شبكة ذي قار
عـاجـل










أغرب توقعات أوضاع المال والاقتصاد العالمية الراهنة أن مصير أكبر اقتصاد رأسمالي في التاريخ تحت رحمة أكبر اقتصاد شيوعي في التاريخ. وليس هناك فشل كالنجاح، وبالعكس. فالقوة الاقتصادية الرأسمالية الناجحة فقدت الثقة الائتمانية، بسبب الشك في قدرتها على الإيفاء بديونها، فيما تبحث القوة الاقتصادية الشيوعية الفاشلة عن فرص لتوظيف فائض أموالها السيادية. وفي أوقات الحيرة والشكوك ينبغي أن نؤمن كي نرى. ومن كان يرى خسارة أسواق الأسهم الأميركية والأوروبية في الأسبوع الماضي ثلاثة تريليونات دولار، فيما بلغت أموال الصين السيادية أكثر من ثلاثة تريليونات دولار؟.. ومن غير الصينيين رأى توظيف موارده من بيع سلعه إلى الغرب في الغرب، الذي يستخدم هذه الأموال لشراء المزيد من سلع الصين، التي تعيد توظيفها في الغرب، وهكذا حتى يصبح الغرب مديناً لها بالتريليونات، ليس بسبب فرق العملة بل فرق العمل. ما الحكمة من ذلك؟ للصينيين جواب عمره نحو ثلاثة آلاف عام يقول "لا نَصرَ في الفوز بمئة معركة، بل النصر في إخضاع عدوك من دون أن تقاتله قط".


والحكمة الصينية القديمة تقول "بعد نوم الجهل الطويل فإن كلمة واحدة يمكن أن تغيّر الإنسان إلى الأبد". وفي سنوات الغليان الصيني كان يصعب تصديق كلمة الزعيم ماو: "عندما نمسك بناصية الكفاح تصبح المعجزات بالإمكان". والمعجزة هي الصين التي عانت قروناً من المجاعات وحرب الأفيون والاحتلال الأجنبي، وها هي تندد اليوم بما تسميه "الإدمان الأميركي على الاستدانة"، وتطالب بفرض "الوصاية على الدولار وإيجاد عملة احتياطية عالمية جديدة بدلاً عنه". "أين ستخبئ نقودها آنذاك؟" تساءلت صحيفة "وول ستريت جورنال"، واستدركت مطمئنة "وول ستريت" بأن الصين لن تسحب مبلغ التريليون ومائتي مليار دولار المستثمرة في سندات الخزينة الأميركية، فهذا سيهدد الاقتصاد الصيني نفسه. ماذا ستفعل إذن بمواردها الخارجية التي لم تتوقف عن التدفق منذ بداية العام بمعدل 64 مليون دولار في كل ساعة؟ البحث عما يفعله الصينيون كالبحث عن طبخهم الاقتصاد الشيوعي والرأسمالي في وعاء واحد، ونجد الوصفة في وصية بيروقراطية صينية قديمة تقول "القرارات ينبغي ألا تكون واضحة جداً. وإلاّ سيقع عليك اللوم عندما تسوء الأمور، دَعْها مبهمة"!


إبهام يحير خبراء "وول ستريت" الذين يسعون للعثور على الفجوة الواسعة غير المعتادة بين مشتريات الصينيين من سندات الخزينة الأميركية واحتياطياتهم من العملات الأجنبية. أين تذهب الأموال الجديدة؟ بعضها يذهب لشراء الديون السيادية الأوروبية التي نالت بها الصين سمعة "الصديق وقت الضيق". صناعات أوروبية عدة، بما فيها صناعة السيارات الفارهة تدين بالبقاء إلى إقبال الطبقات المتوسطة الجديدة في الصين. والخبراء يتربصون خطوات الصين في أسواق الذهب العالمية، إلاّ أن السؤال الذي يحيرهم، هل توجد في العالم مشتريات كافية من الذهب للصينيين؟ كوريا الجنوبية اشترت في الشهر الماضي 25 طناً متريّاً من الذهب بقيمة أكثر من مليار دولار، ولا يشكل هذا حتى بالنسبة للكوريين سوى 1 في المئة من احتياطياتهم الأجنبية. ولا تتحدث الصين قط عما لديها من احتياطيات الذهب، التي تبلغ حسب التقديرات عشرة أضعاف ذهب الكوريين. وإذا كان صحيحاً تصريح المصرف المركزي الصيني بأن كمية الذهب التي يملكها تزيد عن ألف طن، فهذه تقل عن 2 في المئة من مجموع احتياطيات الصين من العملات الأجنبية. وسكوت الصينيين من ذهب، فأي حركة لهم في أسواق الذهب العالمية، أو في أي مجالات استثمارية قد تحدث اضطرابات شديدة، حيث يسارع اللاعبون في "كازينو" الاقتصاد العالمي إلى شراء ما تنوي الصين شراءه، وبيع ما تريد بيعه. ولو وظفت الصين في الذهب 1 في المئة فقط من تدفقات احتياطياتها الأجنبية خلال ثلاثة شهور الأولى من العام الحالي فهذا يعادل 10 في المئة من مجموع مشتريات الذهب العالمية لأهداف استثمارية خلال الفترة نفسها، حسب "المجلس العالمي للذهب" في لندن.


ولا تكمن قوة الصين في احتياطياتها التريليونية، بل في وتائر نموها البالغة 10 في المئة منذ أكثر من عشر سنوات. وقد اقتربت اللحظة التي تتجاوز فيها الصين أميركا، وأصبحت "لدى الشيوعيين في الشرق الجرأة الكافية لإرشاد الرأسماليين في الغرب كيف عليهم أن يديروا اقتصاداتهم". يذكر ذلك لاري إيليوت، المحرر الاقتصادي لصحيفة "الغارديان" البريطانية، مؤكداً: "مهما كانت دلالة ما جرى للأسواق المالية فإن الجمعة الماضية سيتم تذكرها باعتبارها اليوم الذي فقدت فيه الولايات المتحدة هيمنتها". وهو إعلان شكلي في الحقيقة. فخفض التصنيف الائتماني لواشنطن لأول مرة في التاريخ، سبقته أزمات مالية هزت العالم منذ تورطها في حرب الثلاثة تريليونات دولار في العراق وأفغانستان. سوق القروض العقارية الأميركية انهارت عام 2007، وأعقبها انهيار العملاق المصرفي الاستثماري "ليمان بروذرز" في عام 2008، ثم شركة الاستثمارات العملاقة "بير ستيرنز". وكما في وباء الإيدز انتقل فيروس الانهيارات من أميركا إلى العالم، ومن القطاع الخاص إلى العام، ولم تعد المشكلة إيفائية المصارف، بل إيفائية الحكومات، كإيرلندا، واليونان، وقد تنضم قريباً دول أوروبية متقدمة كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، وربما بلجيكا أيضاً إلى قائمة الدول العاجزة عن الوفاء بالدين العام، أي المفلسة. وإذا عجزت الدول عن شراء "ليمان بروذرز" و"بير ستيرنز" فمن يشتري الدول؟

 

ويفوتنا ضحك كثير إذا تجنبنا متابعة أوضاع المال والاقتصاد العالمية لاعتقادنا أنها حسابات وأرقام أكثر تعقيداً من أن نفهمها. فهذه حكايات فكاهية كـ"ألف ليلة وليلة" مليئة بالظرائف والنوادر، وفيما يلي مقتطفات منها: قبل أيام من الإعلان عن خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، الذي يعني خفض الثقة باقتصادها، والشك بأهليتها للاستدانة، كان أوباما يؤكد على أهمية هذا التصنيف، ويهدد "الجمهوريين" إذا لم يوافقوا على رفع سقف الدين "فالبلد سيفقد تصنيفه الائتماني ذا الثلاث علامات". وبعد الإعلان مباشرة عن خفض تصنيف أميركا إلى علامتين هاجم أوباما وكالة التصنيف S&P مؤكداً "مهما تقوله بعض الوكالات سنبقى دائماً بلد الثلاث علامات"، واستشهد برجال أعمال يؤمنون بأن أميركا بلد "الأربع علامات"، التي لا وجود لها!.. وكما في حكايات "ألف ليلة وليلة"، تنفتح حكاية التصنيف عن حكايات ثلاث وكالات تصنيف تحدد مصير الدول والشركات، وغير معروف من صنّفها لتقوم بالتصنيف، فهي ليست منظمات دولية، كصندوق النقد أو البنك الدولي، ومع ذلك تنحني لسلطتها الدول، وكل من يبحث اليوم عن مخرج من سيطرتها يجد العبارة التالية مكتوبة على جدار النظام الاقتصادي العالمي "بسبب الوضع المالي الحالي فإن الضوء في آخر النفق مطفأ حتى إشعار آخر".

 

 





الاربعاء١٠ رمضـان ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٠ / أب / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد عارف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة