شبكة ذي قار
عـاجـل










إن اللغط الذي يدور عن حداثة عهد العرب بالسودان لا مبرر له علمياً. وبادئ ذي بدئ أقول أنه لمن العبث والخطأ الفادح بمكان أن يبني أي امرئٍ ما قضية سياسية أو حدودية أو عرقية على التاريخ القديم، لا ولا على التاريخ الوسيط للسودان. فأي عنصرية سياسية أو عرقية أو ثقافية معاصرة خاسرة أمام أدلة التاريخ القديم، وعلى الناس أن تكتفي بالواقع المعاصر في حل مشاكلها السياسية وتروّض نفوسها على قبوله كواقع معاش.

إن القاعدة الإفريقية، المسماة بالزنجية، للسودان لا يشك فيها أحد، فهي فيه منذ الأزل، وهي ليست منة ولا فضلاً من أحد، ولا عيباً لأحد. وإن العروبة في السودان ضاربة في القدم، ليست طارئة ولا حادثة. فهي جزء منه، لا منحة ولا فضل من أحد. لا يمتن بهذه أو تلك منهما إلا أحمق، ولا ينكرها إلا جاهل.

إن قدر السودان أنه خليط عرقاً وديناً وثقافة، قديماً وحديثاً. فالسودان بحدوده التي وصفناها، كان وثنياً، فنصرانياً ثم إسلامياً. كانت لغته السائدة الأولى، والتي لدينا أدلة عنها هي السودانية القديمة في الفترة الوثنية، حلّت محلها النوبية القديمة في الفترة المسيحية، التي حلّت محلها العربية في الفترة الإسلامية. مفخرته أنه كاتباً قارئاً. تكلّم عدة لغات وكتبها. تكلم صفوته اللغة المصرية القديمة وكتبوها. وتكلّم العامة والخاصة كلّاً من السودانية القديمة والنوبية القديمة والعربية، بهذا التعاقب، وكتبوها كلها.

إن القطع بانتفاء النقاء العرقي في أي مكانٍ ما في العالم المعاصر أصوب من أن يجادل فيه أحد. ليست هناك هوية إفريقية أو آسيوية أو أوروبية. فهذه قضايا صرفت الأمم الواعية النظر عنها واتجهت لما هو أفيد. ففرنسا مثلاً أكثر من نصف سكانها من زيجات مختلطة، والدين الإسلامي فيها هو الديانة الثانية. والولايات المتحدة الأمريكية كلها خليط، لم تتحدث فئة منها عن أجنبية فئة أخرى، ولم ينادِ الهُنُود الحُمْر بطرد غيرهم من سكانها، وبخاصةٍ البِيض، ولا بإعادة الملايين الخمسين من سكانها ذوي الأصول الإفريقية إلى إفريقيا.

قِدَم الهجرات العربية إلى السودان ..

إن قولي بأن العروبة، لا اللسانية فحسب بل والعرقية أيضاً، ليست منة من أحد ليس اعتباطاً؛ فالوجود العربي، وبداية دخول العرب من الجزيرة العربية إلى السودان، أقدم من أن يؤرخا.

إن قبائل البجا عربية السَحنة واللسان، لغتها، عربية الجذور، طمس أهم ملامح عروبتها انقطاعها عن أصلها ومدارها في رقعة جغرافية معنية. ذكرتهم المصادر المصرية منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، أي نحو خمسة آلاف سنة من الآن. وبعد ذلك قبيلة بلي، وهم البليميون في نظري، الوارد ذكرهم قبل ثلاثة آلاف سنة. لا يختلف العلماء المحققون المتخصصون في تاريخ شرق إفريقيا في أن شرق إفريقيا، ومنه شرق السودان، شهد هجرات متصلة من الجزيرة العربية، وأن بعضها كان من اليمن عن طريق باب المندب، وأن بعضها الآخر كان مباشرةً بعرض البحر إلى منطقة إرتريا. إنهم متفقون بأن هجرة قبيلة حبشت اليمنية، التي أعطت البلاد اسمها ولغتها وديانتها وعمارتها وأوجه أخرى لحضارتها، كانت آخر موجة كبيرة ( لا أول ولا آخر موجة ) عربية إلى الحبشة. وهجرة حبشت كانت عبر البحر الأحمر لا عن طريق باب المندب. يؤكد ذلك إلفة عرب الجزيرة لقدوم السفن العابرة للبحر الأحمر من عدول، الميناء القديم في إرتريا ( موقع مصوع حالياً ) ، إلى غرب الجزيرة العربية. اتضحت هذه الإلفة في تشبيه طرفة بن العبد ناقته بالسفينة العدولية. كما تؤكد هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميناء الشعيبة ( قرب جدة الحالية ) رأساً إلى الحبشة.

إن مهجر قبيلة حبشت كان إرتريا الحالية، ومنه انتشرت القبائل في اتجاه جنوبي في عمق إرتريا لتبني مملكة أكسوم، التي ربطنا قيامها بفضل تجارة السودان عليها في الفترة المروية، في حديثنا عن صلات السودان القديم بالخارج، ولابد أن تكون بعض جماعاتها قد انتشرت في الأرض المنبسطة نسبياً أمامها غرباً نحو شرق السودان، إذ لا يمكن أن تكتفي تلك الجماعات بإرتريا وحدها، والأرض الرعوية ممتدة غربها.

نقول هذا عن قدم الهجرة العربية إلى السودان لا من موقع المدافع، إذ لا حاجة بالمرة إلى الدفاع عن شيءٍ تليدٍ موغلٌ في القدم، البينات والأدلة الظرفية عليه قائمة، إنما نقوله لنُسكت الأصوات الغافلة عن التاريخ القديم وأدلته.

إن الناظر لأيِّ أسرة سودانية من وسط السودان مثلاً، بها ما لا يقل عن خمسة من الأخوة، يجد فيها طيفاً من الألوان، من الأسود إلى الأبيض البحر المتوسطي. وذلك دلالة على سابق تمازج الأعراق فيها. فكيف وبأيِّ حجة يستطيع أولئك المنادون بعودة العرب على جِمَالِهم إلى الجزيرة العربية، أن يميّزوا بين الأخوة مختلطي الألوان في الأسرة الواحدة، فيُركِبون الأبيض أو الفاتح اللون جمله أو ناقته ليعود للجزيرة العربية، ويتركون الآخر الأسود على رجليه أو راكباً ثوره في السودان؟! نقول أنه لمن المؤسف أن تلجأ الناس الآن إلى مغالطات عنصرية لا تخدم قضايا السودان الحالية في شيء. فنحن العارفون بتاريخ السودان وآثاره نأينا بأنفسنا عن الخوض في موضوع الجذور العرقية والثقافية للسودان ونفي ما يدور هنا وهناك من الأغلاط، لاقتناعنا بعدم جدوى ذلك الخوض، وبسوء بناء قضايا سياسية وحدودية معاصرة على أدلة تاريخية وآثارية موغلة في القدم. لكن سكوت أهل العلم مضر بالقضايا السياسية والثقافية المعاصرة، لانه يفتح المجال والسيادة والصول فيه لأهل الفتوى من غير علم. فكان لا بد ان نقول كلمة الحق التي ما وراءها إلا الضلال والباطل.

إن التمازج العرقي والحضاري والثقافي في السودان قديم، فصّلت فيه في كتاب عن السودان القديم باللغة الإنجليزية في انتظار من ينشره، بعنوان :

SUDAN: The Glory That Was Our Land

معناها : المجد الذي كانت عليه بلادنا السودان.

بينت فيه بتفصيل القاعدة الإفريقية للسودان، وقدم العنصر العربي فيه منذ الألف الثالث قبل الميلاد.

فنرجو ونأمل أن يوصد باب الهوية العرقية ايصاداً نهائياً، وإن كان لابد من هوية، فهي الدينية والثقافية، ذلك لأنها نمط لحياة وغذاء لفكر وممارسة حياتية، بخلاف الهوية العرقية التي لا وجود لها كممارسة حياتية أو تغذية فكرية. فهذه الهوية، الدينية والثقافية، يحق لأيِّ امرئٍ ما أن يتمسك بها وأن يعض عليها، على ألا يجعلها مصدراً لصراع أو نزاع، بل يسمو بها، ويتسامح بها مع الغير و يتقبله.

أين ذهب السودانيون القدماء ولغتهم؟

الإجابة عن هذا السؤال عندي، هي أن السودانيون القدماء لم يذهبوا إلى أيِّ مكان جملةً واحدة، وإنما ذهبت سيادتهم السياسية وسيادة لغتهم الثقافية كما ذهبت السيادة واللغة العربية في الأندلس. إن بناء ملوك السودان وملكاتهم لأهرامهم من الطوب بدل الحجارة في أوآخر الفترة المروية لدليل على تدهور المملكة السودانية إقتصادياً آنذاك. والضعف الإقتصادي يؤدي إلى الضعف السياسي بطبيعة الحال. مرد ذلك إلى التدفقات النوبية في أرض النيل ثم البطانة وزعزعة الأمن فيها كثيراً مما أثّر على التجارة العالمية للسودان وعلى الزراعة والرعي فافتقرت الدولة والسكان معاً.

لمّا بسط النوبة نفوذهم في وسط مملكة كوش، كما سنوضح في العنوان التالي، انتقلت عاصمة السودان جنوبا،ً في تقديري، ربما إلى سوبا ثم سنار بعد ذلك. وذلك مع تدفق النوبة وتمددهم جنوباً بعد تمددهم شرقاً في البطانة وشمالاً حتى نهر أتبرة أيضاً. وأخيراً زال سلطان كوش نهائياً وجاء سلطان النوبة. فالذي إنتقل جنوباً هو الدولة، وليس السكان، وإن لم يستبعد المرء أن يكون بعض السكان قد هجروا أماكنهم الزراعية والرعوية إلى جهات جنوبية أكثر أمناً وأبعد عن مركز ثقل النوبة، أما البقية الغالبة فالراجح أنها ظلّت في أماكنها خاضعة للسلطان الجديد. ولعل بعضها تمازج مع العنصر الجديد، وانصهر معه عرقاً ثم لغةً، مثلما حدث بعد ذلك في فترة سيادة السياسة العربية. ومع السلطان السياسي النوبي جاءت السيادة اللغوية النوبية، فصارت اللغة النوبية هي لغة الدولة الرسمية. أما لغة العامة، فهذه لن يعرفها أحد، ولعلها كانت خليطاً من السودانية القديمة والنوبية الطارئة أو لعل الناس تعايشت مع اللغتين معاً، والله أعلم. ولعل اللغة النوبية القديمة نفسها كانت ذلك الخليط اللغوي الكوشي والنوبي.

وبذلك يشابه هذا المزيج اللغوي في السودان ما حدث في مصر، حين تداخلت اللغتان المصرية القديمة واليونانية القديمة فأثمرتا عن اللغة القبطية المعروفة، بمفردات مصرية ويونانية وقواعد نحوية مصرية، وبعض أدوات النحو اليونانية وحروفها.

فلعل اللغة النوبية القديمة ثمرة سودانية قديمة ونوبية قديمة، يكون بها خليط من المفردات وخليط من القواعد النحوية، من ذلك، مثلاً، أن أداة التعريف في اللغة السودانية القديمة لام تلحق بآخر الاسم، وهي كذلك في النوبية القديمة.

لذلك، ومن هذا المنطلق، علينا في هذه المرحلة في البحث في العلاقة بين اللغتين السودانية القديمة والنوبية الحية أن ننظر إلى اللغة النوبية القديمة، لا بأنها أخت اللغة السودانية القديمة أو ابنتها ( ولعلها كانت كذلك ) ، وإنما بأنها مزيج من اللغتين، إلى أن يوفق الله سبحانه وتعالى الباحثين إلى الوصول إلى فك رموز اللغة السودانية القديمة، فتبين العلاقة العضوية بين اللغتين.

إن التاريخ حافل بالأمثلة لسيادة لغة السيد سياسياً على لغة المسود سياسياً، وبخاصة حين تكون للغة السيد القدرة و الثراء الكافيين، مع السهولة في الكتابة. وإلا فإن العكس يحدث تماماً، وتمثيلاً للقول الأول، ومن العراق القديم مثلاً، حين بسط الأكديون سلطانهم فيه، ومنذ أول الألف الثانية قبل الميلاد، غلبت اللغة الأكدية ( في لهجتين أشورية وبابلية بعد ذلك ) على اللغة السومرية، لغة البلاد الأولى والأقدم. ومع قوة السلطان الآشوري وتزايده وسيادة أشور على العراق وبلاد الشام أيضاً، أحياناً في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، صارت لهجة أشور هي لغة معظم العراق، ولغة عالمية خارج العراق أيضاً. ولمّا تدفقت القبائل الآرامية من بلاد الشام وبسطت نفوذها في العراق في القرن السابع الميلادي حلّت اللغة الآرامية محل اللغة الآشورية. وبذلك صارت اللغة الآرامية هي لغة العراق وبلاد الشام معاً، التي كانت أصل الآراميين. وظل الحال على ذلك إلى أن جاء الفتح الإسلامي، فحلت اللغة العربية محل الآرامية في بلاد العراق وبلاد الشام ، ومحل القبطية في مصر، لكن حلول لغةٍ ما محل أخرى لا يعني محو الأخرى من الوجود نهائياً، لأن اللغات أشياء حية، يبقى منها الأصلح، شاءت الناس أم أبت. لذلك تستمر مفردات ذات ثبات وجودة من لغات سابقة في أي لغات لاحقة تحل محلها. إن الكلمات

ثوم، أداة الكيل والميزان المعروفة، ودجلة والفرات كلها سومرية أكدية لا زالت مستمرة في لغتنا العربية. و في السودان مثلاً، ما زالت بعض الأسماء السودانية القديمة متداولة في العربية، نحو مك بمعنى سيد، رب، إله، وأتبرة، وصاي وفرس، وابريم، وهكذا.

لذا فما حدث من سيادة للغة النوبية القديمة في السودان القديم لأمر طبيعي. لكن التساؤل سيظل قائماً ما إذا كانت اللغة النوبية القديمة هي لغة السلطان الصرفة مع مفردات سودانية قديمة متفرقة هنا وهناك دخلت فيها بطبيعة الحال، أم أنها كانت مزيجاً من سوداني قديم ونوبي طارئ؟ لا إجابة عندي الآن عن هذا السؤال، ولن يجيب عليه إلا البحث العلمي الرصين، المتأني غير المتعجل، الجماعي غير الفردي.

النوبة :
في السودان خلط كثير بين الناس غير المتخصصين في قضايا سودانية تاريخية قديمة وأثرية. فهناك خلط بين إثيوبيا الحالية وإثيوبيا القديمة التي هي السودان القديم. مثلما أن هناك خلطاً بين النوبة والكوشيين. والأخيرون هم قدماء السودانيين السابقون لدخول النوبة و الممالك النوبية النصرانية. لقد تناولت هذه القضايا في كتابي بالإنجليزية المذكور آنفاً. اجتهدت و أفتيت فيها بما توفر لي من بينات واضحة أو أدلة ظرفية؛ ففي ما جاء في الكتاب ( 1 ) توضيح للقاعدة الإفريقية السوداء في السودان وإقرار بها، ( 2 ) وتوكيد لقدم العنصر العربي في البلاد من النصوص القديمة، ( 3 ) وإزالة للبس بين إثيوبيا الحالية وإثيوبيا القديمة التي هي السودان، ( 4 ) ثم إزالة للبس بين النوبة و قدماء السودانيين، والنقطة الأخيرة هي التي سأتناولها الآن.

لا أجدني إلا متفقا تماماً الاتفاق مع البروفسير عمر في ما قاله في مقالته الثانية في حديثه عن النوبة الحاليين وعن السابقين من قدماء السودانيين، سواء أكان في ادعاء النوبة الحاليين الانتساب للأقدمين عرقا أم ادعاءً لموروثهم الحضاري. لعل من بين قراء هذا الحديث من لم يطلع على ما قاله البروفيسر عمر. لذا فإني أورده هنا نصاً، وهو ونذكر هنا بأنه لا يجوز تاريخياً اعتبار ملوك نبتة ومروي وأولهم بعانخي من النوبيين كما لا يجوز للنوبيين حالياً الانتساب المطلق لآل تلك الفترة أو الادعاء بأن كل التراث القديم في المنطقة نوبي

أوافقه الرأي وأنا نوبي أصلاً من جزيرة كومي في دنقلا، لكن نوبيتي لا تمنعني من قول الحق. ذلك لأن بداية أسرة بيي ( بعانخي كما هو معروف عامةً ) في القرن الثامن قبل الميلاد واضحة لنا، وأن دخول النوبة من الغرب في وادي النيل في العصور المتأخرة بعد ذلك موثقة في النصوص اليونانية المعاصرة لهم، لقد قطعت النصوص اليونانية بأن النوبة في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا في المنطقة الواقعة في الشمال الغربي من مدينة مروي، وأنهم كانوا مستقلين عن ملكها؛ فهذا تمييز واضح بين النوبة والكوشيين، سكان المملكة التي كانت عاصمتها مروي آنذاك، وثمة تمييز آخر جاء به عيزانة، ملك أكسوم ( الحبشة ) ، في نقشه الطويل عن حملته التي نص بأنها كانت لتأديب النوبة، لقد ميز عيزانة فيه نصاً وبوضوح بين الكوشيين والنوبة.

( للمادة تتمة )


ﭠَڝَـدَرَ عـنَ حِـۤـزْب الَبعــثَ الَعـرَﭜَـيَ الَاشـَـﭠَرَاكَــيَ في السودان





الاحد ١٧ جمادي الثانية ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / أذار / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ. عبد القادر محمود عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة