شبكة ذي قار
عـاجـل










من سنن الله الكونية والاجتماعية سنة تأخر النصر والتغيير، ومجيئهما بعد يأس أهل الإيمان من قوتهم التي أعدوها، وعقدهم الأمل على قوة الله –تعالى- وحده، وهو ما أوضحته آيتان كريمتان، إحداهما عن الرسل السابقين وأتباعهم، والأخرى عن الرسول الأخير وأصحابه، أما الآية التي عن السابقين فهي قول الله –تعالى- : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] ، فقد بلغ هؤلاء الرسل رسالاتهم، ونشروا دعواتهم، وجهدوا وتعبوا ولم يتوانوا في التبليغ والعمل التوعوي، وجدوا فلم يجدوا، وزرعوا فلم يحصدوا، حتى وصلوا إلى درجة اليأس من قدرتهم على انتزاع النصر والتغيير نحو الأفضل، مع الإذعان بأن الله وحده هو القادر على صنع النصر، وإحداث التغيير، وفي هذه اللحظة الفارقة يجيء النصر المؤزر، ويحدث التغيير المنشود.


وأما الآية التي عن خاتم النبيين، وأصحابه الكرام فهي قوله –تعالى- : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ، فالرسول والمؤمنون قد جاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا وصابروا، وعملوا بإخلاص، لكن نتائج المعركة لم تظهر بعد، فتسائلوا: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) ؟! فجاء الجواب سريعا: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ، وهكذا فإن كل مجاهد حقيقي يخوض غمار المعارك بشرف، ويرى أن النصر بعيد كل البعد، سيجد النصر في متناول اليد، على أن يعتقد اعتقادا جازما أن الله هو واهب النصر ومعطيه، وأنه بيده وحده {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] .


ومثل النصر كل تغيير، كتغيير حالة الخوف إلى أمن، والشدة إلى رخاء، والجدب إلى خصب. قيل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- : اشتدَّ القَحْط، وقنط الناس، فقال: الآن يُمْطرون. وأخذ ذلك من هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ...} [الشورى: 28] .


وأتم معادلة للنصر والتغيير وأكملها تضمنتها الآيتان: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } [محمد: 7] ، و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ، فثمة مفاتيح للنصر والتغيير، هي: لا نصر أو تغيير إلا من الله، ولا نصر أو تغيير إلا لمن سعى إليه، ولا نصر أو تغيير إلا بعد اليأس من النفس، والثقة بالله.


والبون شاسع بين حال اليأس من النفس والأمل بالله، مع السعي إلى الهدف، وبين حال اليأس من الله، أو من الله والنفس، فإن الأول محض الإيمان، والآخر صريح الكفر؛ قال الله –تعالى- على لسان يعقوب: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 87] ، وقال أيضا على لسان إبراهيم لما بشر بغلام عليم: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] .


مثال من السيرة النبوية عن تأخر النصر أو التغيير:
مكث الرسول –صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الإسلام فما آمن به إلا قليل مستضعفون في الأرض، وكان لا يفتر ليلا ونهارا عن الدعوة إلى الله، وقد أدى ما عليه وزيادة، إلا انه لم يحقق ما يريد، ولما رأى في وقت ما أن تربة مكة غير مهيئة لبذره وغرسه، تركها وذهب إلى الطائف، لكن أهلها كانوا من سنخية أهل مكة، فردوا عليه ردا قبيحا، واعتدوا عليه.


وبعد رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، بدأ يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج, وكان لا يسمع بشخصية أو وفد قدم مكة إلا قصده، وقدم له تعريفا بمبادئ الإسلام، فلقي وفود كندة، وعبس، وعذرة، وكلب، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني شيبان، وغيرهم، لكنهم لم يؤمنوا به، وكان خير تلك الوفود جوابا له وفد من الأوس، سكان يثرب (المدينة المنورة) إلا أنهم لم يسلموا.


ثم أراد الله مكافأة رسوله، ومجازاته على قيامه بأعباء الرسالة الخاتمة على الوجه المرضي، فهيأ له التربة الصالحة لبذره وغرسه، وهي يثرب (المدينة المنورة) فقد جاء وفد من سكانها، هو وفد الخزرج، فلما علم الرسول بوصوله قابله، وتحدث إليه، وكانت المفاجأة السارة هي أنهم استجابوا له، وتفاعلوا معه، وآمنوا به، وصدقوه، وشهدوا شهادة الحق، وعادوا إلى قومهم دعاة يدعون إلى الدين الجديد بعزم ونشاط وحماس وهمة، فأسلمت المدينة إسلاما جماعيا، وبإسلامها أسلمت كل جزيرة العرب، ثم هاهم المسلمون يشكلون ربع سكان العالم.


كل ذلك تم بإسلام ذلك الوفد الصغير من الخزرج، الذي اجتمع به النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان الاجتماع بهم حدثا عاديا عابرا متكررا يوميا أو يكاد، على مدار ثلاثة عشر عاما، عقدها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الناس أفرادا وجماعات، وكان يقطف ثمرات مفردة، هنا وهناك، من وقت لآخر، حتى جاء موسم جني الثمرة الكاملة، بإسلام هذا الوفد الذي اسلم بإسلامه الناس، وانتقل المسلمون من أقلية قليلة إلى كثرة كاثرة، ومن أفراد مستضعفين إلى مجتمع ودولة وجيش وأمة.


والواقع أن ذلك جاء تكليلا للجهود التي بذلها النبي -صلى الله عليه وسلم- دون كلل أو ملل، وثباته وصموده في وجه الاضطهاد الديني الذي تنوء بحمله الجبال مدة ثلاثة عشر عاما، وهي عمر طويل، فلو أن طفلا رضيعا كان في أول البعثة فإنه حينئذ يكون قد بلغ مبالغ الرجال.


وإذن فالنصر الذي يجيء الله به، أو التغيير الذي يحدثه هو النتيجة الحتمية لمقدمات ضرورية منها:


1. الاعتقاد بأن الناصر والمُغيّر هو الله وحده، وليس أحدا سواه.


2. الإيقان بأن الخالق لا يجيء بالنصر أو يحدث التغيير إلا بعد أداء المخلوق ما عليه من العمل، ابتغاء مرضاته.


3. إعلان المخلوق التبرئ من حوله وقوته إلا من ذَيْنِك المستمدين من حول الخالق وقوته، وهذا معنى الذكر الإسلامي المعروف بـ الْحَوْقَلَةِ، وهو قَوْل: (لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) ، أي لا تحول من حال إلى حال، ولا استطاعة إلا بمشيئة الله –تعالى- .


وقد قيل: إن آخر الليل أشده ظلمة، و أحلكه سوادا، وبعده يطلع الفجر، و كذلك كل ليل وظلام من الهموم والأحزان والكوارث والنكبات وغيرها من صنوف البلاء عندما تصل الى قمتها تزول !! وفي هذا يقول الشاعر:
اشتدّي أزمة تنفرجي ... قد آذن ليلك بالبلج


وصدر البيت: "اشتدي أزمة تنفرجي" حديث مرفوع، وقال آخر:
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا، وعند الله منها المخرج
ضاقت، فلمّا استحكمت حلقاتها ... فرجت، وكنت أظنّها لا تفرج


والآن لو أن قائلا يقول: إننا قاب قوسين أو أدنى من تحرير القدس وبغداد، ومن الوحدة العربية والإسلامية الشاملة، فإنه سيكون عرضة للنقد وتسفيه الرأي والتهكم والسخرية اللاذعة؛ وذلك لأن عامة الناس وصلوا إلى درجة اليأس من مجيء النصر أو التغيير، ودرجة اليأس هذه هي العلامة الدالة على أن النصر والتغيير –إذا توفرت شروطهما- قادمان، وفقا لسنن الله الجارية في الكون والمجتمع، والتي نعبر عن معرفتها بـ (فقه السنن) ، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) } [الفتح: 23] .

 

 





الاربعاء ١٨ شــوال ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / أيلول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. ثامر براك الأنصاري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة