شبكة ذي قار
عـاجـل










هذه ومضة قرآنية عن العراق، فيها وصف له، كما إن فيها تحليلا وحلا لمشاكله، وهي قول الله تعالى - في سياق قصة نوح عليه السلام- : {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ... } [هود: 48] ، ومعلوم عند المفسرين والمؤرخين أن نزول نوح كان في ارض العراق، والنتيجة هي أن هذه الأرض أرض سلام وبركات اقترنت بنزوله فيها، أما السلام فهو الأمن من الخوف، وأما البركات فهي تلك النعم التي حبا الله بها العراق، وفي مقدمتها: الثروات الزراعية والنفطية والمعدنية والمائية والبشرية، فقد آتاه الله ما لم يؤت غيره، فإن اعترض معترض على هذه القاعدة، وطرح تساؤلا مفاده: إن الخيرات وافرة، لكن الأمن مفقود! رددنا عليه، بأن ما جرى ويجري من خروقات لهذه القاعدة أمر طبيعي، فمما تسالم عليه عقلاء البشر أن لكل قاعدة استثناء، والواقع أن العامل الفاعل والمؤثر في وقوع هذه الاستثناءات القليلة لتلك القاعدة العامة هو عامل خارجي، وليس عاملا داخليا، بمعنى أن الغير يتدخلون في شؤون البلد ليستحوذوا على ثرواته، فيذهبون بما يتمتع به من استقرار وهدوء إلى حين، ولو ترك العراق لشعبه فإنه سيبقى واحة أمن وخيرات إلى آخر الدهر.


وقد ثبت لنا بالدليل الملموس والمرئي أن ما نزف في بلدنا من دماء ودموع لم يكن صراعا عراقيا– عراقيا محضا، وإنما هي صراعات دولية وإقليمية، وأجندات ومشاريع متضادة، اتخذت من العراق ساحة لها، وانخرط فيها من انخرط مسيرا لا مخيرا.


وفي القرآن أيضا ومضة أخرى هي أن جيلا من شعب العراق تداركوا أنفسهم فنجوا، فيما هلك غيرهم، وهم قوم يونس –عليه السلام- المذكورون في هذه الآية: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس: 98] ، وفي هذه الآية إشارة إلى أنه لم توجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى، سوى قوم يونس، والبقية دأبهم التكذيب، كلهم أو أكثرهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .


وقد آن الأوان لهذا الجيل من شعب العراق، أن يتدارك نفسه لينجو، وذلك بالانخراط الجماعي في حركة تحرير العراق من السيطرة والهيمنة الأجنبية، كما آمن أسلافهم قوم يونس إيمانا جماعيا، وإذا كنا نعلم أن قوى الاحتلال في كل زمان ومكان تأتي بجيوشها الجرارة لتغتصب الأوطان، ثم تنسحب تاركة ورائها قوة عسكرية كافية لتأمين حماية حكومة داخلية ( صنيعة ) ، وجيشها وشرطتها، كما فعل الفرس والروم في بلاد العرب، في الجاهلية، وكما فعلت في العصر الحديث أمريكا في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، التي تخضع لوجود أمريكي دائم فإننا ندرك أن الانسحاب الأمريكي من العراق من هذا النوع، بدليل احتفاظ أمريكا في العراق بعدد من القواعد العسكرية، تؤوي عشرات الألوف من قواتها البرية والجوية، وأضعافهم من المرتزقة ( الشركات الأمنية ) ، هذا فضلا عن السفارة الأمريكية في العراق، التي تعد اكبر سفارة في العالم، بكوادرها السياسية، وشبكاتها الاستخبارية، والقوات المتجحفلة فيها، وهي قوات نخبوية للهجوم لا للدفاع فقط، مجهزة بصنوف الأسلحة المتطورة، وخضعت لتدريب خاص، وبدليل أن القوات الأمريكية لا تزال في الكويت ودول الجوار الأخرى، منها قوة نووية في قاعدة ( انجرليك ) التركية، ولها وجود مكثف في المنطقة، وبحارها وخلجانها وممراتها المائية، وبدليل أن العراق لا يزال تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أي أنه خاضع للوصاية الدائمة –أو هكذا يريدون- ، وبدليل أن اتفاقية الإذعان قد شرعنت لاستعمار دائم، وبدليل أن أزلام الاحتلال لا يزالون يحكمون باسمه، والواقع أن حجم قوات الاحتلال الأمريكية في العراق يقارب حجمها في كل من اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، وبواقع ( 40,000- 45,000 مقاتل ) ، كما يقارب حجمها حجم قوات الاحتلال البريطانية في العراق في عقودها الأخيرة، قبل ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 م ، والتي كانت تتمركز في قاعدة سن الذبان ( الحبانية حالي ) ، وقد تدخلت هذه القوات لإعادة أزلامها إلى الحكم، وعلى رأسهم الوصي عبد الإله ونوري السعيد بعد ثورة مايس 1941 م ، وإجهاض هذه الثورة، وأية تطلعات للشعب العراقي، ولا مانع من تكرار التجربة نفسها من قبل الاحتلال الأمريكي اليوم لصالح أزلامه.


والواقع إن الشعب العراقي بما يمتلك من الوعي الجماعي الكافي، يدرك -بدون جهود أو عمل توعوي لتعميقه وزيادته- أن مزاعم الاحتلال بالانسحاب من العراق هي مزاعم باطلة، وأن ما جرى إنما هو ترشيق أو ترشيد للاحتلال، وأنه انسحاب من اجل البقاء، وخروج لأكثر قواته لتطبيق استراتيجية الاحتلال الدائم، بقوات كافية، ولو صدق دعواه بالانسحاب فإنه يرى بالبصر والبصيرة أن ظله لا يزال على العراق، وأن مشروعه لم ينتهي بعد، وواجهته العملية السياسية المخابراتية ( الحكومة الأمريكية- الإيرانية للعراق ) ، التي هي بلا ريب تجسيد ل ( احتلال غير مباشر ) ، و ( احتلال بالوكالة ) ، كما يدرك أن الانسحاب غير الكامل، والجلاء اللا نهائي لقوات الاحتلال في خاتمة العام 2011 م يسجل انتصارا تاريخيا للمقاومة العراقية، لكن لا يقال عن يوم ما: ( يوم الجلاء ) أو ( يوم الانسحاب ) ، وإنما يقال: ( يوم النصر ) .


وفي إطار هذه القناعة الراسخة، والفهم الدقيق فإن فعاليات الشعب العراقي مصممة على الاستمرار في المقاومة بمختلف أنواعها: المقاومة العسكرية، والسياسية، والثقافية، وغيرها، وتصعيد هذه المقاومة حتى ينسحب الاحتلال انسحابا كاملا، ويجلو عن البلد جلاء نهائيا، ويخرج معه من جاء بهم لحكم العراق بأمره، ويتحرر الوطن والمواطن.

 

 





الاحد ١٥ شــوال ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٢ / أيلول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. ثامر براك الأنصاري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة