شبكة ذي قار
عـاجـل










عندما قادت الولايات المتحدة الامريكية في مطلع آذار 2003 عملية عسكرية واسعة التدمير وقاسية التأثير أسمتها "عملية تحرير العراق" وإستخدمت فيها أحدث أنواع الأسلحة الهجومية المُجرَبة وغير المُجَرَبة وأثقل الحمم والقنابل والصواريخ وأشدها فتكا لتدمير كل القدرات العسكرية والصناعية والخدمية والبنى التحتية وترويع الشعب وإفراغ العراق من كل مقدراته كدولة والمبالغة في إستغلال قوة الردع والتدمير والترويع والتي إنتهت بإسقاط النظام العراقي السابق لتتحول الى مرحلة ( التخطيط لإعمار ما دمرته آلتها الحربية ) للإنتقال الى مرحلة تنفيذ(خطط الإعمار ونشر الديمقراطية تمهيدا لبناء دولة العدالة والأمن والإستقرار والرفاهية لتكون مثالا يحتذى به في المنطقة والعالم )!.

 

ولتنفيذ ذلك نصبت الإدراة الأمريكية الحاكم العسكري جي غارنر لإدارة الأوضاع السياسية والأمنية ليسلمها من بعد للحاكم المدني بول بريمر لأسباب يعرفها الجميع.

 

بول بريمر وحال تسلمه منصبه في دولة خالية من كل المقومات وشعب مصاب بالصدمة والترويع والمفاجأة كان يتصرف وكأنه مالك للعراق والحاكم المطلق بأمر الله فسن القوانين وحل الجيش والشرطة وقوات الأمن وأوجد مجلس الحكم ووزع الطوائف والقوميات وفقا لرؤيته ونصّب الحكومة وإستحوذ على القرار وحصر الصلاحيات بيده فأصبح السلطان المطلق الصلاحيات ووزع الهبات وزرع الفتنة والفساد وحلل السرقة ونهب المال العام ومَهَّد لتقسيم العراق بزرع بذور الحصص طائفيا وعنصريا ومناطقيا وخلق الزعامات وفقا لرغباته وعَزَلَ وقسَّمَ المدن والقبائل والعشائر والعوائل الى سنة وشيعة وكرد وتركمان ومثلثات ومربعات وغيرها.

 

وفي مذكرات هذا الرجل قال أنه عندما شاهد الناس من الجو ينهبون مؤسسات الدولة التي يتصاعد منها الدخان وهو في طائرة ال C-130  في أول مجيئه لبغداد لتسلم منصبه  يقول انه أدرك " كم أن هذا الشعب محروم وهو يأخذ ممتلكاته التي حرمهم منها صدام حسين !".

 

رؤية ومنهج وسياسة يحير المراقب والمتابع والمحايد في تفسيرها!..

هل يمكن أن يصدق البعض أن هذه الرؤية وهذا المنهج يمثل إجتهادات موظف مغمور في وزارة الخارجية الأمريكية أُختيرَ ليؤدي دورا معينا في مرحلة معينة من تأريخ العراق وأُعطي هذه الصلاحيات في رسم مستقبل العراق بعد كل هذه الخسائر التي قدمتها الولايات المتحدة في الأرواح والسمعة والمصداقية الدولية والخسائر المادية؟

 

وهل أن هذه الصلاحية التي يملكها هذا الرجل تجعله صاحب القرار الأوحد في تفكيك أسس الدولة وتحطيم مفاصلها وإعادة رسم خارطتها وتوزيع مكونات شعبها وتعطيل مؤسسات كاملة وحل أخرى وتهميش وإقصاء وإبعاد والإستغناء عن كوادر الدولة الذين يملكون اعلى الشهادات وأرقى التخصصات والعلوم وبخبرات متميزة لعشرات السنين في حقول معقدة والذين لاذنب لهم إلا لأنهم كانوا في مؤسسات الدولة في زمن النظام الذي أسقطته أمريكا وبدون معايير وأسس واقعية تخدم هدف بناء الدولة الجديدة ( إن كان هنالك فعلا مثل هذا الهدف )!

 

أم أن  الأيام أثبتت كم هي عميقة جذور المؤامرة على العراق؟!.

وإن الهدف كان ان يتم الذي جرى وفقا لخطة ومنهج مقر منذ البداية وحتى قبل العدوان؟

اليوم وفي إستكمال لمسلسل تحقيق هذا الهدف وبموجب آليات التصرف بالمال العام التي وضع أسسها بريمر وأستمر نهج تطبيقها لاحقا ولحد الآن في الإستهانة بالوسائل وتبديدها ليعم الفساد كل مفاصل الدولة لنصل الى واقع مؤلم ومثير للإستغراب والسخرية وهو ناتج لهذا الزرع والرعاية لإشاعة الباطل على حساب الحق فقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية واسعة الانتشار الخميس ٧ آذار ٢٠١٣ أن العراق مازال يفتقر للإستقرار ويعاني من الإنقسام رغم مرور عشر سنوات على إسقاط النظام السابق وإنفاق 60 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الامريكيين!.

 

 وحيث أن الإدارة الأمريكية غيرت عدة مرات أهداف الحرب على العراق إلا أن آخر التعابير التي لازالت الإدارة الأمريكية متمسكة بها والتي عبر عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطاب الإنسحاب الأمريكي من العراق في 27 شباط 2009 هي : ( جعل العراق  مثال يحتذى به في الرفاهية والإزدهار وليكون عنصر فعال ومؤثر في امن  وإستقرار المنطقة والعالم وشريك إستراتيجي للولايات المتحدة لتحقيق أهدافها ).

 

لذلك نلاحظ أن الواشنطن بوست ركزت على حقيقة ما وصل اليه العراق اليوم وبعد عشر سنوات كونه أصبح دولة غير مستقرة بدل أن يكون ليس دولة تنعم بالأمن والإستقرار فقط  بل تساهم في نشر هذا الأمن والإستقرار في المنطقة والعالم وبشكل فاعل ومؤثر !.

 

وبدل من أن يكون العراق بلدا قويا موحدا بكل مكوناته وعامل أيجابي لإستقرار المنطقة أصبح بلدا يعاني من الإنقسامات العرقية والطائفية والمناطقية ليكون عامل مؤثر لإشاعة عدم الإستقرار في هذه المنطقة الملتهبة والمهيئة للإنفجار!.

 

وتقول الصحيفة  في تقريرها الجديد:

بعد عشر سنوات وإنفاق 60 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين ما زال العراق يفتقر للإستقرار ويعاني من إنقسامات إلى حد أن قادته باتوا يتشككون في ما إذا كانت جهود الولايات المتحدة المبذولة لإعادة إعمار الدولة التي قطعت الحرب أوصالها تستحق العناء".

 

وقد أوضح التقرير أن المفتش العام المختص بشأن إعادة إعمار العراق كان قد ذكر في تقريره الى الكونغرس الامريكي أنه:

"منذ الغزو أنفقت الولايات المتحدة أموالا طائلة في العراق دون تحقيق نتائج تذكر".

 

هي إذا إعترافات امريكية واضحة وصريحة بعدم وجود أية نتائج يمكن لدافع الضرائب الأمريكية أن يلمسها بعد صرف المبالغ الطائلة من اموالهم وماتم صرفه لاحقا لسنوات طويلة من أموال الشعب العراقي ليصل مجموع ما تم صرفه ( وبدون نتائج تذكر) أرقاما فلكية!.

 

وفي إشارة أخرى الى فشل الإدارة الأمريكية في تبرير الحرب من جهة وفي إستثمار نتائجها من جهة أخرى اضافت الصحيفة:

" وبعد فترة قصيرة من الغزو الأمريكي في آذار 2003، منح الكونغرس 2.4 مليار دولار للمساعدة في تخفيف وطأة الحرب عن كاهل العراقيين. وكان الهدف منها هو إعادة بناء أنظمة الماء والكهرباء في العراق وتوفير طعام ورعاية صحية ونظام حكم جيد لشعبه؛ فضلا عن الاهتمام بهؤلاء الذين أجبروا على إخلاء منازلهم أثناء القتال".

 

" وبعد أقل من ستة أشهر، طلب الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، مبلغ 20 مليار دولار إضافيا، لتحقيق المزيد من الاستقرار للعراق ودعم تحوله إلى حليف يمكن أن يحصل على استقلال اقتصادي ويحصد استثمارات عالمية".

 

هي دلالة أخرى على وجود رغبة في جعل العراق في الحالة التي هو عليها الآن!..

فمن المعروف أن الخبرات والقدرات الأمريكية الإستشارية وبيوت الخبرة متطورة ومتعددة الوسائل والإمكانات قادرة وبتفوق على رسم المناهج وتفاصيلها وتهيئة متطلبات تطبيقها ومتابعة تنفيذها ومنع التلاعب بوسائلها وبالأخص تخصيصاتها المالية بشكل مطلق..

 

بل هي قادرة وبحكم مرونتها المعروفة بأن تطور الأهداف الى أبعد من الطموح!.

أليس هذا هو الذي يحصل يوميا في المدن الأمريكية التي تشهد تطورا مذهلا كل يوم؟

 

فلماذا لم يجري ذلك؟

أم أننا ببساطة نجهل الهدف ؟

 

وتابعت الصحيفة في هذا التقرير الجديد الذي يكشف حقائق مهمة أمام العالم وأمام دافعي الضرائب من الأمريكيين الذين لازال الكثير منهم يتوهم أن بلاده قد حققت الإستقرار والديمقراطية لبلد ستجني الولايات المتحدة من جراء ذلك إستثمارات ضخمة إضافة الى خلق حليف إستراتيجي يساعد الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها من جهة ويساهم في أمن وإستقرار المنطقة والعالم من جهة أخرى بقولها: 

 

 "حتى اليوم، دفعت الولايات المتحدة أكثر من 60 مليار دولار في صور منح إعادة إعمار لمساعدة العراق في الوقوف على قدميه من جديد بعد أن تمزقت أوصال الدولة بفعل استمرار الحرب وفرض العقوبات وفرض النظام الديكتاتوري لما يزيد على عقدين، وتبلغ قيمة التكلفة نحو 15 مليون دولار يوميا".

 

إنها إشارة واضحة الى أن أهم منجزات (تحرير العراق) كانت خلق منظومة متكاملة من مافيات الفساد والسرقة والقتل والتي سرقت أموال الأمريكان وأموال الشعب العراقي وأستباحت دمائهم وإمتهنت كرامتهم وأشاعت الفقر والعوز والجهل بين عموم العراقيين إضافة الى تعمد خلق حالة إنعدام القدرة ( أوعدم الرغبة) في توفير أبسط الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وفرص عمل وسكن وصحة حيث زادت الصحيفة لتقول: 

 

"غير أن حكومة العراق ترزح تحت نير الفساد والاقتتال بين أفراد شعبها. وما زالت شوارع بغداد تشهد تفجيرات مروعة بشكل شبه يومي، فيما يعيش ربع سكان العراق البالغ تعدادهم 31 مليون نسمة في فقر، وعدد محدود منهم لديه كهرباء ومياه نظيفة".

 

ونعود لنتسائل:

هل يمكن تفسير أسباب فشل المنظومة العسكرية والأمنية التي أشرفت عليها الولايات المتحدة ورُصدت لها مليارات الدولارات وأحدث الأجهزة والمعدات والتجهيزات والمتطلبات من تدريب وتنظيم لتصبح هذه المنظومات عاجزة عن التنبؤ بالخروقات الأمنية ومنع حدوثها وإيقاف هذا التدهور الأمني الذي تتراكم نتائجه وتتوسع تأثيراته الى درجة خلق ميليشيات طائفية لمساعدة الأجهزة الأمنية والعسكرية لتنفيذ مهامها بعد كل هذا التدريب والتجهيز والإعداد؟

 

وفي تفصيل لحجم الخسائر المادية التي أثقلت كاهل المواطن الأمريكي والتي ساهمت الولايات المتحدة بضخها الى العراق بدون نتائج إيجابية عدا الماكنة الإعلامية التي تتحدث يوميا عن منجزات وهمية وديمقراطية في ظل وجود سرقات ونهب للمال بدون النظر لمصدره سواءا كان من المساعدات الأمريكية أو واردات العراق النفطية بينت الصحيفة حجم هذه الأموال التي تم ضخها للعراق بقولها: 

 

"في المجمل، بما في ذلك تكاليف الجهود العسكرية والدبلوماسية كافة والمساعدات الأخرى، أنفقت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 767 مليار دولار منذ الغزو الأمريكي، بحسب تقدير مكتب ميزانية الكونغرس. أما مجموعة الأولويات القومية، المختصة بتحليل البيانات الفيدرالية، فتقدر حجم التكاليف بنحو 811 مليار دولار".

 

عموما وإن كانت هذه المقالة بمثابة إعتراف داخلي صريح من مؤسسة معروفة بفشل حملة إحتلال العراق وكل نتائجها إلا آنها ورغم ذلك أغفلت جوانب مهمة منها:

 

أن حصيلة ضياع هذه الأموال الامريكية الطائلة وأموال شعب العراق طيلة أكثر من تسع سنوات قد أفرزت هذا الغضب الجماهيري العارم الرافض لهذه السياسات التي أخفقت في تحقيق أبسط مقومات الحياة من كرامة وشعور بالإنتماء الوطني وفرصة للعمل والعيش بإحترام عدا الحرمان من الماء والكهرباء والسكن والمستقبل الآمن.

 

قيادات خلقت وعمقت الطائفية والعنصرية وإتخذتها وسيلة لخلق مبرر لحرب ضروس بين مكونات الشعب العراقي الواحد والتي تنسيهم مآسيهم الكبرى والتي ينعم غيرهم بالتندر والضحك عليهم بها.  

 

 





الثلاثاء ٣٠ ربيع الثاني ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / أذار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب كامل المحمود نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة