كتاب* احْتِلالُ العِرَاقِ / العوامل التي ساعدت على نجاحه والأسباب التي أفشلت أهدافه

﴿ الجزء السادس ﴾

 
 
شبكة المنصور
حديد العربي

الفصل الثالث

مقدمات في المقاومة

أسس للمقاومة

 

يعتمد الفعل المقاوم على عناصر أساسية، هي الإرادة والتنظيم والتفاعل مع البيئة الاجتماعية، ثم تبرز بعد ذلك حاجات التمويل والتعزيز ومتطلبات القدرة على مواجهة التحديات وتجاوزها.

 

والإرادة لا تكون إلا باستنادها إلى قيم ومثل ودوافع أخرى، رغم أنها تبدأ في غالب الأحوال استجابة لدوافع تطغى عليها العاطفة، يتجمع بفعلها المقاومون وتتوحد جهودهم في بادئ الأمر، لكن هذه الوحدة سرعان ما تتعرض للنكسات، فالعاطفة غير كافية لتحقق وحدة رصينة تملك قدرة الصمود والثبات أمام العدوان وألاعيبه ودسائسه، بالإضافة إلى تحمل التضحيات الكبيرة نتيجة وحشيته وعدوانيته، لذلك فهي تتبدد بفعل التناقضات الثانوية وحتى الهامشية بين المقاومين حين تبرز آثار تحقيق أولى الانتصارات على الأعداء، أو خسارتها، فتنفى أثر العاطفة عن الواقع كلياً وتبدأ حسابات أخرى لا محل للعاطفة فيها مطلقاً.

 

لذلك تستوجب الإرادة تحديداً فاعلاً وموضوعياً لكل القوى الفاعلة في مسار المقاومة وطبيعة خلفياتها السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وأهداف كلّ منها، ليتم في ضوئها وضع برنامج ومنهاج يضمن تكوين محيط رحب يستوعبها جميعاً على أهداف واضحة ومفهومة، كي لا تمارس هذه الفصائل والأطراف فيما بعد سلوكاً يؤجج تناقضاتها الثانوية ويغلبها على أهداف المقاومة قبل بلوغها وتحقيقها كاملة، مع السعي المتواصل لتكوين قدرة الوعي المتكامل بأخطار تأجيج مثل هذه الخلافات والتناقضات في غير أوانها لدى المقاومين جميعاً، كي لا تكون النكسات هي الأسباب التي تدفعها بعد ذلك للسعي نحو تغليب الأهداف التي يمكن للفصائل المقاومة أن تعيد توحدها من خلالها، بعد أن يدبّ الخلاف وتتعمق أواصر الفرقة والتناحر، وتترك آثار جروحها غائرة في الواقع، وذلك ما يحدث اليوم.

 

ولقد كانت قاصمة الظهر لحركة التحرير الفلسطينية حين تحزبها ومن ثم شرذمتها، فمنحت الكيان الصهيوني مجالاً وفتحت له باباً كي يمارس عمليات التوغل داخل صفوفها وينجح في تمزيقها ونكبتها.

 

ولا نقصد بالتحزب التعددية في الرؤى السياسية والمناهج الفكرية للفصائل، إنما نعني بها التحزب بالولاءات المختلفة لجهات، غالباً تكون من الخارج، سواء كانت إقليمية أو دولية، وحتى عربية، فهي في حقيقتها لا تتولى عروبتها بالمعنى المعروف للانتماء، أو محيطها الإقليمي أو الإنساني، إنما تضطر للولاء للنهج السياسي للنظام الذي تتولاه، فتضطر مرغمة على تبني سياساته والدفاع عنها، والافتراق مع الفصائل الأخرى تبعاً لما تشكله سياسات تلك الأنظمة المتناحرة، فإن في ذلك نقل لأمراض شكلت واقع الوهن والتخلف والانحطاط الذي فرَّط بفلسطين وحقوق شعبها إلى المقاومة الفلسطينية نفسها بوجوه منمقة ومزيفة، لا تدرك الجماهير حقائقها وهويتها في أكثر الأحيان.

 

فقد انطلقت المقاومة الفلسطينية منتصف الستينات من القرن العشرين موحدة على هدف تحرير الأرض، وكادت بفعل الأثر الجدي الذي تركته عملياتها الفدائية أن تُجهض المحتل الصهيوني ومشاريعه، وتسحب البساط من تحت أقدام الأنظمة العربية المتآمرة عليها والمتاجرة بقضيتها، لكن بروز التحزب وتعدد الولاءات، وهي جميعها متناقضات ثانوية لا تأخذ مشروعيتها إلا بزوال الاحتلال، والتي ظهرت بعد سنوات قليلة من انطلاقتها المسلحة، أعاد الوضع سريعاً إلى الواقع المرير الذي سبق انطلاقتها، وذلك لأنها لم تتمكن من خلق محيط يتسع لها جميعاً قبل أن تتحول إلى مسميات ترسخ فرقتها وتناحرها وتعارض مصالحها، فكان من نتائجها أن استعادت الأنظمة ومن يحركها من القوى الامبريالية زمام المبادرة، فكانت الحلول الاستسلامية تُفرض على إرادة الشعب الفلسطيني دون تمكنه من مواجهتها أو الردّ عليها، فيما ساهمت هي الأخرى بتعميق واقع التناقض الفلسطيني نفسه وزادته مأساوية.

 

إن التحزب يغرق المقاومة في تناقضات عديدة مع قوى بعضها يملك من قوة التأثير ما يجعلها عاجزة عن مواجهتها كجبهات تضاف إلى جبهة الاحتلال، تشتت الجهد وتبدد القوة وتتداخل بفعلها الخنادق، فالتناقض الفكري يحفز القوى التي تقف خلف أفكارها ومبادئها ومناهجها لممارسة أساليب الضغط والتشويه أحياناً، فيما تحفز الأنظمة العربية أطراف في دعم هذه الصراعات وتعميقها، وتبرز معها المصالح العنصرية والمذهبية والطائفية والمناطقية كعوامل جديدة مضافة تمارس صراعها المدمر، هذا بالإضافة إلى المصالح الإقليمية والدولية التي تبحث لها عن منفذ لتمارس تأثيرها ودورها في الواقع العراقي، كلٌّ بأسبابه وأغراضه.

 

على إن مهمة التنظيم ببعديها الفكري والعملي ليست يسيرة وسهلة المنال، فهي تحتاج إلى قدرات فذَّة تتعهد هذا المحيط بالعناية والرعاية وفك رموز الإشكاليات التي تعترض سبيل فاعليته باستمرار، من خلال تطوير المواقف وتعزيز دورها في ترصينه، والسعي بشكل متواصل على تطوير الوعي الاجتماعي وتصحيح مواقف الجماهير كلما حاول الأعداء إيهامها بأكاذيب أو مغريات مرحلية تدفعها بالاتجاه المعاكس لمصالحها الحقيقية، والتي قد لا تستوعبها كاملة، أو لا تملك القدرة على اكتشاف دوافع الأعداء الكامنة خلفها، كما تحتاج إلى رموز معروفة ومجربة في الميدان، تستحوذ على ثقة الجماهير وقناعاتها بأنها تمثل كل أطياف الشعب وتتبنى أهدافها، ولا تتحيز إلى طيف دون غيره، وتملك من قدرات القيادة المجربة ما يجعلها صالحة لأن تكون قطب الرحا لجميع هذه الفئات والأطياف.

 

إن العلاقة مع الجماهير حاسمة في مدى ديمومة المقاومة واتساعها وتطوير قدراتها وإمكاناتها في حال أُحكمت هذه العلاقة بشكلها الصحيح والفاعل، وإلاّ فهي سبب أساس في تجفيف منابعها ومحاصرتها وشرذمتها وتراجعها عن مواقع كانت تقف عليها باقتدار إبان سطوة العاطفة، وقد حدث هذا من قبل، فالمقاومة الفلسطينية افتقدت كثير من حواضنها الوطنية والعربية بسبب عدم إحكام الصلة والعلاقة بينهما، فدفعت ثمناً باهظا في الأردن ولبنان خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، فيما تعززت قدرات الكيان الصهيوني كثيراً من خلال تحول أعداد من الفلسطينيين إلى جواسيس له لعدم قدرة المقاومة على وضعهم داخل محيطها أو تحجيم دورهم، ففقدت بسبب ذلك الكثير من مواقعها وقدرتها وتأثيرها على الساحتين الفلسطينية والعربية.

 

وذلك الدرس الذي تحتاج المقاومة العراقية بكل فصائلها واتجاهاتها لاستيعابه جيداً، وإن كانت تستوعبه، فعليها العمل الجدي الحاسم على تجاوزه مستفيدة من عبره جيداً، إن كانت حقاً ترغب بتحقيق هدفها الأساس جميعاً، والمتمثل بطرد الاحتلال بكل أشكاله وألوانه، وتغلق بوجهه كل المنافذ التي سيحاول العودة من خلالها بعد خروجه الشكلي بصيغة الجيوش الغازية.

 

لقد كان الرأي الستراتيجي الغربي منذ بدايات القرن العشرين قد تبلور وتمحور حول القناعة بأن الأمة العربية تشكل خطراً وتهديداً دائما على الغرب وحضارته وأهدافه، لأنها تملك كل مقومات الوحدة والترابط، ولأن أرضها تختزن من الكنوز والثروات بالإضافة لموقعها ما يؤهلها لأن تكون قاعدة مثلى للنهوض الحضاري، خاصة وأنها لا زالت تتمسك بالعقيدة الإسلامية، تلك القوة الهائلة التي سبق للعرب أن توحدوا بفعلها وأنجزوا حضارة كبيرة وأصيلة وعظيمة خلال خمسة قرون. وذلك ما أفصح عنه كلاستون أمام مجلس العموم البريطاني، حينما كان رئيسا لوزراء بريطانيا العظمى" ما دام القرآن في أيدي المسلمين ويعملون به لا نستطيع السيطرة عليهم".

 

ولهذا فإن الدور الإيراني بصيغته الشعوبية الصفوية كان ولا زال يشكل منفذاً هاماً يلبي الطموحات الغربية الرامية إلى تمزيق العرب وتعميق خلافاتهم من خلاله، بالإضافة إلى مهمة مسخ الإسلام وتشويه عقيدته، ليتحول من عنصر قوة وممانعة بيد العرب إلى وسيلة لإضعافهم وتشتيتهم، لأن الفكر الصفوي يستند إلى أسس كلها تهدف إلى تمزيق شمل العرب وتشويه عقيدتهم، ومن بينها قولهم بتحريف القرآن الكريم، السبيل الذي أوحى لهم به اليهود منذ عهد الخلفاء الراشدين بدعوة ابن سبأ.

 

أما الكيان الصهيوني فلا يشكل مانعاً سياسياً وجغرافياً لوحدة العرب فحسب، بل إن وجوده بحد ذاته يشكل أساساً للفرقة، فالأنظمة العربية منذ نشوء الكيان الصهيوني وحتى يومنا هذا لم تجتمع على رأي واحد في تعاملها مع التهديد الصهيوني. وذلك ما يجعل الغرب والكيان الصهيوني يديمان تفاعل المشكلة الفلسطينية في الواقع العربي، ويمنعان أي حلّ لها، وإن كان في صالح الصهيونيةـ لأن ذلك سينفي عن العرب واحداً من أهم معوقات وحدتهم وأسباب تناحرهم. وذلك على غير المألوف، فإن الأمم والمجتمعات الإنسانية عادة تتلاحم وتتحد حين تصيبها المحن القاسية.

 

وقد تعزز الحلف الامبريالي الصهيوني بعودة الفرس كطرف مشارك وفاعل في مسارهم هذا، يضيف لنكبة العرب باحتلال الصهاينة لأرض فلسطين عام 1948م وتشريد أهلها نكبة أخرى باحتلال العراق بعد أكثر من نصف قرن من النكبة الأولى، ليمارس الفرس كما هو حال الكيان الصهيوني، مانعاً رادعاً لأي اتفاق عربي، وإن كان بحدوده الدنيا، كهدف جيوستراتيجي امبريالي صهيوني، لا يمكن لأي إدارة أن تتجاوزه أو تتخطاه.

 

وقد أثبتت تجارب الواقع المرير الذي عاشته الأمة العربية منذ مطلع القرن العشرين أن بؤر العدوان والتهديد الصهيوني والفارسي تشكل على الدوام عوائق فاعلة لأي محاولة عربية تسعى لتجاوز واقعها المرير هذا أو تعمل على علاجه.

 

ولأن أعداء العراق امتلكوا القناعة الكافية بعدم قدرة العرب على إسعاف الوضع الفلسطيني وتصحيحه ومنع تهويده كلياً رغم مرور قرابة القرن على بدء تنفيذ المشروع الصهيوني، فإنهم يكررون اليوم صيغة تهويد فلسطين على العراق بالسعي لتفريسه، دون الخوف من معارضة عربية.

 

ولهذا فإن من أفدح الأخطاء أن يعتقد أحد من العراقيين أن بإمكان الأنظمة العربية تقديم أي دعم أو معونة أو جهد في سبيل تحرر العراق واسترجاعه، وإن من أخطر الأخطاء أن تعتقد طلائع العراق الثورية وفصائله المقاومة المجاهدة أن العراق سوف لن يتحول إلى بؤرة فارسية مجوسية، كما تحولت فلسطين إلى بؤرة صهيونية، إن لم يستفيدوا من كل الأخطاء التي وقعت فيها المقاومة الفلسطينية ولا زالت، فعليهم أن يتقنوا درس فلسطين جيداً ويستخلصوا منه العبر التاريخية الكثيرة. فالمقاومة الفلسطينية رغم أنها بدأت بداية متأنية، حيث دامت الفاصلة بين النكبة عام 1948م وبين انطلاقة مقاومتها المسلحة المنظمة في مستهل عام 1965م، فالثمانية عشر عاماً كانت كافية لكي تنتج تجربة ناضجة ومتكاملة في المقاومة المسلحة، لكنها بمجرد أن صارت تشكل خطراً جدياً على الوجود الصهيوني، تلقفتها الأنظمة العربية فحزبتها وأفقدتها القدرة على مواصلة الجهاد، لأنها انهمكت في معاركها الهامشية فيما بينها، وبينها وبين الأنظمة العربية، لتستهلك الجانب الأكبر من طاقتها وقدرتها وجهدها، ثم تتحول فيما بعد إلى مجرد كيانات سياسية، لا تقوى إلا على ممارسة الأدوار التي ترسمها لها الصهيونية والامبريالية، بالصراع فيما بينها على أهداف ما بعد التحرير، مع إنهم لم ينجزوا التحرير أو يقتربوا من إنجازه، فقد أصابتهم عدوى الأنظمة.

 

لكي تنجح أي حرب تحرير شعبية عليها قبل كل شيء أن تختصر أهدافها وتركزها على تحرير الأرض، وتتمسك بهذا الخيار حتى تحقيق النصر النهائي والكامل، وإلا فإن إشراك أهداف ما بعد التحرير، والتي يتباين عليها الفرقاء، بل وحتى الفريق الواحد، مع هدف تحرير الأرض، سيجعل من أمر التحرير مستحيلاً وغير قابل للتحقق، والتحزب وقت المحن والصعاب أخطر التهديدات التي تعيق المقاومة وتمنعها من انجاز التحرير، وتُذْهِب تضحياتها سدىً وبلا طائل.

 

والعراقيون اليوم كما هم الفلسطينيون لم يتخذوا من دروس التاريخ سنداً وعونا في تنظيم عملهم الجهادي، فلم ينهلوا من التجربة الجزائرية التي لا زالت أحداثها ماثلة للعيان، رغم أن فيها درساً بليغاً لهما، فالاحتلال الفرنسي نجح في إرضاخ الشعب الجزائري لسياساته وأهدافه الامبريالية على امتداد قرن وربع القرن من الزمن(1830-1954) لكنه خلال سبعة أعوام فقد كل ما رسخه في الواقع الجزائري، وولى هارباً، بعد أن استجدى من المقاومة الجزائرية سلام الشجعان، وذلك لم يحصل إلا بسبب واحد، هو وحدة المقاومة الجزائرية بإرادة وقيادة وهدف واحد، فحققوا بسبع سنوات ما عجزوا عن تحقيقه خلال 124عام، فالعروبة كانت موجودة، والإسلام كان موجوداً، والرابطة الوطنية هي الأخرى كانت موجودة، وشجاعة العربي وشهامته واستعداده للتضحية كانت كلها موجودة خلال تلك الفترة، لكن الذي لم يكن موجوداً هي إرادة التوحد على هدف التحرير.

 

فلسطين ستحرر، والعراق سيحرر، وكل أرضٍ عربية مغتصبة ستحرر، لكن الخطيئة الكبرى أن يقدم العرب تضحياتهم السخيّة، وهم يعلمون أنها لن تجدهم نفعا، فما أحراهم أن لا يديموا احتلال الصهاينة لفلسطين وحلف الأشرار للعراق الزمن الذي مرَّ على الجزائريين من قبل، وقد علموا علته، والحلّ في أيديهم. أمرهم به الله تعالى، وحثّهم عليه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والتاريخ يضع أمام أنظارهم كل تجاربه، فما الذي يمنعهم أن يتوحدوا فتذهب تضحياتهم أدراج الرياح!

 

 

متى انطلقت المواجهة

 

من المنطقي أن يكون ردّ الفعل إزاء الغزو والعدوان هو سبيل المقاومة بأشكالها المختلفة ووسائلها المتاحة، وإن اختلفت الشعوب التي تتعرض للغزو والاحتلال عن بعضها من حيث البيئة والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي القدرات والدوافع المرتبطة بطبيعة كل مجتمع في فهمه للحياة وأسبابها وغاياتها، بالإضافة إلى جذورها الحضارية، وإن تباينت أسباب ودوافع وأهداف الغزاة من احتلالهم ووسائلهم في تحقيقها أيضا.

 

وغالباً لا تبدأ مقاومة الاحتلال عن طريق المواجهة المسلحة، إنما تلجأ إليها في مراحل لاحقة كنتيجة طبيعية وردّة فعل تتطلبها الظروف التي تستجد في الواقع المفروض قسراً من قبل الاحتلال وآثاره التي تتحكم بجوانبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعد ذلك فتفضح نواياه وأغراضه الحقيقية من الغزو، وخاصة إذا كان الشعب الذي تعرض للغزو يفتقد للفطرة الإنسانية أو كانت قد تشوهت معالمها في سلوكه، نتيجة أسباب شتى يضفي عليها نفاق الغزاة وأكاذيبهم لتبرير العدوان ضبابية أكبر ووهماً يأخذ بأعداد متباينة أحجامها من تلك المجتمعات إلى تصديق أكاذيب المحتل والدفاع عنها بكل الوسائل والسبل، وإن كانت غايات هؤلاء تختلف بين واحد وأخر، فليسوا كلهم معجبين بسلوك المحتل ونمط حياته، بل فيهم من يستغل الظرف لتحقيق أغراضه الخاصة، وفيهم من يأخذه الحقد للقبول بوجودهم بدوافع الانتقام الذي لا يجد في نفسه الهمة والقدرة للقيام به، وفيهم الساذج الذي لا يملك البصيرة والقدرة على تمييز الضار من النافع.

 

لكنها وخلافاً لهذه القاعدة اتصلت مرحلة الدفاع لصدّ الغزو بمرحلة الهجوم المقابل بلا أي فاصل زمني في العراق عام 2003م باستثناء التحول من إسلوب الدفاع المنظم إلى حالة الهجوم بوسائل وأساليب مختلفة كلياً، تعتمد أساساً على أساليب الكرّ والفرّ، وبوسائل ومعدات لا تتطلب التحشد والتخندق، فلا تمسك موقعا لتضطر للدفاع عنه بقوة غير متكافئة، ولأن أساليب الكرّ والفرّ لا تنسجم ومتطلبات الدفاع، فكان لابد من اعتماد حرب العصابات، والتي كانت القيادة العراقية قد أنجزت برامجها وتمارينها وعددها قبل العدوان بأشهر عديدة، ولهذا كانت المعارك الدامية التي خاضها رجال العراق الأبطال في شوارع بغداد وغيرها من مدن العراق متواصلة منذ أن دنست أقدام الغزاة أرض بغداد يوم 9/4/2003م بلا توقف أو انقطاع، إلا ما تطلبته عملية التحول هذه من فتور بسيط في بدياتها، خلال حالة الصراع مع الشعور بالانتكاس والتغلب عليها رويداً رويدا بتحفيز خزين الوعي الحضاري والتاريخي رافقتها عمليات شحذ قصوى للهم ومخزون الخبرة لتوفير كل ما من شأنه تعزيز مسيرة الجهاد والكفاح الدامي ودعم فعلها بالعَدَد والعُدَّة، الأمر الذي ساعد على تطورها وتصاعد فعلها كماً ونوعاً، وليس كما أشاع حينها الغزاة وتوهموا أنها مجرد فلول للجيش والسلطة.

 

ففي يوم 10 نيسان 2003م شهدت بغداد نوعاً جديداً من أعمال الفداء، حين تعرضت القوات الغازية في بغداد لعملية استشهادية قتل خلالها ثلاثة جنود من مشاة البحرية الأمريكية وجرح عدد أخر منهم، فيما شهدت منطقة الكرخ من بداية شارع حيفا وحتى تقاطع جسر الصرافية مواجهات عنيفة ودامية بين أبناء الشعب وقوات المارينز الأمريكية دمروا خلالها مدرعة نوع برادلي، وفي مساء ذلك اليوم شهد شارع حيفا نفوق الجندي الأمريكي تيري دبليو همنغواي وتوجهه من فوره إلى جهنم وبئس القرار ليلتحق بمن سبقوه من علوج الكفر خلال ساعات النهار في اليوم الأول للصفحة الجديدة من سِفر المواجهة، في الوقت الذي كان الشباب لا زالوا يهزجون على مسرح برج الدبابة الأمريكية المدمرة تحت جسر صدام على طريق بغداد الجنوبي الغربي بين الدورة والسيدية، والرتل المدمر تحت جسر طريق المطار قرب جامع شهداء أم الطبول، استمر هدير المواجهات يمزق صمت الليل في بغداد ومدن العراق الأخرى متواصلاً مع خيوط شمس يوم 11/4/2003م فتصاعدت حدتها في جانب الكرخ والأعظمية في جانب الرصافة ومناطق أخرى من بغداد وغيرها من مناطق العراق، فاستمرت عمليات التعرض والقنص وإطلاق الصواريخ على امتداد شارع حيفا وصولا إلى منطقة العطيفية، تم خلالها تدمير دبابة نوع ابرامز وقد اعترف اللفتانت كولونيل جيم كارتييه قائد وحدة من مشاة البحرية الأمريكية المارينز بقوة المقاومة وشدة ضرباتها بقوله "أنهم لازالوا يواجهون المقاومة العراقية في شوارع بغداد ولن نستطيع القيام بأي عمل آخر لأنه مازال هناك أناس يريدون قتلنا " فيما واصل الفدائيون شن هجماتهم على القوات الغازية في مدينة صدام وكبدوها خسائر قاسية، أما المقاومة الباسلة في محافظة ذي قار فقد تواصلت وشنت مجاميع من فدائيي صدام وجيش القدس هجماتها على القطعات الغازية وخصوصا الوحدة 15 من قوات المارينز وكبدتها خسائر كبيرة ومهمة وعرقلت تقدمها، وفي محافظة نينوى أيضا قاد فدائيو صدام وجيش القدس معارك دامية ضد القوات الغازية وجواسيس الغزاة من البيشمركة الكردية المتصهينة فقد تعرضت الفرقة 173 المحمولة جوا وأذيالها من الجواسيس إلى هجوم صاعق من قبل المقاومين ودارت معركة طاحنة قرب فندق بابل في الموصل تكبد العدو خلالها خسائر كبيرة مما اجبر على الانسحاب إلى أطراف المدينة، ولم تكن معركة نفق الشرطة في جانب الكرخ أخرها بل تواصلت العمليات تتوسع مساحتها وتأثيرها فانتشرت على رقعة واسعة من أرض العراق من شماله إلى جنوبه لأن ذلك الوقت كان سابقاً للتأثير الفارسي المجوسي الذي رافق الغزو والاحتلال ونفذ العديد من صفحات الدعم والإسناد، والذي قيد فيما بعد إرادة نسبة كبيرة من شعب العراق، ومنع عليها مواصلة واجب اقتضته كل قيم السماء والأرض والفطرة البشرية.

 

ولهذا فقد تميزت المقاومة العراقية بخاصية لم تكن تملكها أي مقاومة سبقتها، تلك هي حالة التواصل بين الدفاع بصيغته العسكرية المعروفة مع الهجوم بصيغة المقاومة والحرب الشعبية، وتداخلتا فيما بينهما، لم يكن يفصل بينهما سوى التوقيت الذي اعتُمِد لاحتلال عاصمة العراق، بغداد في التاسع من نيسان عام 2003م.

 

وهذا لم يكن وليد صدفة، بل كان ناتج تخطيط وتهيئة امتدت أمدا طويلا، فقد كانت القيادة تعد عدتها لصفحة المقاومة الشعبية، التي تتسم بتجاوزها لكل عناصر التفوق العسكري لجيوش الأعداء، لأنها كانت تدرك أن القوة التي يُعِدّ الغزاة لاستخدامها ضد العراق كانت مُعدَّة في الأصل لمواجهة أكبر قوة عسكرية في التاريخ، قبل تفكك الاتحاد السوفييتي، مضافاً إليها تحالفات إقليمية ودولية، لم يكن متيسراً لهم أن يوظفوها في مواجهة السوفييت لو حصلت في حينها.

 

هذا بالإضافة إلى عامل أساسي وفاعل كان يقف خلف إنجاح وتميز المقاومة العراقية، ذلك هو البناء الذي استهدف الإنسان العراقي، في وعيه وإيمانه ووطنيته وارتباطه بأرضه، ودفاعه عن أهداف مشروعه الحضاري، الذي ترك كل عراقي شهم وغيور بصماته في مساره الطويل.

 

وذلك ما كان يمكن تيسره لأي شعب وأمة أخرى، بهذه الطريقة وذلك التواصل بين مواجهة الغزو والعمل على طرده، رغم إن التضحيات التي قدمها الشعب العراقي، نتيجة الوحشية التي استخدم بها الغزاة لأسلحتهم المحرمة دولياً على المدنيين الأبرياء والأطفال والنساء على حدّ سواء، كانت حافزاً موضوعياً لمكوث الشعب العراقي سنين طوال قبل أن ينهض بخيار المقاومة المسلحة. لكنه كان خلاف العادة والمتوقع فقد استمر بالمقاومة والجهاد قبل أن يلتفت إلى جراحه النازفة بغزارة ليضمدها، فكان ضمادها والتئام فواغرها هو جهاد الأعداء المتوحشين والاقتصاص منهم أيما اقتصاص، وإذلالهم أيما إذلال، وتركيعهم وكل قوى الشرّ والعدوان أمام صلابة الحقّ وإيمان الرجال وتضحياتهم، التي عززت صلتهم بأسلافهم العظام وزكّت أنسابهم وحفظت أحسابهم.

 

سطوة الروح

 

وتعدُّ المواجهة المسلحة هي النقطة الحاسمة في كل أشكال المواجهات الأخرى غير المسلحة على الرغم من أهميتها، لأن المواجهة بالقوة لا تبدأ في أغلب الأحيان إلا بشرط سيادة الشعور العام أو الغالب بالحيف الذي يوحد المشاعر ويقارب بينها بما يهيئ الأرضية للفعل المقاوم ويعزز إرادته، وذلك ينتج في أغلب الأحيان عن طغيان العاطفة الروحية الفطرية لدى المقاومين والمشجعين والمتعاطفين مع الفعل المقاوم، فالعاطفة جانب مهم من الروح، تدفع بالنفس البشرية إلى فطرتها الصحيحة في مرحلة من المراحل المهمة والحاسمة كالغزو الأجنبي بغض النظر عن طهارة الروح وإيمانها من عدمه، وهذا الذي يدفع بأضعف الحيوانات والكائنات الأخرى للدفاع عن نفسها وعن فصيلتها أو مأواها بكل الوسائل والسبل دون النظر والحساب لقوة العدو وتأثيرها ونتائجها والقدرة على تحقيق الغلبة عليه.

 

والروح النقية الطاهرة في الكائن البشري، التي هي أكبر من العاطفة وأبعد منها أثراً، هي التي تركن إلى فطرتها التي فطرها الله تعالى عليها، تستجيب لدواعيها ولا تخرج عنها امتثالاً لأمر الله تعالى في كتابه الكريم: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }(1) فتُحْكِم سيطرتها على الجسد وما خلق الله تعالى فيه من أسباب الفعل ودوافعه، لتجعل السلوك متزناً يتوسط المسافة بين الغلو والتفريط، وتحكم الموازنة بين متطلباتها ومتطلبات الجسد والنفس البشرية، فإذا انحرف نحو الروح أفرط وغالى فأفقد الحياة أسباب وجودها فحولها كأنها محض عبث، وإن انحرف نحو الجسد فقد فرَّط وبدد وكأنَّ الحياة الدنيا هي المُبتغى والهدف، فكما تكون علاقة الإنسان بربه تتوسط بين الخوف من عقابه ورجاء رحمته وثوابه فإنَّ الإنفاق هو الآخر، وفقاً للفطرة، يجب أن يتوسط بين الإسراف والتبذير وبين الشحِّ والتقتير، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }(2) وعلى هذا النحو تتوسط كل مفردات السلوك، وعند ذاك يحدث الانسجام بين الروح والجسد، يقفان معاً على نقطة ارتكاز الفطرة، وسطاً بين عنصري الجذب على طرفيهما، فيتطابق السلوك مع دوافعه، ليكون الظاهر معبراً صادقاً عن الباطن، وإن تحقق الانسجام بين باطن الإنسان وظاهره فقد تحققت الفطرة، واتسم سلوكه مع الآخرين بالصدق والوضوح التام، وتخلص بفعل هذا من أن يطأ العديد من محطات الجذب التي تُخرجه عن فطرته كالكذب والغدر والمداهنة والغش والخداع بقصد الإفساد، وما يترتب عليها من فقدانٍ للحقوق، وهذه المحطات كلها مسالك للنفاق وأعراضٌ لمرضه، كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }(3) ولأن النفاق مرضٌ فتاك لا يبقي من فطرة الإنسان شيئاً فقد أعدَّ الله تعالى للمنافقين أشدَّ العذاب بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا }(4) فهو مرضٌ يصيب الروح وإذا استحكم فيها وتمكن منها أخرجها عن فطرتها وذهب بها وبالجسد معاً إلى أحد طرفي الجذب، إما تطرفاً أو تفريطا، حتى يفقدهما فطرتهما ويجعلهما مستوطنة لأمراض السلوك، فإما يحولها إلى شخصية مرتابة لا تُحسن إلا الضنَّ والشكَّ في كلِّ شيء، لا تثق بأحد، أو يجعلها ساذجة لا تجيد الفرز بين الصدق والكذب، بين النُصح والغش، وكلتاهما يُقاد إلى حيث المزيد من الأمراض، فيما هي لو ثبتت على وسطيتها وحافظت على فطرتها فإنها لا ترتاب إلا بما يُكاد بها، ولا يختلط أمامها الكذب بالصدق، والنفاق أيضا يُوجد المبررات لقسوة السلوك وعدوانيته ويسلحه بالعدة والقدرة على ذلك، فيما يعطي السلوك الاستسلامي المتخاذل في الطرف الآخر أسبابه وعُدده، فهو إذن يصوغ للشخصية مسلكان متناقضان على طرفي الوسطية في آن معاً، أيهما أقرب إليها دفع بها باتجاهه وأغراها حتى يُسقطها في مهاويه.

 

ولم تُسلب حقوق إلا والنفاق كان مسلكاً في سبيل ذلك، وما أُضْعِفَ مجتمع من المجتمعات الإنسانية وخارت قواه وتفشت فيه الفواحش إلا به، فإنَّا لم نجد أحداً اغتصبَ حقاً لغيره بدعوى الاغتصاب، إنما بأكاذيب تُروج لتجعله حقاً مسترجعاً أو غنيمة مباح الاستحواذ عليها، كما لم نجد دولة أو كيان بشري سعى لغزو دولة أخرى بدعوى النهب والسلب وتحقيق الأطماع، أو الدوافع الحقيقية للأحقاد وأسباب مشاعر العداء لها ولشعبها، بل كانت على الدوام باختلاق الذرائع الكاذبة على غير حقيقة الإرادة للغزو، هذا إذا استثنينا الحروب التي تنشأ عن ضرورات دفع الأخطار، وإن كانت هي الأخرى تنطوي أحياناً على إظهار أسبابٍ لا تمتُّ بصلةٍ للدوافع الحقيقية لاستجماع القوى من أجل صدّ الخطر ودفعه، وذلك كله يختلف عن فتوح الدعوة إلى توحيد الله تعالى وفرض شريعته فتلك شأنها واضحٌ جلي فلم تخرج أمةٌ في سبيل الله بظاهرٍ يخالف باطنها مطلقاً، وأساس اختلافها أن الفطرة كانت لها السيطرة تنفي عنها النفاق وتمنع أهله أن يُواكبوا المسير، فإن اختلط أهل النفاق بذوي الفطرة السليمة يحدث حينذاك الصراع وتُستنفر مستلزماته حتى يظهر أحد الفريقين على الآخر.

 

ولعلنا نستذكر أحداثاً من القرن العشرين، كان النفاق فيها عاملاً حاسماً ودافعاً وهميا لتحقيق الأغراض الحقيقية المتخفية خلف أستاره، فحينما جاءت القوى الطامعة بثروات العرب وأسواقهم بإكذوبة تحرير الشعوب المستضعفة من السيطرة العثمانية، كان الانكليز يصرخون ليل نهار بنفاقهم ودعواهم الكاذبة " جئنا محررين لا فاتحين" لكنهم في الحقيقة فتحوا واستعمروا ونهبوا ومسخوا في قيم الشعب وحرفوا في سلوكه، ولم يخرجوا إلا بأنهار من الدماء والتضحيات، ومثل ذلك فعلوا بشعب فلسطين حيث استخدموا الأكاذيب والخداع حتى أمكنوا شذَّاذ الآفاق من اليهود الغاصبين من أرضه ورقابهم، وكذلك شهد القرن الحادي والعشرين في مستهله، حين ادعى الغزاة الكفار أنَّ العراق بات يشكل خطراً وشيكاً على أمنهم وأمن غيرهم بدعوى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، أسندوها بكذبة أخرى مفادها رفع المظلومية عن "الشيعة" والأكراد، ساعدهم على هذا أنهم وجدوا في دين الفرس الذي يعتمد على ركيزة "التقيّة" وهي أخطر مظاهر النفاق وأقصى المحطات في مسلكه، أفضل دواعي الكذب والتضليل لتبرير الغزو والاحتلال، ومثلها فعلوا خلال غزوهم لأفغانستان، فما وجدوا أسلحة الدمار ولا أنصفوا المظلومين لكنهم جاروا وظلموا ونهبوا وسرقوا ومسخوا قيماً وشوهوا منظومة السلوك بكاملها وبذروا فيها أمراضاً سلوكية يصعب الشفاء من أعراضها والتخلص من آثارها، وتلك كلها من عُدد الغزاة الطامعين وأساليبهم ووسائلهم تتطور بتطور الحياة، من أجل إطالة أمد المكوث حتى تتحقق الأهداف الحقيقية للغزو والاحتلال.

 

لكن حينما تأخذ الروح دورها الكامل وتُخضِع العقل والغريزة لإرادتها فإنَّ المجتمع سيتماسك ويتوحد بالمشاعر والعواطف المنسجمة النابعة عن الروح وإرادتها، وحينها فقط ستنطلق المواجهة الحاسمة التي لا بدَّ أن تكون نتيجتها طرد المحتل خارج الأرض مهما امتلك من أسباب القوة والبطش، ومهما تفوق فيهما، فالمسلم حينما يصغي لنداء الروح ويستجيب فإنه سيُخضِع لها عقله وغرائزه وإرادته النابعة منهما، ويوظفهما في مسار الروح ومتطلباتها، وحينها سيكون تفاعله مع مفهومي الحياة والموت مختلف كليا عن نوازع وعمل العقل والغريزة، فالعقل يحسب الأمر بقياسات هدفها المحافظة على الحياة وبقاء الجسم سليما معافى لينجز فيها ما يخطط لتحقيقه، وكذلك تفعل الغريزة فهي أكثر تشبثا بالحياة وتدفع بالعقل لصياغة كل ما يبعدها عن الفناء الدنيوي، ولذلك فإنَّ العقل يصوغ كل مفردات الحياة وفقاً لهذه المتطلبات، والمحتل لا يحقق هدفه بالحيلة وحدها، فهي غير قادرة بمفردها فرض واقع الاحتلال، لأن الحيلة والمكر والنفاق والخداع والأكاذيب ليست إلا وسائل تمهد الأرضية لتحقيق الاحتلال، فهي تمارس على حشود الغزاة لكي تضمن تحمسهم وتقبلهم لفكرة الغزو، لأن ليس كل ما يطمع به الغزاة يدخل في جيوب أداة الحرب "المحاربين"، من جانب أخر فهو يحاول من خلالها إيهام المجتمع هدف الغزو بأسبابٍ قد لا تجد لها معارضة كاملة، فأي نسبة للقبول مهما كانت ضئيلة هي عاملٌ مساعد للغزو وسبب كبير لنجاحه، بما يخلق منها طابورا لتثبيط الهمم والتخلي عن أداء دور الفطرة في الدفاع عن العشِّ أو المأوى، لكن العامل الحاسم في الغزو هو القوة الغاشمة، لذلك تجد العقل يعقد المقارنات بين متطلبات البقاء والذي لا يجدها تتعدى الحياة الدنيا حين يخرج عن محيط الروح ويذهب للتفكير من خارجه، وبين متطلبات النهوض لمقارعة معتدٍ استحوذ على حقوقه بالقهر والعدوان، وكذا تفعل الغرائز فهي حينها لا ترى متعها إلا في الحفاظ على الكيان المادي للجسم البشري كي تمارس رغائبها وملذاتها.

 

أما حين يستجيب العقل والغرائز لنداء الروح فإنَّ الأمر سيختلف كلياً، فحينها سيكون أفق العقل أرحب وفعله وقدراته سيُحكمان بدوافع أخرى مختلفة كلياً، تكون الحياة فيها مجرد قارب نجاة إن أحسن قيادته أوصله إلى الضفة الأخرى لينعم فيها بكل ما يريد، وإن أساء استعماله أخذته أمواج البحر وسقط في لُجَّتِه فخسر الضفتين معاً، أو يتسمر على ضفته المجدبة حتى يهلك، وحينها ستكون الدنيا في وعيه وسيلة لبلوغ هدف وليست الهدف بعينه، والفارق كبير كبير، وهذا لا يتيسر لمن لم يكن قد أعدَّ العُدة لحياةٍ أخرى غير الحياة الدنيا، فالإنسان مهما كان جاحدا يعلم في نهاية المطاف أن من ورائه حساب وعذاب، فيتمسك بالدنيا لأنها الفاصلة الزمنية التي تبعده عن المآل إلى الحساب والعذاب، فيكون حينها مضطراً لإيجاد المبررات التي تساعده على البقاء بعيداً عن خطر الموت، فيما يذهب من ناحية أخرى للاستحواذ على أيٍّ من ملذات الدنيا وإن كان السبيل إليها محرماً وينطوي على الرذيلة ويجابه بالاستهجان والاستنكار من قبل المحيط الاجتماعي، وذلك في الحقيقة هو حال كل الذين يرتبطون بقوى الغزو والاحتلال بأي شكل من الأشكال، وإن كان بعضهم يتلبس الدين والورع في ظاهره لكنه في الحقيقة يائس كليا من أن يحصل على فرصة بالحياة الآخرة مهما كانت ضئيلة نتيجة ثقل الخطايا والآثام التي ارتكبها بالخفاء والعلن، ولهذا تجد أغلبهم تتملكه مشاعر الحقد وحب الانتقام والتفنن فيه، فيما تجدهم جميعاً من الذين برعوا بتلفيق الأكاذيب وامتلكوا قدرات كبيرة في النفاق والتدليس.

 

لذلك نجد أن بدايات المواجهة المسلحة مع الأعداء عادة ما تكون قوية ومؤثرة ومثيرة في نفس الوقت، تكاد تؤتي أُكلها سريعاً، كنتيجة طبيعية لفعل العاطفة في توحيد جهود المقاومين وما تعززه قدرات التوحد والانسجام العاطفي هذا على ارض الواقع المقاوم من استقطاب للمزيد من التعزيز بما يصعد من قوة الفعل وقدرته كنتيجة للأثر الذي تفرضه على الواقع، خاصة وأن ردود الفعل المعاكسة للفعل المقاوم من قبل الغزاة وأذيالهم ونتائج الآثار المترتبة عليها لا تظهر إلا بعد فترة زمنية تطول نسبيا مع تصاعد الفعل المقاوم وبعد تهيئة مستلزمات الرد وحساب نتائجه.

____________________

سورة الروم، الآية:30.

سورة الفرقان، الآية:67.

سورة البقرة، الآيات:8-12.

سورة النساء، الآيات:144-145.

 

مظاهر الغرور

 

نتيجة شعور المقاومين بأنهم أصبحوا قريباً من تحقيق الحسم النهائي بالانتصار على الغزاة وطردهم خارج الحدود برزت أدوار للعقل والغرائز، بعد أن فترت العاطفة تدريجياً، خارج هذا السياق، لأسباب عديدة، أبرزها إصابة بعض المقاومين بالغرور، خصوصاً بعض المتميزين منهم، نتيجة شعورهم بالإحباط لعدم قدرة آخرين على أداء أدوارهم وانجاز مهماتهم بمستوى الأداء الذي حققوه هم، أو نتيجة محدودية الزاوية التي ينظرون منها إلى الفعل المقاوم وأهدافه، أو لعدم إدراكهم لكل متطلبات العمل المقاوم الأخرى غير المواجهة المسلحة، فيما تخلق ردود الفعل القاسية من قبل القوات المحتلة ظروفاً جديدة تسودها الهواجس والشكوك تجاه بعض الأشخاص الذين فترت فيهم العاطفة فاقتادها العقل إلى التنصل عن التزاماتها السابقة نتيجة التأثر بنتائج ردود أفعال العدو وعدم القدرة على مواجهتها، وأحيانا تمتد هذه الشكوك لتشمل بعض المقاومين أنفسهم، وغيرها من إرهاصات العمل الكفاحي الشاق المحفوف بالمخاطر الجسيمة والذي يتطلب تضحيات كبيرة جداً وقدرة عالية على الصبر والجلد والثبات، زلازل تبدأ بسيطة ومتواضعة لكنها بمرور الوقت تشتدّ حتى تتشقق الأرضية الواحدة التي أوقفت العاطفة بكل أشكالها وألوانها جميع المقاومين عليها، وتزداد الهوة بين هذه الشقوق حتى تنفصل جزئياً أو كلياً عن بعضها، والخلل هنا لا يكمن في العقل ولا العاطفة، لكنه اتخاذ البعض من المقاومين العاطفة مجردة عن محيطها الصحيح وإطارها الطبيعي وإن كانت في غالبها عاطفة دينية، وهو الروح، ثم بروز أدوار العقل وهو الأخر خارج عن موقعه الصحيح، فالعاطفة ليست الروح إنما هي من نتائجها، وهي كما تُوَحِّد العقول والغرائز على مساحة محدودة من الفعل ورد الفعل في ظرفٍ ما فإنها ستفرقهم في ظرفٍ أخر، نتيجة بروز أثار ردة الفعل على الواقع التي ستتطلب هي الأخرى من العقول والغرائز أن تتعامل معها، فتطفو على السطح حينها الرغبات ومتطلباتها، ولأن الروح غير قادرة على إخضاعهما لهيمنتها، لأن منظومة السلوك التي تحكم موقعها غير قادرة على وضعها في مرتكز فطرتها النقية، فتتحول من قائد لهما إلى تابع بمجرد انبلاج فجر الأمل، ليستغلها العقل في مسار النفس البشرية وأطماعها وطموحاتها أو مفترقاً عنها إلى أحد اتجاهي الجذب. فتبرز الأعراف والطموحات الفئوية بكل أشكالها وألوانها كوسائل دعم وتعزيز للنوايا والأهداف، ثم تبرز في مرحلة لاحقة الطموحات الفردية بين الطموحات الفئوية نفسها، وإن كان الهدف الذي استجمعت العاطفة كل هذه الفئات عليه فيما مضى لم يتحقق بعد، بل تراجع مع الواقع الجديد مما يحقق للغزاة فرصاً ذهبية لالتقاط الأنفاس واستجماع القوى وتجديد الأمل بإمكانية البقاء وفرض الاحتلال كواقع، فيسعى بوسائل مكره وخداعه تعميق الهوة والنفرة بين الكيانات التي كانت كيانا واحدا وخلق مبررات الاختلاف حدَّ التناقض بين الأهداف التي كانت هدفاً واحداً يلتقي في سبيله الجميع على أرضية واحدة، فتبرز الاتهامات المتبادلة بالتكفير تارة وبالخيانة أخرى وبإنكار الوجود وتفنيد الوقائع وغيرها من مفرزات الأنانيات الضيقة دون الانتباه للأخطار الجسيمة التي تولدها هذه السلوكيات غير المنضبطة على جميع الفصائل المنضوية تحت ألوية المقاومة بلا استثناء، فأي ثغرة في صفوفهم مهما كانت ضيقة سيعمل المحتل وأذنابه على توسيعها والنفاذ منها إلى ساحاتهم والانقضاض عليهم الواحد تلو الآخر.

 

وهنا تذهب العقول والغرائز التي وقعت فريسة الرغبات والطموحات التي أوجدتها مظاهر الزهو بالانتصارات التي تحققت وعززتها مكائد الغزاة بهدف تعميق الخلاف بينها، لصياغة مفردات التجزئة ضمانا للمكاسب، وهي لا تعلم أنها تصوغ لنفسها الهزيمة ولعدوها البقاء، ثم تذهب فيما بعد لتلقي بأسباب النكسات ونتائجها التي تلت الانتصارات على من كانت في الأمس القريب تقف معها جنباً إلى جنب في خندقٍ واحد، لا يرى كلّ طرف للحقِّ موطناً إلا في ربوع فكره ورأيه، ولا يُحبِّذ استنشاق الشعب لهواءٍ غير هواه.

 

وإن كان هذا لا يُلغي وجود من تطهرت أرواحهم وعادت إلى فطرتها، تؤمن بالله خالقها ولا تعبد إلا إياه، ولا تستجيب إلا لأمره، لا ترى الحياة إلا محض امتحان، الناجح فيه إلى رغد الجِنان والفاشل إلى النار حيث الخسران، وإن كانت الوسائل والأساليب تختلف بين هذا وذاك، فهم جميعاً استوعبوا فاستجابوا لنداء خالقهم الرحيم بهم بقوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).

 

وتلك هي المعضلة التي يطول بسببها أمد الاحتلال وتمتد آثاره أمداً أطول، وحين يقرر الخروج مضطرا أو مختاراً فإنه لا يبرح حتى يقطف بعض الثمار مما أنبت في ذلك المجتمع من بذور السوء والانحراف، ويطمئن لرسوخ جذورها، الأمر الذي يُبقي أثاره غائرة في النفوس أزماناً بعيدة، وهي وإن كانت في أصلها مما يساهم في مسخ القيم الاجتماعية للبلد المحتل بقصد تمزيقه ليسهل إخضاعه لدوافع الاحتلال والرضوخ لمتطلباتها، قد تبدأ مراحلها المبكرة قبل الشروع بالغزو بزمن، عن طريق الجواسيس والمغررين والمنحرفين من أصحاب الأطماع غير المشروعة أو بواسطة وسائل الدعاية والإعلام بجرعات بطيئة وطويلة الأمد كي لا يُكتشف أمرها بيسر وسهولة، ولا تتوخى في ظاهرها الجوانب السياسية أو الفكرية، وأحيانا أخرى عن طريق البضائع المصدرة بأسعار تنافسية والمنتقاة بعناية فائقة لتؤدي مهمة تعزيز بوادر وأعراض أمراض سلوكية مختلفة وإنعاشها، لكنها في غالب الأحيان تخلف الاحتلال وتمكث بعده طويلا إن لم يحقق أهدافه كاملة، فتكون معاول الهدم التي تهيئ وتمهد لغزوة مستقبلية أخرى، أو تساعد على بقاء البديل "المحلي" الذي يختاره المحتل من بين أتباعه ويوفر له من أسباب القدرة ووسائل النفوذ بما فيها القوة المسلحة، كي يمنع أو يعرقل وصول القوى المقاومة لقيادة دفة الصراع فيما بعد، فيفقد كثيراً مما حققه خلال غزوه بما لا يتوازن مع الخسائر التي تكبدها خلال الغزو ومقاومة وجوده ثم إجباره على الخروج منهزماً أياً كان شكل الهزيمة ودوافعها وأسبابها.

____________________

(1) سورة لقمان، الآية:33.

 

* طبع هذا الكتاب بنسخ محدودة في دار السلام بغداد عام 2009م تحدياً للغزاة وأذنابهم الذين لم يسلم من همجيتهم ووحشيتهم وحقدهم حتى الكتاب والقلم.

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس  / ٢٩ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٣ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور