العَدالَة الإنتِقالِيَّة كي تَجِدُ طَريقَها لِلتَّطْبِيقِ فِي سُورْيَا

 

العَدالَة الإنتِقالِيَّة

كي تَجِدُ طَريقَها لِلتَّطْبِيقِ فِي سُورْيَا

بقلم المحامي حسن بيان                 

 

 في كل مرة يحصل فيها انتقال سياسي للسلطة بغير طريق تداولها الدستوري، تطرح مسالة العدالة الانتقالية ووجوب تطبيق احكامها واجراءاتها، خاصة في الحالات التي تشهد اسقاط انظمة سياسية يحفل سجلها بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان وتحديداً تلك التي تطال المعارضين للنظام السياسي الحاكم وما اكثرها في الوطن العربي. وابرز نموذجين لها سوريا بعد اسقاط النظام والسودان بعد اسقاط نظام البشير ومن بعدها ردة  البرهان – حميدتي على اتفاق انتقال السلطة في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢٢ .

  والعدالة الانتقالية يختلف تعريفها وتطبيقها عن اشكال اخرى من العدالة المتعددة العناوين، نظراً لكون العدالة لاتقتصر على عنوان واحد. وقد تم ادراجها في القانون الدولي الانساني بسبعة عناوين هي العدالة المساواتية والسياسية والاجتماعية والتبادلية والقضائية والجنائية والانتقالية. 

 فالعدالة المساواتية ، تعني المساواة بين البشر دون اي تمييز على اساس او العرق او الدين.

 والعدالة السياسية، تعني حق العمل السياسي على قاعدة المساواة بين الناس، وتمكين الجميع من ممارسة حقوقهم السياسية دون قهرٍ أو ظلمٍ اواستعباد .

والعدالة الاجتماعية، تعني المساواة بين الناس في بيئتهم المجتمعية ، لجهة التوزيع العادل للثروة والاستناد الى مبدأ تكافؤ الفرص في الحياة.

والعدالة التبادلية ، تعني توافر نظام التناسب بين ضررٍ  واقع، وتعويض عن هذا الضرر مادياً كان او معنوياً.

والعدالة القضائية، تعني اقامة نظام التناسب بين سلة الحقوق التي للفرد على المجتمع، وسلة الحقوق التي للمجتمع على الفرد، وايضاً سلة الواجبات المتبادلة. 

والعدالة الجنائية، هي بنيان قضائي متكامل، تتناول الجريمة بكل اشكالها ، وتحدد سبل الردع للجريمة والمعالجة بغية الوصول الى مجتمع آمنٍ تسود فيه قيم العدالة الانسانية والاجتماعية.

 اما العدالة الانتقالية، فتعني مجموعة الاساليب التي يجب استخدامها لمعالجة انتهاك حقوق الانسان، وتستمد مشروعيتها ومضمونها من رغبة المجتمع في بناء ثقة اجتماعية.

 ان استحضار مسألة العدالة الانتقالية في هذا الظرف بالذات ، هو الحدث السوري، الذي نتج عنه اسقاط الحكم الذي امسك بمفاصل السلطة لثمانية وخمسين عاماً كانت شديدة الوطأة على شعب سوريا الذي صودرت حرياته العامة، وحفلت سجلاته بالانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان بعضها كان معروفاً ،وبعض تكشفت فظائعه بعد السقوط  ، من الاعتقال لفترات طويلة دون محاكمات، هذا ان كانت عادلة فيما لو حصلت، الى الاختفاء القسري وتدرجاً الى التصفيات الجسدية وهي الاسم الحركي للا عدامات والاغتيالات ، وممارسة كل اشكال القمع المعنوي والمادي التي تندرج  تحت الحالات المحددة حصراً بسلة من الاجراءات العقابية التي يتخذها النظام وفق

 مقتضيات حاجته للامساك برقاب العباد والبلاد على حساب تطبيق احكام العدالة حتى في ادنى معاييرها.

 لفد سقط النظام، وتبين ان السجون ومراكز الفروع الامنية  كانت جحيماً مورست فيه كل اشكال التعذيب، وهذا طبعاً غير الذين كانوا ضحايا البراميل المتفجرة  والغازات السامة والتهجير القسري وانتهاك الحرمات الانسانية والاجتماعية. وانتهاكات النظام المتهاوي لحقوق الانسان لم تقتصر على ابناء سوريا ممن كانوا لايبدون الولاء الاعمى له، بل طالت مواطنين من لبنان وفلسطين والاردن والعراق ومن اقطار عربية اخرى خاصة الطلاب الذين كانوا يدرسون في الجامعات السورية ولم يوالوا النظام السياسي .

 إن اللجوء الى تطبيق اجراءات  العدالة الانتقالية يهدف الى الاعتراف بحقوق الضحايا، وتعزيز ثقة الافراد في مؤسسات الدولة وسيادة القانون  ، وتدعيم احترام حقوق الانسان كخطوة نحو المعالجة ومنع الانتهاكات الجديدة.

 وبالنسبة للامم المتحدة، تغطي العدالة الانتقالية كامل نطاق العمليات والاليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة واقامة العدالة  وتحقيق المصالحة.

 ونظراً للاهمية التي تنطوي عليها العدالة الانتقالية ، انشئ المركز الدولي للعدالة الانتقالية (I.C.T.J) ومركزه الرئيسي في نيويورك ، اضافة الى مركزه الرديف في لاهاي. والمركز يعمل عبر المجتمع للتصدي لاسباب ومعالجة عواقب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان والتأكيد على كرامة الضحايا ومقاومة الافلات من العقاب وتعزيز دور المؤسسات المستجيبة.

 ان العدالة الانتقالية التي ترتكز على ثلاثة اقانيم، هي المساءلة والعدالة والمصالحة ، تُعْنى بالضحايا اولاً، وتصب اهتمامها عليهم للتعويض عن الاضرار التي لحقت بهم، وهذا لا يتم إلا  بالمحاسبة لكل من ثبت ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان. وهذه المحاسبة تحول دون منتهكي حقوق الانسان من الافلات من العقاب. 

 واما العدالة، فهي مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تنطوي على ملاحقات قضائية ولجان تحقيق وبرامج جبر الضرر واشكال متنوعة من اصلاح المؤسسات وتقوي سيادة القانون والديموقراطية . واذا ماطبقت المحاسبة وفق المعايير الانسانية والقانونية  المطلوبة ، فانها مع العدالة تساهمان بلا ادنى شك في كسر دوامة العنف والجرائم الوحشية، واستعادة سيادة القانون والثقة في المؤسسات وبناء مجتمعات قوية وقادرة على وأد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان قبل وقوعها او تجنب تكرارها،  وهذا مايشكل اساساً للمصالحة وهي الهدف الثالث للعدالة الانتقالية.

 ان اعتبار المصالحة واحدة من مرتكزات العدالة الانتقالية، كونها ليست معنية فقط بالتصدي للانتهاكات الحاصلة، انما ايضاً بخلق المناخات التي تحول دون اعادة تكرار تلك الانتهاكات. ولهذا يتم التركيز على تعزيز الثقة بالمؤسسات وبسيادة القانون. وعدم التكرار لايستقيم الا اذا توفرت سلة  من الضمانات القانونية والمجتمعية تشكل بمجملها منظومة متكاملة من الاجراءات الوقائية التي تعالج الاسباب الجذرية للانتهاكات بهدف تجنب تكرارها، وهي تتطلب اصلاحاً دستورياً كما اصلاح مجالي العدالة والامن.

 ان المصالحة تؤدي الى تحقيق سلام مجتمعي، وهو ما يساهم في معالجة المظالم والانقسامات المجتمعية الذي  يفضي لان تكون العدالة الانتقالية محددة السياق وذات بُعْدٍ وطني وتركز على احتياجات الضحايا بقدر تركيزها على تجنب التكرار لانتهاكات حقوق الانسان. وهذا يرمي الى ربط

 المجتمعات بعضها مع البعض الاخر وتمكينها من ايجاد بيئة مجتمعية تساهم في تحقيق السلام المجتمعي.

  ان العدالة الانتقالية التي تعود بدايات الاخذ باحكامها واجراءاتها الى الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، تبقى مطلوبة بشدة والحاح في المجتمعات التي تحاول وتسعى لاعادة بناء نفسها من جديد والانتقال من واقع اتسم بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان أُرتُكِبتْ في سياق ممارسة القمع السلطوي  او في سياق نزاع مسلح. وفي حال كتلك التي تمر بها سوريا في مرحلة الانتقال السياسي، فإن تطبيق اجراءات العدالة الانتقالية على واقعها الراهن لايقل اهمية عن اجراءات واليات الانتقال السياسي، نظراً لكون السلم المجتمعي والتصالحي ضرورة للسلم الوطني وتحصينه من الاختراقات والانتهاكات الجسيمة.

  وانه بقدر ما هو مهم اعادة البناء المؤسساتي للدولة  واعادة انتاج نظام سياسي جديد يلبي التطلعات الشعبية في دولة مدنية تحكمها قواعد المساواة في المواطنة وديموقراطية الحياة السياسية، فأنه مهم ايضاً وبموازاة البناء السياسي ، بناء سلام مجتمعي مستدام ، وهذا لن يتحقق الا اخذت اجراءات العدالة الانتقالية سبيلها للتطبيق بدءاً بالاعتراف بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وانصاف الضحايا عبر السبل المشار اليها اعلاه.

 ان العدالة الانتقالية التي تتصدى لانتهاكات جسيمة، ُتشعر الفرد او الجماعة المنتهَكة حقوقهم التي كفلتها المواثيق ذات الصلة بحقوق الانسان ، بأن مسؤولية انصافهم هي مسؤولية المجتمع.  اي ان حقوقهم هي حق عام ، لان ما اصابهم، وان الحق  ضرراً مادياً ومعنوياً بهم ، فهو الحَقَ في الوقت نفسه ضرراً مادياً ومعنوياً بالحق العام لانتهاكه احكام القانون.

 وان التصدي لهذا الانتهاك يتعلق بالنظام العام الذي يفترض ان  يثار عفواً من المعنيين بتطبيق اجراءات  العدالة الانتقالية. فهل تطبق احكام هذه العدالة على الواقع السوري في سياق العملية الانتقالية التي املاها اسقاط النظام ؟   ننتظر لنرى …