شبكة ذي قار

أرشيفات فبراير 19, 2025

في سبيل البعث الجزء الأول – الرسالة العربية الخالدة

حول الرسالة العربية

الرسالة العربية إيمان قبل كل شيء ولا يعيبها هذا او ينقص من قدرها، فالحقيقة العميقة الراهنة هي ان الايمان يسبق المعرفة الواضحة. وان من الاشياء ما هو بديهي لا يحتاج الى براهين ودراسات، انه يدخل القلب ويمتلك العقل دفعة واحدة. فالرسالة شيء ملازم للأمة، ومن حقها، أن تطمح الى بلوغها كما يحق لكل فرد ان يطمح الى المروءة والبطولة. ولكن في الواقع ثمة فرقا هو ان الحق قد يبقى عند الكثيرين نظريا لا يتحقق في العمل، فمن حق كل فرد ان يطمح الى البطولة -كما قلنا- ولكن كل الناس ليسوا ابطالا، فكل امة من حقها أن تطمح في أن تكون لها رسالة، ولكن الامم ليست كلها على السواء ذات رسالات، او ليست رسالاتها متساوية في درجة النضج وفي مدى التحقيق والشمول.

ان علينا ان نفرق بين معنى الحياة وبين الرسالة فلكل فرد مهما صغر شأنه ومهما قلت مواهبه معنى لحياته، ولكل أمة مهما ضاق نشاطها وقلت مواهبها معنى يستخرج من حياتها، غير ان هذا ليس هو المقصود بالرسالة. فالبطولة عند الافراد ليست مجرد معنى الحياة انها الحد المعين الذي يبلغه تكامل شخصية الفرد ونضجها وأشعاعها حتى تصل الى درجة التأثير والتوجيه واثارة الاعجاب، وهي عند الامة أن تخرج من نطاق النشاط المادي والانانية الضيقة وترتفع الى مستوى التوجيه الانساني والاشعاع على غيرها من الامم.

وشعار البعث العربي لا يرمز الى أشياء مقبلة بعيدة عن الواقع، بل يهدف في الدرجة الاولى الى تلبية حاجات الحاضر وضروراته، وهو يعني ان الامة العربية واحدة، فلا نعترف بهذه التجزئة المصطنعة العارضة. واننا نسعى الى تحقيق هذه الوحدة ليس في الارض فحسب بل ايضا في الروح والاتجاه.

اما الرسالة الخالدة فالقصد منها ان هذه الامة لا تعترف بواقعها السيء وموقفها المنفعل ولا تتنازل عن مرتبتها الأصلية بين الأمم، بل تصر على انها لا تزال هي هي في جوهرها، تلك الامة التي بلغت في أزمان متعددة مختلفة من التاريخ درجة تبليغ رسالنها، فهي اذن بصلتها ببعضها وبماضيها لا تزال واحدة ولا تزال فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها مؤقتا. فهذه الامة التي تستيقظ اليوم وتتحفز للنهوض ليست هي بنت اليوم، بل هي نفسها قبل ألف وقبل ألوف السنين، ميزتها وحدة الاصل والعنصر يوم كانت الوحدة هي الرابط المكينة التي تجمع الأفراد وتطبعهم بطابع واحد وتخلق فيهم نواة واحدة، ثم صقلتها وغذتها وحدة اللغة والروح والتاريخ والثقافة، ولما فقد هذا العنصر مكانه الرئيسي بين العوامل المكونة للأمم فقدت الأمة شيئا من تجانسها الضيق غير انها عوضت عنه بتنوع في المواهب والكفاءات وانطلاق في الفكر وتسام في المعنى الانساني. فهذه الأمة التي افصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة افصاحا متعددا متنوعا في تشريع حمورابي وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة عصر المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف الازمان ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف.

ولكن هل يستتبع تبنينا لماضي الأمة واعتبارنا انه يؤلف وحدة حية مع حاضرها ومستقبلها، اننا نوافق عليه وعلى كل ما جاء فيه؟ وهل حياة الامة مسيرة بقدر خارج عن ارادتنا، وان كل مرحلة هي نتيجة حتمية للمراحل التي سبقتها؟ ام ان على الأمة ان تساهم الى حد بعيد في خلق مصيرها فاذا انحرفت عنه وتلاشت مساهمتها في صنع قدرها، فانما ذلك لمرض طارئ تجب معالجته. فهذا الماضي كان يمكن لبعضه ان يكون خلاف ما كان ولبعضه الآخر ان يكون أقوى وأكمل مما كان! نحن سادة مصيرنا وصانعو قدرنا ندرك ادراكا عميقا ان الأمة الحية هي التي تحيا الآن والتي ينفسح امامها مجال الحياة للمستقبل، وانها الامة التي تخدم ماضيها باستخدامها اياه لا باستسلامها له، والأمة الحية تنمو وتتكامل ويكون ماضيها مهما سما دون حاضرها ويكون مستقبلها أمامها لا وراءها.

وفكرة الرسالة تقود حتما الى تكوين نظرة الى الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، فالاتجاه الشيوعي ينكر كل ماض، بمعنى انه لا يقر بصلاح أي ماضي فهو يدعو الى بناء جديد من أساسه عند مختلف الامم، وهناك اتجاه آخر ينكر الماضي عامة في مظاهره فقط وفي الواقع ينكر الماضي العربي، وهذا الاتجاه هو الاتجاه المعجب بالغرب وحضارته، والذي يدعو الى اهمال الماضي وتناسيه واخذ الحضارة الغربية بكليتها، فهو يعتقد أن فساد الحاضر في المجتمع العربي ليس نتيجة انحراف ومرض أصاب الأمة، بل هو نتيجة منطقية لبذور من الفساد كانت منذ البدء في حياة العرب، او لامكانيات من الخطأ والانحراف تضخمت ونمت مع الزمن حتى وصلت الى هذا الحاضر، وهناك اتجاه ثالث هو اتجاه البعث العربي الذي لا يتعصب لنظرية معينة ولا يقول بالاخذ المصطنع، بل يعتبر حياة الامة كجسم حي كان صحيحا ثم اعتل، ويعتبر ان التقدم يعني معالجة المرض والعودة بالأمة الى الوضع السوي السليم.

هذا الموقف الأخير يعترف بالماضي دون أن يرى فيه الكمال ويعتبره مرحلة لا يمكن أن تسترجع ولكنها تستطيع أن تؤثر، وأن لها في الحاضر صلات ووشائج حية، وهي ان كان تجاوزها واجبا، فليس بترها واستئصالها ممكنا ولا مفيدا. فنحن ننظر الى الماضي لنفيد منه لا لنفيده، لانه بغنى عنا، ولنعين الأسس التي يجب أن نبني عليها مستقبلنا هذا منذ الحاضر، فهذه الأسس يجب أن تكون مطلقة ثابتة فلا خير في أساس يتبدل مع الزمن ويصلح لقسم من المواطنين أو لنوع من التفكير، كما انها يجب أنه تكون أسسا حية، معجونة بدم الواقع منسوجة بنسيج التجارب.

لقد أفصح الدين في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ انسانية فهل معنى ذلك بانه يتعذر على هذه الرسالة ان تكون قومية؟ واذا اعتبرناها قومية فكيف فهمها غير العرب فوسعتهم وطبعتهم بطابعها، وهل الرسالة شيء ينتهي في وقت ما ام انها تتجدد وتتكامل مع الحياة؟ واذا افترضنا ان مضمونها واحد فما معنى خلود الرسالة، هل هو جمودها أي انها تحوي أشياء لا تزيد ولا تنقص أم يعني انها فوق الاشياء وانها نزوع ومهمة؟

هذه كلها أسئلة تطرح بصدد الرسالة العربية، ويمكننا أن نجيب بأن الرسالة يجب ان تفهم على انها نزوع واستعداد اكثر من كونها أهدافا معينة محدودة. ولا بد لنا ونحن في معرض الكلام عن الرسالة العربية في الماضي من ان نرسم صورة موجزة سريعة للفترات الرئيسية الممثلة لحياة الامة العربية والمفصحة عنها حتى الان.

ان الجاهلية متمثلة بالشاعر الجاهلي، فهو لسان حال القبيلة متصل بها قلما ينفصل عنها أو يستقل بالكلام لانه يتكلم اكثر الاحيان بلسان الجمع. فالجاهلية تمثل تجانس المجموع الى حد بعيد وضيق هذا المجموع ايضا، فليس للفرد في الجاهلية مكان، انها طغيان المجموع على الفرد، فالقيم تستمد من هذا المجموع والفرد متقيد بها، والجاهلية تمثل أيضا تجاهلا للقدر كأنه لم يكن بينها وبينه أي صلة او أي تعارف واضح على الاقل. والجاهلي في شعره وتفكيره وسلوكه يعيش في عزلة المكان ووحشة الزمان، لا يتصل بالماضي ولا يتعرف على المستقبل او يتوقع منه شيئا، كما لا يتصل بالعالم المأهول النائي ولا يدرك سر الكون الواسع المحيط به. في حياته نقطة مضيئة واحدة هي سلسلة الحاضر، انها مسرح نشاطه وبطولته ولا يمكننا أن نتصور بطلا جاهليا بدون جمع يشاهدون بطولته ويصفقون له.

ثم يظهر الاسلام فيحدث انقلابا في حياة العرب وفي أنفسهم. فالقيم لم تعد تستمد من المجموع، كما ان الفرد ليس هو الذى يفرضها. انها تصدر من مكان هو فوق المجموع والفرد معا، وفي هذا ضمان لحرية الفرد وانسجامه مع المجموع في آن واحد. أما صدر الاسلام فانه من ناحية اخرى يمثل اتحاد النفس العربية مع القدر بعد ان كانت متجاهلة له، فتصبح ارادة القدر هي ارادتها بعد عزلة المكان ووحشة الزمان، ويصبح العالم كله، لا بل الكون وكل ما هو منظور وغير منظور مسرحا لنشاطه ولتطبيق هذه القيم الجديدة التي ظهرت في الحياة العربية.

والحاضر الذي كان النقطة الوحيدة التي ينمسك بها الجاهلي وينقذ بها نفسه من النسيان والعدم، أصبحت في نظر العربي الجديد المسلم هي النقطة المظلمة وحدها وكل ما عداها مضيئ، لانها هي مكان التجربة والامتحان، والهوة السحيقة التي لا تجتاز الا على جسر من الجهاد والتقوى. لقد تبدل القلق الخارجي في نفس العربي الجديد وحل محله القلق الداخلي، كما تبدلت عزلة المكان ووحشة الزمان بعزلة الفكر ووحشة في النفس والضمير فلم يعد الرجل يطمئن بسهولة الى قيمة أعماله، ويقتنع بموافقة المجموع او القبيلة، بل لم يعد يقتنع بتلك القيم التقليدية، بل لم يعد يقنعه شيء غير رضا ذلك الضمير الصعب الممعن في التشدد.

هذه الفتره التي انتقل فيها العربي من الجاهلية الى الاسلام، من حياة سجينة في قيم المجموع وتقاليده الى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد كانت قصيرة جدا لم يلبث العرب بعدها ان غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغريبة المختلفة. ومنذ ان فقدوا بعد سنوات معدودة شعورهم بوحدتهم القومية وغرقوا في تلك اللجة المتباينة المتماوجة من الشعوب، عادوا الى عصبيتهم الجاهلية والى صراع القبائل وتنافسها، فعندما لا تتوافر الحياة القومية على شكلها الصحيح تعود الأنانية الضيقة والنظرة المحدودة. ولقد تلت هذا عصور الضعف، وتبدأ منذ ان فقد العرب هذا التجانس القومي وخير من يمثل هذه العصور هو المتنبي. قد يرى في هذا مفارقة لان المتنبي شاعر القوة غير انه في الحقيقة رد فعل لعصر الضعف، لذلك فهو يمثله تمثيلا صادقا.

في هذا العصر تنعكس الآية، فالقيم لا تستمد من المجموع لانه تفكك وانهار وقام على أنقاضه أفراد يمثلونه، والفرد يستعد القيمة من نفسه ولا ينشد الا البطولة والقوة للقوة، وهكذا لم تعد القيم فوق الفرد والمجموع معا بل أصبحت قيما فردية يخلقها الفرد لنفسه، بعد ان كانت المساواة في الجاهلية على حساب الحرية، أصبحت الحرية في عصر الضعف على حساب المساواة، فالفرد يرفض التساوي مع غيره لأنه لا بجد مجموعا حيا ينتسب إليه، وهو وحيد لذلك يقول بمبدأ التفاوت ويتخذ لنفسه مثلا أعلى يعلو بنسبة افتراقه مثل الآخرين واختلافه عنهم واحتقاره لهم، وللمتنبي في التعبير عن هذا أقوال كثيرة.

ان غايتنا من هذا العرض هي ان نعبر عن روح العربي، فنرى في أي وسط وضمن أية شروط تطمئن الروح العربية وتأخذ مداها وحريتها وتنطلق على سجيتها.

الجاهلية تمثل وسطا عربيا صرفا غير أنه ضيق محدود، فقد كثرت التقاليد وبولغ بالاستسلام للماضي وللقيم الموروثة حتى تعذر وجود الفرد الذي هو وحده يحيي المجموع ويجدده. فالجاهلية تمثل جسما حيا قويا ولكنه سجين تعوقه العوائق فكان لا بد له من ان يتخطاها ويفلت من القيود. ثم أعقبت ذلك فترة قصيرة تحققت فيها مطالب الروح العربية في الحرية والمساواة وفي انطلاق النفس العربية والفكر العربي الى ما هو أثبت وأوسع من القيم النسبية الواهية، فارتبطت بقيم مطلقة ثابتة شعر العربي بالارتياح إليها والاطمئنان فأعطى كل ما عنده. ولما فقد الكيان القومي عاد الفرد الى الوحشة واليأس.

قد يكون هناك بعض الشبه بين نفسية المتنبي مثلا وبين الجاهليين ولكنه شبه ظاهري خدّاع. ففي الجاهلية ضيق ينبئ عن امل واسع وثورة تتهيأ، في حين ان ثورة الفرد التي يمثلها المتنبي ثورة يائسة الى أبعد حدود اليأس، لأن العلاقة الحية التي لا يمكن للفرد ان يعيش بدونها وهي الارتباط بمجموع حي، قد فقدت في عصر الضعف وطغيان العناصر الأجنبية وتفكك الكيان العربي.

ان غايتنا من عرض هذه الصورة البسيطة لفترات رئيسية من حياة الامة العربية -كما قلنا- ان نستخلص منها ما يفيدنا في حاضرنا فكيف يكون حاضر البعث الجديد؟

انه لا يزال مترددا حائرا فيه ميل الى سيطرة قيم المجموع كما في الجاهلية. فالبعث الجديد مهدد بأن يخنق نفسه ويغل نشاطه اذا تبنى هذا الطغيان للمجموع على الفرد والمجموع لا ينتج غير قيم نسبية، لذلك يكون البعث مهددا بأن يقوم على أسس متقلقلة لا تصمد للزمن ولا تصلح لكل الحالات. ويبدو هذا جليا عندما نرى البعض يقولون مثلا بأن العروبة فوق الجميع، فهم يقصدون بالعروبة ما يقرره المجموع. وفي مثل هذا القول خطر. فنحن نؤمن بأن العروبة فوق الجميع بمعنى انها فوق المصالح والأنانيات والاعتبارات الزائفة الزائلة، و لكن شيئا واحدا نؤمن بأنه فوق العروبة، ألا وهو الحق. فالعروبة يجب ان ترتبط بمبدأ ثابت يكون هو الضامن الوحيد لتجدد ولتكامل ولاستمرار حياتها نحو النمو والاتساع، فيجب أن يكون شعارنا: الحق فوق العروبة الى ان يتحقق اتحاد العروبة بالحق.

ان الرسالة العربية اليوم هي في ان يتطلع العرب الى بعث أمتهم، فهذا خير ما يقدمونه للإنسان لأن القيم الانسانية لا يمكن ان تخصب و تثمر الا في أمة سليمة. فعلى العرب ان يحيوا حاضرهم حتى يستطيعوا ضمان حياة مستقبلهم لان المستقبل لن يأتي ما لم نتوصل الى ان نحيا حاضرنا بآلامه ومآسيه.

ان الرسالة العربية الخالدة هي في فهم هذا الحاضر وتلبية ندائه استجابة لضروراته. والخلود ليس شيئا بعيدا في الأفق او خارج نطاق الزمن. انه ينبعث من أعماق الحاضر، فاذا فهمه العرب بصدق وعاشوه بإخلاص فانهم سيؤدون رسالتهم الخالدة. انهم اذا عرفوا هذه التجربة ومروا بها حتى نهايتها، وتغلبوا على ضعفهم وتقاعسهم ونفسيتهم السطحية الزائفة، لا يكونون قد بتوا أمتهم فحسب وانشأوا كيانا قوميا بل يكونون قد قدموا للإنسانية كلها بنتيجة هذه التجربة أدوات صالحة أيما صلاح ومهيأة أيما تهيئة لحمل أعظم الرسالات وأصدقها.

عام 1946


معنى الرسالة الخالدة

طالما وجه إلي أعضاء الحركة وأصدقاؤها السؤال عما نعني بالرسالة الخالدة. وكنت دوماً أجيب جواباً بسيطاً لهؤلاء الذين يظن أكثرهم أن الرسالة العربية الخالدة هي حضارة وقيم معينة يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر، واعتبرت هذه النظرة بعيدة عن الحياة وعن التجربة، ورأيت أنهم يحسبون الرسالة شيئاً جامداً منفصلاً عن نفوس أبناء الأمة وحياتها وتجاربها. فكنت أجيب دوماً بأن رسالة العرب الخالدة ليست للمستقبل وإنما هي الآن في طور التحقيق. إنها هذا الإقبال من العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية جريئة وهذا القبول بان تكون نهضتهم نتيجة التعب والألم، هذا التحسس بالآفات والمفاسد التي انتابت حياتهم ومجتمعهم، هذه الصراحة في رؤية عيوبهم، هذه الجرأة في الاعتراف بها، وهذا التصميم الرجولي على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية غير معتمدين على قوى أجنبية أو على سحر، هذه التجربة المرة المملوءة بالكوارث… هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة، لأنهم في هذه التجربة سيعرفون من جديد ما معنى العمل والتضحية، ما معنى التفكير السليم المستقل الذي لا يخاف ضغط الغوغاء، ما معنى الخلق الحر الذي لا يستسيغ التقليد. في هذا الحاضر الذي يبدو أسود قاتماً بشعاً فقيراً، تكمن الكنوز الوفيرة، الكنوز الروحية والخلقية والفكرية للنوع السليم من العرب، ففي كل عربي بذور السلامة والصحة.

إن القيم التي نتغنى بها والتي نعرف معرفة سطحية جامدة أن جدودنا الأبطال قد مثلوها، ثم نعجز عن تحقيق جزء بسيط منها في حياتنا، علينا أن نستكشفها من جديد، وهذا هو معنى التقدمية التي تظهر للعقول القاصرة بأنها تنكر التراث القومي والأخلاق القويمة، بينما هي في الحقيقة وصول صحيح إلى القيم الحقيقية الكامنة في النفس العربية والتي لا يمكن أن ترجع إلينا من نفسها دون أن نتعب ونصعد إليها، وأن نشعر بأننا ولدنا بها ولادة جديدة واكتشفناها اكتشافاً جديداً.

أيها الاخوان، في الوقت الذي تكثر فيه موجات التشاؤم والتخاذل، وتتكاثر فيه الكوارث والنكبات، يشعر العرب الصادقون بأن يوم الخلاص قد قرب، لأن الطريق قد فتح لتهتز النفس العربية أخيراً، لتهتز اهتزازاً عميقاً، لتتذكر ذاتها ومهمتها وتنتفض بانطلاق وحيوية وإيمان مستعذبة كل ألم أو تضحية في سبيل تحقيق رسالتها في الوجود. في هذه الأوقات التي تكثر فيها المصائب ويكثر المتشائمون يجب أن يظهر المؤمنون الحقيقيون، ولا يأتي الإيمان الحقيقي إلا بنتيجة التجربة والمعاناة، ونتيجة الامتزاج الفعلي بين الأفراد وبين مصير أمتهم. عندما يتم هذا الامتزاج نستطيع أن نثق بأن العرب يسيرون إلى ظفر محقق في آخر هذه التجربة، وأنهم سيحملون ثماراً روحية وخلقية وفكرية لا تغذي مستقبلهم فحسب وإنما بمقدورها أن تنقذ الإنسانية مما ينتابها من اضطراب في القيم، ومن تشويه فيها لأن هذه التجربة التي يمر العرب بها اليوم لا أعتقد بأن امة غير العرب قد عانتها، فإذا كان ابتلاؤها بهذه المصائب أليماً موجعاً، فعلينا أن ننظر أيضاً إلى حكمة القدر الذي يوصل الأمة العربية للعظمة والمجد حتى في أوقات محنتها وتأخرها، فارتقاؤها يكون عظيماً وقيمتها أيضاً عظيمة، ولا تكون الآلام عميقة إلى هذا الحد إلا لكي نستكشف كنوزاً عجزت عن الوصول إليها أمم غيرنا. وما هذه التجارب التي يفرضها القدر علينا إلا في سبيل أن نخرج من بعد طول القعود والسبات بتجديد وإكمال للرسالة وللقيم وللحضارة العربية التي إنما قدر لها أن تتغذى دوماً بالآلام والأتعاب.

 ( عام 1950 )


الرسالة الخالدة

يحسب البعض أن الرسالة الخالدة شيء جامد وأنها عبارة عن أهداف منفصلة عن الحياة، وينتظرون يوماً من الأيام أن تستطيع الأمة العربية بلوغ المستوى الذي يؤهلها لحمل هذه الرسالة.

إن الرسالة العربية الخالدة بادئة منذ الآن، فهي ليست شيئاً منفصلاً عن العرب في هذه المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض. الرسالة العربية بدأت منذ أن بدأ العرب، وخاصة منذ أن بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي أن حياة الأمة العربية لا يمكن أن تستمر في هذا الطريق المعوج المنحدر، وأنه لابد من حركة إنقاذ، أي لابد من الانقلاب الشامل.

عندما بدأ العرب يواجهون مشكلاتهم بجرأة وصدق وصراحة ووثقوا بأن حل هذه المشكلات سوف يأتي من داخلهم، لا من معجزة أو من دولة خارجية وإنما بتعبهم وثباتهم، عندها بدأت الرسالة الخالدة تتحقق على الأرض العربية.

فنحن لا نفهم من الرسالة أنها الحضارة التي لا نستطيع الآن تحقيقها بل ونكاد لا نحسن فهم حضارة الآخرين. الرسالة شيء أعمق وأصدق من ذلك. انها تجربة حية، تجربة أخلاقية ونفسية تقوم بها أمة عظيمة وتضع في هذه التجربة كل حياتها.

إنها تدخل هذه التجربة بإيمان، وتسعى للتغلب على كل المفاسد بنفسها وقواها الذاتية، دون مواربة أو خداع أو أنصاف حلول أو حلول سطحية.

إن هذا الطريق سيوصل العرب إلى تغذية الروح الإنسانية بكاملها لأنهم يكونوا قد جربوا أعظم تجربة، ولأن آلام العرب لم تمر على أحد من البشر أو أمة من الأمم.

فمن هذه المشاكل القاسية والمعقدة ومن مواجهتها بالصدق والصراحة، ومن الاتكال على قوى الأمة وحدها، من كل هذا سيخرج العرب في النهاية وهم أرفع روحاً، وأعمق حساً وشعوراً، وأوسع وعياً وأكثر واقعية، من أكبر أمة على وجه الأرض.

عندها يستطيعون أن يقدموا للإنسانية ثمرة جديدة هي نتيجة  هذا التوحيد بين النظرة المثالية والواقعية، هي أن يغذوا الروح بقوة العمل، وأن يرفعوها إلى مستواها الرفيع العالي، وهي أن لا تؤمن بمبدأ إلا إذا كانت تستطيع تحقيقه. عندها لا تكون الرسالة حضارة فحسب، وإنما كنز روحي.

( عام 1950 )


نظرتنا إلى الدين 
 

قبل ان نتحدث عن موقف الدولة العربية المقبلة من الدين. وعن مركز الدين في حياة الأمم والشعوب بصورة عامة، وعن مركزه في حياة الامة العربية، أحثكم في هذه المرحلة، مرحلة التحرر والانبعاث، على ان تجعلوا ثقافتكم ثقافة متينة، وان تستزيدوا دوما من الثقافة والفكر وان تتسلحوا بحرية التفكير قبل كل شيء، فبدون حرية التفكير لا يمكن ان تصلوا إلى الحقيقة.. إلى الحل الناجع لكم ولامتكم.

الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ أقدم العصور إلى اليوم، هو شيء أساسي في حياة البشر. فإذن بهذه الكلمة نطرح جانبا ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين الذي يظهر عند بعض الشباب السطحيين. فموضوع الدين هو موضوع جدي ولا يمكن ان نحله بكلمة او بحكم سطحي عابر، ولكن يجب ان نفرق بين الدين في حقيقته ومرماه، وبين الدين كما يتجسد او يظهر في مفاهيم وتقاليد وعادات ومصالح، في ظرف ومكان معينين.

المشكلة إذن هي في الفرق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، لان له حقيقة وله ظاهر، والمشكلة تنشأ عندما يكون الفرق بين حقيقة الدين وبين مظهره فرقا واسعا جدا، يبلغ أحيانا حد التناقض، يكون المظهر أحيانا مخالفا كل المخالفة لمرامي الدين الأصيلة ولحقيقته، وحينئذ تتكون الأزمة عند الشعوب والأفراد. والأزمة تتمثل بأشكال مختلفة عند الناس، حسب مستويات الناس الفكرية وحسب تجردهم عن المصالح، أو عبوديتهم للمصالح الخاصة. فالمسألة معقدة يدخل فيها الفكر والعلم، ويدخل فيها الهوى والعاطفة وتدخل فيها المصلحة والمنفعة، وعلى الشباب العربي اليوم ان ينظر بكل ترو وهدوء، ونزاهة في الحكم وصفاء في الذهن.. ينظر إلى هذه المشكلة، ويعرف ما هو نصيب الهوى فيها وما هو نصيب المصلحة الخاصة. عندها يستطيع ان يصل إلى حكم قريب من الصحة والفائدة العامة.

في حياتنا القومية حادث خطير وهو حادث ظهور الإسلام.. حادث قومي، وإنساني عالمي. ولا أجد ان الشباب العرب يعطون هذا الحادث حقه من الاهتمام. لا أجد أنهم يدرسونه ويحيطون بكل ظروفه وتفاصيله وملابساته، لان فيه عظة بالغة، فيه تجربة هائلة من تجارب الإنسانية يمكن ان تغنيهم وتغني ثقافتهم العملية والسياسية وكل شيء.

هل يفكر الشباب ان الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية، ثائرة على أشياء كانت موجودة: معتقدات وتقاليد.. ومصالح؟.. وبالتالي هل يفكرون بأنه لا يفهم الإسلام حق الفهم الا الثوريون؟. وهذا شيء طبيعي لان حالة الثورة هي حالة واحدة لا تتجزأ، وهي حالة خالدة لا تتبدل، فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة، والآن وبعد ألوف السنين: الثورة واحدة، لها نفس الشروط النفسية، ولها نفس الشروط الموضوعية أيضا إلى حد كبير. فمن الغريب العجيب، وهذا ما يجدر بكم ان تفكروا فيه وتتأملوه، ان المدافعين الظاهرين عن الإسلام الذين يتظاهرون بالغيرة أكثر من غيرهم وبالدفاع عن الإسلام، هم ابعد العناصر عن الثورة في مرحلتنا الحاضرة، لذلك لا يعقل ان يكونوا فهموا الإسلام. ولذلك من الطبيعي جدا ان يكون اقرب الناس إلى الإسلام فهما وتحسسا وتجاوبا هو الجيل الثوري، الجيل الثائر على القديم الفاسد طبعا. وهذا ما لا نراه، أي ان الجيل الثائر ليس كله ولا اكثره معترفا بهذه الصلة بينه وبين الإسلام، في حين ان الذين يدعون هذه الصلة ويتشبثون بها هم أعداء الثورة، هم ممثلو الاوضاع القديمة التي يجب ان تزول لكي تنهض الامة العربية.

إنكم بلا شك تعرفون بعض الأشياء الأولية عن الإسلام، وارجوا ان تكونوا عارفين لكل الأشياء. أول ما تعرفونه عن الإسلام ان هذه الحركة التي نادى بها فرد واحد في البدء، وآمن بدعوته افراد قلائل، واحدا بعد الآخر، وافراد أكثرهم ضعفاء بالنسبة إلى مجتمعهم، وانهم جاهروا بهذه الدعوة وتحملوا الأذى والضغط وتحملوا الشيء الكثير مدة لا تقل عن ثلاث عشرة سنة في مكة حتى الهجرة، وبعد الهجرة ينتقل الإسلام إلى دور من القوة النسبية: إذ لم يعد المسلمون تلك الفئة المحصورة في بحر من الأعداء، بل كونوا لأنفسهم جماعة كلها مؤمنة. فهل يحق لمن لم يعرف الاضطهاد، ولمن لم يرض ان يكون من الفئة القليلة المجاهرة بالحق في وجه الفئة الكبيرة الضالة.. هل يحق له ان يتكلم باسم الإسلام وان يعتبر الإسلام ملكه الخاص؟.. وانه هو المدافع عنه؟.. انا لا اعتقد ذلك، لا اعتقد ان ذاك الحق يمكن ان يعطى فعلا الا للمضطهدين.. الا لذوي المبدأ والشجاعة الذين يجاهرون بعقيدة يؤمنون بها ويرون فيها الخير للمجموع، وان كان اكثرية الناس حولهم وجملة الاوضاع المحيطة بهم هي ضدهم، تؤذيهم، وتضغط عليهم، وتكافحهم. هؤلاء لهم الحق لان المبادئ والدعوات سواء أكانت دينية او اجتماعية او قومية او فكرية.. المبادئ والدعوات معيارها العمل وليس معيارها الكلام، فالكلام لا يكلف شيئا. الكلام سهل سواء أكان شفهيا او مكتوبا، لا يكلف اكثر من الجهد اللازم لكي نتفوه بهذا الكلام او نكتبه على الورق، ولكن قيمة المبادئ هي عندما تمتحن بالعمل. فاذا قبلنا بهذا المقياس تنقشع من على اعيننا غشاوات كثيرة، ونكتشف زيفا كثيرا وتضليلا كثيرا او جهلا وغرورا عند الذين يتوهمون ويدعون بانهم انصار المبادئ ودعاة المبادئ، ولكنهم لم يختاروا الطريق الصعب بل اختاروا السهولة والسير مع التيار الناجح، وان يكونوا مؤيدين ومدعومين بكل ما في المجتمع من وسائل الراحة والحماية، وان لا تهدد راحتهم او مصالحهم او كبرياؤهم بأي أذى.. نكتشف بان هؤلاء ليسوا هم اجدر من يدعي الدفاع عن المبادئ او الانتصار لها.

فلو تخيلنا ان المسلمين الاولين الذين عرفوا النضال من اجل المبدأ، وذاقوا كل مرارته، واجتازوا امتحانه، ودفعوا ضريبته.. هذه الفئة او بعض افرادها لو جاؤوا اليوم وهبطوا على حياتنا العربية الحاضرة.. تصوروهم بنفسيتهم المناضلة الثائرة، بشعورهم الحاد بالحق، وبان الحق شيء مقدس لا يكفي ان نعرفه، بل نعرّفه للآخرين، وان نستميت في سبيله حتى يظفر ويهتدي به الآخرون، وهذه نفسية المؤمن بدعوة حقة. لو جاؤوا اليوم، أيّ وسط يستطيبونه ويهدأون اليه، ويشعرون اليه بالقرابة؟ هل هو وسط الظلم الاجتماعي، وسط الاغنياء والوجهاء والمستثمرين للشعب والذين ينامون ملء جفونهم بينما تسعون بالمئة من شعبنا العربي يعيش حالة البؤس والمرض والذل؟. هل يستطيعون ان يعيشوا مع هذه الطبقة من المستغلين والمتربعين على الزعامات؟.. او مع حماة هذه الطبقة الذين يدافعون عنها تارة باسم الدين وتارة بأي اسم آخر؟. انا اعتقد بان المسلمين الأولين لو رجعوا اليوم لما استطابوا العيش الا في القرى المظلمة البائسة مع المظلومين والمستعبدين، الا في السجون مع المناضلين، فاصحاب دعوة الحق هم دوما الى جانب الحق.

الشباب مطالبون بان ينظروا هذه النظرة النظيفة، بان لا دين مع الفساد والظلم والاستثمار، وان الدين الحقيقي هو دوما مع المظلومين ومع الثائرين على الفساد. وهذا يعني ان كثيرين شوهوا الدين في بلادنا وفي ارضنا كما شوهه كثيرون في غير بلاد وغير أراض. فالدين المسيحي في اوروبا، حتى اليوم، باكثرية ممثليه الرسميين هو الى جانب الفساد والظلم بحميهما ويعطيهما مبررات البقاء، لذلك فقد نفوذه وطغت موجة الإلحاد في الغرب ليس عبثا بل لهذا الناقض، لان الدين بممثليه وقع في التناقض: لان الدين وجد ليشجع المحبة والإخاء، ليحمي الضعيف، ولكن اصبح بممثليه سياجا لكل هذه المساوئ.

فالازمة اذن ليست بسيطة.. هي ازمة انسانية، أي انها تمس أعماق الضمير الإنساني في الأفراد، ولكن قد يفهمها عدد قليل من الافراد على حقيقتها، بينما اكثر الناس يفهمونها فهما سطحيا. والفهم السطحي هو ان نستنتج بسرعة، بانه ما دام مظهر الدين في هذا الوقت وما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صف الواقع الفاسد وليسوا في صف الثورة على الفساد فإذن الدين من أساسه فاسد ولا وجوب له ولا خير فيه، لذلك يجب التخلص من الدين لانه سلاح بيد الظالمين والمفسدين. هذه هي النظرة السطحية والاستنتاج الخاطئ جدا، وهذه هي النظرة التى توقفت عندها الشيوعية. ولذلك فالشيوعية ليست عميقة في كل نواحيها ولو انها في كثير من نواحيها جد عميقة – ولكنها بقت سلبية في كثير من المواقف: لاحظت الماركسية وملاحظتها حقة، بان الدين اصبح في اوروبا سلاحا بيد الظالمين المستثمرين المستعمرين لابقاء الشعب رازحا تحت الاستثمار والاستعباد، وهذا حق هذه الملاحظة صحيحة ومن صميم الواقع فقالت: الدين أفيون الشعوب.. هو المخدر.. السم الذي يمنع الشعب من الثورة، ولذلك اعلنت الإلحاد كعقيدة.. إلحاد بكل شيء خارج عن المحسوس. هذه نظرة عاطفية، فيها الهوى والحقد، وعصارة الالم من الظلم وأوضاعه: بما ان الدين واجبه الحقيقي، ومرماه الاصلي الحقيقي هو اشاعة العدل ورفع الظلم، وبما ان الدين اصبح اداة للظلم، اذن يجب ان يتحرر منه البشر.

هذه النظرة السطحية السلبية نحن لم نتوقف عندها ولم ننخدع بها، بل تجاوزناها منذ بدء حركتنا، ومنذ وضعنا التعابير الاولى البسيطة عن حركتنا. ليس فيها هذه السلبية، بل مشينا الى آخر الطريق، ووجدنا بعد اليأس الأمل والتفاؤل بالانسان، ووجدنا بعد النقمة والحقد.. وجدنا ينبوع المحبة والإخاء. لم نحكم حكما نهائيا على وضع عارض ومؤقت ومشوه، وبالتالي كانت فكرتنا فكرة روحية. الا انه يجب ان نفرق بين تفكيرنا نحن وبين تفكير آخرين اذ بينهما من الفرق ما بين الابيض والاسود. فنحن عرفنا واختبرنا صحة الحملة السلبية على مظهر الدين في هذا العصر، الحملة السلبية الي ذكرناها الآن عرفناها واختبرنا صحتها، ووافقنا على انها مشروعة في حملتها على مظهر الدين، ولكننا تجاوزناها وقلنا: ليس قدرا على الدين ان يبقى متحجرا دوما. الدين قادر على ان يعود الى حقيقته اذا وجد افرادا مؤمنين متجردين يعيدون الى الدين صفاءه الاول. الدين شيء اساسي وسيرجع الى جوهره متغلبا على النقمة.

هناك فرق بين هذه النظرة التى هي نظرتنا، وبين الذين يوافقون على مظاهر الدين دون ان تنشأ في نفوسهم هذه المعركة التي عانيناها، ودون ان ينظروا الى تشويه مظاهر الدين، ودون ان يثوروا وينقموا، ويتغلبوا على هذه النقمة تغلبا ايجابيا. قلنا ان الدين شيء أساسي وسيرجع الى جوهره متغلبا على النقمة. وحاربنا هذه المظاهر الفاسدة، لكي يعود الدين الى صفائه. اما الذين لا يشعرون بان ثمة معركة يجب ان يخوضوها، ولم يتجاوبوا مع هذه النقمة المشروعة التي تنشأ في قلوب المظلومين والذين رأوا في الدين في هذا العصر سلاحا يستند عليه الظالمون.. ان الذين لم يشعروا بهذه النقمة ولم يتجاوبوا معها، ولم يصلوا الى اعماقها لكي يتغلبوا عليها بحل ايجابي متفائل مؤمن بان بعث الدين يكون بازالة هذه المفاسد والمظالم، وان ألف حجة في الدفاع عن الدين لا تغني ولا تساوي حجة عملية واحدة تزيل شيئا من مظالم الحياة، فهم أعداء الدين، لن ينفع الوعظ والترديد بان الدين خير وبركة، وبان فيه الكمال كل الكمال.. ان هذا لا يغني شيئا، وهو يستغل سواء أراد الذين يتكلمون ذلك او لم يريدوا، فان مستغلي الأوضاع الفاسدة سيستغلون هذا الفساد لكي يخدروا الشعب، ولكي يمنعوا الشعب من الثورة على ظالميه ومستعبديه.

هناك نظرة سطحية جدا الى مظاهر الإلحاد في حياة  هذا العصر سواء في الشرق او الغرب، نظرة استنكار واشمئزاز من كل مظهر إلحادي بانه هذا هو الشر العميم دون ان نبحث عن اسباب هذا الإلحاد وهذه المظاهر الالحادية، ولكن متى عرفنا بان الاوضاع الجائرة هي اهم سبب في هذه المظاهر، وان ما جاء في الحديث كما يذكر: (كاد الفقر يكون كفرا) معناه ان الاوضاع الجائرة تخرج الانسان عن دينه، فاذن كيف يسمح بعض الناس لأنفسهم ان يحكموا براحة وبساطة، وبدون ان يتعبوا انفسهم في البحث والتفتيش عن الاسباب، ان يكفّروا فلانا ويرموا آخر بالزندقة، ويثوروا على الالحاد وغير ذلك؟… وهم لم يتنازلوا أن يروا ما هي الاسباب التي تؤدي الى المظاهر الالحادية ولم يتنازلوا ان يتعبوا عقولهم.. لماذا اليوم توجد مظاهر إلحادية وفي الماضي لم تكن موجودة..؟ في الماضي كانت اوضاع سليمة او شبه سليمة لم تكن تستوجب هذه الثورة وهذه النقمة.

ونحن لا نرضى عن الالحاد، ولا نشجع الالحاد، ونعتبره موقفا زائفا في الحياة، موقفا باطلا وضارا وكاذبا. اذ ان الحياة معناها الايمان، والملحد كاذب: انه يقول شيئا ويعتقد شيئا آخر.. انه مؤمن بشيء… مؤمن ببعض القيم. ولكننا ننظر للالحاد كظاهرة مرضية يجب ان تعرف أسبابها لتداوى، ولا ننظر اليه كشر يجب ان يعاقب لان ذلك لا يخفف الالحاد بل يزيده، فعندما نبحث عن الاسباب، نستطيع ان نزيل الالحاد. 

قلت بان الإلحاد موقف كاذب وهذا يعني ان الملحد انسان متناقض يدعي شيئا ويعمل خلافه. فالثورة على الدين في اوروبا هي دين، هي ايمان بمثل وبقيم انسانية رفيعة، وهي اقرب الى الدين في حقيقته الاصيلة. وهذه الثورة حملت بذور الخلق والإصلاح، لأنها هزت المجتمع والأفراد هزا عنيفا، وأرجعتهم الى نفوسهم، وبينت لهم التضليل الذي كان ينطلي عليهم. وحررتهم، حررت إنسانيتهم. حررت شخصيتهم. ولكن هذا موقف ناقص. حينما طلبت منهم ان يرفضوا الدين نبهتهم إلى نصف المشكلة فقط. الدين في الأوضاع الحاضرة هو الذي يخلق المشكلة، هو الذي يساعد على بؤسهم وعبوديتهم، ولكن عندما تستيقظ الشعوب وتسترد حقوقها وكرامتها لا يمكن ان تقنع بالإلحاد، وعندها تخطو الخطوة الجديدة وتكمل النقص بالخطوة الايجابية، وتعود الى دين واضح سليم منطبق تمام الانطباق على مراميه الاولى.

آذار 1956
———–

قضية الدين في البعث العربي

ان أول ما أريد ان أنبه اليه هو ان ثقافة الاعضاء والشباب القومي بصورة عامة لا يجوز ان تبقى ثقافة منفعلة(1)، كأن ينظر الى قضية الأمة العربية على أنها تحتوي مشاكل نظرية وعناوين لمشاكل يمكن ان تحل بجواب يعطى من شخص او من صحيفة أو مجلة كتلك الاسئلة التي توجه عادة الى المجلات والاذاعات، فذلك لا يكون ثقافة… وهذا هو النوع الرائج في وسطنا، ويكتفي به عامة الناس والذين لا يعتبرون القضية قضية جدية تتعلق بمصيرهم بل تتحول في الواقع بالنسبة اليهم الى كلام وتسلية بالكلام والنقاش لتمضية الوقت والاكتفاء بمفاهيم رائجة سطحية جدا وخاطئة من أساسها، والدوران في نطاق هذه المفاهيم العامية السطحية واحتدام الجدل بين وجهات نظر وآراء ليست هي في الواقع لا وجهات نظر ولا آراء. إن الذي يهمنا نحن بالدرجة الأولى هو تكوين الجيل العربي الجديد الذي تلقى عليه مهمة الإنقلاب العربي وإيصال القضية القومية الى الظفر والنجاح، يهمنا أن يكوّن هذا الجيل لنفسه ثقافة حقيقية متميزة تميزاً واضحاً عن العامية المسيطرة على مجتمعنا.

وباختصار: كيف يجب أن نفهم الثقافة؟ هي أولاً مشاركة في الجهد وليست انفعالا وتكيفاً، أي أن الذين عليهم أن يتثقفوا يتوجب عليهم ان يتعبوا وأن يتقاسموا الجهد مع مثقفيهم وان يمشوا بأنفسهم خطوات جديدة في طريق المعرفة والتثقف اذ لا يجدي قضيتنا شيئاً ان نجمع شباباً لا يعملون أكثر من حفظ بعض الشعارات والكليشهات والاجوبة العامة الموجزة التي يمكن أن تفهم على أي شكل أي ان لا تفهم مطلقا. على الشعب العربي ان يفهم ان الثقافة هي نوع من أنوع النضال، النضال مع النفس، النضال مع الفكر لكي يتعب في تحصيل المعرفة ولكي يجرؤ على تبديل الأسس السطحية في التفكير الشائع التي هي في داخله لكونه ابن وسطه، لكي يعيد النظر في كل الامور الأساسية حتى يصل الى النظرة الجديدة، النظرة الإنقلابية التي أوجدها الحزب في المجتمع العربي الجديد، والتي لا يعني وجودها بأن جميع المنضوين تحت لواء الحزب او المناصرين لاتجاهه قد فهموها وحققوها في أنفسهم وعاشوها بعمق. فكل شيء  يمكن ان يستعار وان يقلد الا الفكر: على كل شخص، على كل فرد ان يملكه شخصيا، اي ان يمشي هذا الطريق من أوله بنفسه وبجهده الخاص حتى يصح أن يعتبر هذا الشخص انقلابيا وان تكون نظرته أصيلة نابعة من نفسه لا مجرد تقليد واستعارة.

من المهم جدا أن نعود دوما الى أنفسنا بالنقد الذاتي حذرا وحيطة لكي نهدم بعد كل خطوة نخطوها ما يعلق بنا من اصطناع وتزييف وتقليد اذ ليس أسهل من أن يستسلم الإنسان للتقليد والتزييف لأن فيهما الراحة والكسل. فالحركة الصادقة الحية هي التي تبقى في صراع مستمر مع نفسها كما هي في صراع مستمر مع أعدائها ومع الاوضاع والقيم الفاسدة التي عليها ان تحطمها. لذلك رأيت من الواجب ان ابدأ جوابي على الاسئلة بهذا التنبيه لكي تحتاطوا كثيرا لأنفسكم وترفضوا رفضا باتا وجازما أن تكون فكرتكم وان يكون إيمانكم بالحركة شيئاً غير نابع من نفس كل منكم وشيئاً سهلا يحفظ بالذهن ويلوكه اللسان ولكنه عديم الصلة بالحياة.

1- السؤال الأول: عن موقف الحزب عندما يصل الى الحكم ويحقق أهدافه او يبدأ في تحقيق الانقلاب العربي، وكيف يكون موقفه من الدين بصورة عامة؟

للاجابة على هذا السؤ ال لا بد من ملاحظة أولى وهي ان لا فرق في نظرة حزبنا بين المرحلة التي تسبق وصوله الى الحكم بالشكل الكامل وبين المرحلة الثانية والاخيرة التي هي مرحلة التحقيق الإيجابي، تحقيق الإنقلاب العربي الشامل. فعمل الحزب اذن واحد في المرحلتين ومنطقه واحد ونضاله أيضا واحد. كثيرا ما رددنا خلال نضال الحزب هذه الفكرة بأن حزبنا سيعد أو هو مكلف بأن يعد الانقلاب العربي منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه بإعداده أدوات الإنقلاب التي هي نفوس الشباب، اذ لا يمكن التفريق بين الإنقلاب وأدواته. فكما تكون الأدوات يكون الإنقلاب، وقد يكون التعبير غير دقيق، اي ان أعضاء الحزب المناضلين الذين نسميهم أدوات الإنقلاب يطلب من الحزب أن يربيهم في تفكيرهم وفي سلوكهم التربية الإنقلابية الصحيحة حتى يستطيعوا أن يحققوا الانقلاب عندما تتوافر جميع الشروط لهم. للانقلاب شروط على نوعين: شروط ذاتية وشروط موضوعية – شروط ذاتية يجب أن تتحقق في نفوس الإنقلابيين، في نفوس أعضاء الحزب وأنصاره، وشروط موضوعية تتعلق بالظروف الخارجية والظروف الداخلية ونمو المجتمع والثروة وشتى النواحي. فلو أهملنا الشروط الذاتية وتوفرت الشروط الموضوعية فلن يكون ثمة انقلاب لأنه لن يكون ثمة من يؤمن بهذا الانقلاب، ومن يعي أهدافه ومن يتصف بأخلاقه وبالإخلاص له حتى يحققه. لذلك أستطيع أن أعود الى المقدمة عن الثقافة وأقول بأن من أهم عناصر الثقافة التي يجب ان تطلبوها انتم هو النضال نفسه، هو العمل والمشاركة في حمل المسؤوليات والإتصال الحي بالواقع ومواجهة مشاكله وصعوباته والاهتداء بالوعي والإرادة الى ايجاد الحلول المناسبة لها بشكل يقوي التيار الإنقلابي ويوصل الإنقلاب الى أهدافه. هذا عنصر أساسي من عناصر الثقافة الجديدة التي نطلبها للجيل الجديد اذ ان كل ثقافة تنحصر في الذهن والتفكير فقط دون مشاركة فعلية وعملية، ليست ثقافة ناقصة فحسب، بل هي ثقافة مختلة ومنحرفة من أساسها لأن عنصر العمل مفقود فيها.

المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشاكل في المجتمع العربي الحديث، لذلك لا يعقل أن يتجاهلها حزبنا وان يتهرب من إيجاد الحلول لها. لهذه المشكلة تعبيرات مختلفة، تعبير فكري يتصل بصميم عقيدتنا الإنقلابية وتعبير أخلاقي عملي يتناول تصرفاتنا وردودنا على المشاكل الواقعية التي نواجهها. مهمة الحزب هي أن يضع للعرب في هذه المرحلة الخطيرة صورة كاملة لمشاكل حياتهم والحل لهذه المشاكل، واجبه ان يضع لهم صورة كاملة للحياة الإنسانية. فهل الدين شيء ثانوي مصطنع في حياة الإنسان والامم؟ هل هو شيء عارض ولو أنه دخل حياتهم منذ ألوف السنين؟ وإذا نظرنا اليه على أنه شيء غير أصيل، غير أساسي ولا يلبي حاجة صادقة وعميقة في النفس فهل يمكن أن ينتهي ويزول مع ما وراءه من تاريخ حافل طويل منذ آلاف السنين؟

إن الحزب لا يرى هذا بل يرى أن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وانه يمكن ان يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم او يتأخر ولكنه لا يمكن أن يزول.

اذن فالدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه لم نرض له ان يتكون تكوينا ناقصاً أو زائفاً، وأن نكتم عنه جانباً من الحقيقة أو نصف الحقيقة فنعطيه فكرة تخدمه وقتاً من الزمن ثم لا تعود صالحة، عندها نصل الى الشيوعية وفلسفتها، فنحن منذ بدء حركتنا نظرنا الى الشيوعية كشيء خطير وجدي وجدير بأن يعتبر، وبالرغم من كل النواحي الإيجابية الخطيرة التي أتت بها فلسفة ماركس فقد اعتبرناها ناقصة لأنها لم تعبر عن كامل الحقيقة بل أخفت بعض نواحيها، وقد يكون قصدها من وراء ذلك تقوية العمل وتركيز العزم على مجال محدود من الأهداف القريبة لكي يكون مردود العمل أكبر ونزوعه أقوى وأفعل، تاركة للزمن فيما بعد ان يصلح ما أهملته وان يكملها..

فالماركسية تقوم على أساس نفي وانكار كل معتقد يتجاوز الطبيعة والمادة والأشياء المحسوسة كما هو معروف، وليس هذا في الماركسية نتيجة عجز عن الفهم، كلا بل له دافع عملي وهو: ما دام الدين قد استخدم خلال التاريخ، وبصورة خاصة خلال التاريخ الحديث حيث تفاقمت الفروق الطبقية والإستغلال الطبقي، ما دام قد استخدم لإبقاء الاستغلال واستمراره ودعمه واستخدم لمنع التحرر البشري وكان في صف التأخر والعبودية والظلم، لذلك رأت الماركسية ان تنسفه نسفا. فالدافع اذن دافع عملي وليس عجزا عن فهم أهمية الدين وحقيقته. ولكننا نحن لا نقر هذا الدافع على ما فيه من واقعية، اذ أنه ينبىء عن ضعف ثقة بالإنسان بأنه لا يتحمل هضم الحقيقة الكاملة. فنحن مع تبنينا للنظرة السلبية الى الدين، اي رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعما للظلم والتأخر والعبودية، نثق رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين، وعلى هذا النوع من التدين الكاذب والمشوه وأن يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي الصادق حقه.

ونحن لا نجهل بأن نظرتنا هذه تتطلب هن الجهد والحذر أضعاف ما تتطلبه النظرة الشيوعية التي تخلصت من المشكلة بأن رفضتها تماماً وألقتها جانبا. أما نحن فالمشكلة بالنسبة لنا أعقد بكثير لأننا كما قلنا في مرحلة الإنقلاب، الإنقلاب العميق الجذور في كل الأمور الأساسية التي ترتكز عليها حياة العرب والتي يؤلف الدين جزءاً منها. فلو اكتفينا مثلا بالنظرة السطحية وقلنا ان الدين رغم كل انحرافاته وتردياته والاشكال التي يستغل بها ضد مصلحة الشعب وضد التقدم وحرية الإنسان، هو بهذه الصورة المشوهة وضمن هذا الاطار الرجعي، شيء صادق وأساسي لا يستغنى عنه وانه متأصل بأعماق الإنسان، لذلك فنحن نوافق عليه بهذه الصورة ونتبناه! لو مررنا على الدين هذا المرور السريع لأدّى الأمر بنا الى أن نلتقي مع الرجعية وان نقبل كل أمراضنا الإجتماعية والفكرية والأخلاقية وأن نكون قد بقينا في أرضنا لم نغير في حياة العرب، وهذا تزوير كبير للحقيقة، وقتل بل خنق للإنقلاب قبل ان يولد.

فكرتنا إيجابية تنتهي دوماً الى تقرير الحقائق الإيجابية، ولكن يجب أن لا ننسى بأن بين وضعنا الآن وبين هذه الحقائق الإيجابية التي يجب أن نصل اليها عندما يتحقق الإنقلاب العربي، مسافات شاسعة يجب أن يبقى فيها التوتر شديداً بين وضعنا السلبي المريض الذي نعيشه وبين المرامي الأخيرة لفكرتنا، وان تكون لدينا الشجاعة الكافية واليقظة التامة لكي نتبين كل مفاسد أوضاعنا ونحاربها محاربة لا هوادة فيها، وان نشق من خلال هذه المعركة السلبية التي نحارب فيها المفاهيم البالية المشوهة، طريق القيمة الإيجابية التي سنصل اليها آخر الامر. كثيراً ما قيل لنا، خلال السنوات التي مر بها الحزب في نضاله، من جماعات رجعية، متأخرة في عقليتها، استغلالية في سلوكها تمثل المصالح والعقلية والأوضاع التي يتوجب علينا القضاء عليها، كثيراً ما قيل لنا: ما دامت نظرتكم إيجابية وما دمتم تعرفون قيمة الدين فما الفرق بيننا وبينكم؟

الفرق كبير جدا، هو الفرق بين النقيضين. نحن نعتبر أن الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الإجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن مصالح واحدة، وانها أكبر خطر يهدد الدين. ان هذه الرجعية التي تحمل لواء الدين في يومنا هذا وتتاجر به وتستغله وتحارب كل تحرر باسمه وتدخله في كل صغيرة وكبيرة لكي تعيق الإنطلاقة الجديدة، هي أكبر خطرعلى الدين، وهي التي تهدم مجتمعنا وتشوهه، فلولم نكن نحن ولو لم  تكن حركتنا موجودة لتهدد المجتمع العربي بأن يشوهه الإلحاد، اذ أننا بمقاومتنا الرجعية الدينية بدون اعتدال وبدون مسايرة وبمواقفنا الجريئة المؤمنة منها، ننقذ مجتمعنا العربي من تشويه الإلحاد.

ولكن هذا شيء والسلوك والتصرف شيء آخر، او بالأصح يجب علينا أن نعرف كيف نترجم فكرتنا ترجمة عملية وكيف يجب أن يكون تصرفنا العملي مؤدياً الى الغاية المطلوبة: ان جمهور شعبنا ما زال متأخراً وما زال خاضعاً لمؤثرات رجال الدين من شتى المذاهب والطوائف. فلو اننا ذهبنا الى جمهور الشعب، وليس لنا غنى عنه اذ بدونه لا نستطيع أن نحقق أي تبديل أساسي في الحياة العربية، لو ذهبنا اليه بأفكار فجة وبأساليب غير محكمة وتصرفنا تصرفات هي أقرب الى ردود الفعل والنزق والمرض النفسي منها الى الإيمان بحركة منقذة، فأخذنا نطعن بالدين ونتبجح بالكفر ونتحدى شعور الشعب في ما يعتبره هو مقدسا وثمينا، نكون بدون فائدة وبدون أي مقابل أغلقنا أبواب الشعب في وجه الدعوة وأوجدنا ستارا كثيفا بيننا وبينه حتى لا يعود قابلا او مستعدا لأن يسمع منا شيئا أو أن يسايرنا في نضالنا ودعوتنا.

فالمناضل البعثي يجب أن تتوافر فيه شروط صعبة جدا وتكاد تكون متناقضة، فهو حرب على كل تدجيل باسم الدين والتستر وراءه لمنع التطور والتحرر والإبقاء على الأوضاع الفاسدة والتأخر الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يعرف حقيقة الدين وحقيقة النفس الإنسانية التي هي ايجابية قائمة على الايمان لا تطيق الانكار والجحود، وان جمهور الشعب ليس هو العدو بل هو الصديق الذي يجب أن نكسب ثقته. صحيح انه مضلل مخدوع ولكننا نحن لا نستطيع أن نكشف له انخداعه إلا إذا فهمناه وتجاوبنا معه وشاركناه في حياته وعواطفه ومفاهيمه، فنحن في كل خطوة نخطوها نحوه نستطيع ان نطمع بخطوة من جانبه يأتي بها إلينا، لذلك يكون المناضل البعثي مهددا دوما بالخطر: فهو ان سلك هذا السلوك مهدد بأن يتزمت وان ترجع اليه عقليته الرجعية التي ثار عليها، وهو ان سلك سلوكا آخر معاكسا، إن شهر السيف على المعتقدات الخاطئة مهدد بأن يصبح سلبيا وان يخون ما في فكرة البعث من ايجابية فيلتقي بهذا مع السلبية الشيوعية التي رفضناها او ان يلتقي مع أي شكل من أشكال التحرر الزائف المقتصر على التظاهر والتبجح. إذن على المناضل البعثي، عندما يحارب الرجعية ويصمد أمام هجماتها وافتراءاتها وتهيجاتها وإثاراتها، ان يتذكر دوما انه مؤمن بالقيم الايجابية والقيم الروحية وانه انما يحارب تزييف القيم من قبل الرجعية ولا يحارب القيم نفسها. وانه عندما يساير جمهور الشعب ويتصرف تصرفا حكيماً معه دون أن يجرح عواطفه لكي ينقله تدريجيا الى مستوى الوعي اللازم، عليه أن يتذكر انه رجل ثائر متحرر لا يقبل لنفسه ولا لأمته مستوى رجعيا رخيصا من الإعتقاد ولا صورة مشوهة للعقيدة الروحية، وان مسايرته للشعب ليست الا وسيلة مؤقتة لكي يهيئه لأن يفهم الامور الصعبة. ان ثقة البعثي بالإنسان عامة وبالإنسان العربي خاصة يجب أن تغريه دوما بالمزيد من الجرأة في مكافحة المعتقدات الخاطئة الجامدة، وان لا يحسب ان الأمة العربية لا تتحمل هذه الكمية من الثورة والتحرر فهي خصبة عميقة، وهي مختزنة لتجارب مئات السنين من الآلام، مئات السنين من التأخر والظلم، لذلك فهي مهيأة كل التهيؤ لان تتفجر وان تبلغ مستوى روحيا فيه كل الجرأة.

نيسان 1956  

( 1 ) حديث ألقي  على الاعضاء والانصار في طرابلس.

في سبيل البعث الجزء الأول – البعث العربي والانقلاب

الزمن والحركة الإنقلابية

الحركة الإنقلابية بتعريفها تعني عدم ترك الزمن يسيطر على مقدرات الأمور. فالإنقلاب معناه أن حالة الأمة بلغت حداً من السوء، أصبح معه تركها للظروف والتطور أمراً يعرضها للهلاك، وأنه لا بد من ظهور الحركة التي تقوم بتبديل الأوضاع قبل ان يفوت الوقت. فهي إذن الحركة التي تعجل سير الزمن.

والحركة الإنقلابية هي نقيض الحركة الاصلاحية، فأكثر السياسيين في بلادنا يقولون بالإصلاح التدريجي، ويرفضون كل تبديل عميق، لأن في التبديل العميق معنى العنف، فالتبديل العميق في الحياة الإقتصادية عندنا يعني مثلا انتزاع الأراضي من يد الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين، وهذه الفكرة هي مرفوضة من قبل هؤلاء التطوريين، لانهم هم  أصحاب المصالح الذين يحرصون على بقاء مصالحهم، وهم يدعون أن مثل هذا التبدل العميق الحاسم في أوضاعنا الإقتصادية لا يتم بدون ثورات واضطرابات وأخطار لذلك هم يفضلون التطور البطيء.

ففكرة السرعة هي من صميم الحركة الإنقلابية. وهذا يفترض أن تكون هناك حركة تستطيع السيطرة على الزمن وتعجيله، ووجود هذه الحركة يتطلب بحد ذاته بعض الزمن. فإذا قيل لنا بأن الوقت الذي نقضيه في تكوين حركتنا هو إضاعة للوقت وأنه يوصلنا الى يوم نرى فيه الأخطار تداهمنا ولا نستطيع دفعها، عندها نجيب بأننا جربنا كل الاستعدادات التي تستطيع التكتلات والمنظمات الحاضرة التي هي ليست إنقلابية أن تعطيها، فلم تتمكن من دفع الأخطار وحفظ سلامة البلاد. ولمسنا لمس اليد بالتجربة المرة المتكررة أن هذه الإستعدادات كانت واهية جداً وخادعة لأنها لم تقم على أساس الوعي والمسؤولية والجدية والإيمان والتجرد عن المصالح الخاصة، فكانت علاجات مخدرة لا أكثر، وكانت هي التي تأتي بالنكبات والخيانات. وعلى هذا أصبح وجود الحركة الصحيحة امراً وضرورة لا مفر منها ولو اقتضى الأمر أن ننتظر طويلا. فقد علمتنا الحوادث والتجارب أن الإرتجال لا يوصل الى النتائج المحمودة، وان بناء القضية العامة على أساس المصالح الشخصية لا يستطيع أن يحفظ هذه القضية، ويضمن لها النجاح، ولا بد من ان نسلك الطريق الطبيعي الذي سلكته جميع الأمم التي استطاعت أن تحيا حياة راقية متقدمة، وذلك ان تبنى القضية القومية على العقيدة الواعية التي تصهر الأفراد وتخلق منهم نواة صادقة لخدمة القضية العامة، وتخلق فيهم الفكر النير الذي يعرف كيف يسير ويتصرف، وكيف يشعر بجدية واجباته.

والشروط اللازمة للحركة الانقلابية تقوم على الوعي أولاً، وعلى الشعور بالمسؤولية ثانياً،  وعلى الإيمان اخيراً. ولابد أن تتحقق هذه الشروط لكي تخلق الحركة الصحيحة، وكل عمل يستهتر  بهذه الشروط أو ببعضها بحجة الإسراع، هو عمل متناقض وزائف، إذ ما الفائدة من السرعة إذا أوصلتنا الى النتائج القديمة نفسها ألا وهي عدم القدرة على مجابهة الأخطار… فالزمن الذي يصرف في تهيئة الشروط الأساسية ليس هو بالزمن الضائع، وان ما يحسبونه عقبة في الطريق ليس الا الطريق نفسه.

غير أن تحقيق هذه الشروط يجب أن لا يتطلب زمناً طويلاً، لأن كل العناصر موجودة متوافرة لإنماء هذه الإمكانيات في الجيل الجديد، فهو ليس جيلاً تائهاً في الصحراء، وانما هو ابن الوسط الذي يعيش فيه والأمة التي ينتسب اليها. ففي كل عربي تكمن بذور الوعي والخلق والمسؤولية والإيمان، وكل المحاولات التي قمنا بها كانت بمثابة تجارب، ولم يبق علينا إلا أن نخطو الخطوة الأخيرة ونستفيد من الماضي. فعندما نقول بأننا نريد ان نخلق جيلا جديدا لا نقصد باننا سنعلمه كل شيء بل نعني تنظيم ثقافته وتوجيهه توجيها صحيحا. فنحن لن نخلق فيه الأخلاق بل سننميها ونقويها، ولن نخلق فيه الإيمان لأنه مؤمن الإيمان الرائج البسيط، بل نسعى الى ان نقوي فيه هذا الإيمان ونجعله أعمق من الفورات الآنية. فعمل الحركة الإنقلابية ليس هو بالعمل التطوري البطيء، ويجب أن يزول الوهم القائم في أذهان البعض عن البعث العربي بأنه حركة بطيئة تشبه مدرسة.

إن زمن الحركة الانقلابية يرجع آخر الأمر الى نشاطها والى صدقها وجديتها، فإذا كانت مقدرة لمسؤوليتها فإنها لن تضيع أية لحظة، فعملها في السطح أو العمق يتطلب تحقيقاً مادياً مستمراً، وتثبيتا للمبادئ في النفوس وترسيخا لها. أما إذا ضعفت في الحركة صفتها الجدية فانها تصبح عندئذ بطيئة، فتحسب أن مجرد البطء يساعد على ترسيخ الافكار والمبادئ في نفوس الاعضاء. فالإكتفاء بالإنتساب الى الحزب والإيمان السطحي بمبادئه، لا يعني ان هؤلاء الأفراد قد أنقذوا أنفسهم من هذا الواقع الفاسد وأصبحوا في عداد الفئة الواعية المؤمنة، دون أن تترتب عليهم أية واجبات ودون أن يبذلوا جهداً في هذا الإنتساب. فإذا لم يتسغل الزمن لإنماء كفاءات الحزبيين أصبح مضيعة للجهد وقتلاً للكفاءات نفسها. فالحركة الانقلاية هي وحدها الحركة السريعة.

30 نيسان 1950

 


 

الصلة بين العروبة والحركة الإنقلابية

صلتنا بالماضي : هناك نفر يكاد يفهم من البعث العربي الذي هو حركة إنقلابية متجهة بقوة وعنف نحو المستقبل، انها حركة فاقدة الصلة بالماضي، وانها تعتبر أن كل التفاتة إليه تضيع جهداً يجب ان يبذل في بناء المستقبل… إن في هذا تشويهاً لفكرة البعث العربي التي تميز بين الماضي كروح والماضي كشكل.

كان يوجه للبعث العربي منذ نشوئه تهمة الرجعية، فقد فهم الكثيرون من البعث أنه إرجاع للماضي. فهموا من تعلقنا بماضينا وشخصيتنا أننا رجعيون ومحافظون، ثم انقلبت التهمة الى نقيضها.

أهمية التراث القومي: ان التشبع بالتراث القومي لا يعني مطلقاً العبودية للماضي والتقاليد، ولا يعني فتور روح الإبتكار والتجديد بل يعني العكس تماماً. والواقع ان الذين يفقدون روح التجديد وروح الإبتكار هم الذين لا يفهمون ماضي الأمة وروحها، ولا يفهمون من ذلك الماضي وتلك الروح الا القشور والمظاهر الجامدة.

إن اتصالنا بروح الأمة وتراثها يزيد في اندفاعنا ويقوي انطلاقنا، فلا نكون حائرين لأننا نكون واثقين أن كل شيء فينا سيأتي ملائماً لروح أمتنا. إننا عندما ننطلق من أساس متين هو التشبع بروح أمتنا، ومعرفة واضحة لأنفسنا ولواقعنا، وإحساس صادق بحاجاتنا، لن نكون عرضة لأخذ الأفكار المصطنعة وتقليد الآخرين، وانما تأتي افكارنا طبيعية ومبتكرة لأنها نتيجة لشعورنا الصادق وحاجاتنا الصادقة. إن شعورنا بهذه الصلة القومية العميقة بأمتنا هو الذي يفتح عيوننا على حاضرنا الأليم وهو الذي يرينا التناقض بين واقعنا وحقيقتنا، وهو الذي يحملنا مسؤولية إنقاذ الأمة وبالتالي هو الذي يوصلنا الى الإنقلاب.

الصلة القومية تقود الى الإنقلاب وتساعد على تحقيقه : إن الصلة القومية التي توصل الطليعة والأمة الى التفكير الإنقلابي هي نفسها التي تساعد أكبر مساعدة على تحقيق هذا الإنقلاب. لأننا بانقلابيتنا نمثل إرادة الأمة كلها، وهذه الارادة التي لم تتوضح بعد إلا عند القليل، والتي لا تزال مبهمة عند الكثيرين نعرف انها متمثلة قي حركتنا، ونعرف ان كل خطوة نخطوها ستلاقي صدى في النفوس وستحرك وتراًًً ًحساساً، وان كل يوم يمر علينا في نضالنا سيفتح عقولاً جديدة ويوقظ نفوساً جديدة. وبما اننا بنينا انقلابيتنا على صفتنا العربية، وانطلقنا الى المستقبل بنسبتنا الى أصلنا، فاننا حتماً سنتكلم اللغة التي يفهمها الشعب وحتما سنجد سبيلا الى سمعه وقلبه.

الإنقلابيون صورة سباقة لمجموع الأمة : إننا نعرف بأن هذه الفئة القليلة من الإنقلابين الذين تضمهم حركة البعث العربى هم قلة في الظاهر، قلة في البدء، ولكن صفتهم القومية الصادقة تجعلهم صورة مصغرة وسباقة لمجموع الأمة. نحن نمثل مجموع الأمة الذي لا يزال غافيا منكراً لحقيقته ناسياً لهويته، غير مطلع على حاجاته، نحن سبقناه فنحن نمثله، لذلك بيننا وبينه تجاوب عميق، حتى عندما نتصارع، حتى عندما يبطش بنا، هو منسجم معنا لأن طريقه هو طريقنا الآن، وإن لم يدر في الوقت الحاضر فسيعلم ذلك في المستقبل. إنما إيماننا مختلف عن الإيمان السحري لأنه مبني على أرسخ قواعد العلم، على الوقائع. هذه العقيدة هي اننا نمثل مصلحة الأمة وإرادتها، إذن نعتمد على تأييدها، وهذا التأييد الذي هو في حالة الكمون سينتقل الى حالة الظهور والفعل.

فقوانا ليست هي هذه القوى المنظورة المحدودة، قوانا لا حد لها في غزارتها. وأضيف أننا نعتمد على قوة أخرى هي أن حركتنا في اتجاه التقدم الإنساني. فهدفها ان ترتفع بالأمة من حالة التأخر الى حالة العمل والجد والإبداع، والتاريخ هو في هذا الإتجاه ونحن نمشي باتجاهه ومنطق التاريخ يقضي بأن تنهض الأمة العربية وأن تحتل مكاناً خلاقاً ايجابياً، وأن تقوم بدورها وتنشىء، فالتاريخ ايضاً يساعدنا.

هناك عدد كبير في أمتنا اصبح فاقد السيطرة على نفسه وعلى رأيه ونضارة شعوره، استعبدته المصالح وجمدته الإعتبارات الإصطلاحية، ففقد الحركة الحيوية اللازمة لكي يتمرد على المصالح الخاصة، لكي يتمرد على الإعتبارات الإجتماعية الكاذبة، لأن كل تمرد من هذا النوع يهدده في مصالحه ونفوذه ووجاهته، وهو يستمد وجوده من هذه الأوضاع والإعتبارات الزائفة لأنه لا يؤنس في نفسه القدرة على التحرر من مصالحه، فهو ينظر الى الأمة بمنظار نفسيته، ويرى الأمة على شاكلته عاجزة عن التحرر والتمرد على واقعها كما هو عاجز على التمرد على واقعه. فأعداء الفكرة الإنقلابية في بلادنا أو الذين يتمنون ولا يستطيعون السير في طريقها، هم أنفسهم أعداء القومية العربية. فلو كانت هذه الصلة حية لانتفضوا وشعروا بألم الواقع وبعار الحاضر، ولشعروا بالمسؤولية المترتبة  عليهم من ضرورة تبديل هذا الحاضر بصفتهم جزءاً من هذه الأمة، ولاستطاعوا بالتالي ان يبدلوا نفوسهم وواقعهم ويتمردوا على مصالحهم.

صراع بين معسكرين، والظفر للإنقلابيين : عندما تتصارع فكرتان في حياة الأمة، فكرة جامدة بالية وفكرة جديدة حية، عندما ينشطر المجتمع الى معسكرين ،أحدهما يدافع عن القديم والجمود والمصالح الخاصة والثاني يدافع عن القيم الجديدة، عن التجرد والمثالية، التجرد والتضحية، يكون هذا الإنقسام في الأمة شكلياً وموقتاً في الواقع، لأن نفس المعسكر القديم المدافع عن الجمود والمصالح الخاصة فيه بذور إمكانيات نشوء الفكر الجديد، فكأن المعسكر الثاني هو التجسيد والتوضيح لهذه البذور والإمكايات الخيرة والكامنة فيه، وكأن معسكر الجمود والنفعية والمحافظة في صراعه مع المعسكر الثاني انما يصارع نفسه ويغلبها، ويتصارع مع غرائز الخير والحياة فيه لكي تستيقظ هذه الغرائز الخيرة ولكي ينميها الصراع ويقويها ويسمح بتفتحها الكامل. إن الحركة الإنقلابية في حيويتها وعنفها وصبرها وإيمانها، هي التي تتمكن اخيراً من إيقاظ وتحقيق هذه الإمكانيات الموجودة في نفس كل عربي. بهذا المعنى نستطيع أن نثق ونؤمن بأن معركتنا ظافرة لأن كل يوم يمضي عليها يضيف الى جيشها جنوداً أيقظهم صبرها واستمرارها وإشعاعها وأرجعهم الى نفوسهم، أي الى الصف النضالي الإنقلابي.

إن حركتنا إنقلابية عربية وقد بينا العلاقة بين الإنقلابية والصفة القومية وقلنا أن انقلابيتنا  تنبع من صلتنا القومية وشعورنا بفقر الواقع وفساده وضرورة تبديله والقيام بانقلاب يرجع الى الأمة حقيقتها ويظهر كفاءتها الحقيقة وروحها وأخلاقها، والآن نتساءل عن وسيلة الإنقلاب؟ صحيح أن الإنقلاب فكرة ولكن لا بد لهذه الفكرة من أشخاص يفهمونها ويؤمنون بها ويمثلونها ثم يحققونها. إذن للإنقلاب أدوات حية من البشر هم الذين يعتنقون فكرته ويناضلون في سبيل تحقيقها. وبمقدار ما يكون اعتناقهم للفكرة عميقاً ونضالهم في سبيلها صادقاً، يكون الإنقلاب قوياً كاملاً. فالإنقلاب إذن هو صورة للذين يؤمنون به ويعملون له، وليس هو معجزة تهبط من السماء أو حادثة خارجة عن إرادة البشر وعن أعمالهم. وهذا يؤدي الى نتيجة أولى وهي ان الإنقلاب يجب ان يتحقق أولاً في نفوس الفئة القليلة التي تؤمن به وتبشر به العدد الأكبر، وتعمل على تحقيقه في مجموع الأمة، وكل تساهل في صدق تمثل هذه الفضائل في نفوس الإنقلابيين يهدد الحركة بالفشل والزيف. ولا يعقل أن نطلب من الأمة أن ترتفع الى مستوى لا نكون نحن قد بلغناه، ولا نكون قد برهنا للآخرين بأنه قابل البلوغ.

لا انقلاب بدون صراع : لاشك ان الغرض الظاهر للإنقلاب هو إزالة الأوضاع المصطنعة المفروضة على الأمة والتي تشوهها سواء أكانت هذه الأوضاع سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية. ولكن الأوضاع تتمثل في أشخاص، وهي عبارة عن عقلية أشخاص ومصالحهم وعاداتهم، يألفون هذه الأوضاع ويحرصون عليها، ويدافعون عنها، فلا يمكن محاربة هذه الأوضاع الا من خلال الذين يتمسكون بها، ويستفيدون منها. إذن حركة الإنقلاب لا بد ان تهز كل الذين يستسلمون للأوضاع الفاسدة، ولا بد أن تعاكسهم، حتى تخلق في الأمة رد فعل للمرض عندما يستيقظ الفكر الحر والخلق القويم وتستيقظ الروح السليمة. فالإنقلاب ليس له الا معنى واحداً واضحاً صريحاً هو الصراع والمعاكسة للعقلية والخلق والمصالح السائدة، والبعث يولد من هذا الصراع.

وان الذين يحسبون أن مجرد تبديل في الأوضاع السياسية يوصل الأمة الى هدفها يخطئون أيما خطأ، فلو فرضنا ان الأوضاع السياسية في البلاد العربية تغيرت فجاة بفعل صدفة من الصدف، فنعتقد أن هذا التغيير لن يتناول الا الظواهر، لأن الأمة لم تقطع بعد مرحلة الصراع الذي يحرر فكرها ويقوم خلقها ويزيل التشويه عن روحها. فالواقع الفاسد ليس شيئاً مادياً متجسماًَ في الأوضاع السياسية أو الإجتماعية فحسب، وإنما هو شيء معنوي يشترك فيه الجميع بنسب مختلفة، ويمكن القول ان كل فرد يحمل اثراً من آثار هذا الواقع. فالفرد الإنقلابي هوالذي يصارع هذا الواقع في نفسه قبل ان يصارعه في المجتمع والأوضاع المادية. وان كل الذين لا يصارعون الواقع، ويحيون حياة طبيعية هادئة مريحة هم ضمن الواقع الفاسد الذي يجب أن نحاربه، إذ لولم يكونوا منه لوجب ان تتحول حياتهم الى ألم ونضال.

وأضيف ملاحظة أخيرة وهي أن مجتمعنا المتأخر المريض يعني وجود أكثرية ضعيفة جاهلة مستعبدة لا تقدر مسؤولياتها ولا تعي وجودها على حقيقته، لذلك تبقى الأقلية هي التي يمكن أن يتوفر فيها الوعي والشعور بالمسؤولية، وهذه الأقلية هي التي تنقسم في الواقع الى معسكرين : المعسكر الإنقلابي، والمعسكر النفعي والمعاكس لكل تجدد ولكل تبديل عميق في حياة المجتمع. فالمشكلة في مجتمعنا إذن هي مشكلة القيادة، مشكلة الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط لقيادة المجتمع. واذا كان مجتمعنا ما زال متأخراً حتى الآن فلأن هؤلاء الأفراد لا يحققون في أنفسهم الشروط الفكرية والأخلاقية والروحية اللازمة لملء مركز القيادة، والصراع هو بين القادة الصادقين والقادة الكاذبين.

10 ايلول 1950


 

من معاني الانقلاب



لن اطرق في هذا الحديث(1) موضوعا شاملا كاملا، بل افضل ان آخذ بعض ما توحيه فكرة الانقلاب التي يقوم البعث العربي عليها.

ايها الاخوان : لنحاول ان نتخلص من افكار اصطلاحية كثيرة ومن نقل العبارات المألوفة، والالفاظ المجردة، ولنحاول ايضا ان نرتفع قليلا فوق المشاكل القريبة العارضة، لنحاول ذلك كله، لكي نقترب من حقيقة مشكلتنا الكبرى، ومن حقيقة قضيتنا كأمة حية تنشد الحياة الصحيحة، وتشق طريقها بنفسها وبجهدها واثقة مؤمنة.

ما هو الانقلاب؟ هل تقف عند حدود التعريفات السياسية؟ هل يبقى فهمنا مقصورا على البرامج السياسية، وما تحويه من مشروعات ومقترحات، لتنظيم الحياة العامة في مختلف نواحيها؟ ام نفهم من الانقلاب شيئا اعمق واصدق؟

اننا نفهم من الانقلاب هذه اليقظة الحقيقية التي لم يعد مجال لانكارها  والتشكك فيها ، يقظة الروح العربية في مرحلة فاصلة من مراحل التاريخ الانساني. الانقلاب في حقيقته هو هذه اليقظة، يقظة الروح التي تراكمت عليها اثقال الاوضاع الجامدة الفاسدة، وحالت زمنا طويلا دون ظهورها ودون انبثاقها واشعاعها. هذه الروح، تشعر اخيرا بالخطر الكبير، بالخطر الحاسم، فتنتفض انتفاضة حاسمة. وانتفاضتها هذه، وسيرها لن يكون الا في تيار معاكس للاوضاع التي عاقت ظهورها، والتي اثقلت عليها الاحمال، وشوهت طريقها، السير في طريق معاكس للاوضاع الراهنة، للاوضاع الفاسدة المريضة الزائفة، هذه المغالبة للتيار بقصد ان تستيقظ بقايا الروح الاصيلة في كل مكان توجد فيه، وتتجمع وتتكتل، لابد من هذا السير المعاكس للمادة، الذي يحيا في كل خطوة من خطاه، الذي ينبه ويوقظ، الذي يرد الى القوى الغافية والكامنة انتعاشها، وجديتها، وصحوها، وشعورها باستقلالها، وقيمتها وتأثيرها. فالانقلاب قبل ان يكون برنامجا سياسيا واجتماعيا هو هذه الحركة الدافعة الاولى، وهذا التيار النفسي القوي، هذه المغالبة الي لابد منها، والتي لا يفهم اي بعث للامة بدونها، ذلك ما نفهمه من الانقلاب.

اذن فنحن لا نحارب الاوضاع الراهنة لانها فاسدة فحسب، بل نحاربها لاننا مضطرون الى ان نحارب، لانه لا بد لنا من ان نحارب، لا بد للامة من ان تستكشف في نفسها بقايا القوى الصادقة، وان تستخرج من اعماقها كنوز الحيوية الكامنة، اننا نناضل ونكافح الاوضاع السياسية والاجتماعية الزائفة، الفاسدة، لا لمجرد ازالتها وتبديلها، بل ايضا لكي تعود للامة وحدتها في هذا النضال. فالامة انكرت ذاتها نتيجة الغفوة الطويلة، ونتيجة التشويه الطارىء عليها حتى لم تعد تعرف ذاتها، ولم يعد يعرف بعضها بعضا، لقد انقسمت ايما انقسام، فتناثرت اجزاؤها وافرادها، وهبطت الى مستوى وضيع والى سجن الانانية، وسجن المصالح الصغيرة، وسجن اعياد الجمود والقعود. وفي مثل هذا المستوى لا تنشأ وحدة بين الامة، ولا توجد الحرارة الكافية للتعارف والتآلف  بين هذه الملايين من العرب. لا بد اذن من غليان  لا بد من مستوى مرتفع، مضطرب، متحرك، لا بد من مشاق نجتازها، لا بد من سير طويل يدخل فيه الفكر مع الخلق مع الايمان، وان نجرب ونخطىء، ونصحح اخطاءنا. هكذا نتعارف، وهكذا يعود بعضنا الى بعض، فتتوحد الامة في طريق النضال والمشاق.

هذا بالنسبة للأمة كمجموع، واما بالنسبة الى افرادها، فالانقلاب الذي عرفناه بانه مغالبة للتيار، هو وحده الذي يكون الشخصية العربية من جديد، هوالذي يلقي على كل فرد تبعة اعماله، وهو الذي يطلق الفكر حرا مستقلا، ويقيم الخلق مسؤولا جديا، وهو الذي يفجر نبع الايمان في الروح، لان مثل هذا السير الطويل الشاق لا يستغني عن الايمان، بل ان مادته ودمه ينبعان من هذا المصدر الروحي.
فالانقلاب اذن طريق، طريق الى الغاية المنشودة، الى المجتمع السليم الذي ننشده. ولكنه ليس طريقا من الطرق، انما هو الطريق الوحيد. لهذا السبب الذي ذكرته -حتى لو ازيلت هذه الاوضاع من امامنا بمعجزة من المعجزات- فلن نكون الأمة المطلوبة ولن نصل الى الأهداف المطلوبة ولن نبني المجتمع المطلوب ولكن  الأمة التي نريدها، والمجتمع الذي نريد ان  نبنيه، متوقف علينا نحن، متوقف على جهودنا، على صدقنا، على وعينا، ولا يهبط من السماء، ولا يخرج بشكل آلي، ولكنه في فكرنا، وخلقنا، اذن لابد ان نمشي في هذا الطريق.

مغالبة التيار هي، في مثل حالتنا، المقياس الوحيد الذي يميز بين الصدق والكذب، بين الجد واللهو. عندما نجد الاستعداد لمغالبة التيار، عندئذ تصبح الاقوال والافعال والبرامج، وكل شيء آخر، ثانوية، ويصبح الشيء الوحيد الملموس الراهن الذي  يمكن ان نطمئن الى وجوده هو ان نجد من يستطيعون تحمل هذه التبعة، ومن يسيرون في طريق معاكس للوضع القائم في البلاد العربية، وعندها تنشأ تباعا، وتنبت الفضائل المطلوبة لإكمال الطريق، وللبناء الجديد في نهاية الطريق. فالانقلاب هو مغالبة الحقيقة للواقع، لان للامة حقيقة رغم تخلفها ورغم تشوهها، وهذه الحقيقة تعلن عن نفسها مهما تكن سيطرة الواقع. والانقلاب هو هذا الاعلان، هذا الاثبات لوجود الحقيقة. الانقلاب هو مغالبة المستقبل للحاضر، لان اهدافنا المستمدة من اعماقنا ومن روحنا شعت وانطلقت تسبقنا، لتغرينا بالسير نحوها والتسابق اليها، هذا هو المستقبل، فالانقلاب هو اذن مغالبة هذا المستقبل، الذي هوحقيقة انفسنا واهدافنا، للحاضر المزيف، للحاضر الغريب عن حقيقتنا.
ايها الاخوان : الماضي شيء حقيقي، وشيء اصيل في حياة امتنا، ومن العبث ومن الخطل ومن العقم في التفكير ان ننكر هذه الحقيقة، اننا نقصد بالماضي ذلك الزمن الذي كانت فيه الروح العربية متحققة. وماذا نقصد نحن بالمستقبل، وما هو هذا المستقبل الذي يغرينا ويدفعنا الى النضال ان لم يكن هو الزمن الذي يجب ان تتحقق فيه روحنا الاصيلة. فماضينا بهذا المعنى الصافي الصادق، ارسلناه امامنا، اشعاعا ينير لنا الطريق ولم نتركه وراءنا نندب عهده ونستصرخ عونه، وننتظر بجمود وخمول ان يأتي هو الينا، وان ينزل الى مستوانا. ليس هذا هو الماضي، الماضي كحقيقة للروح العربية، كحقيقة متحققة للروح العربية لايمكن ان يأتي، ولا يمكن ان يرجع ويهبط وينزل، وانما علينا نحن ان نسير نحوه سيرا تقدميا الى الامام، وان نرتفع اليه ونصعد، وان نسلك طريقا وعرة صعبة حتى ننمي فينا الفضائل والمواهب والقوى التي تؤهلنا اخيرا لان نفهمه، فنمتزج به ونلتقي معه. فالسير التقدمي، والسير الصاعد في طريق الانقلاب هوالسبيل الوحيد لالتقائنا بماضينا. وهذا الالتقاء لايكون الا ارتقاء، ولا يكون هبوطا وانحدارا، او جمودا وامعانا في الجمود والقعود.

الى جانب هذه النظرة نحو الماضي التي نضعه في مستقبل بعيد يستثير فينا الهمم، نرتفع اليه ونبلغه بعد الجهد، ونستحقه استحقاقا كريما، توجد النظرة الاخرى التى تعكس ظلال الحاضر السوداء، البشعة، الثقيلة، على ذلك الماضي، فيفهم من الماضي انه استمساك بالحاضر وتشبث عنيد للاحتفاظ به، والاغراق في اخطائه ومفاسده. فكيف يكون هذا الماضي انطلاقا روحيا، وفكرا مبدعا وخلقا قويما مستقلا، وايمانا حيا فياضا؟ التشبث بالاوضاع الراهنة، المحافظة عليها ،الدفاع عن هذه الاوضاع التي تهدد العرب بالانقراض، ليس هذا هو الماضي، بل انه هو الحاضر، هو الواقع الفاسد، هو النفعية، هوعبودية المصالح. اما الماضي الحقيقي فهو الذي يدعونا حنيننا اليه، الى ان نعي ونجد، ونناضل ونرتفع. هذا هو الماضي الروحي الحر السليم الذي كان للعرب. لقد كان هذا الماضي عهدا تحققت فيه الروح، اي انه كان هو نفسه انقلابا بلغ فيه الفكر حريته واستقلاله، ونضارة احساسه بالحياة وبالعلم فابدع ونظم، وانسجم مع قوانين الحياة والطبيعة، وبلغت فيه الشخصية حريتها وفرديتها وجديتها ومسؤوليتها، فانطلقت تعمل اعمالا حرة، وتقف مواقف بطولية وتتجاوز حدود الانانية الى الانسجام مع الارادة العامة والانسجام مع المجموع وبلغت فيه  الروح ينبوعها الصافي فامتلأت خصبا و تجددا، وعرفت قدرها الازلي، فاشبعت بالايمان.

لقد كان ماضينا انقلابا، ولن نبلغ مستواه، ولن نلتقي به الا عن طريق الانقلاب. فالانقلاب الجديد هو السير الواعي الجاد، المؤمن، نحو هذا المرتفع الذي يحل فيه التناقض وتوحد الاضداد، ويلتقي الماضي بالمستقبل، وتتصالح الامة مع نفسها في الابداع واداة الرسالة.

يسالوننا  ايها الاخوان  ماذا تقصدون بالرسالة، الرسالة العربية الخالدة؟ الرسالة العربية ليست الفاظا نتغنى بها، ليست مبادئ توضع في البرامج، ليست مواد للتشريع، كل هذه اشياء ميتة زائفة، لان بيننا وبين الوقت الذي نستطيع فيه ان نشرع من وحي روحنا ورسالتنا مسافة طويلة، وفاصلا كبيرا. ما هي اذن الرسالة الآن؟

هى حياتنا نفسها، هى ان نقبل بتجربة لهذه الحياة، بتجربة عميقة صادقة ضخمة جسيمة مكافئة مع عظمة الامة العربية، مكافئة مع عمق الآلام التي يعانيها العرب، متكافئة مع جسامة الاخطار الي تهدد بقاء الامة. هذه التجربة الحية الصادقة، التي تردنا اخيرا الى ذواتنا، والى واقعنا الحي، وتحملنا مسؤولياتنا وتضعنا فى طريقنا الصحيح، لكي نكافح هذه الامراض وهذه الحواجز، وهذه الاوضاع الزائفه، نكافح الظلم الاجتماعي والاستثمار الطبقي، وعهود النفعية والرشوة والاستغلال ونكافح الاستبداد، وتزييف الارادة الشعبية وامتهان كرامة الفرد العربي كمواطن وانسان، في سبيل مجتمع حر يسترد فيه كل عربي شعوره بذاته ووجوده وكرامته، بفكره ومسؤولياته.. التجرية التي نكافح فيها تقطيع اوصال الامة العربية الى اقطار ودويلات مصطنعة مزيفة، حتى نصل الى توحيد هذه الاعضاء المتناثرة حتى نصل الى حالة سليمة طبيعية لا يتكلم فيها عضو مبتور باسم الكل، حتى نتخلص من هذا الوضع الغريب الشاذ. عندها يستقيم للعرب ان يجتمعوا كلهم فتستقيم نفوسهم، وتتصحح افكارهم، وتتقوم اخلاقهم، ويتفتح مجال الابداع امام عقولهم، لانهم اصبحوا كائنا طبيعيا سليما، امة واحدة. فهذه التجربة السليمة الصادقة لمكافحة هذه الاوضاع حتى نصل الى الوضع السليم، تلك هي الرسالة العربية. والرسالة هي ما يقدمه جزء من البشر الى مجموعة الانسانية، ولا يعطى معنى الرسالة لشيء ضيق اناني وانما لابد لها من المعنى الانساني الشامل الخالد
فد تتساءلون كيف تكون رسالتنا هذه فى معالجة مشاكلنا، فاقول لكم بان العرب عندما يقدمون على  هذه التجربة، وهم في الواقع قد بدأوا فيها وانغمسوا فيها  ولن يتراجعوا مطلقا، عندما يقومون بكل ذلك، فانه لن يقتصر عمل هذه التجربه على حل مشاكلهم فحسب، بل يخرجون منها بتجربة انسانية عميقة تخلق فيهم شخصية مشبعة بآلام الحياة الانسانية ومعرفة اسرارها، ومداومة امراضها، فيقدمون للعالم وللانسانية كلها ثمرة هذه التجربة الخالدة.

شباط 1950

(1) حديث القي في مكتب البعث العربي في حمص


 

حول الإنقلاب

قلنا ان البعث العربي فكرة مدفوعة الى التحقيق في العمل، والبعث العربي لذلك حركة، حركة انقلابية، وعرفنا الانقلاب بانه هو التغيير الحاسم في مجرى حياة الامة، اي تحول حاسم يختلف عن التطور. وقلنا انه يلزم لتحقيق الانقلاب وجود وسائل، اي خلق جيل واع يبعد الخطر عن امته ويشعر بمسؤوليته لتحويل مجرى حياتها، ومؤمن بتحقيق ونجاح الانقلاب.

اذن اعطينا ثلاث صفات لهذا السبيل : ا – الوعي للشروط التاريخية والاجتماعية، اي انه عارف لماذا. كان هذا التحول ضروريا للامة. 2- الاخلاق، اي ان عليه ان يكون في الطليعة وان يخرج من العدد المنفعل المستسلم للاوضاع. 3- الايمان، اي انه لايكفي ان يكون فاهما لضرورة التحول ومقدرا لمسئوليته بل يؤمن بأن القدر والتاريخ وكل الظروف مهيأة لنجاح هذا الانقلاب. ومنها وصلنا الى القول بان السبيل الجديد هو وسيلة الانقلاب، ويعتمد هذا الجيل على الفرد، لان الوعي والايمان يفتش عنهما في الافراد لا في المجتمع.

بعد ذلك تكلمنا في الحقيقة والمواقع بالنسبة للشعب، فحقيقته شيء وواقعه شيء اخر، لان واقعه مفروض عليه فرضا من قبل الفئات المستثمرة والقوى الاجنبية. ان حقيقته قد طمست ولا زالت، كما ان التفاعل والاصطدام بين حقيقته وواقعه يجلو حقيقته ويهيؤه لتحقيق الانقلاب. ونظرتنا الى الشعب نظرة تفاؤل وايمان، ولمجرد تجسيد الجيل الجديد لفكرة الانقلاب، نجد الشعب يتنبه ويمشي في طريق الانقلاب. و نحن ننفي التشاؤم وسوء الظن بالشعب وباخلاقه لان واقعه الفاسد عارض طارىء، ولأن حقيقته كامنة تتجلى مع التجارب والآلام. فنفسية الانقلابي هي نفسية التفاؤل والايمان اي يؤمن بان الانقلاب قدر تفرضه شروط التاريخ ومواهب الامة نفسها، ويؤمن بان الشعب مستعد لتلبية هذا الانقلاب.

ثم تعرضنا الي مبررات هذا الايمان. هل هو استنادا الى تفسير معين للتاريخ، تفسير جبري، اي ان تطور التاريخ يؤدي حتما الى هذا المصير؟ قلنا ان لا موجب عندنا  لمثل هذا التفسير، فالعربي الواعي المؤمن اليوم، حاجته لايجاد مبرر في الماضي لنهضته، بل يجد من الواقع نفسه مبررا للنهضة. فالسند هو الجيل الجديد الانقلابي، الذي اصبح حقيقة لا يجادل فيها والذي يتكون ويتكاثر ويترابط في مختلف الاقطار. هذا وحده مبرر ودليل على ان الامة قد نضجت وانتجت هذا الجيل، وهذا يدل على انها  سائرة نحو الستقبل. فمبررات الانقلاب هي في الواقع نفسه لا في التاريخ.

ما دام الانقلاب هو من اجل بناء مستقبل جديد يختلف عن الحاضر اختلافا جوهريا فما هي معالم هذا المستقبل؟.. نحن لا نقول ان معالمه محددة منذ البدء ومرسومة منذ الماضي، وعندها يكون الانقلاب رجعة، كلا، نقول ان معالمه وخطوطه تحددها حاجات الامة التي تهتدي اليها بملء الحرية دون ان تكون مقيدة باي قيد. فالامة عندما تعي ذاتها ومكانتها في العالم وفي الزمن وتريد ان تتحرر من المرض والنقص تخلق وسائل تحررها ولا تستمد  هذه الوسائل من اي شيء سابق. وقلنا ان هذه هي الطريقة الوحيدة التي تضمن مجيء هذا الانقلاب وهذا المستقبل منجما هو روح الامة واصالتها. أي بقدر ما تكون الامة حرة بالسعي نحو مستقبلها تكون منسجمة مع نفسها مخلصة لشخصيتها وعبقريتها وبالعكس، اذا وضعت قيودا لنفسها تخون شخصيتها وتبتعد عن روحها، وفي الماضي عندما كانت الروح العربية متجلية بقوة اوجدت لنفسها وسائل تحقيق ملائمة لظروف الزمان والمجتمع. والوسائل ليست من نفس جوهر الروح اي  ليست شيئا اصيلا، اما الاصل فهو المستوى الروحي، فالعرب عندما يسترجعون المستوى الروحي العالي ويتفوقون عليه تكون الوسائل متلائمة مع روحهم بالنسبة للعصر. عندما نمشي بالابداع والحرية وتلبية حاجات صادقة وعميقة في حياتنا الحاضرة  نلتقي بالروح التي كانت مهيمنة على ماضينا.

عام 1950


 

علاقة التنظيم بالعمل الإنقلابي

تعلمون ان مرحلة الإنقلاب في حياة الأمة، هي المرحلة التي يكون التشويه والانحراف قد طرأ على مختلف الاوضاع فيها، ليجعلها متناقضة مع مصلحة الشعب متعارضة مع التقدم والنهضة والإنبعاث القومي. وتمكن الفساد التشويه والإنحراف وانتشاره يحدث هزات في حياة الشعب، ويخلق نوعا من الإضطراب والشعور بالحاجة الى تبديل الأوضاع ومقاومة الفساد. ولكن هذا الشعور لا يتبلور بشكل واضح واع، الا عند اقلية من ابناء هذا الشعب، تدرك واقع امتها وتصمم على تبديله، وتتقدم الصفوف للنضال في سبيل قلب هذه الاوضاع وتغييرها، وتتجه الى الشعب لتنقل اليه وعيها، عاملة على تنبيهه وتثقيفه وتوضيح واقعه له، جاهدة لتسير بالشعب في طريق النضال المنظم.

فمن خصائص المرحلة الإنقلابية اذن، ان تكون قيادة الحركة الشعبية بيد اقلية  اذ لو ان اكثرية الشعب كانت قادرة على وعي مساوىء الاوضاع حق الوعي، ولو انها كانت قادرة على تنظيم صفوفها حق التنظيم، ولو انها كانت تسير من نفسها في طريق  النضال الجدي لتبديل الاوضاع، اذن لما كانت المرحلة انقلابية، ولما كانت الأمة بحاجة لانقلاب في حياتها واوضاعها للنهوض، بل لسارت اليه وتقدمت، عن طريق التطور الطبيعي. ولكن مثل هذا الوعي الشعبي العام، ما زال غير متوافر والحياة السياسية ضمن شروط النظم القائمة، ما زالت قاصرة عن تمثيل ارادة اكثرية الشعب وعن ايصال صوتها، بل تمثل في كثير منها، مصالح اقليات مستغلة ومعادية لمصلحة الشعب الى حد كبير. وفي مثل هذه الحال، يأتي العمل الإنقلابي في كل بلد، وفي كل شعب، وهو من جهد اقلية منه. ولكنها اقلية من نوعية خاصة. اقلية واعية لواقع امتها مؤمنة بقضية بلادها وبحقوق شعبها، متجاوبة كل التجاوب مع حاجات الشعب العميقة وامانيه. هذه الاقلية تتقدم هنا لتمثيل الشعب، قبل ان يفوضها الشعب تفويضا صريحا بهذا التمثيل، وهي التي تبدأ بان تتجه للشعب لتوقظه على واقعه ولتنظم نضاله وتقوده في طريق الإنقلاب.

وقضية التنظيم تطرح منذ البداية في العمل الإنقلابي. والا فكيف تستطيع  هذه الاقلية الصغيرة ان تكون قوة وان تنهض باعباء النضال الفعال، وكيف للعشرات او المئات ان يقفوا في وجه الفساد وان يصارعوا الرجعية والاستعمار ومصالحهما الكبيرة الكثيرة، وكيف يقاومون ما خلفته عصور الانحطاط من جهل وانقسامات ومن فوضى مستعصية على العمل المنظم وحائلة دون تعاون الشعب ومشاركته، وكيف تستطيع هذه القلة بالتالي، ان تضم حولها قوة شعبية متكافئة مع ما تصدت له من صعوبات واخطار، كيف تستطيع كل هذا اذا لم تستنجد بالتنظيم، تستنفد به كل كفاءاتها وامكانياتها، وتعوض عن قلة عددها وفقر وسائلها، وتفتح امام عملها طريق النمو المضطرد. فالحركة الإنقلابية اذا لم تقم على تنظيم متين واع، تبدأ عملها ثم تتبعثر جهودها وتضيع بين شتى  الاعمال الارتجالية، وتمضي دون ان تخلف اثراً في حياة الأمة. فالتنظيم شيء اساسي وحيوي يرافق العمل الإنقلابي بل هو من طبيعة هذا العمل ويستمد من فكرته الإنقلابية.

ويجدر بنا هنا ان نسجل ملاحظة، حتى لا نترك اي مجال للالتباس وسوء الفهم. وهي اننا لا نعتبر للتنظيم قيمة في حد ذاته، اي لا نراه منعزلا عن الفكرة التي يرتبط بها ويستلهم منها قواعده وحدوده. فبتجريد التنظيم عن الفكرة تصبح قيمته فنية بحتة، يمكن ان تستخدم للخير وللشر في آن واحد، فعصابات الاشقياء تستند في اعمالها الى التنظيم. ومعناه وصلاحه متوقف على الفكرة التي توحي به وتشرف عليه وتمده بالروح. فالتنظيم لا يخلق شيئا من العدم، والتنظيم ليس كل شيء في العمل الإنقلابي، وهو لا يعني ان هذه الاقلية الإنقلابية، ترتجل فكرتها وحركتها ارتجالا، او تعود للتنظيم لتخلق بواسطته حركة من العدم.

إن التنظيم، اي تنظيم كان، يعجز عن خلق شيء من العدم، ولكن الحركة الإنقلابية كما ذكرنا، انما تقوم في أساسها على مسلمة، على ان ثمة تجاوبا بين الاقلية الإنقلابية، التي كانت اسبق من غيرها الى وعي الواقع والشعور بالمسؤولية واقدر على ذلك، وبين بقية افراد الشعب، تجاوبا في الروح والحاجات والاماني. الاقلية الإنقلابية لا تبتدع شيئا من نفسها ولا ترتجل، ومهمتها في الواقع ان تترجم حاجات الشعب العميقة، هذه الحاجات التي تكون غامضة ومجزأة بالنسبة للشعب الذي لم يبلغ بعد الحد الكافي من العلم والوعي أو من القدرة على التعبير عن هذه الحاجات، وان عبر بين الحين والحين، بانتفاضات وحركات آنية تنم عن اتجاهه وعن حيويته وطاقته النضالية، كما تعبر بشكل جزئي وغامض بل ومشوه احيانا عن اهدافه التي يسعى اليها. ثم تأتي هذه الاقلية، التي هي من هذا الشعب، والتي يفترض فيها انها شاركت الشعب انتفاضاته ونضاله البدائي (وهذه الاقلية كانت في الاصل موزعة وغير متعاونة، ثم تعارفت وتوحدت بنتيجة التجربة والمراس الطويل والوعي. واصبحت قادرة على قراءة ما يعتلج في قلوب ابناء الشعب)  لتتعرف من خلال آلام الشعب وانتفاضاته الارتجالية، على اهدافه الحقيقية وعلى امكانياته وقدرته على تحقيق هذه الاهداف. فعندما نقول ان الاقلية الإنقلابية لا بد وان تعتمد اعتمادا اساسيا على التنظيم، فلانها تبدأ من اعتمادها على ذلك التجاوب العميق بينها  وبين اكثرية الشعب الساحقة، وتعرف ان طريقها  الى قلوب الشعب مفتوحة، وان التنظيم هو الذي يمكنها من الوصول الى الشعب ومن قيادته، كما يمكنها من اختصار الزمن وتسهيل عقبات الطريق. وما مهمة الإنقلاب الا حشد القوى وتسهيل الطريق وازالة العقبات من طريق الشعب الذي يناضل في سبيل تحقيق اهدافه القومية.

واذا كان التنظيم لا يخلق شيئا من العدم، فان هذا لا يتناقض مع كون التنظيم الإنقلابي ذاته عملا خلاقا. وذلك بمعنى ان هذه القوى والطاقات النضالية الكامنة في نفوس الشعب تبقى غير متحققة بغير هذا التنظيم الإنقلابي. ووجودها هكذا كامنة، مثلها كمثل رجل يحتفظ بمبلغ من المال في صندوقه دون ان يستعمله، فلهذا المال وجود ولكنه غير محقق لقدرته الشرائية وغير مستثمر. وقوة الشعب النضالية يكون وجودها هكذا كامنا او مهدورا، والاقلية الواعية اول من يشعر بهذه القوة النضالية الكامنة في قلب الشعب، ولكنها اذا لم تنقل هذه الطاقة الى حيز التحقق، تبقى وكانها غير موجودة. عمل هذه الاقلية هو الذي ينقل امكانيات الشعب ويجعل منها حقائق راهنة، ويخلق منها عملا ونضالا بناء، ومثل هذا العمل الإنقلابي المنظم عمل خلاق.

لننتقل الآن من التحليل النظري الى الواقع الذي نحياه، لنرى ما هو موضع التنظيم في حياة شعبنا وفي حياة هذه الحركة الإنقلابية. لسنا بحاجة الى تكرار اوصاف هذا الواقع، فهو واضح يفرض نفسه على كل شاهد وبكل ما فيه من عيوب ونقائص. وعلينا ان نقيم قواعد وركائز وقلاعا ضمن هذا الواقع المملوء بالفساد والنقص والتخلف والجهل والميوعة، وعلينا ان نبثها هنا وهناك وفي كل ناحية، لكي تكون منطلقا للحياة الجديدة وللتوجيه الجديد الذي نريد نشره بين ابناء شعبنا، لنجذب الى هذه الركائز ولنكتل في هذه الحصون العناصر الاسلم من غيرها والاقل مرضا وتشويها والاقدر من غيرها على التفاهم والتعاون والاكفأ للعمل المنظم الواعي. وبهذا العمل تتسع وتنمو هذه الركائز والحصون، لتصل بالنتيجة الى تبديل حياة الشعب بكاملها وتغيير اوضاع البلاد كلها، ونصل بالتالي الى خلق حياة جديدة لامتنا.

وهذه الركائز لم نسمها قلاعا وحصونا، الا لما ننشده من ان تكون متينة جدا لكي تصمد لمقاومة الفساد، والاعداء الخارجيين والاخطار المستمرة، وهذه العناصر الإنقلابية لكي تنمو في عملها ونضالها، ولكي تتقدم ولا تكتفي بالصمود  يجب ان تكون من نوع خاص متميز، فلا يكفي ان تكون صالحة سليمة، بل يجب ان يكون النظام الذي تتبعه في عملها، صحيحا وعقلانيا ومتينا ومضمون الاستمرار والنجاح. وهنا لا بد من الاصرار على دور العلم والثقافة، ودور الخبرة والتجربة، وكثيرا ما رددنا ان البعث لا يمكن ان يكون الا على اساس العلم والمعرفة والكفاءات الفنية، اذ كيف يمكن ان نحقق انقلابا في حياة امة تخلفت مئات السنين عن مستوى البناء والابداع واعرضت عن المساهمة في الحضارة الانسانية، بل كيف يمكن ان نرفع امتنا التي كانت سباقة ومجلية، من جديد الى مستوى الابداع وخلق الحضارة، دون ان نعتمد كل الاعتماد على اساس متين من العلم والثقافة والخبرة الفنية وهذا ما يجب ان يقوم عليه التنظيم الإنقلابي ليكون قادرا على خدمة اهداف الإنقلاب وتحقيقها. فنحن هنا بحاجة للكفاءة والعلم وللافادة من خبرة وتجارب الشعوب المناضلة والامم المتحضرة، وهذه التجارب تعطينا قواعد ودلائل نسترشد بها في تنظيمنا ونقتدتي بها في عملنا على ان نلائم بينها وبين اوضاعنا ونعدل منها حسب ظروفنا، وهناك اشياء عامة ومشتركة لايستغنى عنها في اي بلد بالنسبة لاي شعب، وهناك قواعد اساسية خرجت من خبرة وتجارب طويلة للامم التي سبقتنا في مجال الحضارة.

اذن فعملنا يجب ان يقوم على الاختصاص وان يسير في دأب واستمرار. وتنظيمنا يجب ان يكون متناسق الحلقات والاجزاء كالجسم الحي، كل عضو فيه يقوم بمهمته الخاصة ولكن ضمن المخطط العام الذي يضمن الحياة والنمو الكامل لهذا الجسم. والشيء الذي نريد الالحاح عليه هنا، لاننا قلما نوفيه حقه من الاهتمام والتقدير، هو ان التنظيم الإنقلابي الذي نحتاجه ولم نبلغ بعد مستواه، يتطلب انقطاع افراد للعمل الحزبي انقطاعا تاما، ليجعلوا من العمل الحزبي الإنقلابي شاغل حياتهم، منه يعيشون ويكسبون رزقهم، وفيه يضعون جميع امكانياتهم وكفاءاتهم وآمالهم وطموحهم. وبمثل هذا وحده، يمكن ان تنشأ عند هؤلاء الافراد، خبرة قومية نضالية عميقة، نتيجة الاستمرار الطويل والدأب والممارسة ومواجهة المشاكل يوميا، والوقوع في الاخطاء الكثيرة وتصحيح هذه الاخطاء بالتجربة والممارسة والمراقبة، والاتصال اليومي المباشر بحياة الشعب والتعرف الى مشاكله، والصلة الدائمة بحياة الحزب ومعاناة كل مشاكله وقضاياه للخروج من كل هذا بخبرة جديدة في كل يوم وكل سنة. وعلى هذا الاساس يستطيع الحزب ان يخلق افرادا يكونون في البدء آحادا ثم يصبحون عشرات ثم مئات والوفا، ويكون لكل فرد من هؤلاء، بنتيجة هذه الممارسة وهذا الايمان الذي تعزز بالعمل النضالي المتواصل، من الخبرة والكفاءة ما يعدل الفا ويستطيع ان يخلق الحركة والحياة في الف آخرين وان  يكون مصدر اشعاع وتوجيه ووعي وقوة لمجموع الشعب. فالشباب المثقف الذي وعي ان مكانه التاريخي هو في هذه الحركة الإنقلابية، فتقدم اليها و سار في طليعتها، يجب ان يكمل هذا الوعي بالعمل النضالي الشعبي الإنقلابي المنظم. فلا يقف عند هذه المرتبه الاولى من الوعي، بل يرتفع الى مرتبة اخرى، ليعرف كيف تكون مشاركته على اقوى واحسن شكل، وليجعل مشاركته اقوى مردودا واعمق اثرا في حياة الأمة في هذه المرحلة.

ميشيل عفلق تموز 1955

في سبيل البعث الجزء الأول- التنظيم الانقلابي

في سبيل البعث

الجزء الأول

التنظيم الانقلابي


ان الصفة المميزة للبعث العربي هي انقلابيته، اذ قد توجد احزاب تهدف الى تحقيق بعض مبادئ البعث العربي او كلها ولا تكون انقلابية لانها لا تكون صادقة في تبنيها تلك المبادئ ومحاولتها تحقيقها. فالبعث العربي، لا يفترق عن الاحزاب الرجعية فحسب، تلك الاحزاب التي تقاوم عن وعي وتصميم الدولة العربية الموحدة الاشتراكية التقدمية بل يفترق ايضا عن الاحزاب التقدمية الزائفة التي تدعي ان بامكانها تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، او بعضا من هذه الاهداف عن غير طريق الانقلاب. فالانقلاب في البعث العربي ليس هو الطريق الصحيحة لتحقيق مبادئه فحسب بل هو ايضا محك واختبار لصدق تلك المبادئ واخلاص معتنقيها.

وكما ان الانقلابية تفرض نوعا معينا من العمل في الوسط الخارجي السياسي والاجتماعي فهي تفرض كذلك نوعا معينا من التنظيم والسلوك في داخل الحزب. فالحزب الذي ينبري لمقاومة الاحزاب الرجعية والاحزاب التقدمية الزائفة، لا يستطيع ان يؤدي مهمته الا باتباع اسلوب صارم شديد يضمن له وحدة الاتجاه وتماسك العمل وقوته. ولقد ادت حركة البعث العربي للقضية العربية حتى الآن خدمتين كبيرتين، الاولى توضيح الاهداف العربية الصحيحة وما بينها من ترابط ووحدة، والثانية توضيح الطريق الصحيحة التي تضمن تحقيق هذه الاهداف. وقد  امتلأ الجو العربي بهذه الافكار النظرية والعملية التي نشرها البعث العربي، ولكن بقيت المهمة الثالثة والاكثر خطورة من سابقتيها وهي خلق الاداة الفعالة الصادقة  الملائمة لحمل الاهداف العربية والسير بها في طريق الانقلاب. ويمكن القول بان عمل البعث العربي كان اكثره حتى الآن مقتصرا على التوجيه، اي على تهيئة الجو الخارجي والاستعداد الفكري والنفسي لتقبل الفكرة. ولكن دور العمل الخاص بالبعث العربي كحركة منظمة تضم افرادا مؤمنين منسجمين ما زال ينتظر التنفيذ.

ان تحقيق الانقلاب العربي المنشود رهن بتجسيد الروح الانقلابية في نفوس اعضاء البعث العربي وعقولهم، وان انضمام الافراد الى حزب البعث العربي لا يعني خروجهم من الواقع الفاسد وتهيؤهم لمحاربته والظفر عليه الا اذا تجسدت الروح الإنقلابية في فكرهم وسلوكهم. فاذا لم يتحقق هذا الشرط الاساسي بقي انفصالهم عن الوسط الخارجي شكليا وانتماؤهم الى الحركة الانقلابية سلبياً، اذ لا قيمة لمبادئ يعتنقونها ولا يتحملون تبعاتها ومنطقها العملي الدقيق. وليس البعث العربي مدرسة فكرية حتى يكتفي باعلان حقيقة آمن بها، وانما هو حركة رسالتها النضال في سبيل ظفر هذه الحقيقة.

ان التنظيم الانقلابي هو الذي يضمن تحقيق هذا الانفصال الحاسم بين الواقع الفاسد ونفسيته المنفعلة واخلاقه النفعية وعقليته الرجعية، وبين حركة الانقلاب اي الجيل العربي الجديد المتحرر من كل هذه الامراض. ومهمة هذا التنظيم الاساسية هي التوفيق والتوحيد بين غايتين تبدوان في الظاهر مختلفتين متناقضتين، خلق الفرد العربي الذي هو اساس الجيل الجديد، الفرد الواعي المسؤول المؤمن، ثم جعل هذا الفرد اداة فعالة صادقة في الحركة التي ستغير تاريخ امته. وكما ان كل اهمال لإيقاظ الوعي والمسؤولية الاخلاقية والإيمان الروحي في نفس هذا الفرد ينتقص من انتمائه للحركة الانقلابية وانسجامه معها، فكذلك كل تهاون في ضبط هذا الفرد في منطق القدر التاريخي الذي يرتب عليه ان يكون اداة منفذة لهذه الحركة يجعل منه عنصر عرقلة وهدم وتخريب. هذا التوفيق بين الغايتين هو الذي يجعل الفرد العربي عضوا بعثيا.

الحركة الانقلابية مسؤولة عن تهيئة ادوات صادقة للانقلاب، اي عن انسجام أعضائها مع نظرتها ومبادئها، وبهذا المعنى نقول ان لا فرق بين الغاية والوسيلة وان الوسيلة جزء متصل بالغاية نابع منها، وانها ليست مجرد طريق تختاره للوصول الى الغاية بل اشعاع من الغاية يعين لنا الطريق الموصل اليها. والحركة مسؤولة بالدرجة نفسها عن نجاحها في اداء مهمتها، اي عن ضرورة تماسكها ووحدتها واطراد نموها واتساعها، والتنظيم المطلوب هو الذي يضمن للحركة وحدتها واتساعها مع بقاء العقلية والاخلاق والروح الانقلابية مسيطرة عليها.

للحركة الإنقلابية كما ذكرنا نوعان من الأعداء ، العدو السافر وهو كل الفئات والاحزاب الرجعية (والرجعية تشمل الرجعية السياسية والفكرية والاقتصادية) والعدو المقنع وهو الاحزاب والفئات القومية التقدمية الزائفة، لذلك كان عليها  واجبان : المحافظة على اتجاهها الفكري، والمحافظة على اتجاهها العملي. فكل تساهل او انحراف في المبادئ يوقعها في شراك الرجعية، كما ان كل تساهل او انحراف في اسلوب العمل يهددها بالتجزئة والتناثر. فالتنظيم المطلوب هو الذي يقيها هذين الخطرين فيضمن ثبات الفكرة ووحدة الحركة.

ان التنظيم الملائم للحركة الانقلابية هو الذي يستمد من تعريفها، فهي حركة تاريخية فاصلة يتوقف على نجاحها مصير ملايين العرب وبقاء الامة العربية. ان الحركة الانقلابية لاتزال في بدء تكوينها واولى مراحلها، اي انها نواة صغيرة جدا في كيان الامة الكبير، ومع ذلك فهي مسؤولة عن هذا الكيان كله. لذلك فهي تنظم سيرها لا بالنسبة الى واقعها الحاضر بل بالنسبة الى هدفها البعيد النهائي، وهذا هو معنى مثاليتها. ومثالية البعث العربي ليست من قبيل التصوف الروحي او التحرج الاخلاقي او الفكري النظري، وانما في تقدير المسؤولية القومية التي تجعل كل خطوة من خطى المعركة ذات اثر بعيد في مصير  الامة كلها.

حمص، 23شباط 1950

في سبيل البعث الجزء الأول – البعث العربي هو الانقلاب

في سبيل البعث

الجزء الأول

البعث العربي هو الانقلاب



سأتناول (1) في حديثي معنى من معاني حركتنا، هذا المعنى هو ان البعث العربي يتلخص في كلمة الانقلاب. ولا اعتقد المجال متسعا للإفاضة ولتناول الفكرة من مختلف نواحيها، فاكتفي في هذا الحديث بان القي ضوءا على الروح التي تدفع حركة كحركتنا.  

لكل حركة روح او عاطفة او صورة تسبقها وتحفز على تحقيقها. وراء كل حركة نظرة الى الحياة تكون صميمة راسخة في اذهان الذين يقومون بالحركة، وهي التي تلون حركتهم وترسم لها منطقها. فما هي اذن روح الانقلاب او فلسفة الانقلاب او عاطفته؟


ان مجتمعنا العربي يوحي الى ابنائه الذين يشعرون بصلة صادقة به انه بحاجة الى بعث الروح، لان ما آل اليه من انحراف وتأخر وتشويه ليس مجرد مظهر، بل هو نتيجة لفتور او نضوب شاب الروح العربية في فترة من الزمن بفعل عوامل كثيرة مختلفة. هذه النظرة التي تحدونا الى العمل وترسم لنا منطق عملنا تتلخص هكذا : اننا نشعر بان مجتمعنا العربي بحاجة الى ان يغالب نفسه ويناضل نفسه، بحاجة الى بذل جهد ومشقة كبيرة حتى يسترد ذاته الحقيقية، حتى يصل بالجهد والمشقة الى اصالته، حتى يتحرر من الزيف الذي اصابه. ولا يكون التحرر سهلا ولا بدون ثمن، فنحن نعتقد ان العرب عليهم ان يدفعوا الثمن حتى يصلوا الى حالة جديرة بهم، لائقة بعبقريتهم، لائقة بماضيهم، وكل ما يأتي سهلا رخيصا يكون سطحيا مصطنعا. الانقلاب تعبيره العملي هو النضال، والنضال له معان كثيرة او له معنى واسع لا ينحصر في النضال السياسي وحده. وقد يظن بان النضال اسلوب للعمل وهذا هو الشائع  والمطبق عند الكثيرين، في حين  ان النضال بالنسبة الى العربي ليس   اسلوبا فحسب وانما هو غاية في حد ذاته. النضال الذي هو التعبير العملي عن فكرة الانقلاب، انما يقصد به ان تغالب الامة العربية نفسها بعد تلك الغفوة الطويلة، بعد ذلك الاسترخاء، بعد ذلك الاستسلام للحياة السهلة اللينة، بعد ذلك الابتعاد عن روح الحياة الجدية القاسية، ان يعود اليها الحنين لمصارعة الحياة والقدر، ان تنظر للحياة نظرة عميقة بطولية، وان ترى القيمة في الجهد قبل ان تراها في ثمرة الجهد. ان الآفات التي يشكو منها مجتمعنا ليست بالآفات السهلة، فالفكر مقيد مستعبد فقير هزيل مقلد. والشخصية سطحية ضعيفة الثقة بنفسها لا تقوى على الاستقلال ومجابهة الامور بصراحة. والروح فقيرة وناضبة، آفاقها محدودة، وجوها هابط منخفض. هل تمحي هذه الآفات؟ هل يسترد العرب معنى الحياة الاصيلة بمعجزة من المعجزات، او بتغيير في شكل الحكم او اشخاص الحكام، وهل هذه المظاهر تكفي لكي تتحول الامة العربية من امة تعيش على هامش الحياة والابداع، تتطفل على انتاج غيرها وقلما تحسن استعمال هذا الانتاج، هل تستطيع امتنا ان تنتقل من حالة كهذه الى حالة المساهمة الصادقة في الحضارة والابداع، ان يكون لها اثرها البين الواضح في حضارة العالم وفي تفكير الانسانية، وهل تعود الى نبع الحياة لتستلهم القيم الخالدة وتنشرها وتذيعها على الآخرين؟ وكيف ننتقل من حالة الى نقيضها اذا اكتفينا بتغيير المظاهر والاشكال دون تغيير في الروح؟.. لا نصل الى الروح والاعماق الا عن طريق هذه المشقة، هذا الانقسام الداخلي في نفس الامة ذاتها، هذه الحرب العنيفة التي لا تداني قسوتها قسوة الحروب الخارجية مع الاعداء الالداء.


ايها الاخوان، اننا نعيش في مستوى هابط من الروح، في جو فاتر يجب ان تدب فيه حرارة لاهبة تصهر النفوس وتفتح المواهب وتفجر العبقريات والبطولات وتطلق الايمان من  ينابيعه العميقة. كيف نوحد بين افراد هذه الامة الذين باعدت بينهم الانانية والمصالح الشخصية والاستسلام للحياة الرخيصة النفعية والاستسلام للاوهام والتنافر والخصومات العنيفة الحقيرة؟ كيف نحقق من جديد امة واحدة تتعارف وتتآلف اذا لم يكن ذلك في طريق نضال لاهب وعر شاق يضطر كل فرد من فرد من افراد الأمة العربية الى ان يعود الى نفسه، ان يغوص في اعماقه، ان يستكشف نفسه من جديد بعد التجربة والألم.. عندها توجد الوحدة الحقيقية التي هي نوع جدي مختلف عن الوحدة السياسية، توجد وحدة الروح بين افراد امة كانت في القديم واحدة ثم اصبح كل فرد منها نتيجة العزلة والانانية والنفعية يعيش غريبا عن اخوانه،  وانتصبت بين اجزاء الامة الواحدة حواجز باردة جامدة من هذه الانانية والنظرات السطحية. فلا تعود الوحدة الا في جو النضال الحار.

كيف يعود الينا ماضينا، هذا الماضي الذي نتغنى به ونحن اليه، وكثيرا ما نختلف على تفسيره ومعناه. فمنا من يحسب ان مجرد تقليد اشكاله الجامدة يعيد الينا سر قوته وعبقريته، ومنا من تنفره الاشكال فيعرض حتى عن الروح ويحاول ان يتنكر لهذا الماضي وينكره وينكر كل صلة به.

في ماضينا روح اصيلة، في ماضينا حياة حرة سامية، ولكنني اعتقد ان تلك الروح، تلك الاصالة وذلك السمو لا يمكن ان نفهمه اونتصل به بشكل من الاشكال اذا لم نصعد اليه صعودا شاقا داميا، اذا لم نستحقه استحقاقا كريما لائقا. فكل ما نطمح اليه من اسباب الخلاص، من اسباب التقدم والرقي، يجب ان يعتبر اهدافا بعيدة صعبة لا يليق بالعرب ان يحتالوا عليها احتيالا لينالوها بغير ثمن، وانما ان يمشوا اليها مؤمنين صابرين، وان يعرفوا بان قيمة تلك الاهداف هي في ان يجتازوا كل الطريق الموصل اليها.


اننا ننظر الى امتنا هذه النظرة ونؤمن بانها امة واحدة وهذا الايمان نفسه يدعونا الى اعلان الانقسام فيها، لانها لن تسترد وحدتها، لن تبلغ هذه الوحدة المثالية التي هي الآن نظرية مبدئية، الا اذا انقسمت على نفسها. ولكننا في هذا الصراع نحتفظ بالمحبة للجميع. عندما نقسو على الاخرين نعرف ان قسوتنا عليهم هي في سبيل ارجاعهم الى نفوسهم والى حقيقتهم، وعندما يقسو علينا الاخرون نعرف ان نفوسهم الحقيقية التي يجهلونها، ارادتهم الكامنة التي لم تتضح بعد، هي معنا، وان كانت سيوفهم علينا.

ايها الاخوان: عندما اقول ان النضال بمعناه الواسع العميق هو السبيل الى بعث الروح العربية وتحقيق الانقلاب العربي، وعندما أشترط المشقة الكبيرة سبيلا لصدق هذا النضال، لا اكون متشائما او داعيا الى التشاؤم بل على العكس، لأن هذه الصعوبة نفسها هي التي تمهد الطريق وتسهله.

عندما ينفتح طريق النضال الجدي  امام طليعة الامة العربية، عندها تتوضح الفوارق بين النوع الجدي من المواطنين، النوع الذي حرر نفسه من المصلحة والشهوات، وبين النوع الذي استعبدته المصالح والذي  ضعفت نفسه عن  الايمان بكفاءة امته وبقدرتها على انقاذ نفسها بنفسها. مجرد هذا الانقسام، مجرد هذا التوضيح بين النوعين، ينقذ الامة من الغموض الذي تعيش فيه، ومن الشك، لانها ترى صورة صغيرة عن مستقبلها، لانها تلمس جزءا من حقيقتها التي تشعر بها والتي اصبحت حقيقة واقعة امامها. ان مجرد تقدم الطليعة المناضلة الى الامام يوقظ البذور الخيرة في نفس كل عربي، لان العروبة تعني التفاؤل، تعني الأيمان، ان في كل عربي امكانيات للخير والتجدد، ولان يعود العربي الاصيل الى اصله.

فطريق المناضلين صعب في الظاهر سهل في حقيقته، لانهم يحاربون ليس بقواهم وحدهم، ليس بعددهم المحدود الضئيل، وانما يحاربون ايضا بمصلحة العدد الاكبر من الشعب العربي الذي يوقظه تقدمهم في الطليعة فيتكشف ذاته ومصلحته وطريقه، يحاربون بالارادة الكامنة التي تجيش في صدر الامة جمعاء، هذه الارادة التي يعوزها المثل والقدوة الجريئة حتى تنتقل من حالة السكون والغفوة الى حالة اليقظة والفعل.

واني اتمثل بمعنى آية كريمة وهو ان العرب المسلمين في زمن ظهور الدعوة كانوا ينتصرون بعدد قليل لان الله يمدهم بجنود لا ترى ولا يراها اعداؤهم. اني افهم من هذا المعنى ما يتفق تماما مع حالة الطليعة المناضلة في مرحلتنا الحاضرة فالجنود غير المنظورة التي تحارب مع هذه الطليعة هي مصلحة العدد الاكبر لانها تعني بقاء الامة وحفظ كيانها وتحقيق تقدمها. وهذا التجاوب بين الحركة الانقلابية وبين مصلحة العدد الاكبر من الشعب هو وحده الذي يضمن لهذه الحركة الفوز والنجاح.


ايها الاخوان : اننا نعتقد بان الروح هي الاصل في كل شيء الدافع الروحي  العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب، وانما يخلقها ايضا. فالانقلاب يجب ان يتناول الروح مباشرة وان لا ينحصر او يتوقف عند حدود الاشكال والمظاهر. لو فرضنا ان صدفة من الصدف او معجزة من المعجزات حررت العرب في يوم واحد من جميع هذه المظالم والمفاسد التي تقف حجر عثرة في سبيل حياتهم وتقدمهم، وان الحكومات زالت بفعل سحر عجيب من طريقنا وحلت محلها الحكومات النزيهة القومية الغيورة على المصلحة العامة، هل تعتقدون بان الانقلاب العربي يتحقق ؟


انني اعتقد بان شيئا من هذا لا يكون، لان التبديل السطحي الذي لا يمس الروح والذي لا يفتح الفكر والذي لا يهز الخلق ويقومه والذي لا يفجر الايمان نتيجة المصاعب، ان هذا التبديل السطحي لا يلبث ان يتحول الى ما كان عليه في السابق.

المجتمع العربي  المنشود والمستقبل الذي ننشده والذي تتحقق فيه الر وح العربية  ويتحقق فيه العدل وسلامة التركيب  بين افراد الأمة وطبقاتها  يجب ان تهيأ له ادوات حية من البشر تكون من نوعه وجوهره حتى تكون امينة في تطبيقه، واعية لاساليبه وطرقه. ان النضال الذي سميته التعبير العملي عن الانقلاب، هو الذي يخلق الادوات الحية، اي المناضلين، الذي يصبح الانقلاب شيئا حيا في نفوسهم وعقولهم واخلاقهم، او يصبح حياتهم ذاتها، فلا بد اذن من اجتياز هذا الطريق الذي يخلق لنا المناضلين تباعا، والذي يكون امتحانا للنفوس القوية المثالية  التي تتعفف المصلحة الشخصية وتنظر الى الحياة نظرة ابعد وارفع من اللذات والاستمتاع، والتي ترى فيها تحقيقا لعنصر سام سماوي وجد في الانسان لكي  يشع في سلوكه. هذا النضال هو المصنع للادوات الانقلابية الامينة الوفية.

عام 1950
(1) حديث القي في مكتب الحزب في حمص

في سبيل البعث الجزء الأول – حزب الانقلاب

في سبيل البعث

الجزء الأول

حزب الانقلاب


السؤ ال المطروح  للمناقشة الآن يدور حول معنى الحزب، ما هو الحزب وما هي الصورة الصادقة للحزب الذي تحتاجه امتنا. لا اريد ان ابحث في حزب البعث العربي بصورة خاصة ولا اريد ان ادخل في موضوع طويل مفصل عن مبادئ البعث العربي، كل ما  ابغيه من هذا الحديث هو ان احدد بصورة واضحة ومختصرة الفارق الجوهري بين وظيفته في امم اخرى واوضاع مختلفة.

في امم العالم الراقية ينظر الى الحزب على انه نموذج للدولة او تصميم لدولة مقبلة او لاصلاح دولة قائمة، فالحزب يتخذ  في مبادئه وفي تشكيلاته واعماله اوصاف الدولة واهدافها. وغاية ما يطمح اليه الحزب في تلك البلاد ان يعد تمام الاعداد جهازا جديدا يستطيع في الوقت المناسب عندما تتوافر الشروط وتحين الفرصة ان يستلم الحكم ويدير الدولة. فهل هذا هو مبتغانا وهل هذا ما نحتاج اليه وهل هذا هو ما يلبي حاجتنا ويسد النقص الذي نشكو منه؟

عندما تقوم الاحزاب في البلاد ذات الاوضاع السليمة السوية لا يكون النقص الا في الدولة، ولا يكون هذا النقص في الدولة نقصا فادحا جوهريا خطيرا، فيعمل الحزب في وقت قد يطول وقد يقصر على اعداد الرأي العام لتأييد وجهة نظره ورأيه وعلى اعداد أعضائه والصفوة منهم لكي يستطيعوا عندما يتولون الحكم ان يصلحوا ذلك الخطأ الذي يرونه في الدولة في ناحية او أكثر. والدليل على بقاء الامة سليمة في الدول الاخرى هو ان الأحزاب على اختلافها وتناقضها احيانا يكمل بعضها عمل بعض. ولكن الحزب هناك قلما يتعرض للامة لان الخلل في البلاد ذات الأوضاع السليمة لا يتجاوز الدولة ولا يصل الى الامة، فالامة هناك قائمة وهي شيء حقيقي راهن قوي منسجم للحد الكافي واع لذاته ومصلحته، وانما الخلل في من تولوا ادارة تلك الأمة وفي الجهاز الاداري او ناحية من نواحي ذلك الجهاز.

لننظر الان في حالتنا، في حالة الامة العربية، هل النقص والخلل هما في الدولة فحسب، هل كل ما نحتاجه هو ايجاد دولة قوية واعية منظمة؟ ولنتساءل لكي يتوضح الموضوع اكثرمن ذلك، لنتساءل ما هي الدولة؟ الدولة آلة لا اكثر، الدولة جهاز، الدولة جسم لا روح فيه وانما هي آلة مدبرة عاملة لأن المشرفين عليها هم اشخاص أحياء غالبا ما يكونون من ذوي الخبرة والقدرة. وكل ما يطلب من الدولة هو ان تضمن تسيير الافراد وسلامة العلاقات بين الافراد والمواطنين وبين ذلك الشيء المعنوي الذي هو الدولة والممثل في حكومة ومجلس وغير ذلك، فهل اذا تصورنا امكان قيام دولة منظمة في بلادنا نستطيع ان نطمئن الى ان الغاية الكبرى قد بلغت ام هل نستطيع ان نتصور امكان قيام دولة مدبرة ومستقيمة الحالة اذالم يكن ثمة أمة حية منسجمة واعية؟ فالفارق كل الفارق بين حياتنا وحياة الأمم الراقية هو ان ما نحتاج اليه هو معالجة الأمة، وما نقص  الدولة عندنا وكل النواقص الفادحة التي تعتري الدول القائمة في البلاد العربية الا نتيجة لذلك النقص الاساسي الموجود في حياة الأمة. فاذا صح هذا التفكير يكون واجب الحزب ورسالة الحزب الذي ينشا في بلادنا ويعول عليه لتلبية الحاجات العميقة الاساسية ان يعالج الأمة قبل معالجة الدولة، وتكون بالتالي رسالته ان يكون على صورة الأمة المبتغى خلقها او بعثها لا على صورة الدولة، فاذا قامت الاحزاب في بلاد الغرب علي صورة الدولة وكانت تكتفي بالجسم دون الروح فلأن بلادهم لا تتطلب اكثر من ذلك، ولكننا نحن في حالتنا هذه، في وضع الامة العربية الآن، انما نحتاج الى حزب، الى حركة تمثل بالدرجة الاولى عنصر الروح وتخلق عنصر الروح والحياة وتتوفر فيها هذه الروح لتشع منها فيما بعد على المجموع الاكبر، والحزب الحقيقي، الحزب الحي، الذي يمكن ان يؤدي رسالة في العصر الحاضر للامة العربية هو الذي يجعل هدفه خلق امة او بعثها شريطة ان يحقق هذا الوصف في نفسه اولا، اي ان يكون هو أمة مصغرة للامة الصافية السليمة الراقية التي يريد ان يبعثها. ليس غريبا ان نسمع في بلاد العرب من اقصاها الى اقصاها منذ حين وخاصة في الزمن الاخير تتردد كلمة تخرج من افواه البسطاء قبل المثقفين وكانها كلمة السر وكأن فيها العلاج والحل والخلاص هي كلمة الانقلاب.

ليس غريبا ان نسمع  ذلك اذا رجعنا الى الماضي والى التاريخ واستجوبناهما عندها نرى حقيقة لاتكاد تكون موضع خلاف وهي ان العرب في تاريخهم الطويل لم يعرفوا غير نوعين من الحياة، الانقلاب والانحطاط، خلافا لكثير من الامم التي عاشت في الماضي ولكثير من الامم التي تعيش في الحاضر، هذه تكاد تكون ميزة او علامة فارقة حقيقية للامة العربية. اما ان تقوم بانقلاب يحدث نهضة تفيض على بلاد العرب وتبلغ الشمول وتصبح نهضة عالمية انسانية واما ان توغل في النوم والانحطاط. فليس من حل وسط في تاريخ العرب، او ما يصح ان يسمى تطورا، في حين اننا نعرف ان تاريخ الامم الاوروبية منذ مئات السنين عبارة عن تطور في أكثره، والانقلاب هو الاستثناء والشذوذ عن القاعدة. فاذا نظرتم الى ما يقاسيه العرب في هذا العصر من المصائب والكوارث التي تتوالى عليهم، وكل واحدة اثقل وافدح من التي سبقتها، اذا تدبرتم هذا الواقع المر الذي نعيش فيه والذي يكاد يوصل الى اليأس واخذتم بعين الاعتبار تلك النظرة التي المحت اليها، وهي ان الامة العربية بطبيعتها لا تعرف حلا وسطا فهي اما ان تعيش على الانقلاب واما ان تعيش في الانحطاط، واذا نظرتم من جهة الى قسوة الواقع ومرارته، ومن جهة اخرى الى تلك الظاهرة التي هي بمثابة قانون، ادركتم ان ايغال العرب فيما يبدو في الظاهر انه تأخر وانحطاط هو عبارة عن تحفز للانقلاب الذي هم مهيأون له.

اذا كان الجسم جبارا فافضل له العري من لبس ثوب ضيق، واذا كانت النفس عظيمة الاهداف والغاية فالفقر والعدم اشهى اليها من المادة المتواضعة التي لا تروي رغبتها وعظيم حاجتها. فمصيبة العرب في هذا الدور هو ان الطبقة التي فرضت نفسها عليهم تعيش في طريق معاكس تماما لنفسيتهم وامالهم، فهي طبقة شائخة طبقة فاسدة افسدها الترف، افسدها الاستثمار، أفسدها ظلمها للآخرين، ونفسية الظالم و نفسية المستثمر، نفسية الغاصب هي دوما نفسية شائخة هرمة متعبة لذلك تنظر هذه الطبقة الى ابسط الامور وتحسبها غاية ما يطمح اليه ويرغب فيه  تنظر الى مظاهر بسيطة من التقدم فتقول للشعب، للامة العربية جمعاء، هذا اقصى ما يمكن ان تصلي اليه. عندها تفضل هذه الامة التي اعتادت على احد حالين لا ثالث لهما اما ان تلبس الثوب الذي يوافقها او ان تبقى عارية، اما ان تملك الوسائل التي تساعدها على تحقيق رسالتها في الحياة او تكون فقيرة معدمة، عندها تفضل هذه الامة ان يطول اجل خلاصها من ان تقبل بخلاص مزيف، فاذا قلنا ان الحزب الذي تناديه الامة العربية من اعماقها والذي تدعوه الامجاد العربية من ماضي التاريخ العربي السحيق هو الحزب الذي يجعل الامة غاية له لا الدولة، وان يكون هو امة مصغرة تكون نموذجا للامة الشاملة، اذا قلنا ذلك لا نكون قد ابتعدنا عن الحقيقة اذ كلنا نشعر هذا الشعور، نشعر ان احتياجنا ليس الى اصلاح جهاز الدولة او ترميم خلل موضعي وانما هو الى انقلاب عميق شامل. فاذا كان ذلك صحيحا، اذا كانت هذه الحاجة صادقة فكيف يكون الحزب صاحب الرسالة قادرا على حمل رسالته؟


هو كما قلت ان يكون امة الانقلاب قبل ان يحقق انقلاب الامة وهذا يعني ان هوة سحيقة، ان فارقا اساسيا حاسما قد وضع بين الواقع، بين الحياة الواقعة في بلاد العرب، وبين هذا التكوين الجديد الذي هو الحزب، فرقا جوهريا في النوع، فرقا مطلقا لا يقبل النسبية ولا يتعرف عليها. ان يؤلف الحزب من نوع جديد يختلف في كل شيء عن الواقع الذي نثور عليه ونريد التخلص منه. فامة الانقلاب التي هي الحزب يجب ان تبرهن ليس فقط في الاهداف المكتوبة، ليس فقط فيما تضعه على الورق من برامج ومناهج واساليب التنظيم، بل تبرهن على عقلية جديدة، على روح جديدة، على خلق جديد، لا تجمعه بالواقع الفاسد اية رابطة او جامعة، ان لذلك علائم ودلائل وليس من الصعب ان نلمس الدلائل التي تدلنا على ان هذا التركيب الجديد، هذه الامة المصغرة، هذا الحزب، هو فعلا انقلابي ام انه لا يحمل من الانقلاب الا اسمه وعنوانه. وهذه الدلائل هي ان تتحقق في الحزب نفسه، في اخلاق أعضائه واسلوب عملهم وفي طريقتهم نحو تحقيق اهدافه، ان تتحقق كل الفضائل التي يبغون خلقها في المجتمع المقبل. لا يمكن ان يكون الحزب مماثلا  مشابهامتجانسا مع الواقع الفاسد المريض وان يدعي ان باستطاعته خلق مجتمع  صحيح جديد، فكما اننا نريد ان تكون امتنا في مستقبل قريب امة حية منسجمة حرة طليقة من كل الاعتبارات البالية، يحتل فيها المواطن المكانة التي تؤهله اليها كفاءته وخلقه واخلاصه كذلك يجب ان يكون الحزب الانقلابي محققا لهذه الصفات في تشكيله  وفي اثناء طريقه نحو غايته. اذا لم يكن الحزب الانقلابي مجالا لظهور الكفاءات المخبوءة في الامة، اذا لم يكن مجالا لاحتلال كل فرد حسب ما تؤهله اليه قدرته لا اسمه ولا اسم عائلته، اخلاصه لا وجاهته او وسائله المصطنعة الخارجية، اذا لم يكن الحزب منذ بدئه في طريق النضال قادرا على تحقيق هذه الفضائل التي يدعو الشعب اليها ويسعى الى تحقيقها في الامة فكيف يمكنه ان يحققها في ما بعد؟ لنقل باختصار ان مستقبل العرب متوقف على هذه المرحلة من النضال، فاذا لم نقدر خطورتها التاريخية، اذا لم نكن واثقين من اننا نكتب صفحة جديدة في تاريخنا وفي تاريخ الانسانية فلن نقوى على تحقيق شيء. اما ان نأتي بشيء مبدع خطير يقلب حياة العرب من الذل الى المجد ومن الانحطاط الى الرقي، واما ان تفشل محاولتنا فشلا تاما، لن نعرف الحل الوسط، وقديما قلنا في اكثر من مناسبة ان التطور يعني التأخر واننا لا نستطيع ان نعتنق النظرة النسبية، وان نقول ان هذا الحزب رغم كل اخطائه ونواقصه هو خير من كل الاحزاب الاخرى.

هذا لا يمكن ان يسمى مديحا او حسنة اوفضيلة، الفضيلة الحقيقية التي يجوز ان نسميها فضيلة في الحزب هي عندما نقول انه يناقض الاحزاب الاخرى والواقع الفاسد. ان النظرة النسبية تقضي عليه بالعقم، وبالفشل على كل حركة. فنحن اذا وعينا هذه المسؤولية، وهي مسؤولية تاريخية، واذا قمنا بما ترتبه علينا من واجبات نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية ليس فقط جنودا محاربين بل افرادا مناضلين، واشخاصا واعين مفكرين. بل اننا نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية روحا صادقة اصيلة قوية ذات طاقة تقدر وتستطيع ان تفجر الحضارة تفجيرا، وان تملأ صفحات التاريخ بالابداع في مختلف نواحي الحياة. ولا ننسى ان حضارة العرب في القديم لم تكن ممكنة وما كانت لتتحقق لولا تلك الفترة النضالية التي لم تتجاوز عشرات السنين، ولكنها كانت هي الخميرة الروحية، كانت هي الكنز النفسي الخلقي الذي سمح للعرب فيما بعد ان يتوسعوا وينتشروا ويختلطوا بامم عديدة في جو حضاري مترف ومع ذلك ان يحتفظوا بقوة الابداع وبقوة الخلق.


شباط 1949

في سبيل البعث الجزء الأول – الدور التاريخي لحركة البعث

في سبيل البعث

الجزء الأول

الدور التاريخي لحركة البعث

عندما(1) نريد أن نلقي نظرة على تاريخ حزبنا ونفحص فيه مواطن القوة والضعف بكل موضوعية وتجرد نستطيع ان نقول ان حركة البعث تمثل شيئا جديدا في حياة العرب الحديثة في ناحيتي الفكر والعمل، رغم ما انتابها وما يمكن أن ينتابها من نواقص. انها اول محاولة جدية لتحريك القوى الثورية في الوطن العربي ضمن أهداف عربية وطريق عربي مستقل. ولا يمكن لحركتنا أن تدعي انها خلقت القوى الثورية، فالامة العربية تعيش مرحلة ثورية من قبل ظهور حركتنا. ولكن هذه الحركة حاولت أن تعطي الثورة العربية صيغتها الموحدة المنطقية الشاملة، وان تضعها في وقت واحد، في جو العصر الذي تعيش فيه، عصر المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وفي جو الروح العربية الاصيلة. لقد أعطت حركة البعث للعروبة مفهومها الحديث، ومضمونها الايجابي الثوري بعد ان كانت العروبة لفظة فارغة غامضة، واطارا فاقد الروح والمحتوى. وأصبحت القومية العربية مرادفة لحياة الشعب العربي ومشاكله السياسية والاقتصادية والفكرية، وأصبحت تعني في وقت واحد الثورة على التخلف والظلم الاجتماعي، والثورة على التجزئة وفي سبيل توحيد الوطن العربي، والثورة على أمراض المجتمع وعصبياته وامتهان كرامة الفرد والمجموع وفي سبيل الديمقراطية والقيم الإنسانية.

لقد قدر لحزب البعث الاشتراكي أن ينقذ الاجيال الصاعدة من الضياع بين العصبية الاقليمية والثورة الاممية ووضعها في صميم العمل التاريخي، عندما وضح لها الحقائق التالية:

  1. ثورية المرحلة، وعقم الاعتماد على التطور والاصلاح الجزئي.

  2. واقعية الثورة وطابعها الاقتصادي واعتمادها على جماهير الشعب.

  3. وحدة الاهداف الثورية وتفاعلها، والتأثير المتبادل للنضال التحرري والنضال الاشتراكي والنضال الوحدوي.

  4. شمول القضية، وترابط مصلحة الشعب العربي في جميع اقطاره وضرورة توحيد نضاله.

  5. الحرية كأعمق أساس وأقوى دافع، واعتبار القومية صورة حية عن الانسانية، واعتبار الامة مسرحا لتحقيق القيم الانسانية. 

وبمقدار ما يكون التوضيح العلمي الواقعي للاهداف وللمنطق الذي يربط فيما بينها وللطريق الذي ينبع من هذه الاهداف ويساعد على تحقيقها، بمقدار ما يكون هذا عملية خلق، ويكون حزب البعث قد اسهم في خلق هذا المستوى من التفكير والنضال الثوريين الذي بلغته بعض الاقطار العربية في هذا الوقت.

الا ان المساهمة الكبرى لحزبنا في خلق هذا المستوى الثوري الحديث هي نظرته الجديدة الى الوحدة العربية، هذه النظرة التي تختلف اختلافا جوهريا عن كل ما سبقها والتي أخرجت الوحدة من سجن الافكار العامة والألفاظ الغامضة ونفخت فيها الروح والحياة، وفتحت لها طريق التحقيق عندما ربطتها ربطا عضويا بنضال الشعب العربي من أجل التحرر والديمقراطية والاشتراكية. فلأول مرة يظهر مفهوم ثوري للوحدة العربية يحرج الرجعيين والاقليميين والشيوعيين على السواء، يفضح الفئات الحاكمة الرجعية التي جعلت من الوحدة شعارا خادعا لتبرر به خضوعها للاستعمار ومقاومتها للنضال الاشتراكي، كما يفضح الاحزاب التي تقر الوحدة نظريا وتعمل على أساس استمرار التجزئة، كما يفضح اخيرا شعوبية الأحزاب المناهضة للوحدة التي استمرت في عدائها حتى بعد ان أصبحت الوحدة نضالا جماهيريا ثوريا واضح المعالم.

ولئن كان حزبنا اول من دعا إلى وحدة النضال العربي وعمل على تحقيقها فأنه أيضا اول من دعا الى نضال الوحدة وحققه فعليا. لقد كان حزب البعث منذ تأسيسه اول من تجاوب مع نضال المغرب العربي وحرك جماهير الشعب لدعم هذا النضال وتقدير أهميته وأثره في المصير العربي كله، كما سعى الحزب دوما لايصال صوته، رغم شتى العقبات، إلى الشباب الثوري في أقطار المغرب، من أجل توسيع أفق نظرتهم القومية واطلاعهم على المفهوم الحديث للقومية العربية.

وكان لحزب البعث العربي الاشتراكي دور تاريخي في تحقيق أول خطوة عملية نحو الوحدة العربية أي في تحقيق الوحدة بين سوريا ومصر، هذا الدور تشهد به الوقائع ويشهد به الشعب، ولا تجدي في انكاره والتقليل من شأنه المكابرة ولا المغالطة.

بقي ان القول ان المجال الذي قصر فيه الحزب هو البحث الاشتراكي المنظم ووضع نظرية مفصلة للاشتراكية العربية. فلقد كان يكفي الحزب في السنوات الاولى لتأسيسه ان يعلن عن مبدأ استقلال الطريق العربي الاشتراكي، وان الامة العربية تبني لنفسها اشتراكية مستمدة من روحها وحاجاتها وظروفها. الا انه كان من الواجب ان نتجاوز هذه المرحلة الابتدائية ونطور فكرتنا ونعمقها ونغنيها بتجارب البلدان الاخرى. وهذه احدى مسؤوليات البعثيين الرئيسية في المستقبل القريب.

أما في السياسة الدولية فقد كان حزب البعث اول من دعا إلى سياسة الحياد بين المعسكرين العالميين، منذ عشر سنوات أو أكثر. وكانت سياسة الحياد التي نادى بها الحزب أكثر من سياسة، اذ انها تتصل بمبادئ البعث وفكرته الاساسية. ففكرتنا منذ البداية تدعو الى حل ثوري جديد لمشاكل العالم، ينطلق من نظرة ايجابية الى الانسان ويخلو من سلبية النظرية المادية وتعصبها وكفرها بالحرية.

وحركة البعث تؤمن بالانسانية وبأن للأمة العربية رسالة إنسانية. وهي لا تفصل بين القومية والانسانية، كما انها لا تفصل بين الحاضر والمستقبل، بل تسهر على ان تظهر صورة المستقبل العربي المنشود من خلال الحاضر الذي نبنيه. والمستقبل العربي اما ان يخلص لمبادئ النضال الشعبي فيكون مستقبلا جديدا مبدعا جديرا بحمل الرسالة، واما ان يستخف بهذه المبادئ والمثل ويعتبر انها كانت ضرورية لمرحلة معينة ثم استنفدت أغراضها، فيحمل في طياته بذور نواقص أساسية وانتكاسات جديدة. وفي هذا المجال يظهر الدور التاريخي لحركتنا أكثر من أي وقت مضى. ان فكرة البعث لم توجد لتضع نفسها مقابل الاستعمار وأعوانه وهي ليست جوابا على الاستعمار وأعوانه، بل هي جواب على سؤال تطرحه الامة العربية على نفسها عندما تريد ان تتخذ موقفا تاريخيا من المبادئ والمثل التي تؤمن بها، وعندما تواجه مسؤولية الرسالة التي تنتظرها. ان هذا الجواب الذي أعلنته حركة البعث منذ ظهورها والذي يأخذ في المرحلة الحاضرة أهمية خاصة، هو: اننا نريد ان تكون النهضة العربية عميقة متينة الأسس، غنية الروح، تقدس الحرية وتطبقها وتؤمن بالإنسان وتحترم حريته واستقلاله. نريد أن نجنب النهضة العربية كل أثر ومظهر سلبي يتسرب اليها كعدوى وتقليد للاعداء والامراض التي كنا نحاربها، نريد ان يكون طريق النهضة واضحا مشرقا، ووسائل الثورة نبيلة مثل أهدافها. ونحن لا نستطيع أن نصحح السلبية بسلبية مثلها، بل بمزيد من الاخلاص لمبادئ البعث وباعطاء البراهين الجديدة على ايماننا بالحرية وبجدارة الانسان عامة، والانسان العربي خاصة، بممارسة هذه الحرية.

ان امام حركتنا مستقبلا واسعا ومسؤوليات كبرى، فثمة أقطار عربية ما زالت تنتظر ان تدخلها فكرة البعث لتتفاعل مع نضالها وتغنيه، أمامنا أقطار المغرب العربي والسودان وبلدان الخليج العربي والجنوب. وأمامنا اقطار في المشرق العربي يناضل فيها حزبنا نضالا بطوليا ضد الحكام الرجعيين والانتهازيين، وأمامنا الجمهورية العربية المتحدة التي ساهمنا في بنائها كطليعة تقدمية للوحدة العربية، ومازلنا مسؤولين عن تثبيت دعائمها وتعميق ثورتها وتصحيح بعض مفاهيمها.

7نيسان 1960

(1) نص الحديث الذي ألقي في بيروت في احتفال القيادة القومية بالذكرى الثالثة عشرة لتأسيس الحزب. 

في سبيل البعث الجزء الأول- طموح البعث

في سبيل البعث

الجزء الأول

طموح البعث

المعرفة لا تكون صحيحة الا اذا امتحنت بالعمل، فالعمل يغنيها ويصححها. ان نضال الأمة العربية نضال طويل لم يبتدئ مع حركة البعث ولن ينتهي معها. وكل ما في الامر ان هذه الحركة خرجت من حاجات امتنا في مرحلة معينة لتستفيد من التجارب السابقة، ولترفع مستوى النضال إلى الحد الذي يتكافأ مع عظم قضيتنا وعظم أهدافها ومع عظم الاخطار المحدقة بها، ومع روح هذا العصر، فكانت محاولة صادقة نرى اليوم أنها أثمرت بعض الثمار.

ان طموحنا كبير، طموحنا هو طموح الانسان وطموح كل شعب اصيل شاعر بشخصيته مقدر لمعنى وجوده الانساني، طموحنا لا يقتصر على دفع الاخطار والتخلص من الاعداء ومن ظلمهم الذي لحق بنا زمنا طويلا. طموحنا لا يقف عند حدود السلبية والرفض والتخلص وانما هو في أعماقه طموح ايجابي بناء في أن نعمل وان نسترجع من جديد تجاوبنا الصادق مع الحياة، وان تساهم في بناء الحضارة ونساهم في اخصاب القيم الانسانية وفي الدفاع عنها وفي تجسيدها تجسيدا صادقا في حياتنا وسلوكنا.

عندما طلع علينا الاستعمار مؤخرا بنظرية الفراغ، قائلا ان بلادنا فيها فراغ يستدعي ان يملأ بالاستعمار والاحتلال، خطر لي -بالمقارنة- ان الفراغ قائم فعلا ولكن ليس في شعبنا وبلادنا، وانما في هذا القسم من العالم الذي مسخ القيم وزيفها ووصل في النفاق الى حد التناقض مع ما يدعيه من مبادئ. ويخطر لي دوما ان ثمة في العالم فراغا مخيفا، ولا يستبعد أن تكون أمتنا من بين الأمم التي ستطالب بأن تملأ هذا الفراغ في وقت أقصر مما نظن. ان حضارة المستعمرين تنذر بالانهيار والفشل طالما انها تتجنى على الشعوب الضعيفة مثل هذا التجني، وتغالط وتكاد لا تعرف أنها تغالط، أي ان الزيف امتزج في نفوسها واذهانها إلى حد انه اصبح طبيعيا فيها ومن صميم مفاهيمها. من يعيد الى هذه القيم التي أفرغت من معناها ومحتواها في الغرب.. من يعيد اليها الحياة والدم الا الشعوب التي عانت الظلم، وعانت تجربة الألم الى الأعماق؟ فكأن القدر يهيؤها لان تحتل مكانها قريبا وان تكافأ على آلامها بأن تظهر هذه المبادئ والقيم الخالدة التي لا غنى للانسان عنها، والتي لا تستقيم بدونها الحياة. لعل القدر يهيئ شعوب افريقيا وآسيا وكل الذين عانوا الظلم الخارجي والداخلي، ان يخرجوا من هذه التجربة بثمرة يانعة لا تقتصر فائدتها عليهم فحسب، وانما تشع على الانسانية كلها. لذلك قلت ان طموحنا لا يقف عند حد اخراج المستعمرين من أرضنا، وايقاف المستغلين في الداخل عند حدودهم، ولا يتوقف عند حد تأمين الحرية والرخاء للشعب، وانما هي كلها وسائل لكي تنطلق عبقرية هذه الامة نحو الابداع، نحو المساهمة الجدية في حمل الاعباء الانسانية.

وهذا في الواقع ما كان ينفرنا من الحركات الوطنية السابقة. وهذا ما أشعرنا بأن ثمة واجبا علينا وان ثمة مهمة جديدة لنا، فأنتم تعرفون في أي مستوى كانت تحيا وتعمل الحركات في مختلف اقطارنا العربية، في أي مستوى مقلد سطحي سلبي.

يأخذون على الاستعمار أشياء كانوا هم أنفسهم يرتكبونها يوميا، ينادون بالحرية لا ايمانا منهم بالحرية ولكن دفعا لتهمة الغرب الموجهة الينا باننا لا نقدر معنى الحرية، ينادون بالمساواة والرقي وغير ذلك لا عن قناعة، ولا عن معاناة وتجربة عميقة لهذه الأشياء، وانما في المظهر والاعلان لدفع التهمة. اذن لم تكن تلك الحركات اصيلة، لم تكن تنبع من الشعب، ولم تكن تعبر عن حقيقته وامكانياته لأنها لم تكن تعتمد عليه ولا تثق به.

ولعلكم سمعتم أكثر من مرة أولئك الزعماء والسياسيين في أحاديثهم الخاصة: “الشعب لا يفهم، لا يعي، لا يقدر”، وفي خطبهم يشيدون به ويمتدحون فضائله ويستغلون غروره.

الثقة الحقيقية بالشعب هي أعمق من تلك، تبدأ بالصدق، أي ان يكون المناضلون صادقين في عملهم وواثقين من أنفسهم، وبعد ذلك لا بد أن يكسبوا ثقة الشعب لان امكانيات شعبنا غزيرة وعميقة، ولكن اكثرها دفين ومغمور.

كنا اذن نشعر بأن مرحلة جديدة يجب ان تبدأ، وان تظهر فيها الامة العربية على مستوى جديد غير المستوى السلبي الذي كانت عليه في الماضي، غير مستوى التشكي والتظلم والمواربة والتستر بعناوين المبادئ لكي ترفع عنها التهم الموجهة اليها من الاعداء. مرحلة جديدة تقف فيها أمتنا لتواجه مصيرها وجها لوجه.. تواجه حقيقتها بصراحة وجرأة، ولا تعبأ باستعمار ولا أجنبي. الأصل انها موجودة، ولكن تريد ان يكون وجودها صادقا وعميقا، و لا تتلكأ عن رؤية أخطائها ونواقصها لأن هذا أول دليل على نضجها وبلوغها سن الرشد. والواقع ان المرحلة الجديدة التي بدأناها لم تغفل قيمة الشعب في خوض المعركة ضد الاستعمار، فقد وجهنا انظار الشعب إلى نفسه وإلى أمراضه. و هذا تشجيع للشعب وثقة فيه لم تكن الحركات السابقة تجرؤ عليها، بل كانت تداريه وتداجيه. لذلك لم يكن يثق بها ولم يكن يمشي وراءها الى آخر الطريق.

أما مرحلتنا فكانت تنظر الى الاستعمار بأنه نتيجة اكثر منه سببا، نتيجة لما يشوب مجتمعنا من نقص ومن تشويه. وأعتقد بأن هذا ما يجب ان نلح عليه وأن نزداد جرأة في المضي فيه، وأن نعتبر اننا دخلنا النطاق العالمي، ونقوم بدورنا الذي تجاوز حدود وطننا وحدود قوميتنا، وانه يجب ان نواجه هذا المستقبل الايجابي بثقة وتفاؤل واقدام. قد يبدو لكم كل ذلك الآن شيئا طبيعيا وسهلا يسيرا، ولكن عندما بدأنا حركتنا قبل خمسة عشر عاما كانت هذه اللغة صعبة الفهم وصعبة التقبل، لان الجو الذي خلقته الحركات السابقة التي قامت على الهواة والمحترفين، وعلى المترفين الذين كانوا يتسلون بالسياسة لا على المناضلين الصادقين، كان جوا مزيفا حجب عن الشعب حقيقة قضيته، فلم يكونوا يريدون أن يسمعوا ان قضيتنا مرتبطة بقضية الانسانية كلها. ولم يكونوا يتقبلون ان تكون مرحلة نضالنا ضد الاستعمار مرتبطة بالنضال الاشتراكي في الداخل، ولم يكونوا يفهمون ويستسيغون أن قضيتنا في كل الاقطار العربية هي قضية واحدة، ويجب توحيد النضال، وأن تنسجم خطوطه، وأن التجزئة التي فرضت على بلادنا هي مصطنعة وعارضة، وأن في أعماق الشعب ما هو كفيل بأن يجلو الصدأ ويزيل الزيف ويظهر حقيقة أمتنا وأنها أمة واحدة. وها نحن بدأنا نشاهد الصدأ يجلى والحقيقة يبرز وجهها ناصعا، عندما اتخذت مصر طريقها السوي إلى العروبة بعد أن كانت مضللة مدة طويلة، وكادت تفقد بذلك حركة النضال العربي اكبر وزن واكبر ثقل. هذا الذي يراه الكثيرون وكان يراه الساسة القدماء كمعجزة ليس لها تفسير، كنا نؤمن بأنه آت لا ريب فيه، وان حقيقة مصر العربية ستظهر في يوم من الأيام.

تسمعون أيضا اصواتا ناشزة تقول: ان ما حصل الآن من ائتلاف وتقارب بين أجزاء الأمة العربية هو شيء حسن ولكنه ليس شيئا اصيلا وليس شيئا محتما وأن ظروفا معينة اقتضته، هي ظروف الكفاح ضد الاستعمار، وانه لا يغير شيئا في حقيقة الاقطار، الاقطار التي تؤلف وطننا الواسع، فلكل قطر تاريخه وماضيه وشخصيته وظروفه، وان القومية العربية شعار لمرحلة!

هذه آراء مستوردة لا تنبع من صميم القضية وفيها تناقض، اذ ان هذه السرعة التي تم فيها الانسجام وانجلاء الوعي العربي بين أقطارنا تدل على أن ثمة حقيقة كانت كامنة ولم تتطلب جهدا كبيرا حتى تظهر وتكشف عن نفسها، في حين أنه لو لم تكن هذه الحقيقة قائمة موجودة، لو لم تكن مقومات الامة موجودة في شعبنا العربي كله، لاستحال ان يظهر هذا الانسجام بين أقطار كانت متباعدة في أكثر الاشياء، وانه كان يكفي ان تزال طبقة من السياسيين المحترفين حتى تعلن هذه الحقيقة عن نفسها وتفرض نفسها فرضا. وهذا التجاوب ما كان يتم لو لم يكن مستندا الى واقع حي.

 آذار 1957

في سبيل البعث الجزء الأول – نظرتنا الحية للحزب

في سبيل البعث

الجزء الأول

نظرتنا الحية للحزب

سمعتم أيها الاخوان رفيقكم يقول:(1) ان حركة البعث العربي الاشتراكي أصبحت في بلاد العرب شيئا لا يمكن نكرانه. وأستطيع ان أقول بأن حركتنا أصبحت قدر العرب في هذا العصر. والحق اننا آمنا بذلك منذ اليوم الاول الذي انطلقت فيه هذه الحركة. ولعل الشباب الذين دخلوا حديثا الى الحزب لا يستطيعون أن يستوعبوا المرحلة التأسيسية وما رافقها من إيمان وثقة واندفاع، وهم قد أتوا الى الحزب بعد أن سجل كثيرا من المواقف وخاض كثيرا من المعارك، لذلك يحسن بهم أن يعرفوا ان كل ما يقوم به الحزب الآن وما يمكن أن يقوم به في المستقبل ليس الا تحقيقا لذلك الايمان الاول، ذلك الايمان الذي لن نستطيع الاستغناء عنه في يوم من الايام حتى بعد ان يسيطر حزبنا على قدر امتنا، فهو الشرط الاساسي وهو الدعامة المتينة لحركتنا. وجدير بالشباب أن يستلهموا دوما هذا النبع الروحي وأن يعرفوا ان الذين استطاعوا أن يسجلوا شيئا في هذه الحياة، أن يسجلوا شيئا في التاريخ، هم الذين كان لهم إيمان الابطال واستطاعوا أن يحفظوا في أنفسهم براءة الأطفال وقوة اندفاعهم نحو المثل دون أن يعيروا للمصاعب ولضغط الوسط اي اهتمام.

لقد جاء حزبنا متجاوبا مع يقظة في الروح العربية، مع حاجة عميقة في روح أمتنا الى الانطلاق وإلى الخلق، فلا يجوز ان ننظر الى الحزب الا نظرة حية: إنه يجب دوما أن ينطلق ويجدد ويخلق وفي انطلاقه وتجدده وخلقه يستطيع أن يصلح نفسه ويطهر ما قد يعلق به من أدران.

اياكم والنظرة الجامدة التي لا تفهم سر الحياة وكنه الحياة، فليس من عمل جدي يؤثر في الواقع ويخلق منه واقعا جديدا الا ويكون هذا العمل عملا فيه ما في البحر الواسع المتحرك من شوائب، فاذا اردتم عمل حزبكم تاريخيا فليكن كالبحر لا كالساقية الصافية، فمن السهل أن تكون حركتنا ساقية صافية ولكنها لن تروي أمة ولن تصنع تاريخا. ففي الحزب كثير من النقص، وبين ما تحقق وبين ما نرجو أن يتحقق فارق  كبير، ولكننا نستطيع أن نقترب من مثالنا اذا نحن تابعنا السير، اذا ضاعفنا الهمة، لا اذا وقفنا وحولنا حيويتنا الى نقد جامد وتفكير نظري، فالحياة لا تعرف التوقف وتيار الحياة تيار مبارك طاهر مهما تكن الشوائب التي تعلق به.

وإذا وجب أن أدعوكم الى المزيد من النشاط والاستبسال والتضحية في سبيل حركتكم التي أصبحت كما قلت، قدر الامة العربية، والتي لا يمكن لأي حركة اخرى أن تنافسها او أن تحتل مكانها، اذا وجب ذلك فيجب ان أنبه الى ناحية أخرى، بأنه بقدر ما تتوسع الحركة، وبقدر ما يتسع نطاقها ويكثر عدد أعضائها يصبح واجب الفرد فيها أكبر من ذي قبل. فكل حركة، وهذه طبيعة الحركات الاجتماعية وطبيعة المجتمعات، معرضة لأن تفقد من عفويتها، من حريتها، من أصالتها، وأن تطغى عليها الشعارات التقليدية، أن تطغى عليها الالفاظ، ان تصبح صنما، فليس الاشخاص هم الذين يصبحون أصناما فحسب، فقد تصبح الحركة صنما وقد تصبح أفكارها أصناما، وهذا شر ما يمكن أن تبتلى به حركة تريد أن تخلق وتبدع.

المجموع له قانون، وكل جمع مدفوع بطبيعته، بغريزته، إلى تمجيد الظواهر والشكليات والعناوين والالفاظ والصفات العامة، لأن الجمع ليس له أرهاف الفرد وحساسيته وقدرته على التعمق. فاذا أردنا أن تتابع حركتنا مراحلها بكل صدق وأمانة دون أن تبتسر أو تختصر، دون أن تتجمد وهي في نصف طريقها، وأن تعطي كل ما فيها من امكانيات الخير، إذا أردنا أن يحصل كل ذلك علينا ان نقدر دور الأفراد. فالأفراد هم الذين لا يستعبدهم الجو الجماعي، هم الذين يحتفظون بحريتهم، باستقلال تفكيرهم، بصفاء نفوسهم حتى ولو كانوا مشاركين في اندفاع المجموع. هم الذين ينشدون المعنى وراء اللفظ يبحثون عن الشيء الحي وراء التعبير العام. هم الذين يرجعون الى الصمت كثيرا ويكون كلامهم وعملهم وليدا لصمت مثمر منتج، هؤلاء هم الرقباء على الحركة، هم الذين يصححون كلما كادت تتردى في السطحية وفي التقليد، هم يخلقون التوتر في الحركة كلما ضعف هذا التوتر الداخلي، لاننا لا نستطيع أن ننكر ان مجتمعنا يحمل أوزارا كثيرة ثقيلة من عصور الانحطاط والتأخر، واننا ان لم نلح كثيرا عليه لكي تكون يقظته أصيلة وانبعاثه انبعاثا عميقا فانه يميل بطبيعته الى أن يختتم هذه المرحلة البطولية قبل أوانها، وان يقول ان امنا بكم وبحركتكم، وان يدين لنا بالطاعة والموافقة قبل أن نكون قد استخرجنا من داخل أمتنا كل الكنوز الروحية.

لا بد من زيادة التوتر والصراع، لا بد من الدفع الدائم ومحاربة كل كسل وكل ميل للراحة وكل محاولة لانهاء النضال أو اختصاره، وهذا كما قلت من عمل الأفراد، لأنهم هم الذين يشعرون بهذا الخلل وهم الذين يثور ضميرهم عندما يرون الحركة قد انساقت وراء الشعارات الاصطلاحية وجعلت كل ايمانها في ترديد الكلام والالفاظ أو تمجيد قيم هي جديدة، ولكننا اذا لم ننفخ الروح فيها يوما بعد يوم فانها ستكون كالقيم القديمة سواء بسواء.

اذكروا دوما ايها البعثيون الاشتراكيون بأن رفاقا لكم قبل عشر سنوات أو اكثر كانوا في سنكم الشابة هذه والتفوا حول رفاق سبقوهم في السن ودعوهم الى عمل تاريخي فلبوا الدعوة، في ذلك الوقت آمن هؤلاء الشباب بأنهم سيصنعون تاريخا للأمة العربية وانهم سيكونون الجنود المحاربين والشهداء لنهضة عربية أصيلة تغذي الانسانية جمعاء. فلا تقبلوا دون هذا الهدف بديلا ولا تقبلوا الا ان تكون النهضة العربية تاريخية تستخرج أعمق ما في النفس العربية من كنوز وانسانية أصيلة.

نحن حزب سياسي، لا جدال في ذلك، ولكن السياسة وسيلة، وقد أردنا أن نقول منذ البدء لشعبنا وللجيل العربي الجديد اذ عرّفنا حركتنا بأنها حزب سياسي أردنا أن نقول لهم هذا هو الواقع فلا تتلهوا بالخيال ولا تنسحبوا من مواجهة الحقائق القاسية، فالسياسة هي أكثر الأمور جدية في المرحلة الحاضرة. ولكننا اذا قصدنا ان نلح على واقعية نظرتنا في مواجهة الواقع في كل معناه ومواجهة المسؤوليات العملية بكل قسوتها، فليس معنى هذا ان السياسة غايتنا. السياسة هي امتحان لمثاليتنا: هل هي مثالية العاجزين الذين يرصفون الاوهام، أم هي المثالية الحية العملية لمن يريد أن يخلق وان يعمل. لذلك جعلنا السياسة امتحانا للايمان والمثالية، ولكنها لم تكن غاية في حال من الاحوال. حركتنا هي حركة بعث بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى -بعث في الروح والفكر والاخلاق والانتاج والبناء وفي كل هذه المؤهلات والكفاءات العملية. واذا تذكرنا دوما بأن رسالتنا ليست أقل من ذلك وبأننا قد نتعرض بين الحين والآخر الى أن نركز عملنا على الجزء وننسى الكل، ان نذوب في الفرع ونبتعد عن الاصل، فان الافراد الواعين الحساسين فيكم، هم المسؤولون والمطالبون بأن يعيدوا الدعوة الاولى وان يذكّروا اخوانهم لكي يعود الصراع الداخلي في نفس كل فرد من أعضاء البعث، لكي يأتي هذا البعث بعثا أصيلا، ولكي نكون في مستوى القدر الذي اختارنا لتلبية حاجات أمتنا واختار الأمة العربية لتكون في المواقف الحاسمة في التاريخ منقذا وهاديا.

نيسان 1955

(1) حديث مع وفد البعث من لبنان عند زيارته لمقر الحزب في دمشق.

في سبيل البعث الجزء الأول- البعث العربي إرادة الحياة

في سبيل البعث

الجزء الأول

البعث العربي إرادة الحياة


اننا لسنا الا نتاج امتنا(1)، واننا اذا استطعنا ان نعمل حتى الآن شيئا وأن نقترب من بعض الفضائل وان نطمح الى المزيد من هذه المثالية فليس ذلك العمل خاصا بنا كأفراد، وليس ذلك العمل لتفوق فردي، وانما يرجع الفضل في ذلك كله الى هذه الارادة المستيقظة في امتنا التي تفرض نفسها على طليعة ابنائها. لنؤمن دوما بأن ما نعمله وما نفكر به وما نستطيع تحقيقه في نفوسنا وفي المجتمع ليس الا صدى باهتا، وليس الا حقيقة ناقصة، بالنسبة إلى حقيقة أمتنا الخالدة. لنضع أمتنا المثالية فوق كل اعتبار وفوق كل شخص، ولنضع حزبنا الذي هو صورة الامة المثالية فوق أشخاصه وقادته، فإذا أردتم ان تحيوا أحدا فحيوا حزب البعث العربي الذي استطاع في مثل هذه المرحلة الحرجة القاسية في حياة أمتنا أن يسمو بالفكرة فوق الواقع وفوق الأشخاص. وما قيمة الاشخاص الا بمقدار ما يتمثلون هذه الفكرة وبمقدار ما يكونون صورة قريبة منها وتعبيرا صادقاً منسجما معها، أي بمقدار ما يطيعونها. فالقادة الحقيقيون هم الذين يعرفون ان يطيعوا الفكرة، كما ان الاعضاء المخلصين هم الذين يطيعون الفكرة من خلال توجيه القادة. . .

تتلخص فلسفة البعث العربي في هذه الكلمة: ثقة الأمة العربية بنفسها، واعتمادها على قواها، ومعنى ذلك ان البعث العربي الذي يريد أن يكون طليعة هذه الامة عليه أن لا ينشد أية مساعدة، وأية قوة خارجية عن نفسه وعن ذاته. لقد قام حزبنا على هذا الأساس، على هذا الشعور، على هذا الواقع، على هذه العقيدة. اذا وثقنا بأنفسنا، اذا وثق فرد عربي واحد بنفسه فالأمة كلها ستثق بنفسها.

سرنا بهذه العقيدة، ولم تخيب الحوادث أملنا ولم تخيب أمتنا أملنا. اننا نبني عملنا على عقيدة لا تمت إلى الوهم او السحر بصلة وانما ترتكز على أقوى دعائم الواقعية العلمية والعلم وهي ان مصلحة المجموع العربي هي في اتجاه هذه الحركة ان حياة المجموع العربي هي في اتجاه هذه الحركة، لهذا يكفي أن تنشأ حركة مهما تكن بسيطة حتى يكون مجرد ظهورها ومجرد تقدمها خطوات في الطريق، حافزا وموقظا لهذه المصلحة التي يشعر بها المجموع بهذه الارادة الكامنة، حتى يتم هذا التجاوب وهذا التعاون المستمر بين الحركة الرائدة وبين المجموع الغافي الذي يستيقظ يوما بعد يوم وفي آخر هذا التجاوب الذي لن يكون طويلا، يتحقق البعث العربي.

اننا نمثل الحرية والاشتراكية والوحدة. هذه هي مصلحة الأمة العربية، واقصد بالأمة العدد الأكبر ولا أقصد بها تلك الأقلية المشوهة الشاذة المنكرة لذاتها، المستعبدة لأنانيتها ومصالحها الخاصة، لأنها لم تعد من الأمة. فما دامت هذه الأهداف هي التعبير عن مصلحة العدد الأكبر فلنثق ولنؤمن بأن العدد الأكبر سيأتي الينا. وأقول اكثر من ذلك بأنه يمكننا أن نعتمد ليس فقط على العدد الأكبر من الشعب العربي في هذا الوقت، بل نعتمد على العرب وعلى تاريخ العرب وعلى تلك الارادة التي تشع من العرب الأحياء والأموات، على تلك الروح التي تسري عبر الزمن في الأرض العربية، تلك الروح وان شابتها الشوائب في فترات من الزمن فانها لا تزال ذات إرادة ولا تزال تريد الحياة والانبعاث.

فقوتنا إذن ليست قوة العدد الأكبر من مجموع العرب في هذا الوقت فحسب وانما هي قوة التاريخ العربي أيضا لأننا نسير في إتجاه الروح العربية الأصيلة، لأننا نسير وفق ما يتمنى أجدادنا الابطال ان تسير الامة العربية في كل وقت وزمن.

واننا نعتمد ايضا على قوة اخرى لا يستهان بها، ما دمنا نعتقد بأن القومية الصحيحة هي الانسانية الصحيحة، وأن بعث امتنا هو بعث للانسانية بكاملها، هذه القوة هي قوة التاريخ الانساني. فنحن نسير في اتجاه التقدم والتحرر والعدل ولسنا ندير ظهورنا ونعمي ابصارنا عن هذه الحقيقة الانسانية. فاذن نحن محاطون بقوى ثلاث أساسية تكفى لكي تملأ قلوبنا بالثقة والعزم: قوة مصلحة الشعب العربي في حاضره، والتاريخ العربي في ماضيه، والتاريخ الانساني في تقدمه نحو الحرية والاشتراكية والوحدة.

نيسان 1950

(1) من حديث ألقي في مكتب الحزب في دير الزور.