بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

 هل إيران دولة استعمارية ؟

الملائكة لا تزني ، وان زنت تشيطنت

( 5 - 10 )

الاستعمار الايراني اعتق استعمار في التاريخ

 

 

 

شبكة المنصور

صلاح المختار

 

ان عتق الاستعمار الايراني وكونه مزيج مندمج من الاستعمار التقليدي ، الهادف الى النهب والاستيلاء على ارض وثروات الاخرين ، والدافع الثقافي وهو سيطرة الحضارة الفارسية على حضارات الاخرين بالغزو السكاني المتدرج ، قد انتج شخصية فارسية تتسم بالعناد والتصلب والغرور والانغلاق على الذات وتسعى دوريا وبلا كلل للسيطرة على الاخرين اذا فقدتها لسبب من الاسباب . واذا حللنا الاستعمار الاوربي وفرعه الهجين الاستعمار الامريكي ، لوجدنا انه استعمار اقتصادي في المقام الاول وليس له دوافع ثقافية او حضارية في الواقع ، على عكس ما يدعيه الغرب ، لان حضارته هي ، في الواقع ، مدنية وليست حضارة ، وبهذا المعنى فانها عملية تنظيمية لمجتمع تربطه المصلحة بالاساس وليس الثقافة ، وذلك لتعدد المنابع الثقافية له وتناقضها . وكما في كل تنظيم فانه يربط الافراد لفترة معينة ثم تحل روابط تنظيمية اخرى بديلة تبعا لتبدل الظروف ، وهذه الحقيقة تنطبق على امريكا بالدرجة الاولى .

من هنا فان الاستعمار الغربي استعمار قوي عسكريا لكنه هش ثقافيا ، والمستعمرون الاوربيون قساة لكنهم بلا معنويات قوية لانهم يفتقرون الى الاساس الحضاري والفكري الذي يبلور الشعور الحقيقي ، وليس الكاذب ، بالتفوق الاخلاقي . هذه الحقيقة رأيناها في الجزائر عند حرب التحرير حيث كان المستعمر يحب الحياة لدرجة انه يصبح جبانا حينما تتهدد حياته فلا يقاتل ويستسلم ، ورايناها في العراق المحتل حيث ان الجنديين البريطاني والامريكي جبانان ويرتعبان عندما تحصل معارك جبهية مع المقاومة العراقية ، واعظم مثال على ذلك هو ان خمسين الف عسكري امريكي عوقوا نفسيا وجسديا نتيجة عدم تحملهم لضغط الحرب وبسالة المقاومة العراقية ، وتعترف وزارة الحرب البريطانية بان واحد من كل اربع جنود بريطانيين مصاب بعوق نفسي من جراء اشتراكه في غزو العراق.

وبعكس ذلك فان الفارسي صلب التكوين النفسي لانه محمل بارث استعماري عمره الاف السنين ، ولديه ذكريات عن ازمان المجد والعراقة الحقيقية ، كانت فيها الامبراطورية الفارسية تحكم الكثير من اقطار الامة العربية وتصل الى اليونان ، وكانت لها حضارة عريقة قدمت للانسانية الكثير . وبتأثير هذه الثقافة فان الفارسي المتطرف يحن لاحياء مجد الاجداد ويكره من حطم ذلك المجد وهم العرب عند فرض الاسلام على فارس وتحطيم الامبراطورية الفارسية ، ويغتنم كل فرصة لاحياء الامبراطورية ، وهي عملية تعني تحديدا الغاء الاخر وبالاخص الامة العربية وباخضاعها وتذويب ثقافتها وهويتها . ان مصدر متانة معنويات الفارسي حين يقاتل تكمن هنا ، في ماضيه العظيم ، وان عناده يكمن هنا ، أي في اعتقاده بان حضارة فارس افضل من الحضارة العربية الاسلامية . لذلك نشأت لديه ازدواجية بارزة بعد دخول الاسلام الى فارس ، وتحوله من دين مفروض بحد السيف الى دين تؤمن به الاكثرية بصدق ، فرينا الفارسي مسلم متطرف ، كتطرفه القومي ، يشترك في الانتفاضات والتمردات التي واجهت الدولة العربية الاسلامية ( مثلا دورهم في اقامة الدولة العباسية ) ، تارة مندمج وتارة متمرد وتارة مبدع ثقافيا ، لكنه في كل الاحوال اسير انتماءه القومي الذي كان يتغلب على اسلاميته !

وفي اطار تقسيم الادوار بين نخب الفرس ، في مواجهة الدولة العربية الاسلامية ، اندمج البرامكة ووصلوا ذروة التاثير والنفوذ في العصر العباسي وامتلكوا ثروات هائلة ، ومع ذلك كان الهاجس القومي قويا ومتحكما فيهم ولذلك كان اندماجهم عبارة عن خطة لتفتيت الدولة من الداخل ، فحاولوا احتواء الخلافة لصالح الفرس بيد من حرير . وفي نفس الوقت كان دور بابك الخرمي ان يقاتل الدولة العباسية من خارجها لمدة عشرين عاما لاستنزافها من اجل مجد فارس ! اذا بحثت عن خلفية كهذه لدى الاوربي وامتداده الامريكي لن تجد تمترسا بالثقافة والعرق والحضارة والهوية كتمترس الفارسي ، ولذلك فان الاستعمار الايراني اصلب وامتن واكثر قسوة وديمومة من الاستعمار الغربي .

وهناك عامل جيوبولتيكي منح الشخصية الفارسية هذه الصلابة التي رايناها اثناء الحرب العراقية الايرانية في تدفق موجات الانتحاريين بلا انقطاع ، على خطوط الدفاع العراقية ، مع ان بعضهم كان يحمل السيوف ! وسقط منهم مئات الالاف قتلى نتيجة اعتقاد كان مزيجا من الاوهام الدينية ، حول الذهاب الى الجنة ، واحلام قومية وهي اعادة بناء الامبراطورية التي حطمها الفاتحون العرب . والعامل الجيوبولتيكي يتمثل في ازمة المياه الخطيرة والقديمة التي تتميز بها ارض فارس ، والتي شرحها الشاه محمد رضا بهلوي في كتابه (رد للتاريخ ) الذي الفه بعد طرده من ايران ، فهي ارض وعرة ومناخها غالبا بارد في الشمال والشرق ، وارضها الصالحة للزراعة محدودة لا تتجاوز نسبتها 13 – 15 % وحتى هذه النسبة القليلة جدا ، والتي لا تكفي سكان فارس ، لا تستغل كلها نتيجة شحة المياه والاعتماد على الامطار ، والتي اذا لم تسقط عامين متتاليين تحدث مجاعات كبيرة وكوارث انسانية تجبر الفرس على الهجرة غربا الى العراق حيث المياه الوفيرة والارض الصالحة للزراعة .

ان التفسير الجيوبولتيكي لظاهرة مطامع ايران الان ، وفارس في التاريخ ، في ارض العراق واحتلاله بشكل متكرر من قبلها ، قبل الاسلام بلا دوافع دينية بل اقتصادية بالدرجة الاولى ، وبعد الاسلام بدوافع طائفية مصطنعة ، هو وحده الذي يقدم لنا فهما صحيحا للسبب الذي جعل ايران تتجه في غزواتها غربا ، أي نحو العراق ، وليس شمالا او شرقا او جنوبا في غالب الاحوال . لقد كان الماء والكلأ هما الدافع الاساسي الذي اجبر القبائل الفارسية البربرية وبعدها الحضارة الفارسية على جعل غزو العراق اول خطوة لحل مشاكل ايران المزمنة وهي الحاجة للغذاء والماء . وعندما كانت هناك دولة قوية في فارس ويحل القحط فان غزو العراق كان هو الحل ، اما اذا كانت الدولة ضعيفة او ان العراق قوي فان الحل هو الهجرة الجماعية للعراق للعيش والعمل فيه .

في اطار هذا الفهم الجيوبولوتيكي للنزعة الاستعمارية الايرانية يمكننا ان نفهم ان غزو العراق ليس مجرد نهج امبراطوري قومي بل هو ايضا ، وقبل ولادة الامة الفارسية ، كان استجابة بايولوجية جماعية لقبائل كانت تموت من الجوع اذا لم تغزو العراق . وبمقارنة دوافع الغرب الاستعماري والذي يغزو لزيادة الثروات الموجودة لديه ، والتي تجعل الغزاة غير معرضين للموت اذا لم يقوموا بالغزو ، بدوافع فارس والتي اسميت ايران في عشرينيات القرن الماضي فقط ، نجد ان دوافع الفرس من الغزو هي اكثر تعقيدا وخطورة من دوافع الغرب ، فالغربي يستطيع العيش اذا لم يغزو ، لان اوربا قارة رطبة تكثر فيها المياه والغابات ، اما الفارسي فانه اذا لم يغزو في الماضي فانه يعرف انه سيموت جوعا ، واضيفت لهذه الحقيقة الخلفية الحضارية لبلاد فارس والتي منحت الفارسي احساسا بانه افضل من غيره واحق من غيره بثروات الاخرين وبانه لذلك يجب ان يحكمهم .

ان هذا المزيج المعقد من الدوافع الايرانية يجعل الاستعمار الايراني اثبت وادوم وارسخ من الاستعمار الغربي ، واكثر شراسة وعنادا منه ايضا . ان الخلفية التاريخية والذاكرة الجمعية للفارسي تملأ وعيه بالقلق من المستقبل باللاشعور نتيجة ازمات الجوع وكوارثه ، ممتزجا بشعور بالتفوق نتيجة بناء حضارة واقامة امبراطورية غزت العالم القديم ، وهو ما جعل قادة الفرس ، واخرهم محمد رضا بهلوي ، يصفون العرب بالحفاة تحقيرا لهم ، كما انه دفع الانتلجنسيا الفارسية في بغداد اثناء الخلافة العباسية ، والتي كانت مسيطرة على الجو الثقافي في العراق ، تهاجم العرب وتهينهم في عقر دارهم وفي ظل امبراطوريتهم ، دون خوف او تردد ، الامر الذي دفع المثقفين العرب وفي مقدمتهم الجاحظ للرد على النخب الفارسية بعبقرية بارزة .

ومن المفيد ذكر حادثة اخبرني بها صديق مناضل من محافظة بابل ( من الحلة ) اثناء الحرب مع ايران ، احجم عن ذكر اسمه خوفا عليه ، تقدم لنا صورة حقيقة لسايكولوجيا الفارسي ، فلقد كان في الحلة شاب ايراني كالاف الايرانيين الذين كانوا مقيمين في العراق ، وكان هذا الشاب قويا ويتعارك مع الجميع ، وفي يوم ما كان صديقي مارا فوجد الايراني يطلب المصارعة من الاخرين ويتحداهم ، فامسك بصديقي وقال له لنتصارع ، فرفض صديقي وقال له انه مكلف بعمل من اهله وليس لديه وقت للمصارعة ، فألح عليه واخبره بانه لن يتركه الا اذا تصارع معه ، فاضطر صديقي للموافقة ، بعد ان اشترط عليه ان يكون الصراع لمرة واحدة فقط ، فوافق الايراني ، وبما ان صديقي كان مستعجلا فقد قرر ان يبطح الايراني بسرعة ، ففعل ذلك بحركة سريعة ، واراد الذهب فقال له الايراني لن تذهب ويجب ان تصارعني مرة اخرى ، فذكره صديقي بوعده بان تكون المصارعة مرة واحدة ، فقال الايراني لن ادعك تذهب حتى تصارعني مرة اخرى ، فاضطر صديقي للموافقة مرة اخرى وبنفس الشرط السابق : ان تكون المصارعة لمرة واحدة فقط ، ومرة ثانية صرع صديقي الايراني امام الجمع الحاشد ، الذي كان يصفق للمنتصر ، وهو ما اثار جنون الايراني وجعله يتنصل من وعده ، للمرة الثانية ، ويعود لطلب التصارع مرة ثالثة ، فادرك صديقي بانه لن يتخلص من الايراني الا اذا خسر المصارعة ، فقرر ان يتظاهر بانه غلب ، وفي المرة الثالثة اسقط صديقي نفسه على الارض وقال لقد غلبتني واريد الذهاب ، فرد الايراني : كلا لقد اسقطت نفسك ، وانا مصر على ان ابطحك بصورة حقيقية والا لن ينتهي الصراع !

يقول صديقي ابن الجنوب هذه هي العقلية الايرانية ، عناد وعنجهية ونزعة عدوانية حتى لو تمظهرت بالود !

أيهما اخطر : غزو فلسطين ام شرذمة الاقطار العربية ؟

ان اهم قضية يتجاهل كثيرون اهميتها الحقيقية هي ان ايران هي مصدّرة الخطر الاعظم على الامة العربية منذ غزو العراق تحديدا وهو الفتنة الطائفية ، والتي تشكل التحدي الاكبر للامة العربية بشكل عام وللعراق بشكل خاص . نعم يتحدث كثيرون عن هذه الفتنة ويدينونها ولكنهم مع الاسف الشديد لا ينتبهون غالبا لصلتها بمخطط ستراتيجي عام ابتدأت بوضعه الحركة الصهيونية قبل انشاء اسرائيل ، وتبنته بريطانيا وفرنسا حينما كانتا القوتان الاستعماريتان اللتان غزتا الوطن العربي ، والان تتبناه امريكا منذ مطلع التسعينيات ! ان المهم في السياسة التحررية ليس معرفة المخططات المعادية بل ادراك الطرق والاساليب والتكتيكات المعتمدة لتنفيذها ، خصوصا تلك المتعلقة بالعمل الاستخباري ، وهنا تكمن مشكلة اغلب الانتلجنسيا العربية فيما يتعلق بايران ودورها الخطير في المخططات الصهيونية والاستعمارية حيث يبدون جهلة او متجاهلين لحقيقة الدور الإيراني . لنشرح هذه المسألة ونسلط الضوء عليها .

حينما قررت الصهيونية انشاء ما اسمته ( وطن قومي لليهود ) في فلسطين كان اول هدف تم تبنيه من قبلها هو تفتيت الامة العربية على اسس عرقية وطائفية ومنع وحدتها ، لان وحدة الامة تجعلها قادرة على منع احتلال فلسطين ودحر المخططات الصهيونية والاستعمارية الغربية . ان اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور كانا تنفيذا للقرارات الصهيونية تلك ، فالوعد لا يمكن تنفيذه الا اذا قسمت الامة ومنعت وحدتها القومية ، فاتفقت بريطانيا وفرنسا على تحقيق ذلك بتجزئة الامة الى اقطار مستقلة عن بعضها وفقا لاتفاقية سايكس بيكو ، رغم ان هاتين الدولتين وعدتا العرب بتحقيق الوحدة العربية اذا دعموا الحملة الاستعمارية الغربية ضد الدولة العثمانية . في سايكس بيكو اصبح العرب دولا مستقلة شكليا وكل منها يتمتع بالسيادة الشكلية ايضا ، وزرعت بذرة القطرية وتغليبها على انتماء القومي . وفي عام 1948 تم اغتصاب فلسطين بعد عمليات هجرة منظمة شجعتها بريطانيا ودول اخرى ، في جو تفكك العرب وضعفهم ورشوة حكامهم بأقامة دول ذات سيادة اصبحت المحافظة عليها اهم من الدفاع عن مقدسات العرب في فلسطين وهويتهم ومصالحهم .

وبين العشرينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان العمل الاساسي للقوى الاستعمارية والصهيونية هو تكريس وتجذير النزعة القطرية بافتعال ازمات كثيرة حدودية وغيرها ، وهو ما نجح الغرب والصهيونية فيه . ولكن في الثمانينيات برزت خطة اخرى تعد أخطر من اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور ، وهي خطة تجزئة القطر الواحد ، فلئن كان الهدف في الماضي هو اقامة انظمة قطرية تسهل اغتصاب فلسطين ، من قبل الغرب والصهيونية ، فان تجزئة القطر العربي الواحد على اسس عرقية او طائفية هو هدف المرحلة الجديدة ، منذ الثمانينيات من القرن الماضي . ونرى في تفاصيل الستراتيجية الاسرائيلية التقليدية خطوط العمل المعادي الاكثر خطورة في العصر الحديث ، مثلا ما شرحه عوديد ينون في ( ستراتيجية لاسرائيل في الثمانينيات ) وابرزها خط دعم الاقليات العرقية والدينية والطائفية في الوطن العربي وتشجيعها على الانفصال ، من اجل تحويل القطر الواحد الى دويلات متناحرة ومتعادية وتفتقر الى الهوية الواضحة ، وخط تعزيز الروابط مع دول الجوار غير العربية من اجل تطويق الامة العربية بحزام معاد يستطيع خلق المشاكل لها كلما اقتضت المصالح الصهيونية ذلك ، ودعم نشاط الاقليات من اجل الانفصال .

ورغم خطورة النزعة العرقية او الاثنية والتي شجعت في العراق ( قضية الاكراد مثلا ) ، او في المغرب العربي ( قضية البربر مثلا ) ، ورغم الاستنزاف والخسائر في البشر والمال وفرص التنمية التي نتجت عن النزعات الانفصالية الاثنية فان مقارنة خطرها بخطر الطائفية يظهر لنا حقيقة ما نواجهه من تحد غير مسبوق . اننا حينما نقارن مخاطر الانفصالية الاثنية ، كما تجلت في العراق والمغرب العربي ، بمخاطر الطائفية ، كما تجلت في العراق المحتل ، وابرز مظاهرها دعوة الطوائف للانفصال في الفدراليات التقسيمية وارتكاب مجازر التطهير الطائفي الشامل والذي ادى الى مقتل اكثر من مليون عراقي وتهجير ستة ملايين عراقي ، نجد في سلم ترتيب المخاطر ان الطائفية تحتل المركز الاول بلا ادنى شك في ظل الاحتلال ، وذلك وضع غير مسبوق على الاطلاق في تاريخ كل ازمات العرب.

والاخطر والاكثر اهمية هو ان الكارثة الطائفية شملت كل الاقطار العربية تقريبا : مصر ، التي كنا لا نعرف من هو القبطي ومن هو المسلم فيها ، نراها الان تواجه مشكلة التوتر الحاد والخطير بين الطرفين ، وادخل التشيع الصفوي الى مصر فاخذت تواجه فتنة الصراع السني الشيعي مع انها كانت مصر الجميع الموحدة والتماسكة ، وهكذا نرى مصر اكبر الاقطار العربية والتي كانت اشدها تماسكا سكانيا تواجه خطر الشرذمة ! وهذا الحال ينطبق بدرجات اقل او اكثر على السودان والمغرب العربي والخليج العربي والجزيرة ، فهي كلها تتعرض لفتن طائفية حادة وخطيرة وصلت حد القتل والتكفير المتبادل ، فصار التحدي الطائفي هو التحدي الاول لكل العرب بعد الوجود الاستعماري ، وتراجع التحدي الاثني الى الخلف رغم استمراره لان الاثنيات محدودة مقارنة بالطوائف !
أذن نحن نواجه التحدي الاستعماري ولكنه تحد يتوكأ مباشرة على اثارة الفتن الطائفية ، والتي لولاها لما تمكن من البقاء في العراق لفترة طويلة ، هذه الفتن التي دفعت العراق الى حالة لم يمر بها من قبل في كل تاريخه ، وصار بتأثير بيئتها هناك من يقاتل من اجل اقامة فدراليات ( هي في الواقع كونفدراليات ) في الجنوب والوسط والشمال ، تتقاسم الثروة وفقا لخطوط التقسيم الطائفي ، فاغتيلت الدولة الوطنية وحل محلها الولاء للطائفة ! ما معنى ذلك عمليا ؟ ومن المستفيد منه ؟
انه يعني ان مخطط اسرائيل الجديد بتقسيم القطر العربي الواحد الى دويلات مهمشة وتدور في فلك هذا الطرف الاقليمي غير العربي او ذاك الطرف الدولي ، هو الذي ينفذ وينتعش على يد قوى طائفية ، ومن البديهي ان نلاحظ ان المستفيد الاكبر منه هو اسرائيل لانها تحقق حلمها التقليدي ولكن على يد غير يدها ! من هي هذه اليد التي تحقق الحلم الاسرائيلي في تفتيت الامة العربية على اسس طائفية ؟ انها ايران اولا دون ادنى شك ، وهي ايران ثانيا وعاشرا وواحد بعد الالف دون ادنى شك ! واي ايران هذه التي تحقق اغلى اماني اسرائيل في شرذمة اقطار الامة العربية وتحويل كل قطر منها الى كيانات قزمة طائفية متناحرة ، بعد ان شرذمتها اتفاقة سايكس بيكو على اساس قطري ؟ انها ايران الملالي ، ايران خميني صاحب الصوت المبحوح الذي اضعف سمعنا من شدة صراخه الهستيري : (الموت لامريكا ) و( الموت لاسرائيل ) .

الان وفي الواقع العملي وبعيدا عن عهر شعارات ملالي ايران ، نجد انها هي الطابور الخامس الاسرائيلي الاخطر على الامة العربية ! ونجد ان ( فليق القدس ) الايراني ، وهو الجهاز التابع للمخابرات الايرانية والمختص بنشر الفتن الطائفية عن طريق التبشير الصفوي في العالم الاسلامي كله ، هو حصان طروادة الاسرائيلي الاكثر تخريبا لوحدة الاقطار العربية والاشد تهديدا لوحدتها الوطنية .

اذا قارنا اغتصاب فلسطين وخطورته واثاره بالفتن الطائفية الحالية ، خصوصا في العراق ، التي تنفذها ايران بدعم كامل من امريكا واسرائيل ، سنجد ان اغتصاب فلسطين ، بكل ما انطوى عليه من مأساوية وخطر امني عام لكل الوطن العربي ، هو لعبة اطفال مقارنة بخطر الشرذمة الطائفية لكل الاقطار العربية . لقد ادى اغتصاب فلسطين الى فقدان قطر عربي لكن الامة بقيت كلها وتقدمت وتراجعت هنا وهناك ، بل ان القوى الوطنية رأت في احتلال فلسطين جرس انذار لها حفزها للاستعداد لمواجهة التوسع الاسرائيلي . ان النهضة الوطنية والقومية العربية العارمة التي اعقبت اغتيال فلسطين وتمثلت في ظهور الناصرية ، كحركة تحرر وطني عربية قوية ، وصعود البعث في العراق وهو يحمل مشروع نهضة عربية متقدم وبناء دولة مواجهة صلبة البنيان ، ومعارك المقاومة الفلسطينية المجيدة في الارض المحتلة وخارجها ...الخ ، ان ذلك كله وغيره كان نتاج جرس فلسطين والحصانة القوية التي تولدت لدى العرب ضد اسرائيل وتوسعها ، وما الحروب التي وقعت منذ عام 1948 ، وبغض النظر عن الفشل والتقصير ، الا مظاهر للحصانة العربية .

لقد تمكنت الامة من الوقوف على قدميها وارتفع صوت عبدالناصر والبعث والقوى الوطنية الاخرى يدعو لتحرير فلسطين ، وادركت الصهيونية والغرب الاستعماري الداعم لها خطورة البعث القومي الجديد ، خصوصا بعد ان دعم الاتحاد السوفيتي والصين والهند ودول العالم الثالث العرب في نضالهم ضد الصهيونية التوسعية ، وهكذا اضطرت الصهيونية ، وبضغط اوساط غربية اقلقها انشطار العالم بين مؤيد للعرب واخر مؤيد لاسرائيل ، لصياغة مفهوم جديد لشعار ( ارضك يا اسرائيل من الفرات الى النيل ) ، يقوم على استبدال التوسع الجغرافي بين الفرات والنيل بالهيمنة التكنولوجية والعسكرية وممارسة نفوذ اقليمي حاسم . ومما ساعد على هذا التغيير في ستراتيجية اسرائيل هو الطبيعة البايولوجية للعرب مقارنة بنفس الطبيعة لدى يهود اسرائيل ، والتي اثبتت ان التوالد لدى العرب اكثر عددا من مثيله لدى اليهود ، وبني على هذه الحقيقة استنتاج مخيف للصهيونية ، وهو ان من يطلق عليهم تسمية (عرب 48 ) ، أي العرب الذين بقوا داخل الكيان الصهيوني وحملوا الجنسية الاسرائيلية ، وحدهم قادرين بمرور الزمن على التفوق سكانيا على اليهود في العدد ، ومن ثم فان الدولة اليهودية النقية كما رسمتها مخيلة الصهاينة ستندثر وتظهر بدلها دولة مختلطة السكان وهذا هو الناقض الخطير لاسرائيل التوراتية.

وفي اطار البعث القومي الذي ولده اغتصاب فلسطين حاول المرحوم عبدالناصر بناء دولة الانموذج القومي لكنه غيب نتيجة التأمر الشامل عليه من الداخل والخارج ، قبل ان يكمل مشروعه القومي ، وجاء البعث بمشروعه القومي النهضوي ليواصل مسيرة عبدالناصر ، ويحقق نجاحات كبرى في كافة المجالات ، خصوصا في التصنيع العسكري الذي جعل من الجيش العراقي احد اهم جيوش العالم لدرجة ان امريكا غيرت في نهاية الثمانينيات ستراتيجية الحرب بالنيابة ، والتي اعتمدت عليها منذ الخمسنيات بستراتيجية الحرب بالاصالة ، لان نظام البعث بقيادة الشهيد القائد صدام حسين تجاوز الخطوط الحمر التي وضعها الغرب سواء في متطلبات اتفاقية سايكس بيكو او توصيات لحنة بنرمان . ان عراق البعث الذي امتلك جيشا قوامه مليون مقاتل مجرب ، في ثلاثة حروب ، الاولى منها اقليمية فرضتها ايران عليه ، والثانية 1991 والثالثة 2003 عالميتا الطابع خاضتها ضده امريكا ومعها جيوش لم تتحد ضد خصم الا في الحروب العالمية .

لقد ذعرت اسرائيل ومات العديد من سكانها بالسكتة القلبية نتيجة الرعب في عام 1991 حينما تساقطت صواريخ العراق الستراتيجية على قلب اسرائيل وعاصمتها في رشقات متتالية بلغت صواريخها 43 صاروخا ( وليس 39 صاروخا ) ، وتلك حقيقة يجب ان يتذكرها من ينسب لحزب الله خطئا فضيلة انه اول من قصف اسرائيل ، فقلب العراق المعادلة الستراتيجية التي اقامتها امريكا ومعها اوربا ، وهي ان قوة اسرائيل يجب ان تكون متفوقة على قوة كل العرب مجتمعين . كما ان وصول صواريخ العراق الستراتيجية ، ( وليس كصواريخ كاتيوشا الصغيرة التي اطلقها حزب الله على شمال اسرائيل فاصابتها في ريشها وليس في قلبها ، كما يقول المثل العراقي ) ، الى العاصمة تل ابيب كان اسقاطا فعليا لنظرية الامن الاسرائيلية ، التي قامت على جعل الحروب مع العرب تقع داخل اراضيهم وبعيدا عن فلسطين المحتلة ، وفي اطار هذه النظرية جاء احتلال الجولان لتشكيل حزام امن لاسرائيل ولتجريد العرب من مناطق ذات طبيعة ستراتيجية تسمح لهم بضرب او تهديد الكيان الصهيوني . ان وصول صواريخ العباس والحسين وغيرها الى تل ابيب ونقل الحرب الى داخل اسرائيل بسهولة تامة قد افقد الجولان قيمته الستراتيجية ولم يعد وجود الجولان بيد سوريا يشكل خطرا على عمق اسرائيل بعد طارت صواريخ العراق فوق الجبال والصحارى ودكت مدنا اسرائيل ووصلت الى كل اطرافها .

تطوير العراق للصواريخ وقدرته على تجاوز الخطوط الحمر وامتلاك قيادته وشعبه لارادة القتال وضع المشروع الصهيوني على كف عفريت بل ووضع ما يتعبره الغرب الاستعماري مصالحه الاساسية والحيوية امام تحد لم يسبق له مثيل ، وهكذا تقرر ان اسقاط النظام الوطني في العراق الذي لم تعد لا اسرائيل ولا ايران وهما الداعمتان التقليديتان للسياسة الامريكية والغربية في مواجهة حركة التحرر الوطني العربية ، قادرتان على التغلب عليه . ان عراق البعث اصبح عملاقا اقليميا لا يمكن لقوة اقليمية ان تواجهه لوحدها ، وتلك حقيقة لو استمرت فانها ستعيد رسم خارطة الوطن العربي كله بما في ذلك الاجزاء المحتلة منه وفي مقدمتها فلسطين لصالح الامة العربية ، لذلك دخلت امريكا ومعها بريطانيا وفرنسا و30 دولة اخرى حربا عالمية وفقا لكل المقاييس الحرب ضد العراق في عام 1991 ، ولما لم يتحقق الهدف الحقيقي لحرب عام 1991 فقد شنت حرب عام 2003 التي انتهت بغزو العراق .

ان التذكير بكل هذه الحقائق يقودنا الى حقيقة ثابتة وهي ان غزو فلسطين لم يكسر ارادة الامة على المواجهة والقتال ولا انتج خطا مساوما ناجحا ومتغلبا في الوطن العربي ، بل عزز حصانة العرب ومكن التقدميون والوطنيون العرب من معرفة كيفية مواجهة الخطر التوسعي الصهيوني ، ووضعوا اسس النجاح لتحقيق هذا الهدف . لكن الغرب والصهيونية حشدا كل امكانياتهما لضرب العراق لاجل ازالة دروس التجربة العراقية الناجحة في مواجهة الصهيونية ومنع الغرب الاستعماري من تعويق نهضة العرب .

اننا اذا قارنا اثار غزو فلسطين باثار ما يجري الان من محاولات تجزئة كل قطر عربي وتحويله الى دويلات طائفية او مناطقية او غير ذلك ، نصل الى استنتاج خطير مازالت اغلبية الانتلجنسا العربية تجهله او تتجاهله ، وهو ان تجزئة المجزء ، أي القطر الواحد ، سيقبر أي امل في التحرير لاحقا لانه سيجرد الامة من قدرتها على مواصلة النضال والتحدي الحضاري والعسكري ، نتيجة انغماس كل فرد في الدفاع عن نفسه وحمايتها ليس من خطر اسرائيل او ايران بل من مخاطر العربي الاخر ، الذي كان مواطنا معه في قطر واحد لكنه انشق واختار لسبب ما ان يدافع عن مصلحته المدينية ( نسبة الى المدينة ) او المحلية او الاقليمية ، وليس عن مصلحة القطر الواحد . ان مثال العراق مرة اخرى يقدم لنا توضيحا لخطورة تجزءة القطر الواحد ، فلقد شجع الغزو الامريكي وايران نزعة الاستحواذ المحلي على موارد العراق ، فاهل الجنوب يجب ان يستولوا على نفط الجنوب ، لانه في ارضهم ، وليس في ارض العراق كله كما كان الحال ، واهل الشمال يسيطرون على نفط كركوك ، ويصبح مورده لهم وليس لكل اهل العراق !

بهذه الخطة الجهنمية تريد امريكا واسرائيل وايران ان تجعل من ثراء العراق سببا في تقسيمه وتقاسمه ، وليس سببا في قوته ومتانة بنيانه كما كان الحال في ظل النظام الوطني الذي اسقطه الاحتلال . وبتوزيع الثروة على وجهاء القوم في كل اقليم من اقاليم العراق يلغى الدور القومي للعراق لانه لم يعد عراقا موحدا وتربط ابناء شعبه مصالح وطنية وقومية بل صار كونفدراليات تتنافس فيما بينها على تقاسم الثروة ! هل ترون ما قصدناه بقولنا ان تجزئة القطر الواحد على اسس طائفية وعرقية اشد خطرا من احتلال فلسطين ؟ بل الا ترون ان غزو فلسطين سيصبح لعبة اطفال اذا قورن بما سيحصل اذا قسم العراق وتبعه تقسيم الاقطار العربية الاخرى الى دويلات هامشية ومهمشة رغما عنها ؟ وهل ترون كيف ان الطائفية هي الاشد فتكا بوحدة القطر الواحد من العرقية والاثنية وبانها هي الخطر الاعظم الذي يهدد كل قطر عربي بلا استثناء ؟ واستطرادا : هل ترون الدور الايراني الحقيقي ، بكامل عناصره ، على اعتبار ان ايران هي حجر الزاوية في تنفيذ خطة الشرذمة الطائفية ؟

نحن لا نريد لايران ان تصبح الخطر الاول الحالي ولكنها ايران ولسنا نحن من يفرض علينا ان نعدها الخطر الاول درجة باء المميت ، الذي يقف جنبا الى جنب مع الخطر الاول درجة الف المميت وهو الخطر الامريكي ، ببساطة لانها تتعاون مع امريكا مباشرة ومع اسرائيل ، عبر امريكا او بحكم تلاقي المصالح والستراتيجيات ، من اجل انهاء الوجو د العربي ومحو الهوية العربية واقامة امبراطورية فارس على بعض انقاض الامة العربية وامبراطورية الصهاينة على الانقاض الاخرى . اذا اخذنا ذلك بنظر الاعتبار ودققنا في تفاصيل معانيه سنعرف لم لم تهاجم امريكا او اسرائيل ايران رغم التهديدات منذ عام 1979 ؟ ولم تتعاون امريكا مع ايران رغم ان المشروع النووي الايراني يتطور بسرعة وتتكامل مقوماته دون ان تتدخل اسرائيل لضربه كما دمرت المشروع النووي العراقي ؟ ولم غضت امريكا والغرب النظر عن شراء ايران مواد نووية كاملة وعلماء في المجال النووي من دول الاتحاد السوفيتي بعد تفككه دون تدخل جدي لمنع ذلك ؟ ان ايران هي احتياطي ستراتيجي للغرب الاستعماري وللصهيونية ، في الواقع ، ومهما كان الجدل والخلافات معها فهي في نهاية المطاف محكومة بعهد النخبة الفارسية التي اقسمت ، بعد اسقاط امبراطورية الفرس من قبل العرب ، على تحطيم ملك العرب والانتقام منهم واعادة اقامة امبراطوية فارس باشكال جديدة في مقدمتها التغلغل داخل الاسلام واستغلاله لتحقيق ذلك الهدف القومي الفارسي .

ان السؤال المركزي والحاسم في ضوء كل ما تقدم هو : من الاخطر أقامة اسرائيل باحتلال فلسطين ؟ ام تمزيق اقطار الوطن العربي واحدا اثر اخر ، او سوية ، نتيجة الفتن الطائفية ، وهو تمزيق يعني ، اولا وقبل كل شيء ، تحقيق ما فشلت اسرائيل وامريكا في تحقيقه ، وهو محو الامة العربية والهوية العربية واحلال كيانات مجهرية زئبقية الهوية والانتماء تقع كلها تحت سيطرة امريكا اواسرائيل او ايران او تركيا اوغيرها ؟

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاحد / 16 / أيلول / 2007