شبكة ذي قار
عـاجـل










لم تبد الحكومات اليهودية الصهيونية المتعاقبة اية استجابة لمبادرات الزعماء العرب, بحيث يتم التوصل إلى حل للصراع الصهيوني - العربي, على أساس الشرعية الدولية وبما يضمن الحق التاريخي لشعب فلسطين. فزيارة السادات إلى تل أبيب وما تبعها من اتفاقيات مع زعماء الصهاينة, لم تحقق شيئاً على طريق حل هذا الصراع المستمر منذ تسعة عقود, كما مفاوضات كامب ديفيد وواي بلانتيشن وأنابوليس وخارطة الطريق. .
ما يجري بين الأمة العربية, التي تتبنى مشروعاً قوميا انسانيا وحدويا نهضويا, وبين اعدائها الامبرياليين والصهاينة المتحالفين إلى مرحلة التأثير المتبادل, أو الالتزام الأخلاقي لبعضهما بعضا, هو صراع معقد متعدد الانواع, ومتداخل الاسباب والدوافع ومختلف الأهداف التي يتوخاها كل طرف من طرفي الصراع.


والصراع الصهيوني-العربي هو التعبير الحاد والصريح عن التعارض بين مشروعي الطرفين في القيم والمبادئ والمعتقدات الدينية والفكرية, وتعارض في المصالح والاهداف, وبمعنى آخر انه تعبير عن استحالة التعايش بينهما. وما جرى من ابرام اتفاقيات للتسوية بين الكيان الصهيوني وبعض الاطراف العربية, ليس إلا مناورة معروفة الاهداف والنوايا, وليس إلا محاولة لتحقيق هدف الطرف الصهيوني, بوسائل واساليب تأخذ مظهر السلم أو التعايش, في حين انه أسلوب للاختراق والتطبيع, وثلم السيادة الوطنية  والمس بالهوية القومية الحضارية للامة العربية.


مراحل الصراع ومعالمه
الصراع بين الأمة العربية صاحبة المشروع النهضوي وبين اعدائها, صراع مصيري وحضاري, وهذا يعني انه صراع مستمر وطويل, ولا بد ان يشمل جوانب التطور القومي المختلفة. واعداء الأمة من امبرياليين وصهاينة يستهدفون الامة العربية في وجودها وفي مستقبلها, ولا يستهدفون فلسطين وحدها. انهم يستهدفون نهوض الأمة ومنعها من تحقيق مشروعها القومي قبل ان يستهدفوا فلسطين في حد ذاتها. إنهم استهدفوا وحدة الأمة ونهضتها وتقدمها منذ ان أجهضوا تجربة محمد علي باشا في مصر 1840 وتجربة الثورة العربية الكبرى1916 واجهضوا تجربة وحدة مصر وسورية 1958 وواجهوا تجربة عبدالناصر,واجهضوا المشروع القومي النهضوي للشهيد صدام حسين , واكملوا مخططهم باحتلال العراق  وجعله مسرحا لنظام الملالي في ايران لكي تنطلق منه الى باقي اقطار الخليج العربي .


شكل مشروع زرع الكيان الصهيوني في فلسطين بموجب وعد بلفور 1917 على خلفية اتفاقية سايكس-بيكو 1916 أبشع مؤامرة تجسدت في زرع خنجر في قلب الوطن العربي لاعاقة قدرات الأمة عن النهوض, ووضع عراقيل امام وحدتها, واعتبارها فكرة شيطانية تزعج ابناءها في احلامهم وتعرقل تنفيذ مخططاتهم.


لقد استشرف الفكر القومي العربي معالم الصراع بين مشروعين في الوطن العربي, منذ اوائل القرن العشرين, فقد نبه المفكر العربي نجيب عازوري عام 1904 إلى مخاطر المشروع الامبريالي المعادي للامة العربية على وحدتها ونهضتها وتقدمها. وسوف يتوقف مصير العالم على نتيجة هذا الصراع.


إن توقفاً سريعاً عند محطة تاريخية مهمة, يؤشر لنا كيف خططت القوى الاستعمارية, لاشغال الأمة العربية في صراع مستمر, يحول دون ان تفكر في مستقبلها أو ان تعمل بجهد متميز لبناء ذاك المستقبل.


المحطة التي اقصدها, هي مؤتمر لندن الخطير ( 1905-1907 ) بإشراف ( كامبل بانرمان ) رئيس وزراء بريطانيا -آنذاك. إذ دعا المؤتمرون إلى استمرار تأخر المنطقة العربية, وابقاء شعوبها مفككة جاهلة متناحرة فيما بينها لأسباب قومية أو دينية أو طائفية أو عشائرية ,   وحذر المؤتمرون من خطر الوحدة العربية على مصالحهم , وقالوا " علينا ان لا ندع افكارا شيطانية كالتي راودت محمد علي باشا بالنهوض "  وتلك الافكار تركزت في هدفي ( الوحدة والنهضة ) .


وأوصى المؤتمر ايضا  بفصل القسم الآسيوي من الوطن العربي عن القسم الإفريقي منه, واقترح اقامة حاجز بشري قوي بينهما. ولم تمض أكثر من عشر سنوات حتى ترجمت بريطانيا تلك التوصيات إلى قرارات واعمال فأبرمت مع فرنسا اتفاقية سايكس - بيكو,1916 ثم منحت اليهود وعد بلفور 1917 لاقامة الحاجز البشري, وسهلت هجرة اليهود من كل انحاء العالم إلى فلسطين, تمهيدا لدنو اللحظة التاريخية لليهود بإقامة "وطنهم القومي" في ارض فلسطين عام .1948


ولا يفوتنا التذكير بان الولايات المتحدة, اكملت دور بريطانيا في هذا الموضوع, ولا سيما بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة وأكثر معافاة من حلفائها الاخرين في تلك الحرب. فمارست الضغط على الأمم المتحدة -ذاك الوليد- الذي خرج بفعل ارادة المنتصرين في الحرب. واصدرت قرار التقسيم رقم ( 181 ) في 29 تشرين الثاني-نوفمبر 1947 الذي قسم فلسطين إلى ثلاثة اقسام, وهكذا نجد أن المنظمة الدولية حادت عن ميثاقها منذ ايامها الأولى, فقررت مصير دولة وشعب من دون الرجوع إليه لمعرفة رأيه في ارضه, وفي مصيره ومستقبله.


لا نريد الاسترسال في ذكر المحطات التاريخية, ولكن المحطات - الآنف ذكرها- تؤشر لنا قوة أركان المشروع المعادي للامة العربية, ماديا وعسكريا واقتصاديا وعلميا. ولذلك فان الصراع بين الأمة العربية وبين أصحاب المشروع المعادي, لن يتوقف عند فلسطين, ولا ينتهي بايجاد تسوية ما للقضية الفلسطينية, لانه صراع حياة وضد الأمة بأسرها, ولا ينتهي بمهادنات أو مشاريع الالهاء والتسويف. فهو صراع دائم ومستمر, لا بد أن ينتهي بانتصار احد الطرفين, أو انتصار احد المشروعين, اللذين شاء القدر لهما ان يدخلا حلبة الصراع منذ قرن ونيف, وقد يطول هذا الصراع وتشهده أجيال أخرى
.

 

صحيح ان اتفاقية سايكس ـ بيكو قد قسمت المشرق العربي من خلال القوة العسكرية لكل من بريطانيا وفرنسا , ولكن الولايات المتحدة والدول الغربية بعامة تسعى الى تقسيم المقسم اي تقسيم الاقطار العربية الضعيفة الى محميات او ولايات او كانتونات صغيرة ( طائفية وقومية ودينية وعرقية ) , وكان لنظام الملالي في ايران دور كبير في هذا المشروع , اذ ان تأثيرها فيه اقوى من الاحتلالات العسكرية , فهذا النظام الذي تواطئ مع الولايات المتحدة ـ رغم الصراع الاعلامي بينهما ـ سخر امكانات مادية واعلامية ودعوية هائلة , من اجل نشر الفرقة بين المسلمين , وجعل العرب يتصارعون طائفيا , ولا يعيرون بالا للصراع مع الصهاينة والامبرياليين .

 

ما يجري في العراق بعد عام 2003 هو احتلال امريكي ـ صفوي بتناغم دقيق , وقد تمثل هدف الادارة الامريكية باحتلال النفط , والسيطرة عليه من خلال الشركات الاحتكارية , ونرك المجال لنظام الملالي بالسيطرة على العراق من خلال زعامات الاحزاب الدينية التابعة لايران .


حصيلة الصراع
بعد هذه المدة من الصراع بين الطرفين, وبين المشروعين المتناقضين والمتضادين, ماذا حقق كل مشروع على طريق تحقيق الهدف المرسوم له..? يظهر للعيان ان المشروع المعادي حقق خطوات ملموسة نحو تحقيق مخططه الاستيطاني التوسعي, على امل ان يحقق حلمه باقامة الوطن القومي اليهودي الكبير, من النيل إلى الفرات, رغم عدم واقعية هذا المشروع. وقد بدأ بإنشاء الكيان الصهيوني عام 1948 وتوسع من خلال تلك المنجزات والدعم الكبير من الولايات المتحدة ومن دول الغرب بعامة, وساعده ايضا ضعف الأنظمة العربية القطرية وتفرقها وفساد إدارتها وانحلالها, وتبعيتها للدول المؤيدة والداعمة للمشروع الصهيوني التوسعي.


وقد شهد العالم أن هذا الكيان ضرب قرارات الامم المتحدة عرض الحائط وبالذات قرار اعادة اللاجئين, وقرار 242 عام 1967 وقرار 338 عام 1973 كما رفض ان يوقع على اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية واسلحة الدمار الشامل الأخرى, ولم يكتف بذلك, بل تحدى الإرادة الدولية وصنع أسلحة الدمار الشامل, النووية والكيماوية, والصواريخ بعيدة المدى.


وقد واتت الكيان الصهيوني فرصة تاريخية بعد حرب تشرين 1973 عندما ذهب انور السادات إلى تل أبيب, في خطوة غير مسبوقة من قبل, مانحا الصهاينة فرصة ذهبية لم يحلموا بها, وهي الحوار مع العرب, كخطوة اولى قادت إلى ابرام اتفاقيات التسوية المعروفة, وقد اكدت حرب تشرين ان الكيان الصهيوني غير قادر على تحقيق نصر حاسم على العرب, كما ان الوضع الدولي, والالتزام الديني من قبل الولايات المتحدة لهذا الكيان يحول دون ان يحقق العرب نصراً حاسماً على الكيان الصهيوني.


ومن خلال تلك الاتفاقيات يمكن للصهاينة ان يخرقوا سياج الدول القطرية, ويثلموا سيادتها الوطنية, ويتسللوا من خلال تقنيات الاعلام إلى الثقافة العربية, في محاولة لتشويه التراث العربي, أو سرقته كما حصل بعد احتلال العراق وسرقة اثاره وتراثه وحرق تاريخه تحت علم وسمع القوات الامريكية المحتلة , وتطويق العرب ومنعهم من الامساك بناصية التقدم العلمي والتقني. إن فرص التسلل الصهيوني إلى المجتمع العربي, كانت ثمينة لهم, يمكن من خلالها ان يحققوا أكثر مما يمكن ان يحققوا وهم محاصرون داخل كيانهم.


لقد تصور الصهاينة انهم واصلون هدفهم من خلال اتفاقيات التسوية, ولكن غرور اليهود الصهاينة وغطرستهم, قادتهم إلى كشف كل أوراقهم امام الرأي العام العالمي, وبالذات أمام الذين وقعوا معهم اتفاقيات التسوية, إذا أنهم لم ينفذوا ما تم الاتفاق عليه في تلك الاتفاقيات, ولا سيما مع الجانب الفلسطيني.


ويبدو للعيان, وفي المنظور العالمي, أن الصهاينة حققوا الشيء الكثير من مشروعهم الاستيطاني التوسعي, لكنهم رغم هذه الانجازات دخلوا في مأزق خانق, ولم يعد أمامهم في ضوء المنهج العدواني الذي يعتمد منطق القوة, بعيدا عن منطق الحق, إلا القبول بالشرعية الدولية.. فكيف يخرج الصهاينة من
مأزقهم? هذا ما سنأتي عليه لاحقاً.

 

وفي الجانب الآخر ماذا حقق المشروع العربي? يبدو للمراقب, ان العرب لم يحققوا شيئا على طريق تحقيق مشروعهم القومي النهضوي التحرري, انطلاقا من ارض الواقع الذي صنعته الرسميات العربية القطرية, بل يمكن القول ان حالة العرب في تراجع نحو الوراء, ووصلوا حالة هي دون خط الانهيار أو خط التردي.


عندما حيكت المؤامرة ضد الأمة العربية, كانت الأمة ترزح تحت الاحتلال الأجنبي, وعندما تحررت الأقطار العربية, أي نالت استقلالها لم تقطع صلة التبعية مع المستعمر الأجنبي, فكان استقلالها في اغلب الاوقات, استقلالا شكلياً, لم يستكمل شروط الاستقلال الكامل.


ومع ذلك فقط تحققت انجازات في الإطار القطري, بحيث ما زلت القوى الشعبية مستنفرة ضد معسكر الأعداء, ورغم كل ذلك هناك من ينكر أي انجاز لأنها لم تستطع ان تصمد في مواجهة العدو الصهيوني ومع هؤلاء بعض الحق, وهناك من جلد الحركة القومية متبرعاً, وكال التهم جزافا اليها, بدعوى النقد أو النقد الذاتي. لكن عمليات النقد تلك جاءت من بعض المتساقطين, وممن خارت قواهم, ولم يعودوا قادرين على مواصلة مسيرة, النضال, أو ممن تحولت خياراتهم الفكرية إلى اتجاهات اخرى.  , ولم يعيروا بالا للمقاومة العربية السلمية والعسكرية التي انهكت القوات الامريكية في العراق والقوات الصهيونية في فلسطين .


ولا بد لي ان أؤكد ان النقد الذي يجتزئ بعض المواقف أو المحطات ليعمم الاحكام, هو نقد جائر, ويخدم أعداء الفكر القومي, كما أن النقد الذي ينكر الظروف الموضوعية الخاصة بتطور الحركة القومية, والبيئة السياسية التي تؤثر فيها, هو نقد خاطئ وانتقائي. ان ما يُسجل للفكر القومي انه حافظ على الثوابت القومية المبدئية وسط اجواء الانحراف والاستلاب, والغزو الفكري, ووسط سياسات التسوية والتطبيع والشرق اوسطية والعولمة. وقد عشنا تلك الأجواء التي تسابق فهيا بعض المثقفين على ترديد المصطلحات الجديدة, في وقت كان القوميون يتمسكون بالثوابت القومية التحررية الوحدوية, وسط ذلك الطوفان من الشعارات التي تبشر للعولمة والشرق اوسطية وبات القوميون حالمين بمسك القمر بأيديهم.


الحركة القومية المستقبلية
إن البعض يحاول ان ينكر أو يتناسى الحركة القومية المستقبلية التي تبنت المشروع القومي حيث صمد القوميون والمجاهدون رغم كل الغيوم الحالكة, وتجسد في فعلهم المقاوم للاحتلال في العراق, وفعلهم الجهادي في لبنان وفلسطين وكشفوا الافق المسدود للتسويات في مرحلة النكوص والارتداد, وفي مرحلة سادها التضليل المتعمد واخفاء الحقائق, وكشفوا بوضوح سادية قوى المشروع المعادي, ومقدار حقدهم على العرب. وقد تجسد ذلك في العدوانية الأمريكية ضد العراق, والهمجية الصهيونية ضد أبناء فلسطين.


لقد اثبتوا ان الكيان الصهيوني, كيان هش, وكشفوا هشاشة نظريته الأمنية, وأكدوا أن العرب قادرون على خلق توازن استراتيجي معه, بل والتفوق عليه وقهره. فهذا الكيان لا يتحمل ضربة جدية يوجهها العرب إلى عمقها الجغرافي, كما فعلت صواريخ الحسين 1991 وعليه فقد دخلت المواجهة مع الصهيونية مرحلة تاريخية جديدة, وانكشف فيها الافق المسدود للتسويات, وتعطلت قدرات الصهاينة في اللعب بالاوراق السياسية, والتسلل إلى داخل الأنظمة بالسهولة التي يتصورونها.


مكامن ضعف العدو
كثرت الدراسات والبحوث حول المشروع المعادي, وحول قوى الاعداء, وبالذات حول قوتهم وقدراتهم المادية. لكنها قليلة تلك الدراسات التي ركزت على مكامن ضعف العدو. فأين تكمن قوته وضعفه? وبالمقابل ما هي مقومات قوة العرب ونقاط ضعفهم..?


تكمن نقاط ضعف القوى الصهيونية في فكر الصهيونية العنصري, الذي يستند إلى نظرية "شعب الله المختار", وعدّْ الشعوب الأخرى مجرد همج ( غوييم ) فهي نظرية قلة متعصبة متزمتة, تجعل الصهيونية عدوة الشعوب الأخرى, وليست عدوة للشعب العربي وحده. فالمشروع الصهيوني يفتقد للمحتوى الحضاري والانساني, ويقوم على الخرافة والاساطير. وعندما تسعى الصهيونية إلى اخذ دور عالمي اكبر من امكانياتها الذاتية, فان ذلك السعي يجعلها تتجاوز على حقوق الاخرين, كما يدفعها للوقوع في الاوهام, ويخلق حولها ردود افعال سلبية - كما سنوضح ذلك لاحقاً.


والضعف الاخر يكمن في انها تعتمد على الاخرين سياسياً واقتصادياً, وان تبدو كما لو أنها تهيمن على الاخرين. صحيح أن للحركة الصهيونية نفوذاً واسعاً على الاخرين, الا انه لا يؤهلها ان تكون قوة مستقبلية, مهما برعت في حبك خططها وخداعها للاخرين. والامر المؤكد ان العقيدة الصهيونية عقيدة منغلقة ضد التجديد, وهذا ما يتقاطع مع منطق العصر, الذي يتسم بالحركة والتجدد ورفض الجمود, وهذا الجمود سيجعلها عرضة للاصطدام بغيرها, وبالتالي يقودها إلى الضعف والانحدار نحو الهاوية.


ان نقاط الضعف في العقيدة الصهيونية, تنسحب إلى كيانها الاغتصابي في فلسطين. فهذا الكيان الذي يتمتع حاليا بقوى مادية عسكرية كبيرة, قام بمساعدة الاخرين ( بريطانيا اولاً ثم الولايات المتحدة ثاني ) . ومثل هذه الحماية والمساعدة من الاخرين لها ظروفها الدولية, ولهؤلاء الاخرين مصالحهم في المنطقة.


لكن عندما تتبدل الأوضاع الدولية في غير صالح حماة المشروع الصهيوني, أي عندما تتعرض مصالح الحماة للخطر من قبل العرب, كل يوم سيكون امامهم إما الاصطدام مباشرة مع كل العرب, او الاخذ بعين الاعتبار مصالح العرب وقضاياهم. وعندما تضعف الحماية أو تزول فإن الكيان الصهيوني -عندها- لا يعود قادرا على حماية نفسه في اية معركة قوية يحشد لها العرب قواهم المتعددة.


وقد يبدو الفعل الصهيوني العنيف ضد الشعب الفلسطيني عامل قوة, هذا صحيح, لكنه عامل ضعف ايضاً, فزعماء هذا الكيان يخافون من المستقبل ويخافون على
مستقبل اليهود الصهاينة في هذا الكيان الجغرافي.

 

ازمة العدو الدائمة  

إن الكيان الصهيوني, رغم قوته وتفوقه عسكريا ودقة ارتباطه بالقوى العالمية العظمى, والصلة الروحية التي تربطه معها, الا انه يعيش أزمة دائمة مع الحقائق التاريخية مع اتجاهات الحضارة, ومع المستقبل. ولاسيما بعد النجاح الذي حققته المقاومةالعراقية والمقاومة الفلسطينية و اللبنانية رغم انها قوة محدودة جداً قياساً بطاقات القوات الامريكية وقوات الكيان الصهيوني والمعدات العسكرية التي تملكها. وزاد الإحساس بالخطر على المستقبل بعد حرب غزة.


إن خوف الصهاينة على المستقبل, آت مما تقدم ومن رفض الجماهير العربية سياسات حكامها الرامية إلى التسوبة والصلح مع العدو التاريخي للامة العربية, ولم يقتصر هذا الرفض على المواطن العربي في اقطار الوطن الكبير بل امتد إلى أبناء الاجيال الفلسطينية الذين ولدوا في ظل الاحتلال ونشأوا في ظل قوانينه وأعرافه. فالمظاهرات والعمليات الفدائية في فلسطين, شكلت صدمة لسلطات الكيان الصهيوني بعد أن توهموا أن هذا الجيل ( جيل عام 1948 ) صار جيلاً إسرائيلياً.  والامر نفسه ينطبق على ابناء الامة العربية في كل الاقطار , اذ انتفضت ضد الظلم وضد فساد الحكم , ومصادرة الحريات السياسية والفكرية  .


إن الأزمة الداخلية في الكيان الصهيوني والخوف على المستقبل, ليس تحليلاً يرضينا, ولا أمنية نتمناها له بل هي هاجس الصهاينة أنفسهم, فهذ ( يهو شافاط هركافي يقرأ صورة المعادلة بين العرب والصهاينة, ويرى أن العرب هم الأقوى, حتى وإن ظهروا ضعفاء, لأن قوة إسرائيل -كما يقول- ليست قوة موضوعية, بقدر ما هي انعكاس للضعف لدى العرب .  


ويتقدم ( هركافي ) خطوة أجرأ في نقد الصهيونية فيقول: إنها -أي الصهيونية- كانت عبارة عن قيمة مقدسة, وصارت الآن هدفاً لسخرية الشباب. ويصف الوضع داخل كيانه بأنه يشهد انحطاطا عظيماً, وتردياً في الحالة النفسية العامة والمزاج العام, وانحلالاً في مبادئ السلوك العام, فقد كثر الزيف, وتفشى الخداع والتضليل للذات والتحريض على الكره في المجالين الداخلي والخارجي.


وما تؤكده الأحداث أن الصهاينة يتصرفون بمنطق العنف والإرهاب وكأنهم يعيشون قبل قرن من الزمان, وهذا يؤكد تحجر نظريتهم وعدم قابليتها للتطور, أو مراعاة العصر وتطوره. وعليه فإن العدو الصهيوني, إما أن يقبل بالانكفاء والتخلي عن أحلام التوسع على حساب الغير, وهذا المآل هو ما يتوقعه الخبراء الأمريكان لدولتهم العظمى أمثال صموئيل هنتغتون مؤخراً. ولكن يبدو أن الصهاينة لا يُفكرون بالانكفاء أو التخلي عن أحلام التوسع, بل يسعون إلى التمدد والتخلي عن الاتفاقيات التي أبرموها مع الجانب الفلسطيني, ويبدو أن هذا الخيار يؤكد الطابع العدواني اللاعقلاني, الذي اختاره زعماء ما يسمون باليمين المتطرف, وهو الخيار القاتل في الأمد البعيد.


مقابل هذه الصورة فما هو حال العرب..?
إن حالة العرب الظاهرة تبدو عليها كل علامات الضعف والهزال والتراجع والنكوص, ولكنها صورة العرب الرسميين -باستثناءات قليلة جداً-, ولكن حقيقة العرب هي من حقيقة الأمة العربية, ذات الحضارة العريقة, القابلة للتجدد, حاملة رسالة إنسانية متفتحة, والتي حافظت على هويتها الحضارية وقوميتها الإنسانية, رغم ما مر بها وما عاشته من حالات ظلم وتأخير وتجهيل. فلم تعش أمة من الأمم في العالم, ما عاشته الأمة العربية, ولم يقع عليها ظلم وغبن وعسف كما وقع على الأمة العربية.


رغم هذا فإن الأمة قاومت المشروع الصهيوني منذ بداياته وقدمت تضحيات جساما وهي تواجهه, وما زالت أسوار الأمة منيعة قادرة على مقاومة الأفكار والتيارات الغربية التي تتناقض مع واقعها ومع مستقبلها.


ولا أريد أن أعدد مقومات قوة الأمة العربية المادية والمعنوية, وما يكتنزه الوطن العربي من خيرات وهبها الله تعالى لهذه الأمة, خيرات عظيمة تكفي للعرب ولغيرهم ممن ينشدون السلام الحقيقي, ولكن هذه الخيرات صارت مصدر خطر على الأمة, عندما تسابق الغربيون منذ القرن الخامس عشر على نهبها وسرقتها من أصحابها.


إن إمكانات عدد من الأقطار العربية كافية لردع العدو وانهاء اسطورته فيكف الحال إذا وُضعت امكانات العرب كلها في مواجهة المشروع المعادي? واذا كانت الصهيونية تستند الى معتقدات دينية يرفضها العقل فإن العرب المسلمين يستندون الى عقيدة سمحة, تؤهلهم خوض الجهد لنيل إحدى الحسنيين, إما النصر أو الشهادة " وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب, وبشر المؤمنين " ( صدق الله العظيم ) .


الصورة اليوم ليست سارة بل هي قاتمة بفعل الاقتتال الداخلي في معظم الاقطار العربية , وهذا الاقتتال هو محصلة تنفيذ المخطط الغربي والصهيوني والصفوي , الرامي الى تفتيت العرب حسب الانتماءات الطائفية والقومية والعرقية والدينية .  ولكن علينا ان نستذكر الحقيقة التاريخية الساطعة وهي ان الامة العربية لم تعش تاريخها في خط مستقيم , بل كان تاريخها بين هبوط وصعود , وكانت تنهض من بين الرماد , لتعيد لذاتها حقيقتها . حقيقة انها امة الحضارة والنهضة .


حديث الحاضر والمستقبل
إن التغني بأمجاد العرب وتاريخهم فقط هو عملية تخدير وموت بطيء, ولكن الحديث عن الحاضر والمستقبل هو المطلوب, مع استحضار لروح الماضي, والغوص في أروقة التراث, لاستخلاص العبر والدروس والقيم ووضعها أمام أعيننا ونحن نضع خطط المستقبل.


إن مواجهة المشروع المعادي الذي يتصف بالتوحد, لا يكون إلا بكيان عربي قومي متحد, وهذا الأمر مقدمة لخطوة الجهاد والنضال المشترك, الذي يحقق للعرب وحدة في النضال, ومن ثم يقودهم إلى نضال وحدوي تقدمي ثوري.


إن الكيان المنشود ليس كياناً طائفياً أو متعصباً, بل يتسم بإرادة قومية قوية, وفيه وحدة الولاء للوطن, وميل نحو التطور والنهضة بأساليب العلم والتقنية الحديثة, وإحداث تنمية شاملة. والانتقال بأبناء الأمة بقفزات كبيرة نحو مستوى الأمم المتقدمة في المدينة.

 

 1 - إن الصراع بين المشروعين العربي والصهيوني, هو صراع شامل, يقع في قمة الحرب. والحرب العصرية حرب شاملة تتعدى الجيوش والأسلحة, إلى كافة مجالات الحياة. فلا بد من تسخير موارد الأمة في خوض هذا الصراع حتى تُجبر الأعداء على الرحيل عن أرض فلسطين. وبما أن الصراع شامل, فلا بد من إشراك القوى الشعبية في الجهاد المقدس والعمل الشعبي المسلح.


ولما كان الصراع يستند إلى القوة, وفي مقدمتها القوة العسكرية, فإن العدو الصهيوني يملك من إمكانات القوة العسكرية ذات تقنية فنية متطورة, لذلك فإن العمل الشعبي المسلح هو سبيل مهم لإرباك القوة العسكرية المنظمة, ولنا في العمل الفدائي في لبنان وغزة نموذجا على الصمود بوجه الآلة العسكرية.


2 -  وهناك مصدر قوة هائل يمتلكه العرب, ويؤثر في معسكر الأعداء, إلا وهو النفط, فالدول العربية تمتلك حوالي 60-70% من احتياط النفط العالمي. وهناك أربع دول عربية ( السعودية, العراق, الكويت, الإمارات ) هي القادرة على سد النقص الذي سيحصل بين العرض والطلب على النفط.


لقد سبق أن هدد العرب باستخدام النفط سلاحاً في المعركة القومية, وكيف كانت النتائج, وعليه أن نتصور ماذا ستكون الحال عليه لو استخدم العرب قوة النفط في الدفاع عن قضاياهم القومية ومصالحهم الوطنية.


ومع ذلك فإن هذا الموضوع لا بد أن يأخذ مكاناً في اهتماماتنا الثقافية, لخلق وعي حوله. والتذكير دائماً أن العدو الامبريالي الصهيوني, لم يكتف بفرض سياسته حول كميات التصدير والأسعار, بل يستثمر غالبية عوائد النفط العربي من خلال البنوك الأجنبية. وبالتالي فإن أبناء شعبنا في فلسطين والعراق يُقتلون بواسطة أو مساعدة المال العربي. فأية جريمة أفظع من هذه الجريمة..?!


3 -  وإذ ننادي نحن باستمرار للجهاد, لا بد أن ننظر إلى وقائع ما يجريفي الاقطار العربية , من قتل وتهديم البيوت, وجرف التربة وقطع الأشجار وثلوث البيئة, ومحاصرة الشعب وتجويعه. فالعبء صار كبيراً, ولا بد من دعم أبناء الشعب لكي يستمر الصمود بوتائر متصاعدة. لذا يجب علينا أن نروج لفكرة اقتطاع دولار واحد عن كل برميل نفط يُصدّر من الدول العربية   لدعم المقاومة الشريفة التي تناضل ضد قوى الغزو والاحتلال .


إنني أعرف أن مقترحات الكتاب والباحثين العرب, لا يسمعها إلا أمثالهم, وليس هناك تأثير فاعل لهذه الآراء والمقترحات لدى صانعي القرار, بل صار العكس, إذ أن بعض الكتاب يروجون لسياسات الحكام مهما كانت نتائجها.


ومع ذلك فإن هذا التصرف يجب أن لا يقودنا إلى اليأس, بل لا بد من تعميق الوعي لدى الأجيال الشابة بالثوابت القومية والمبادئ والقيم العليا, لكي نواجه ثقافة العولمة والتشظية والتفتيت ونظام السوق والغزو الثقافي والتطبيع.


4 -  إن المطلوب من المثقفين والقوى السياسية والشعبية, إزاحة الرماد عن القشرة, لتطهير جذوة الأمة المتقدة, لكي ندرك أن الأمة ما زالت بخير وقادرة على العطاء بدون حدود, وقادرة على الإبداع بأعلى المستويات.


وقد ساهمت ومضات النضال والصمود في العراق وفلسطين ولبنان في إظهار معدن الأمة الأصيل, وكشف زيف الأنظمة القطرية التي تعرت سياساتها أمام مطالب الجماهير. ومطلوب من المثقفين العرب أن يُعمقوا الوعي القومي الوحدوي التحريري لدى الأجيال الشابة, ورفض مشاريع التسوية مع العدو, ومقاومة سياسات التطبيع والشرق أوسطية, والعمل بدلاً منها, على تعزيز التنمية الاقتصادية والبشرية, واستثمار الطاقات العربية المادية والمعنوية في خدمة مشروع الوحدة والنهضة والتقدم.


5 -  وخلاصة القول - فالأمة العربية - ليست لقمة سائغة صغيرة يسهل بلعها من قبل الصهاينة, أو يسهل ترويضها وقتل روح المقاومة لديها. فالأمة كثيرة العدد وفيرة الخيرات, لديها من العلماء ما يفوق عدد اليهود الصهاينة كلهم.

المهم هو كيف يتم استنهاض أبناء الأمة في كل الأقطار, ليشكلوا مصابيح وهاجة تكشف ظلمة الغش والخداع الذي فرضته الأنظمة القطرية. وتتحول الأمة من حالة الخنوع والنكوص, إلى حالة النهوض والتقدم والنهضة, لكي تضطلع بحمل رسالتها الإنسانية الخيرة لكل البشرية. وعندها سينتصر المشروع القومي التحرري الإنساني, ويندحر مشروع العدوان والتخلف الفكري.


وإن غداً لناظره قريب إن شاء الله

 

 

 





الاربعاء ٤ شــوال ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / أب / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. حسن طوالبه نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة