الأزمات المتراكمة تاريخيا وحسب , وإنما ليشكّل حدثا فاصلا في اداء النظام السياسي التسلطي على الدولة والمصادر لوظيفتها الطبيعية في حماية مؤسساتها ومرافقها العامة.جاء هذا الانفجار الزلزال ليدلل بصورة قاطعة على الانكشاف الكلي لهذا النظام وتعريته على غير مستوى في الادارة والسياسة والحكم.
وجد الخارج الدولي والاقليمي في الانفجار – الحدث , وفي انكشاف النظام الفرصة المؤاتية للدخول على خط الأزمات الساخنة في محاولة مكشوفة لايجاد نقاط ارتكاز لاختراق المجال اللبناني وتوظيفه في أجندات جيوسياسية واستراتيجية تستجيب لمشروعات الخارج لجهة قيام نظام اقليمي شرق أوسطي جديد يأتي محاكيا لقيام نظام القرن العالمي – القرن الحادي والعشرين.على المستوى الدولي , برزت ثلاثة مواقف أساسية :

الأول , الموقف الأميركي , الذي رأى في توظيف الحالة اللبنانية في الاتجاه الذي يخدم المنظور الأميركي للوطن العربي عموما من حيث تميز موقعه الجيواستراتيجي كدائرة – قلب للشرق الأوسط ومن ثمّ كدائرة – قلب للعالم , وحسب نظرية ماكيندر من أنّ الذي يمسك بقلب العالم يستطيع الامساك بكل العالم.

الثاني , الموقف الروسي , في سعيه للامساك بمرافىء الساحلين السوري واللبناني من اجل تأمين ممرات ساحلية على المتوسط الشرقي لنقل الغاز الروسي باتجاه البلقان في شرق أوروبا.

الثالث , الموقف الفرنسي , الذي يرى في لبنان الموقع الفرنكفوني المتقدم في العالم من جهة , ومن جهة أخرى أنّ الدخول الفرنسي الى الوطن العربي والشرق الأوسظ إنما يكون من البوابة اللبنانية.

أما المواقف الاقليمية فأبرزها ثلاثة اساسية :
الأول , الموقف الايراني , الذي وجد في تصدّع النظام الاقليمي العربي المنهمك في حروب أهلية منذ مطالع العشرية الثانية للقرن الحالي , وجد فرصة مؤاتية للتمدد في الداخل العربي محاولا تأمين حضور اقليمي وازن يجمع بين عناصر القوة لهلال شيعي يمتد من الخليج العربي الى المتوسط و على ضوء الربط العضوي بين الأيديولوجية المذهبية الدينية والتوظيفات الجيوسياسية في استعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية القديمة.

الثاني , الموقف التركي , في سعي حزب العدالة والتنمية الذي صعد الى سدة السلطة الحاكمة منذ العام ٢٠٠٢ , والذي آثر خيار الأسلمة السياسية في علاقاته مع المنطقة العربية , وأيضا مع جمهوريات القوقاز الاسلامية الخارجة من الحقبة السوفياتية السابقة.فقد ظهرت مؤشرات المشروع التركي من جراء التدخل المباشر في ساحات العراق وسوريا وليبيا وايضا في اطلالاته على الساحة اللبنانية من البوابة الشمالية في عكار وطرابلس.

الثالث , الموقف الصهيوني , الذي كان المستفيد الأكبر من تشظي النظام العربي وحرمانه من عناصر قوته الأساسية , لا سيّما بعد احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني الأكثر التزاما بقضية تحرير فلسطين وبسائر القضايا القومية الأخرى , وبعد إخراج مصر الناصرية وتحييدها في كامبديفيد , وضرب المقاومة الفلسطينية ومعها الحركة الوطنية اللبنانية وسائر حركات التحرر الوطني في غير قطر عربي.سارع العدو الصهيوني الى تنفيذ أجندته الاستراتيجية لقيام دولته اليهودية المزعومة من الفرات الى النيل , وقد وجد في انفجار بيروت وفي تدخلات الدول الخارجية الداعمة لمشروعه الاستعماري , فرصة ذهبية لتحقيق خطوات متقدّمة لانجاز هذا المشروع , وما الاتفاقية الأخيرة مع الامارات العربية المتحدة سوى استكمال لاتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة , وتسجيل انتصار تاريخي للصهيونية في تطبيع علاقات الكيان الغاصب لفلسطين مع محيطها العربي , وتأمين أمن دولته اليهودية ليس على أرض فلسطين وحدها , وإنما في المجال الجغرافي العربي برمته.

إنّ بناء الدولة الوطنية المستدامة يكمن في اعتماد الاستراتيجية التأسيسية المرتكزة الى مبدأ التراكم الخطي الايجابي انطلاقا من الآتي :

١ - المواطنة كهوية ثابتة في الانتماء الى الوطن اللبناني , مقابل انتفاء خصوصيات الانتماء الطائفي والمذهبي والمناطقي.إنّ انجاز المواطنة اللبنانية يبدأ مع تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وفق أحكام الدستور , على أن تضمّ فاعليات وطنية , ورموزا نخبوية فكرية وثقافية وأكاديمية تمثل التيار اللاطئفي , لمباشرة الخطوات الإجرائية باتجاه العبور من دولة الطوائف والمذاهب الى دولة المواطنين – دولة الشعب اللبناني الواحد.

٢ – إقرار قانون انتخاب جديد للتمثيل النيابي يأتي تفصيله على قياس الدولة والشعب , وليس على قياسات المصالح الزعامتية والطائفية.من مواصفات هذا القانون الانتخابي اعتماد جغرافية انتخابية على أساس دوائر الاندماج الوطني , والتمثيل النسبي خارج القيد الطائفي , وعلى نحو يضمن فرصا متكافئة بين القوى المتنافسة على ضوء البرامج الانتخابية الهادفة الى تطوير الدولة والمجتمع بصورة عامة وليس على أساس المنافع الخاصة والمحسوبيات الضيقة.

٣ – إصدار قانون عصري للأحزاب السياسية يعزّز التوجهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية.إنّ مثل هذا القانون يساهم في إغناء الحياة السياسية , ويعزّز الروح الوطنية , وإليه يعود الدور الأكبر في قيام جماعة الدولة على أساس وضع الدولة فوق سائر الجماعات الطوائفية , وليس كما هو حاصل اليوم , من حيث وقوف الجماعات الطوائفية فوق الدولة.

٤ – تفعيل الهيئات الرقابية وتحديث الإدارة , واعتماد مبدأ الأهلية والكفاءة في التوظيف , وكسر احتكار زعامات السلطة للوظائف العامة , ومكافحة الزبائنية السياسية الحامية لكل أشكال الفساد الإداري والمالي المستشري في غير إدارة ومؤسسة عامة في القطاع العام الحكومي أي قطاع الدولة.

٥ – اعتماد الانتظام الدوري في إجراء الانتخابات البلدية , الأمر الذي يؤسس لإنتاج سلطات ديمقراطية قاعدية أي على مستوى قاعدة الهرم السلطوي , ذلك أنّ تأسيس الديمقراطية القاعدية هو بمثابة المدخل الضروري لتأسيس الديمقراطية الرأسية أي على مستوى القيادات المركزية للدولة من نيابية وحكومية وسواها.

٦ – العمل على تضييق فجوة الاختلالات القطاعية أي بين قطاعات الانتاج الزراعة , الصناعة والخدمات والتجارة.ينبغي على الدولة اعتماد خطط استراتيجية للتنمية الاقتصادية تقوم على تشجيع الاستثمار في القطاعات الانتاجية الثلاثة , وعلى إيلاء أهمية للتدخلات الايجابية لتنمية المناطق الطرفية والأرياف الزراعية , وذلك بهدف الوصول الى توازن انمائي على مستوى القطاعات المنتجة من جهة , والمناطق اللبنانية المختلفة من جهة أخرى.وفي هذا المجال تبرز الحاجة الى تفعيل المشروع الأخضر الذي انشىء في العام ١٩٦٣ , وقد قام بانجازات مهمة في مجالات استصلاح الأراضي الزراعية , وزيادة الانتاج , وفي الحدّ من هجرة الأرياف ومن النزوح الى المدن.

٧ – التخطيط لسياسة اجتماعية تسهم في اتساع شبكات الآمان والضمانات الاجتماعية , لا سيّما في ميادين السكن والاستشفاء والتعليم والشيخوخة , وحماية مؤسسة الضمان الاجتماعي والسعي لتطويرها وتحديثها من أجل التقدم باتجاه التنمية البشرية المستدامة , والخروج من الدولة المغانمية القائمة على المحسوبية والزبائنية الخدمية.

خلاصة : إنّ أسباب تعثر النهوض اللبناني تكمن أولا وأخيرا في السياسات التي اعتمدت في معالجة الأزمات المتلاحقة والتي هي أزمات معادة الانتاج رافقت قيام الدولة اللبنانية الحديثة منذ العام ١٩٢٠ وحتى اليوم.فلم تفض المعالجات الى ايجاد الحلول الدائمة لتلك الأزمات , وانما كانت في معظمها محاولات لتأجيل الأزمة الناشئة وليس الى الغاء أسبابها ومحاصرة تداعياتها.
ثمّة جدلية تاريخية حكمت المسار التطوري للبنان الحديث والمعاصر هي جدلية الأزمة – التسوية , وذلك عبر دورية تعاقبية لإنتاج وإعادة إنتاج سلسلة متواصلة من الأزمات – التسويات , بحيث أنّ كلّ أزمة كانت تنتهي الى تسوية مؤقتة ثمّ تعود التسوية لتتعثّر وتتحوّل من جديد الى أزمة , وهكذا دواليك ..

إنّ خروج لبنان من مأزق أزماته التاريخية المستمرة إنما يكون بقيام الدولة الوطنية والخروج النهائي من صيغة الدولة المغانمية والسلطة الريعية الثابتة في الحكم.ينبغي إعادة قوننة الدولة ومأسستها في الاتجاه الذي يستجيب لقيامة لبنان الوطن .. لبنان الجغرافية والهوية , لبنان الشعب الواحد والمصير الواحد.

من الأهمية بمكان تعزيز الدور الريادي لمؤسسات المجتمع المدني ( أحزاب , نقابات , جمعيات وروابط الخ .. ) التي تبقى بمثابة صمّام الأمان للسلام الوطني اللبناني , وهو السلام الأقدر على إخراج لبنان من عنق أزماته الراهنة , والولوج الى رحاب الاستقرار الذي بات راهنا ومستقبلا حاجة وطنية للشعب اللبناني برمته.

إنّه التحدي الذي يواجهنا جميعا , فهل نحن قادرون على توليد استجابات من شأنها النهوض بالوطن اللبناني المرتكز الى قواعد التطور الديمقراطي من خلال عمل المؤسسات الديمقراطية , واعتماد مبدا المواطنة كشرط معياري لقيام الجماعة الوطنية اللبنانية المتماثلة من حيث وحدة نسيجها الاجتماعي والثقافي , ووحدة مصالحها المشتركة ومصيرها المشترك الواحد؟






الاثنين ٢٨ ذو الحجــة ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / أب / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب طارق العربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة