شبكة ذي قار
عـاجـل










جرى مؤخّراً تداول مقال بقلم السيد علي بابان، وزير التخطيط السابق في الحكومة التي نصبتها سلطة الاحتلال، تناول قضية خطيرة من القضايا التي تواجه ابناء العراق وهي قضية المياه تحت عنوان ( نهري دجلة والفرات ) . لا يخلو المقال من اشارات مهمّة الى خطورة واقع المياه وما تحمله من النتائج الكارثية على نوعية الحياة في العراق. لقد ورد في المقال جملة من الحقائق ولكنه أغفل حقائق أخرى، لا نعتقد انها غائبة عنه ولكن لربما تعمد ذلك  لمقتضيات الوضع الحالي ومن جملة هذه الحقائق، جهود الحكومات الوطنية العراقية المتعاقبة حتى الاحتلال عام 2003، ومدى استشعارها في وقت مبكر لخطورة المخطط التركي لبناء مجموعة من السدود العملاقة على منابع حوض نهري دجلة والفرات. وكذلك أغفل السيد الوزير السابق جهود تلك الحكومات في بناء السدود العديدة لخزن المياه  وعدم تبذيرها لأستغلالها في الاوقات المناسبة والمشاريع الاروائية الكثيرة التي توقف معظمها أو جرى تدميره عمداً اثر الغزو والإحتلال الأمريكي للعراق ومجئ اشخاص لا يهمهم من مصلحة البلاد شئ فهم منغمسون في محاصصاتهم الطائفية وفي توظيف مقدّرات البلاد لمآربهم الشخصية.

 

وإدراكا من رابطة الدبلوماسيين العراقيين  لحاجة ابناء شعبنا المنكوب والمغيّب أن تُذكر له الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع وما قامت به الحكومات السابقة، من جهود ومساعٍ لحماية حقوق العراق ومستقبله وهي جهود توقفت بل تلاشت بمجئ الإحتلال ومن نصبّهم لحكم البلاد، فإننا نودّ أن نبين بإختصار  ودون الدخول في التفاصيل والوقائع الكثيرة والمتشعبة وكذلك في تفاصيل القواعد والأطر القانونية، الحقائق التالية:

 

حقيقة أساسيّة : ان قضايا المياه كانت الشغل الشاغل للعراقيين منذ فجر التاريخ ولاحاجة لنا أن نذكر أن أهم المكتشفات والاختراعات في بلاد الرافدين قد شكلّ موضوع الاستفادة من المياه والسيطرة عليها، الهاجس الاساسي فيها. وكذلك ما قام به الخلفاء العباسيين من جهود شاخصة لحد الان ثم ما قامت به الدولة الحديثة في العراق اذ أن أولى المشاريع الاروائية في المنطقة هي مشاريع عراقية منذ عام 1911 والاعوام التي تلته ولم تتوقف مشاريع المياه حتى خلال إنشغال العراق بالدفاع عن نفسه في الحرب التي شنّتها ايران ضدّه، اذ جرى تنفيذ أهم السدود التي تعتمد عليها السياسة المائية العراقية حتى الان وكثيرُ منها صمّم ونفذّ بعقول هندسية عراقية مائة بالمائة، واستمر عمل الكوادر العراقية في زمن الحصار في تنفيذ سدود ومشاريع أخرى مهمة منها مشروع النهر الثالث الذي وصفه وزير المياه ( العراقي ) بعد الإحتلال 2003ـ 2011، السيد عبد اللطيف رشيد بانه اهم وأضخم مشروع في العالم ( جاء ذلك في ندوة جانبية ضمن المؤتمر الدولي للمياه الذي عقد في مراكش  في شهر تشرين الاول ـ نوفمبر 2011 ـ طبعا لا يجرؤ السيد عبد اللطيف ان يعلن ذلك داخل العراق مثلما لم يجرؤ السيد بابان ان يذكره في مقاله ) .

 

الحقائق الأخرى :

أول ا: ان العراق وتركيا ارتبطا عام 1946 بمعاهدة الصداقة وحسن الجوار، السارية المفعول.

 

وضمت المعاهدة ستة برتوكولات هي التي رسمت ونظّمت، منذ ذلك الوقت ولحد الآن، معالم العلاقة العراقية –التركية في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية وقضايا الحدود. أمّا المياه فقد نظمها البرتوكول الأول الملحق بالمعاهدة. يتضمن البروتوكول قواعد متقدمة على عصرها فيما يتعلق بكيفية تنظيم الإنتفاع بمياه دجلة والفرات ويثبّت للعراق حقوقاً واضحة خاصة فيما يتعلق بالموقف من تنفيذ اية منشآت في الأراضي التركية اذ ينص البروتوكول على ضرورة المشاركة العراقية الفعلية في تلك الإنشاءات بما " يجعلها تخدم مصلحة العراق مثلما هي تخدم مصلحة تركيا".  وكما يلاحظ ان هذه الإتفاقية تتقدم على حلف بغداد بعشر سنين تقريبا. ونود أن نشير هنا أن الإنتهاك التركي الأول لهذه الإتفاقية كان بعد أن تمّ التوقيع على حلف بغداد ـ سيئ الصيت ـ الذي يحنّ اليه السيد بابان. لقد بدأت تركيا بتنفيذ أول السدود على نهر الفرات ـ سد كيبان ـ عام1957 ضاربة عرض الحائط ما نصّ عليه برتوكول المياه من ضرورة ان يكون تنفيذ اي انشاءات بمشاركة العراق وبما يخدم مصالحه ايضا ولم تستجب تركيا لطلبات العراق التي بدأت منذ علمه بالخطة وقدّ أضر السد كثيراً ـ كما سنرى ـ بمصالح العراق.

 

ثانيا : القول ان الدولة العراقية كانت نائمة طوال السنين التي جرى فيها تنفيذ المشاريع التركية، قول يجافي الحقيقة تماماً، ولعله اصبح ـ موضة ـ سياسيو ما بعد الإحتلال، فهم يبرّرون للدول الأخرى كل إنتهاكاتها بحقّ العراق على اعتبار ان الدولة العراقية ـ قبلهم ـ لم تكن موجودة وهم يحاولون انشاءها الآن، وان السياسة العراقية قد انتهت بعد نوري السعيد مما يتطلب استنساخه !!! ....وهذا تبرير آخر لما حصل من تدمير لمؤسسات الدولة العراقية بعد الإحتلال وانغماس الساسة بمصالحهم الشخصية البحتة تاركين جانباً المصالح العاليا للبلاد وحقوقها ومنها حقوقها في مياه نهري دجلة والفرات. إن الوقائع تدل انه منذ الإعلان الأول عن مشروع سد كيبان والحكومات العراقية المتعاقبة تحاول كل ما في وسعها إقناع الأتراك بتعديل خططهم ومشاريعهم، بما يحقق مصالح تركيا ولا يضرّ بحقوق العراق، علما ان نهري دجلة والفرات لم يكن يمثلان حاجة أساسية لتركيا قدر كونهما مسألة حياة او موت بالنسبة للعراق، والمشاريع التركية هي مشاريع سياسية بالدرجة الأولى بغلاف تنموي....وعلى اية حال انها حق تركي لكن كان يجب ان لا يتوسع ليلحق أضراراً جسيمة متعمدة بجيرانها، العراق وسورّية.

 

ثالثا : من الواضح في اعلاه ان المشاريع والإنتهاكات التركية لحقوق العراق قد بدأت في أواخر الخمسينات وليس في الثمانينات والتسعينات كما يشير السيد بابان ويتحفنا بقوله ان الدولة العراقية كانت في غرفة الإنعاش وأن ذلك كان هو سبب تنفيذ هذه المشاريع. بل ان تركيا قد بدأت بالتحريات الأولية والمسوحات الهيدرولوجية لأقامة المشاريع على نهر الفرات منذ العام 1936هذه المسوحات تمخضّ عنها فيما بعد المشروع الذي اسمته ( مشروع جنوب شرقي الأناضول ـ غاب ) والذي ألحق اكبر الأضرار بالعراق، ولم ولن يحلّ مشاكل تركيا. ان تركيا لم تلتزم بأية من مبادئ او قواعد علاقات حسن الجوار في تنفيذها لمشروع ( الغاب ) فلماذا نعفيها من التزاماتها ونضع اللائمة على بلدنا فقط؟

 

رابعا : ولعل جميعنا يذكر ما حدث عام 1974 ـ في عزّ قوة العراق ـ عندما اصرّت تركيا وسورّية على ايذاء العراق باملاء سدّي كيبان في تركيا والطبقة في سوريا في آن واحد وهما على نهر الفرات، وهو عمل عدائي واضح جدا اذ كان بأمكان لأحدهما ان ينتظر شهرا واحدا لكي لا يقع ذلك الضرر ـ الكارثة. وكم حاول العراق وقتها، وكم بذل من جهود سياسية لإقناع الطرفين بتعديل خطتهما ألا انهما لم يستجيبا، كم بذل فنيّو العراق من الجهود لإقناع الطرفين بأن ذلك غير صحيح حتى من النواحي الفنيّة البحتة....إلا ان تركيا وسوريّة أصرّا على ذلك الموقف اللاإنساني فحدث ما حدث للعراق وقتها من كارثة إنسانية كبيرة جرّاء الإنقطاع شبه التام لمياه الفرات...الم يكن ذلك بعد سنة تقريبا من قيام الجيش العراقي الباسل بإنقاذ دمشق من السقوط في براثن الاحتلال الاسرائيلي؟!! فما يؤسف له أن موقف العراق هذا، وموقف جيشه الباسل، قد قوبل بالتنكر التام من قبل حافظ الاسد فواصل حقده على العراق وقيادته بقطع مياه الفرات.

 

خامسا : فيما يتعلق بالثمانينات والتسعينات من القرن الماضي- تحديدا- فقد تصاعد إهتمام الدولة العراقية بموضوع المياه الذي بات أهم بند في العلاقات العراقية- التركية وحاول العراق انتهاج سياسة جديدة مع تركيا من خلال - تشبيك المصالح- فدخل معها في اتفاقيات اقتصادية كبيرة جدا، وتم انشاء انبوب النفط العراقي التركي الاستراتيجي لنقل النفط الخام من كركوك الى ميناء يومورتالوك ودخل معها في اتفاقيات تخص المياه من أجل عدم الاضرار بحصة العراق من تلك المياه، وجرى تشكيل لجنة مشتركة لمتبعة الموضوع. لقد حاول العراق بكل الوسائل ثني تركيا على تعديل خططها المائية بما يخفّفّ من الاضرار الا ان ذلك قوبل بتجاهل وتمويه وتمييع وعندما لم ينفع ذلك نقل العراق الموضوع الى الجامعة العربية عام 1993 وانضمت الى هذا الجهد السياسي فيما بعد سورية، وظل موضوع المياه بنداً منفرداً على جدول أعمال المجلس لحد الآن.

 

وللحقيقة والتاريخ نسجل، ان الجامعة العربية بذلت جهوداً سياسية كبيرة في هذا الموضوع بناءً على مقترحات ودراسات قدمها الجانب العراقي من خلال  وزارة الخارجية العراقية، وارسلتها على شكل مذكرات الى الجامعة العربية للمتابعة.. ومن جملة ما قامت به الجامعة العربية إستجابة لمذكرات وزارة الخارجية العراقية ما ياتي:

 

1: اصدار قرارات تؤكد حقوق العراق وسورّية في مياه النهرين وتطالب تركيا بالإلتزام بقواعد القانون الدولي والإتفاقيات الثنائية السارية المفعول.

2: رسائل الى الحكومة التركية تطلب فيها الإستجابة الى المطالب السورية والعراقية وتربط ذلك بتطور العلاقات العربية ـ التركية.

3 : رسائل الى وزراء خارجية الدول التي تمول المشاريع التركية ( كانت مشاريع الرسائل تعدّ من قبل وزارة الخارجية العراقية ) ـ

4: وضع اسماء الجهات والشركات الممولة للمشاريع التركية على المقاطعة العربية.

5: رسائل للبنك الدولي ـ الذي انتهك قواعده ومول المشاريع التركية ـ تطالبه بالتوقف عن الاستمرار في تمويل المشروع.

 

سادسا: بموازاة ما تقدم قام العراق بجهود مع الأمم المتحدة والبنك الدولي والدول والجهات الممولة للمشاريع التركية، والحقيقة ان تلك الجهود أثمرت في اعاقة تمويل المشاريع التركية وبالتالي فقد تعثّرت كثيرا في التسعينات خلال فرض الحصار الاقتصادي الجائر إلاّ ان تركيا واصلت جهدها في السنوات اللاحقة.

 

سابعا: وعلى صعيد تحرك العراق على المنظمات المهتمة بالبيئة، بذلت الدبلوماسية العراقية جهوداً كبيرة لشرح حقائق وأهداف المشروع التركي والاضرار الكارثية التي ستلحق بالعراق وشعبه بعد تنفيذه . ففي العام 2000 أتصل رئيس شعبة المصالح العراقية في لندن، على إثر نشر احدى الصحف البريطانية، خبرا عن نشاط مجموعة عمل ناشطة ( اصدقاء الارض ) تعمل على وقف تمويل مشروع ( سد اليسو ) في شرق الاناضول، اتصل بالمجموعة والتقى بهم عدة مرات شارحا لهم خطورة الاستمرار في تنفيذ المشروع المذكور لان هذا السد سيقوم باغراق العديد من القرى الكردية ويدمر تراثهم ومزارعهم ويؤثر تأثيرا بالغا على العراق والانسان العراقي في حياته اليومية. ووجه لهم دعوة لزيارة العراق وفعلا زارت المجموعة العراق واطلعت على المواقع واستمعت للشروحات الفنية التي قدمها المختصون في وزارة الزراعة والري والقانونيين في وزارة الخارجية وعلى أثر هذه الزيارة أصدرت المجموعة بحثاً رصينا توثق أضرار السد على مستقبل الانسان العراقي، وقد خلق هذا البحث ونشاط المجموعة ضغطا إضافيا على الشركات ( الكونسرتيوم ) الممول لهذا المشروع وأجبرت احدى الشركات الاوروبية على الانسحاب من المشروع وقامت هذه المجموعة ( أصدقاء الارض ) بنشاط ممتاز ساهم مع الانشطة الاخرى في النهاية في عرقلة بناء ( سد اليسو ) وانسحاب عدة شركات من بينها شركات سويسرية وقد ساهم العراق من خلال وزارة الخارجية ووزراة الزراعة والري في هذه النشاطات بما ساهم في انجاح حملة المنظمة المذكورة.

 

ثامناً: لا تخلو مقالة السيد بابان من إشارات مهمة إلى خطورة واقع المياه والاضرار المستقبلية لها ولكن أين هي الجهود التي بذلتها حكومات الاحتلال للتصدي لهذه الكارثة القادمة.. لقد أهدرت تلك الحكومات والسيد بابان كان ولايزال جزءاً منها أكثر من 600 مليار دولار من أموال العراق منذ العام 2004 فهل استطاعت ان تعمل واحد بالمئة مما عملته الحكومة الوطنية والحكومات التي قبلها رغم شحّة مواردها.؟!!!

 

ختاماً، تود الرابطة ان تؤكد على ان السبب الرئيس هو ليس قصور الحكومات العراقية السابقة لكن السبب الحقيقي يكمن في إصرار تركيا على سياستها وعلى انتهاكاتها لكل القواعد والأعراف الدولية وعلاقات حسن الجواروالتاريخ المشترك. وبهذا الصدد تود الرابطة ان تذكر الحكومة التركية ان مبادئ حسن الجوار ليست فقط في تنمية وتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والامنية الثنائية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وانما تنص ايضا على عدم الحاق الضرر بالاخر لاسيما ان كانت علاقات الجوار قائمة على الروابط التاريخية والدينية المشتركة. كذلك تود الرابطة ان تسأل السيد بابان لماذا لم يتطرق الى حجب ايران مياه نهري الكارون والوند وقيامها بضخ مياه مبازلها فيهما. اليس هذا كيل بمكيالين؟!! أم ان على رأس ايران ريشة!!!!

 

رابطة الدبلوماسيين العراقيين

بغداد في :

الثالث من شهر ذو الحجة ١٤٣٣ من الهجرة

الموافق للتاسع عشر من شهر تشرين الاول 2012

 

 

 في أدناه نص مقال السيد علي بابان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

نهري دجلة والفرات

علي بابان، وزير التخطيط العراقي السابق

 

عندما جئت أكتب مقالي هذا عن إنحسار دجلة و الفرات و النتائج الكارثية التي ستترتب على ذلك فكرت بعنوان ( سيناريو يوم القيامة في العراق ) و لكني خشيت أن ألمس رمزا مرتبطا بالعقيدة أو أن اتهم بأثارة اجواء التشاؤم ثم استبدلت العنوان ب ( العراق..الزلزال القادم ) و لكني وجدته لا يقل تشاؤما عن سابقه ثم وقع إختياري على ( البكاء عند أنهار تحتضر .. ) .


هذه السطور ليست مرثية لدجلة و الفرات و لكنها جرس إنذار للعراقيين جميعا ليدركوا بشاعة السيناريو الذي نسير بأتجاهه و نتائجه الخطيرة على جميع مناحي حياتنا..هذا السيناريو لم يعد بعيدا عنا بل بات قريبا فما يفصلنا عن عام 2040 أو 2035 ليس سوى سنوات قصيرة لا تعد شيئا في عمر الأمم و الشعوب.


يشخص علم النفس الحديث حالة مرضية إسمه ( إلالقاء في اللاوعي ) و مفهومها أن الفرد عندما يقع في مشكلة أو يصاب بمرض و يعجز عن المواجهة و العلاج أو يتهرب منها فأنه يسقط ذلك كله من وعيه و يلقيه في دائرة اللاوعي أو منطقة التجاهل و النسيان ..و يبدو أن بعض المجتمعات مصابة بنفس الداء فهي تتهرب من مسؤولياتها ..و تدفن رأسها في الرمال إزاء المخاطر المحدقة بها ..و تظهر قدرا خطيرا من اللامبالاة و عدم الإكتراث تجاه مصائب جلل تحدق بها..هذا ما نفعله نحن العراقيون بالضبط إزاء مخاطر إنحسار دجلة و الفرات و إذا كان من غير الممكن تصور أن أي إنسان يبقى صامتا تجاه إنسان آخر يقبل و في يده موسى لكي يقطع شرايينه..فأن الذي حدث أن دولة العراق و الرأي العام العراقي بقوا صامتين لعقود على عمل هو اشبه بقطع شرايين الدم عن الكيان العراقي.


إذا كانت مصر هي هبة النيل فأن اسمها كدولة لم يستمد من ذلك النهر كما حدث في العراق الذي عرف ( ببلاد ما بين النهرين ) و ( ميسوبوتامي ) في التاريخ القديم، و ليطلق عليه لاحقا العراق و بلاد الرافدين، إذن فالنهرين العظيمين هما و العراق ككيان صنوان لا يفترقان و عندما يغيب النهرين أو يضمحلا يصبح العراق بمفومه المعروف و المتداول موضع تساؤل ، فالنهرين هما مقومات وجود بالنسبة للعراق و ليسا مجرد مقومات رفاه..أو قوة يمكن تعويضها، و العراق من غير دجلة و الفرات لن يكون ذلك الوطن الذي نعرفه..كما لن يكون ذاك العراق الذي عرفه التاريخ.


منظمة المياه الأوروبية و هي منظمة فنية ذات مصداقية توقعت جفاف نهر دجلة بالكامل في عام 2040 ولا نظن أن هذه المنظمة معنية بنشر التوقعات المفزعة أو ترغب بأساءة علاقة العراق بجيرانه..أما الفرات فلا يبدو انه بحاجة إلى المزيد من التنبؤات السيئة فواقعة الحالي ينبئ عن مصيره القريب فلقد غدا مجرد جدول شاحب اللون في مدننا العطشى..ولا يصعب على من يقرأ الأرقام أن يكشف حجم الكارثة ولا النتيجة التي سنصل إليها في غضون سنوات معدودة.


كثيرون يتوهمون أن إنحسار النهرين سوف لن يتعدى في تأثيراته أوضاع الزراعة ولا يدركوا أن خارطة العراق الحضرية ستتغير بالكامل ..مدن و حواضر ستختفي أو ستكون في حكم الميتة و إن تشبثت بالحياة..و مدن ستنمو نموا سرطانيا و ستحاط بأحزمة الفقر و مساكن الصفيح ..ستتعاظم ظاهرة ترييف المدن بكل ما تحمله من نتائج خطيرة سياسيا و إجتماعيا..و ستتقافز نسب الفقر و البطالة و الإصابة بالأمراض..و يعشعش الجهل و التطرف و يضرب جذوره..هذا الذي نقول ليس سيناريوها تشاؤميا نبتكره من مخيلتنا و لكنه النتائج المؤكدة للأرقام التي بين أيدينا اليوم و لتطور و نمو هذه الأرقام بفعل الزمن من خلال دراسة منحنياتها و مساراتها.


عام2040 و هو العام الذي تذكر الدراسات أنه سيشهد جفاف دجلة ( حيث يكون الفرات قد سبقه لذلك ) سيكون عدد سكان العراق بحدود الـ 75 مليونا..فمن سيدبر غذاء هذا العدد من السكان..؟؟ و كم ستكون حصة الفرد الواحد من المياه..و من الأرض الزراعية ..؟؟.


. إذا كنا اليوم ( و دجلة و الفرات على الوضع الحالي ) قد دخلنا ضمن دول الفقر المائي بحصة مياه تقل ألف متر مكعب للفرد الواحد ( مع تفاوت طفيف في التقديرات ) و إذا كان العراق يخسر سنويا ما بين مائة إلى مائة و خمسين ألف دونم من أرضه الزراعية بسبب الجفاف و التصحر ..و مع استمرار الدول المجاورة و على رأسها
تركيا بتنفيذ مشروع ( الغاب ) الذي يتضمن إنشاء 22 سدا و بسعة خزن تتجاوز 155 بليون متر مكعب من المياه و أن سد ( أليسو ) المقام على نهر دجلة سيحرم لوحده العراق من ثلث اراضيه الزراعية فأنه بهذه المعطيات لا يصعب علينا أن نتصور الصورة القادمة و ( القاتمة ) .


.عراق تعاني مدنه و زراعته العطش و الجفاف و يحصل مواطنه على حصة فقيرة من المياه لا تسد رمقه و احتياجاته و اقتصاد يعجز عن توفير لقمة الغذاء
لل75 مليون عراقي حتى لو وجه عائدات النفط كلها لإطعام مواطنيه..سيكون هناك صراع داخلي شرس على موارد المياه يضيف تهديدات إضافية للكيان العراقي و يزيد من عوامل إنقسامه و تفتته ، سيبرز مجددا ما يعرف في العراق بصراع ( الصدور و البزايز ) حيث ستحرص المحافظات التي تستلم الإيرادات المائية اول ( الصدور ) على أن تحتفظ بتلك الإيرادات المتناقصة اصلا لإستخداماتها فيما ستعترض محافظات ( البزايز ) على ذلك و تتفاقم فيها المشكلة و الحاجة إلى المياه.


يعلمنا علم الإجتماع السياسي بأن نشوء أولى الدول التي عرفها العالم على ضفاف الأنهار في الحضارات القديمة ( مصر و العراق ) جاء بفعل حاجة الناس إلى حكومات قوية تتولى عملية توزيع حصص المياه فيما بينهم و منع التنازع حولها و من هنا قامت الحكومات التي تحولت لاحقا إلى ديكتاتوريات و تأليه للحاكم صنعه الناس بأرادتهم لحاجتهم إليه و لذلك نشأت في التاريخ ما عرف بظاهرة ( الفرعونية ) أو ( تفرعن الحاكم.. ) و من هنا لا بديل للعراق عن مركزية ( إدارة الملف المائي ) و ( إدارة الملف النفطي ) لأنه في غياب هذه المركزية ستحصل الفوضى و النزاعات وصولا إلى ( الصوملة ) .


العراقيون القدامى تعاملوا مع الأنهار و نظروا لها بقدسية فقد كانت مصدر رخائهم و مبعث الحضارات التي شادوها و كان البابليون يعتقدون أن الفرات إلها و حينما يغضب على رعيته يعاقبهم بالطوفان و كانت هذه الرعية تنذر إليه و تتضرع له لئلا يغضب عليها و قد عثر على رقم بابلي فيه خطاب موجه إلى نهر الفرات جاء فيه.


 (  ( ايها النهر يا خالق كل شيء ، حينما حفرتك الآلهة العظام قد اقاموا أشياء طيبة على شطآنك و أنعموا عليك بفيض من المياه لا نظير له و النار و الغضب و الجلال و الرهبة، انت الذي تقضي بين الناس )  ) .
و عندما جاء الإسلام و أشرقت انواره على هذه الأرض تنزلت سور القرآن لترسخ في وجدان المسلم ارتباط المياه بالحياة بكل انشطتها و مظاهرها و أن فقدان المياه يعني فقدان الحياة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) و الماء هو الذي يحيي ( البلدة الميتة ) و مثل هذه الصورة و المعاني مبثوثة في سور التنزيل بما يكرس قانون الترابط بين حياة المدن و المياه و النبي صلى الله عليه و آله و سلم يذكر نهر الفرات كأحد أنهار الجنة و في حديث آخر يشير إلى أنه سينحسر عن كنز من الذهب .


لو جئنا ندرس الجغرافيا السياسية للعراق ( الجيبولتيك ) نجد أن هناك ثلاث حقائق كبيرة تطل برأسها أو لنقل ( ثلاث نقاط ضعف ) واضحة تبرز للعيان ..أولها أن معظم أنهار العراق أو إيراداته المائية تأتي من خارج ارضه ..ثانيها..أنه لا يملك إطلالة واسعة على البحر و ثالثها أنه محاط بجيران أقوياء هم ( تركيا و إيران ) .


.هذه الحقائق أو نقاط الضعف ينبغي لها على الدوام أن تبقى إمام أنظار من يخطط لنظرية الأمن الوطني للعراق أو لمن يرسم سياسته الخارجية
لكي يضبط بوصلة تحركه بأتجاهها أو بأتجاه تلافي و تقليص تأثيراتها الضارة ، أحد مؤسسي الدولة العراقية الحديثة وهو السيد نوري السعيد رئيس الوزراء الأسبق رحمه الله و الذي يعتبر ابرز سياسيي الحقبة الملكية كان على ما يبدو واعيا لأهمية دجلة و الفرات أو ( للبعد المائي ) في الإستراتيجة الوطنية العراقية و لذلك نراه يولي وجهه شطر تركيا و إيران و يسعى لإقامة تحالف إستراتيجي معهما و الذي ابتدا بإتفاق مع تركيا باسم الميثاق التركي - العراقي عام 1955 ثم تبلور إلى حلف بغداد الذي ضم إيران و باكستان لاحقا بعد فترة قصيرة ، لا أظن أن دجلة و الفرات و ضرورة تأمين مواردها من خلال علاقة طيبة مع جيرانه كانت غائبة عن فكر و دوافع ذلك السياسي العراقي المخضرم الذي اختلف العراقيون كثيرا حول شخصيته و سياساته و لقى معارضة كبيرة من مصر الناصرية وقتها التي رأت أن عراق نوري سعيد سيكرس زعامته للعالم العربي على حسابها.


مصر التي تعيش وضعا مائيا يشبه إلى حد كبير حال العراق من حيث كون نهرها ينبع من خارج أرضها ومن حيث إقتران حضارتها و إزدهارها بالنيل ، تعاملت سياستها الخارجية بكفاءة أكبر مما عملنا نحن في العراق فيما يتعلق بالملف المائي و كان النيل بأستمرار أحد موجهات سياستها الخارجية و من أهم عناصر تشكيلها ، الرئيس عبد الناصر تحدث في كتابه فلسفة الثورة عن ثلاث دوائر للسياسة المصرية و هي الدائرة العربية و الدائرة الإسلامية و الدائرة الإفريقية و لم يتردد في الإفصاح عن سبب الاهتام بافريقيا هو النيل الذي ينبع من أرضها، الديبلوماسية المصرية نجحت في وقت مبكر من القرن المنصرم في عقد الإتفاقيات مع الدول المتشاطئة على النيل و التي تعد عشرة دول و ذلك لكي تضمن حصة الأسد من إمداداته لا بل أنها نجحت في أن تمنع أي دولة على النيل من القيام بأي مشروع عليه و أن تحظى بحق الفيتو على ذلك لكن هذا الوضع بدأ بالتغير بالسنوات الأخيرة بسبب تحسن وضع الدول الأفريقية المتشاطئة مع مصر من الناحية السياسية و الإقتصادية و تنامي حاجاتها لمياهه و تأتي اثيوبيا على رأس هذه الدول.


منذ عهد رئيسي وزراء تركيا سليمان ديميريل و تورجوت اوزال في ثمانينات القرن الماضي و ما بعده في حقبة التسعينات سارت تركيا بخطى واسعة على طريق إقامة المشاريع على نهري دجلة و الفرات علما أن فكرة
مشروع ( الغاب ) التركي تسبق حقبة هذين السياسيين ، كان سليمان ديميريل يرد على اعتراضات العراق و سوريا بالقول أن هذين النهرين ينبعان من ارضنا و هما ملك لنا كما ان النفط الذي هو في ارضهم ملك لهم ، أما تورجوت اوزال فكان صاحب نظرية ( كل برميل ماء ببرميل بترول ) ، و السؤال الذي يبرز هنا هو أين كانت الدولة العراقية و أين رد فعلها عندما كان مشروع الغاب في بواكيره..؟؟


الجواب هنا بكل وضوح
أن الدولة العراقية و منذ مطلع الثمانينات موضوعة في ( غرفة الإنعاش ) و مصيرها معلق بين السماء و الأرض..فهي إما منغمسة في حرب ضروس كما حدث مع إيران في الأعوام 1980 -1988..و إما قابعة تحت حصار دولي غاشم طيلة حقبة التسعينات و حتى عام 2003..أو دولة تحت الاحتلال و مجتمعها تعصف به الحرب الأهلية و الإنقسامات .


ضعف الدولة العراقية اغرى دول الجوار للإقتئات على حقوق العراق المائية ولا زال يغريها بالمزيد طالما بقى الإنقسام ..و الصراع يفتك بالمجتمع العراقي و يكبل يد الدولة عن حماية حقوق العراق و الدفاع عنها..
ساسة العراق منشغلون بفرعيات المسائل ..و هوامش القضايا عن عظائم الأمور..و التحديات الخطيرة و الكبيرة التي تحدق بالكيان العراقي ، الدولة العراقية بكل صراحة وفي ظل الوهن الذي يستشري في مفاصلها بسبب الخلافات السياسية أعجز من أن تسلط ضغطا على أية دولة من دول الجوار من أجل حماية حقوقنا في دجلة و الفرات..كأني بتلك الدول التي ترقب ضعفنا و إنقسامنا و ترسل لنا مياه بزلها أو فضلات المياه التي استخدمت في الري على أرضها تردد قول الشاعر الجاهلي عمرو ابن كلثوم حين يقول


و نشرب إن وردنا الماء صفوا..
و يشرب غيرنا كدرا و طينا

أما العراقي فهو بدوره يردد أبياتا للشاعرالمصري حافظ إبراهيم حين يشكو
أمن العدل أنهم يردون
الماء صفوا و أن يكدر وردي
أمن الحق انهم يطلقون
الأسد منهم و أن يقيد أسدي


و هذا هو حال العراقيين اليوم .
.أسود عاجزة عن الحركة و الدفاع عن مصالح وطنها بعد أن انهكتها الصراعات و الأحقاد الداخلية و أطاحت بكيانها الإنقسامات و التنافسات و هو مما لا نراه في أي دولة حيث لا يمكن لصراعات السياسيين أن تمنع الإتفاق على حماية المصالح العليا للمجتمع ولا يمكن لأي خلافات فيها أن تتجاوز خطوطا حمراء عندما يتعلق الأمر بأمن المجتمع و حقوقه الأساسية و مستقبل مواطنيه.
التفريط ..و الإهدار ..و المظلومية هي العناوين الكبرى و العريضة لحياتنا نحن العراقيين..فيما بيننا وفي داخل مجتمعنا من جهة ..و فيما بيننا و بين المجتمع الخارجي بأقاربه و اباعده من جهة آخرى
.


لا أجد ما اختم به هذه السطور سوى أن اقتبس من كتاب ( ميزوبوتاميا-موسوعة البيئة العراقية ) التي أشرف على كتابته نخبة من العلماء و الخبراء العراقيين و أعده السيد سليم مطر ففي مطلع الكتاب تجد و تحت عنوان ..إلى أجيال العراق القادمة


 (  (
اغفروا لنا خطايانا بحقكم ، إذ نورث لكم بيئة بلادنا الخربة ، ضيعنا النفط أكبر ثروات و مكارم بيئتنا في حروب و مشاريع طائشة ، تركنا أنهارنا و اهوارنا تجف ، و هوائنا يتلوث بالأشعة و السموم القاتلة ، و مزارعنا و بساتين نخيلنا الباسق تضمر، و آثارنا و أراضينا تصبح مقابرا للقمامة و الألغام و الأسلحة الفتاكة .


لكننا رغم كل هذا نمتلك كل الثقة و الأمل في خصب النهرين الخالدين و أرواح أسلافنا صانعي الحضارات العظيمة هي التي ستبقى إلى الأبد تغذي شعلة الحياة و الخلاص في الأجيال القادمة، فتموز مهما عطش و مات
، إلا أنه لن يكف عن الإنبعاث من جديد حاملا الحياة و الخصب و الخضرة إلى بيئتن )  )
انتهى الأقتباس.

يا ترى هل ستقبل الأجيال القادمة من العراقيين هذا الاعتذار ..؟؟

و كيف سيكون حال تلك الأجيال عندئذ..؟؟

 

 





السبت ٤ ذو الحجــة ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٠ / تشرين الاول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة