بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

بعض ما ينبغي أن يُقال!
ملاحظات في موضوع "الجبهة الوطنيَّة والقوميَّة الإسلاميَّة"
( الحلقة الثانية )

 

 

شبكة المنصور

سعد داود قرياقوس

 

ازدهرت خلال الأشهرالماضية بشكل مُلفت ظاهرة تشكيل حركات وأحزاب سياسيَّة خارج الوطن، رافقها انتعاش في إطلاق مبادرات وعروض التفاوض مع المحتلِّ الأمريكي. وتكاثر دعاة تمثيل المرجعيَّة الوطنيَّة، وازداد عدد مالكي حقوق امتياز تمثيل المقاومة، والمدَّعين في علاقتهم المباشرة بقيادتها، ناهيك عن المعبِّرين عن مواقفها وإرادتها.

هذا التضخم السياسي المفاجئ أفرز تبعات من الخطاء الاستهانه بها، أهمُّها تصعيد حالة الإرباك في آليَّات الجهد السياسي المناهض للاحتلال، وزيادة الشلليَّة والتشرذم السياسي، وإشغال قيادة المقاومة في أعباء غيرضروريَّة. نحن اذًا إزاء حالة مرضيَّة خطرة على سياقات الجهد المناهض للاحتلال، فلا مناص من كشفها بكلِّ موضوعيَّة وحرص، والتصدِّي لها بكلِّ قوَّة وحسم.

كيف نفسِّر الانتعاش السياسي الكبير؟ وما هي دوافع إطلاق المبادرات وتأسيس الجبهات والتجمُّعات السياسيَّة التي شهدتها الساحة السياسيَّة العراقيَّة مؤخَّرًا؟ وهل لاتِّضاح أبعاد المأزق الأمريكي في العراق دور في شيوع ظاهرة المبادرات والتحالفات؟ كيف يمكن تفسير التدافع المحموم لتأسيس تجمُّعات ونوادٍ سياسيَّة خارج ساحة المواجهة الحقيقيَّة؟ والأهم، لماذا لم يطرح المبادرون مشاريعهم خلال العامين الأوَّلين من الاحتلال؟
إنَّ للسياسة، أسوة بغيرها من جوانب النشاط الإنساني، أبعاد تجاريَّة. وأسس التعامل في "التجارة السياسيَّة" لا تختلف بشكل عام عن أسس التعامل السائدة في الأصناف التجاريَّة الأخرى. ولكون تجَّار السياسة أكثر ثقافة وتعلُّمًا من أقرانهم تجَّار الصنوف الأخرى، فإنَّهم بالتالي أكثر شطارة تجاريًّا، وأكثر استيعابًا لمتغيِّرات معادلات الربح والخسارة، ومعرفة أهميَّة التوقيت الزمني، ولا سيَّما توقيت إطلاق المبادرات وتشكيل التجمُّعات السياسيَّة.
هذا البعد التجاري، يقدِّم لنا تفسيرًا لاننتعاش موسم المبادرات والتجمُّعات السياسيَّة خلال المرحلة المنصرمة بعد سُبات طويل نسبيًّا. فأصحاب المبادرات قد توصَّلوا إلى قناعة مفادها أنَّ الفوائد السياسيَّة والماليَّة المتوقَّعة من إطلاق مشاريعم في هذه المرحلة تفوق كلفتها.

ربيع المبادرات، كان قد بداء قبل عامين تقريبًا، وإثر اتِّضاح أبعاد المأزق الأمريكي في العراق تحديدًا. وبعد أن بدأت وسائل الإعلام والمؤسَّسات السياسيَّة الأمريكيَّة والأجنبيَّة تتناول علانية فشل فريق بوش في إدارة الأزمة في العراق. وبعد أن بدأت بعض المؤسَّسات السياسيَّة ومراكز البحوث في طرح احتمالات انسحاب القوَّات الأمريكيَّة من العراق. وبعد أن أطلقت الإدارة الأمريكيَّة ومؤسَّسات قريبة منها إشارات عكست استعدادها لإعادة النظر في استراتيجيَّتها، ودراسة خيارات وآليَّات تتيح لها الانسحاب من العراق بأقلِّ قدر من التكاليف السياسيَّة والماليَّة.

مأزق الإدارة الأمريكيَّة في العراق، خلق فرصة ذهبيَّة للطامحين في لعب أدوار سياسيَّة تاريخيَّة، وأخرى للباحثين عن سبل لزيادة ثرواتهم. الإنسحاب الأمريكي بكلِّ تأكيد يخلق فرصًا ماديَّة وسياسيَّة لا تقلُّ حجمًا عن تلك التي خلقها الاحتلال. لذا، فقد انطلقت مبادرات الالتفاف على خيار المقاومة، وبدأ بعضهم يعبِّر بصفاقة متناهية عن قدرتهم على حفظ ماء وجوه المحتلِّين بذريعة إيجاد حلٍّ للأزمة العراقيَّة. فعقدت الندوات والاجتماعات السرِّيَّة منها والعلنيَّة، وأطلقت المبادرات، ونظِّمت لقاءات الوساطة بين المسؤولين الأمريكان والبريطانيِّين في بيروت وعمَّان ولندن وواشطن. وفجأة تحوَّل الذين كانوا إلى وقت قريب يتحاشون ذكر مصطلح المقاومة، إلى منظِّرين في أهميَّتها وجدواها. وانتقل آخرون من مهاجمي المقاومة ومشكِّكين في هويَّتها وشرعيَّتها إلى رافعي يافطات المقاومة والتحرير. وبدأت عروض المناقصات تنهال سرًّا وعلنًا على المحتلِّين ووكلائهم في الحكومة العميلة.

متى وكيف بدأت محاولات الالتفاف على مشروع المقاومة وتحدِّي مرجعيَّتها الوطنيَّة؟

بين 25- 28 تمُّوز 2005، نظَّم مركز دراسات الوحدة العربيَّة في بيروت الذي يترأسه السيِّد خير الدين حسيب ندوة بحثيَّة تناولت حلقاتها تطوُّرات الوضع في العراق. وقدَّم عدد من المشاركين في الندوة ملفَّات متعلِّقة بجوانب سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة، كالدستور والقضيَّة الكرديَّة ، والثروة النفطية وغيرها من المحاور.
الملاحظ أنَّ الملفَّات المقدَّمة وإن كانت مغلَّفة بأبعاد أكاديميَّة ظاهريًّا، إلاَّ أن الهدف من إعداها ومضامينها عكست بشكل لا يقبل الشك برنامجًا حكوميًّا شاملاً يمكن أن يستفيد منه مَن يطمح في حكم العراق مستقبلاً. أو كما ادَّعى منظِّمو الندوة وأنصارها "لوضعها أمام الحكومة العراقيَّة بعد التحرير (مرحلة البناء)، للاستفادة من مضامينها."

ومن دون أن نبخس حقِّ مقدِّمي تلك الملفَّات، إلاَّ أنَّ مضامينها لم ترتقِ إلى مستوى البرامج الوطنيَّة المتبنَّاة من الحكومة العراقيَّة الشرعيَّة قبل الاحتلال الغاشم.

اعتراضنا على ندوة بيروت لم ينشأ بسبب عقد الندوة، أو بسبب مضامين الملفَّات المقدَّمة وهويَّة معدِّيها. فلإدارة المركز الحقُّ في تنظيم ما تشاء من ندوات عن العراق واعداد ما تراه مناسب من ملفَّات، بل بسب "الأجندة" الخفيَّة للندوة التي اتَّضحت أبعادها في اليوم الرابع للندوة. "الاجندة" التي تمَّت هندستها في اجتماعات عقدتها مجموعة صغيرة من العراقيِّين والعرب في مدينتي الجزائر والقاهرة قبل شهرين من انعقاد ندوة بيروت.

ما الذي حدث في اليوم الرابع لندوة يروت؟

في طريقة فنيَّة ذكيَّة لكنَّها مكشوفة، نظَّم راعي الندوة اجتماعًا للعراقيِّين المشاركين في الندوة البحثية في اليوم الرابع، دون حضور السيِّد حسيب أو ترأس جلساتها. هذا الإخراج المسرحي لم ينطلِ على الكثيرين ممَّن سبق لهم وحذَّروا المجتمعين في بيروت قبل انعقاد الندوة علانيَّة من مغبَّة الخروج في برنامج سياسي يلتف على مشروع المقاومة الوطنيَّة.

ما تحقق في اليوم الرابع لتجمُّع بيروت لم يتجاوز مسوَّدة بيان ختامي عجز المجتمعون عن إقراره رسميًّا كوثيقة صادرة عن الاجتماع بسبب سحب بعض الأطراف السياسيَّة المشاركة توقيعها على مسوَّدة البيان، وتراجع آخرون عن مواقفهم، وعدم موافقة بعض القوى الأخرى على فقرات بعض فقرات المسوَّدة وغيرها من المواقف المتباينة.

فَشَلُ الاجتماع في الخروج ببيان ختامي متَّفق عليه لا يقلِّل من أهميَّته السلبيَّة على مسار العمل السياسي المناهض للاحتلال والمناصر للمقاومة. فما تمخَّض عنه التجمُّع، وما تضمَّنته مسوَّدة البيان الختامي، شكَّلا، في تقديري، القاعدة لانطلاق غالبيَّة مشاريع شقِّ المقاومة والالتفاف عليها من خلال تبنِّي مفهوم المقاومتين العسكريَّة والسياسيَّة المنحرف وترويجه ، بالاظافة الى محاولة منح مجموعة هامشيَّة دورًا يفوق ما قدَّمته لشعب العراق، ويتجاوز حجم موقفها من برنامج المقاومة والتحرير، وإيمانها به، والاعتراف بدور الفصائل الأساسيَّة في المقاومة.

الغريب، أنَّ كاتب مسوَّدة البيان الختامي ما يزال مقتنعًا بأنَّ ما صدر عن الاجتماع، وما تضمَّنته المسوَّدة يمثِّل الحل الأمثل. لا، بل الآليَّة الوحيدة لحلِّ الأزمة العراقيَّة على الرغم من رفض غالبيَّة فصائل المقاومة المطلقة وكتَّابها ما تضمَّنته مسوَّدة البيان الختامي خصوصًا، وندوة بيروت بشكل عام. وقد يكون من الضروري الإشارة هنا إلى بيان مكتب العلاقات الخارجيَّة التابع لحزب البعث العربي الاشتراكي الصادر في تمُّوز 2005، الذي انتقد انعقاد المؤتمر وأهدافه، ووصفه بأنَّه "خطوة إلى الأمام على طريق محاولات شقِّ المقاومة واستقطاب جماهيرها برفع شعاراتها وادِّعاء دعمها."

بعد مدّة زمنيَّة قصيرة من اتِّضاح فشل اجتماع بيروت، أطلق السيِّد خير الدين حسيب منفردًا مبادرة تالفت من 20 فقرة، عنونها : "مبادرة وطنيَّة عراقيَّة تعبَّر عن آراء وإرادة المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة، والقوى السياسيَّة الوطنيَّة الرئيسيَّة المناهضة للاحتلال لإنهاء احتلال العراق وانسحاب قوَّاته دون شروط"، ةقدمها كآليَّة لإيجاد مخرج للأزمة العراقيَّة، والتفاوض مع المحتلِّين، بالإضافة إلى تضمينها فقرات تختصُّ بهيكل الحكومة العراقيَّة وآليَّاتها وعلاقاتها العربيَّة والدوليَّة بعد التحرير. إنَّ مضمون العديد من فقرات المبادرة وآلياتها، كما أوضحنا آنفًا في تحليلنا للمبادرة وأهدافها في مساهمة سابقة، يقدِّمان برنامجًا لإنقاذ المحتلِّين، وشقِّ المقاومة والالتفاف عليها، وتتضمن عرضًا كاملاً للإدارة الأمريكيَّة للعب دورٍ في تقليل خسائرهم في العراق، والتمهيد لحكومة تكنوقراط مستقبليَّة يقودها الحسيب!

أكثر ما دهشنا في مبادرة حسيب عنوانها الذي نصَّ على كونها "تعبِّر عن آراء وإرادة المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة، والقوى السياسيَّة الوطنيَّة الرئيسيَّة المناهضة للاحتلال". وهو ادِّعاء مغالط لا يحتوي مقدار ذرَّة من الحقيقة، لكون معظم فقرات المبادرة تتناقض نصًّا وروحًا مع المواقف المعلنه لجميع فصائل المقاومة الوطنيَّة ، وكذلك القوى السياسية الرئيسية المناهضة للاحتلال ، وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي والتحالف الوطني العراقي والحزب الشيوعي العراق/الكادر. هنا لابد من ان نورد بان عدد من فصائل المقاومة قد بلغت فعلا السيِّد حسيب وفي أكثر من وسيلة عدم موافقتهم على مبادرته، وانها لا تحظَ بتأييدهم. هذا الرفض الواسع دفع السيِّد حسيب للتعهُّد إلى مناضل قريب الصلة بالفصائل الرئيسة للمقاومة لدى لقائه في بيروت بالتوقُّف عن ترويج مبادرته طالما لم تحظَ بمباركة فصائل المقاومة وموافقتها!.

المؤسف، أنَّ السيِّد حسيب لم يلتزم بتعهَّده، إذ سرعان ما بدأ بتسويق مبادرته ومشروعه السياسي باستخدام وسائل جديدة، منها تحرُّكه عبر قفَّازات لندنيَّة كانت بأمس الحاجة إلى نيل دعم حسيب ومظلَّته السياسيَّة والماليَّة، مقابل العمل على توفير أهم ما تفتقر إليه مبادرته، ألا وهي القاعدة الشعبيَّة، أو بالأحرى الجانب البشري المكمِّل للبرنامج السياسي الذي تضمَّنته ملفَّات ندوة بيروت، وفقرات مبادرة حسيب وآليَّاتها. عرَّابو "مشروع بيروت" يدركون أنَّ فقرات المبادرة" وملفَّات ندوة بيروت" لا تقدِّم صفقة متكاملة ومقبولة من الإدارة الأمريكيَّة والحكومة البريطانيَّة، ودول الجوار ما لم يرافقها الكادرالبشري القادرعلى تنفيذ المشروع.

لذا، بدأ العمل على تكوين الفريق البشري المطلوب إنطلاقًا من اجتماع عقد في مدينة "هلسنبوري" السويديَّة الذي حضرته، للأسف، عناصر وطنيَّة لا يُشكُّ في إخلاصها وحرصها على المقاومة. تلته سلسلة من الاجتماعت والندوات في كلٍّ من أوسلو ولندن وبراغ، لتنتهي في اجتماع عقد في العاصمة اللبنانيَّة، بيروت في 22 من حزيران المنصرم، وتمخَّض عن تأسيس ما أطلق عليه: "التجمُّع العراقي للتحرير والبناء"، وضمَّ عناصر تثير مشاركتها في هذا المشروع الاستغراب وأكثر من علامة استفهام!

إنَّ أهميَّة تأسيس التجمُّع أو خطورته تنبع من كونه يوفِّر العنصر البشري المطلوب لتنفيذ فقرات مبادرة خير الدين حسيب، لا سيَّما تلك التي تتعلَّق بالتفاوض مع المحتلِّين، وتشكيل أطر الدولة العراقيَّة بعد الانسحاب الأمريكي المفترض. فبتأسيس التجمُّع، اكتملت الحلقتان الأساسان اللتان سعى لإيجادهما عرَّابو تجمُّع بيروت. وبكلِّ بساطة، تاسيس التجمع يقدِّم الخيار الثالث الذي تبحث عنه الإدارة الأمريكيَّة لاستخدامه في تقليل حدَّة أزمتها، وكلفة احتلالها وانسحابها أو هزيمتهامن العراق.

بالإضافة إلى أنَّ التجمُّع وعرَّابه لعبا دورًا كبيرًا في تخريب العلاقات بين أطراف سياسيَّة متحالفة ضمن إطار جبهوي معلن منذ عام 2005. وساهموا في إرباك العمل الوطني المناهض للاحتلال. إنَّهم يتحمَّلون قسطًا كبيرًا من الفوضى السياسيَّة التي أفرزتها اجتماعات دمشق وإعلان تشكيل المكتب السياسي الخاطئ والناقص. هذا لا يعني بأنَّ أعضاء التجمعَّ ومهندس فكرته يتحمَّلون منفردين تبعات الإخفاقات المتحقِّقة أو تبعات فشل "طبخة دمشق" وتأثيراتها النفسيَّة بل هنالك اطراف اخرى تورطت فيهذا المشروع الخطر على امن المقاومة وديمومتها . وهذا ما سنتناوله في القسم الثالث من هذه المساهمة .

 

 

للاطلاع على الحلقة الاولى الضغط على الرابط التالي :

MK-SaadDawood27-07-07.htm

 

 

شبكة المنصور

الثلاثاء / 31 / تمــوز / 2007