شبكة ذي قار
عـاجـل










لسبع سنوات ونصف خلت، وقف جورج بوش على متن إحدى حاملات الطائرات الأميركية مزهواً بانتصاره على العراق، معلناً انتهاء العمليات القتالية وواعداً أسر الجنود بأن أبناءهم سيكونون في أمن وآمان في هذا البلد، الذي اعتبر احتلاله مدخلاً لإعادة رسم خارطة المنطقة على قاعدة الرؤية الأميركية لشرق أوسط جديد.
لكن لم يكد الرئيس الأميركي يصل إلى البيت الأبيض عائداً من مرحلة التحقق من انتصاره، حتى كانت الإخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء تنبئ بعكس ما أعلنه بوش، مع بدء جولة جديدة من المواجهة الشاملة بين قوات الاحتلال والمقاومة العراقية التي تحسبت لكل الأمور وأعدت نفسها لحرب طويلة الأمد.


هذه الحرب التي بدأت لسبع سنوات ونصف خلت، خاض الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما معركته الانتخابية تحت شعار أساسي، إلا وهو وضع حدٍ للحرب في العراق وتالياً سحب القوات الأميركية أواخر 2011.


وعشية إعلان أوباما انتهاء العمليات القتالية في العراق قبل 31/آب / 2010، منفذاً ما وعد به، لم يجزم كما سبق سلفه بأن الحرب انتهت بانتصار أميركا، بل قال أن انتهاء العمليات القتالية هي خطوة على طريق وضع حدٍ لهذه الحرب الذي قالت عنها الإدارة الأميركية السابقة بأنها ستكون صفر الخسائر، فإذا بها تتحول إلى حرب استنزاف بشري واقتصادي وسياسي لأقوى دولة في العالم.


لقد تجاوز عدد القتلى من الجنود الأميركيين 4500 عسكري، وعدد الجرحى والمعاقين سجل رقماً قياسياً بعشرات الألوف وفي تقدير لمجمل الخسائر البشرية الأميركية، فإن ثلث القوة العسكرية الأميركية التي اشتركت في الحرب على العراق كانت ثمن التكلفة البشرية حتى الآن.


وعندما يقول الرئيس أوباما، بأن إنهاء العمليات العسكرية الكبرى هو خطوة على طريق إنهاء الحرب، فهذا يعني أن الحرب لم تنته بعد، وأن كان العنوان الذي تبقى القوات الأميركية تعمل تحته هو التدريب والإشراف والمساعدة إذا ما طلب ذلك وفقاً لبنود الاتفاقية الأمنية.


إن مقاربة أوباما للموضوع صحيحة بنسبة ما، لأن الحرب التي بدأتها أميركا وأدت إلى احتلال العراق أفرزت نتائج سياسية كثيرة وأن بعض هذه النتائج يندرج في خانة ما يعتبر ربحاً أميركياً وأن كان بتكلفة كبيرة بشرية واقتصادية وسياسية.


وإذا كانت أميركا قد فشلت في تحقيق بعض ما هدفت إليه، بتصورها أن الحرب ستكون صفر الخسائر، أو بقدرتها على توظيف نفوذها وأدوات ضغطها لتوفير تغطية ذات مشروعية دولية لحربها أو في اجتثاث حزب البعث من بيئته الشعبية الحاضنة، فإن ما تكشف من خلال سياقات المواجهة التي فاجأت كثيرين، أثبت بأن أميركا أخفقت في تبرير حربها، لعدم قدرتها على انتزاع قرار دولي يجيز لها شن الحرب، وأن القرار الدولي الصادر بعد الاحتلال، اعتبرها دولة احتلال مع ما يترتب على ذلك من مسؤولية على سلطة الاحتلال.


والإخفاق الأميركي لم يفتقر على هذه الناحية وحسب، بل تمثل أيضاً بسقوط المصداقية السياسية لدولة سعت لأن تقدم نفسها بأنها الدولة الحريصة على حماية حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية، فإذا بسلوكها السياسي والأمني والعسكري يكشف، بأن الأقوال كانت في مكان بينما الأفعال في مكان آخر، وان الجرائم التي ارتكبتها القوات الأميركية في العراق هي جرائم حرب موصوفة بكل المقاييس والمعايير. فهي لم تقم اعتباراً لأية مواثيق واعراف دولية، بل مارست سياسة العقاب الجماعي بحق شعب بتدمير كل مقومات حياته المجتمعية.


إن هذا السقوط السياسي لأميركا والتي توج بانكشاف الكذب الذي أقرت به عبر تلفيق التقارير الكاذبة لتبرير شن الحرب كامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، والعلاقة مع القاعدة، جاء مترافقاً مع سقوط أخلاقي، من خلال الانتهاك الخطير لحقوق الإنسان والتي كانت أساليب التعذيب والتنكيل مع الأسرى والمعتقلين خير شاهد على هذا السقوط الأخلاقي المدوي لدولة تقدم نفسها على انها راعية لحماية لحقوق الإنسان وأنها شنت الحرب على العراق لتخليص شعبه مما سمته نير العبودية، فإذا بالتقارير والصور الخارجة من معتقل أبو غريب وغيره تميط اللثام على الطبيعة العنصرية التي حكمت سلوك المحتل والذي يعطي تفسيراً جديداً لوقوف أميركا ضد معاهدة روما وعدم انضمامها إلى هذه الاتفاقية حتى تبقي جنودها خارج المساءلة الجنائية الدولية عن الجرائم التي يرتكبونها ضد الإنسانية.


إن أميركا التي دخلت الحرب وهي تقود اصطفافاً دولياً خارج الشرعية الدولية، لم تستطع أن تحافظ على هذا الاصطفاف، وهي عشية إعلانها إنهاء عملياتها القتالية الكبرى هي اليوم وحيدة تحاول ترميم ما أفسده سلوكها الدولي السابق وهذا يندرج أيضاً في خانة الفشل السياسي.


إن ما منيت به أميركا من فشل ما كان ليتحقق لولا المقاومة التي انطلقت في وقت قياسي، وجعلت الوجود الأميركي يواجه التعثر بداية، ليصل مرحلة المأزق الذي دفع الإدارة الأميركية، السابقة والحالية لأن تعيد النظر باستراتيجيتها وتطرح استراتيجية الانسحاب والتي يحاول أوباما تنفيذ هذه الاستراتيجية عبر أجندة بسقوف زمنية محددة.


إن المقاومة التي فرضت على المحتل الأميركي أن يستبدل استراتيجية الاحتلال باستراتيجية الانسحاب هل تنهي مهمتها بسحب آخر جندي أميركي عن أرض العراق؟
للوهلة الأولى يبدو الجواب بالإيجاب لأن المقاومة انطلقت رداً على الاحتلال وبزوال الاحتلال تزول المبررات التي أملت انطلاقة المقاومة، لكن ماذا لو كان الاحتلال قد أفرز نتائج سياسية وأوجد وقائع ميدانية يجب الإقرار بأنها تندرج في خانة الربح للمحتل الأميركي؟


إن المقاومة تنتهي كعمل مقاوم عندما تنهي الاحتلال وتسقط كل النتائج السياسية السلبية التي أفرزها هذا الاحتلال، وطالما أن هذا الهدف لم يتحقق أي إسقاط كل النتائج السياسية التي أفرزها الاحتلال، فإن المقاومة سوف تستمر إلى أن تزول آثار الاحتلال المباشر وما أفرزه من نتائج.


إن أميركا كدولة محتلة والتي فشلت في تحقيق العديد من أهدافها، حققت بعض الأهداف لعل أبرزها، تفكيك العراق كياناً وطنياً ومكونات مجتمعية، وأوجدت أرضية لصراعات مذهبية وطائفية وعرقية وأثنية، وهذا يندرج ضمن رؤية التحالف الأميركي الصهيوني لإعادة رسم الخارطات السياسية الكيانية للمكونات الوطنية العربية والعراق في طليعتها لجعل حدود هذه الكيانات بحدود الطوائف والمذاهب والأقليات القومية، وأن ما حصل في العراق بفعل الاحتلال إنما يندرج ضمن هذا السياق.


كما أن المحتل الأميركي الذي قدم إلى العراق وعلى سلم أولوياته تفكيك الوحدة الوطنية العراقية، اعتبر أن المدخل لتكريس هذا التفكيك يجب أن يمر عبر إسقاط مقومات الدولة وتدمير بناها المؤسساتية، السياسية والعسكرية والأمنية، والقضاء على الحركة السياسية العابرة في تكوينها البنيوي ومنطلقاتها الفكرية للمذاهب والطوائف والأديان والمناطق ولهذا سن قانون اجتثاث البعث، وهنا حققت أميركا بعضاً من النجاح، وهي بما حققته في هذا المجال تقاطعت مع المصالح الإيرانية التي لا تريد عراقاً موحداً وقوياً على حدودها القريبة.


إن أميركا التي فككت الدولة العراقية كنتيجة لاحتلالها عملت لإعادة تركيب دولة ضعيفة المركز، محكومة بدستور يكرس التقسيم المناطقي بحدود التموضع السكاني المذهبي والطائفي والأقلوي القومي، وهذا هدف قديم جديد للنظام الإيراني أياً كان جلبابه السياسي وهو أن يرى عراقاً ضعيفاً وله اليد الطولى في ترتيب أوضاعه السياسية بما يخدم مشروعه لوضع اليد على الحوزة في النجف وإلحاقها بمرجعية قم، والحؤول دون بروز حالة وطنية عراقية تتغذى من سلة النتائج السياسية التي أفرزتها الحرب الإيرانية العراقية.


إن أميركا تريد أن يبقى العراق ضعيفاً ودولة محكومة بالتقسيم الواقعي خدمة لاستراتيجية الأمن الصهيوني كما تريده أن يبقى هكذا، كي تبقى توظف عنصر التخويف الإيراني في ابتزاز المواقع العربية في منطقة الخليج العربي، ولهذا كان أحد أهداف الحرب المضمرة إسقاط الناتج العراقي للحرب مع إيران، والتي استطاع العراق من خلالها أن يقدم نفسه كقوة وازنة مع القوة الإيرانية أن لم يكن بأرجحية وبالتالي بروزه كعنصر توازن في المثلث الإقليمي الذي يجمعه مع تركيا وإيران والحقيقة أن هذا الهدف قد تحقق، حيث تحول العراق من دولة لاعبة أساسية في المنطقة إلى دولة ملعوبة بها وبدل أن تكون دولة فاعلة ومؤثرة أصبحت دولة منفعلة بالأحداث ومتلقية، من دول الجوار الإقليمي وأصحاب الاستراتيجيات الدولية حيث يسعى كل فريق لأن يأخذ حصته عبر موطئ قدم سياسي له أن عبر الدور المباشر والا بشكل غير مباشر بالاستناد إلى قوى سياسية داخلية مربوطة بمراكز التقرير الخارجي إقليمية كانت هذه المراكز أم دولية.


إن الهدفين اللذين استطاع الاحتلال الأميركي أن ينجزهما في العراق، إلا وهما تفكيك وحدة العراق الكيانية والشعبية والمجتمعية، واجهاض أهم نتيجة سياسية للحرب مع إيران استطاع أن يحقق هدفاً أساسياً آخراً وهو كان أحد أهداف الحرب ألا وهو إعادة وضع اليد على النفط العراقي إنتاجاً وتسويقاً، وأن هذا الأمر تحقق لأميركا من إلغاء القوانين التي وضعت النفط العراقي تحت السيطرة الوطنية، وإعادة سيطرة الشركات النفطية الكبرى على ثروة العراق بحيث شكل ذلك ثأراً للشركات النفطية من هزيمتها في معركة تأميم النفط لأربعين سنة خلت.


هذا الذي حققته أميركا بعناوينه الأساسية يجب أن يقر ويعترف به بأنه نجاح لها، وخروج قواتها مع بقاء هذا الواقع على احتلاله، أي بقاء العراق دولة مفككة وكياناً تتهافت عليه القوى الإقليمية والدولية وثروة نفطية مسيطرة عليها، يعني أن الاحتلال حقق نجاحاً في ميادين وأن فشل في ميادين أخرى.


إن المقاومة الوطنية في العراق والتي قادت وتقود مواجهة مع المحتل وأعوانه، قد أفشلت بعض الأهداف الأميركية، إلا أن هذا الإفشال لا يعتبر نصراً كاملاً وشاملاً على المحتل.


إن نصر المقاومة وانتصارها يكمنان من تمكنها في إسقاط كل النتائج السياسية التي اعتبرها الاحتلال إنجازاً له وبها يفاخر.


فالمقاومة التي استطاعت أن تسقط نظرية صفر الخسائر وتعري الموقف الأميركي من أية مشروعية سياسية وتدفعه نحو الانزلاق في السقوط الأخلاقي وتجعل احتلال أميركا ذو تكلفة عالية وتفرض عليه حجراً حال دون اتكائه على الموقع العراقي في متابعة هجوميته على مواقع عربية أخرى، تقع عليها مسؤولية إعادة توحيد العراق وحماية مكوناته وهويته القومية وإعادته إلى موقعه الطبيعي في قلب أمته العربية، وإعادة مقدراته وطاقة ثروته النفطية إلى شعبه كي ينعم بخيرها ويوظف مردودها في خدمة إنمائه ونهوضه وتقدمه الاجتماعي والاقتصادي.


إن هذه المهمة المطروحة أمام المقاومة ليست مهمة سهلة، بل تفوق صعوبة مهمة المواجهة المباشرة لقوات الاحتلال، لأنها ستكون معنية بمواجهة اصطفافاً جديداً من القوى الداخلية والخارجية، التي لا ترى نفسها إلا من خلال الواقع التقسيمي والعيش على فتات ما تمن به القوى التي تريد الإمساك بالمفاصل السياسية والأمنية والمقدرات الاقتصادية.


إن العراق الذي يحرر ولا يعاد توحيده، يعني أن مفاعيل التحرير لم تعط نتائجها المرجوة بعد، وبالتالي لا تكون العملية التحررية حققت كامل أهدافها.
وعندما تستطيع المقاومة تحقيق هدفي التحرير والتوحيد يمكن القول أن أميركا هزمت في العراق وأن استراتيجيتها بأهدافها المضمرة والمعلنة قد سقطت. وحتى تحقيق هذا الهدف فإن العراق سيبقى ساحة صراع مفتوحة بين قوى التحرير والتوحيد والعروبة وقوى الاحتلال والتقسيم والمعادين للعروبة من داخل العراق وخارجه.


إن الجولات القادمة ستكون أصعب وأكثر تعقيداً، وان الخطوة الأميركية ستعيد خلط الأوراق خاصة وأن قوى إقليمية وخاصة النظام الإيراني يحضر نفسه لأن يملأ الفراغ السياسي والأمني الذي سيخلفه الانكفاء الأميركي. وإذا كانت معركة التحرير توجهت بقواها إلى مواجهة المحتل المكشوف ، فإن معركة التوحيد ستكون بشكل رئيسي مع النظام الإيراني الذي تقاطعت مصالحه مع المحتل الأميركي ويتقاطع موضوعياً مع العدو الصهيوني في إيجاد عراق ضعيف ومفكك. وسياقات المواجهة المستقبلية ستثبت ذلك.


لـــــــــــذا ان الحــــــــرب لم تنـــــــــته ولــــــو اعـــــلـــــــن اوبـــــامــــا ذلـــــــك .
 





الاثنين٢٠ رمضان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣٠ / أب / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة