أسباب غير سياسية جعلت العملاء سياسيين ، أسباب غير دينية حولت الأراذل إلى معممين

( دراسة في عيادة المجتمع العراقي )

 
 
شبكة المنصور
حديد العربي

تمهيد


من المؤكد أن تبسيط أية مشكله وتهوين أثارها حين يتم التعامل معها بسطحية وسذاجة في الوعي والإدراك لا يساعد على حلها، إنما يساهم بشكل فاعل على تعميق أثارها ومضاعفة فعلها التخريبي، لان ذلك سيكتنف الأسباب الحقيقية التي خلقت مشكلة ما بكثير من الغموض والتضليل، مما يجعل الاهتداء لأسبابها ودوافعها والعوامل المساعدة على بروزها في الواقع أمرا في غاية الصعوبة، فالمشكلة – أية مشكلة – لا يمكن حلها دون معرفة الأسباب التي أدت إلى وقوعها والعوامل التي تفاعلت من أجل بروزها في الواقع والغايات التي تقف خلف تأجيجها، كما المرض لا يعرف إلا بمعرفة أعراضه ولا يعالج إلا بمعرفة أسبابه وآثاره، خاصة وان الجهات المعادية تعمل على إدامة زخم تلك المشاكل بما يجعلها تتفاعل بحيوية وقوة في الواقع الاجتماعي المستهدف، لأن في ذلك يصبح تحقيق غاياتهم ومصالحهم أمراً ممكنا ويمنحها القابلية على النفاذ، مما يدفعها على الدوام للبحث عن أي مشكلة قابلة للتفاعل والتأثير لتأجيجها، أو العمل على خلق بعض المشاكل عن طريق توفير أسبابها والإغراء بدوافعها، بعد ضمان القدرة على دفع ذلك المجتمع باتجاه تسطيح وعيه بتلك المشاكل، ليتعامل معها بسذاجة وقصور في الفهم والاستيعاب، سواء أكانت قديمة فأثيرت مجددا أو كانت مستجدة في الواقع، وبذلك تتحقق القدرة على تحويلها إلى ظواهر تتسع وتنتشر وتترسخ آثارها في الواقع السلوكي حتى يتوهم الكثير من أفراد المجتمع حين يعتقدون أنها جزء أصيل من منظومة السلوك لمجتمعهم وليست طارئة عليه بأسبابها ودوافعها.


إن لكل مشكلة مهما كان حجمها ونوعها، وأياً كانت دوافع من يؤججها ويتعهدها بالرعاية والحماية والإنماء، بعداً وعمقاً تاريخيا، فليست هناك من مشكلة تنشأ من فراغ، كما أن دوافع الأعداء لا تكفي لوحدها كي تخلق مشكلة في واقع اجتماعي ما، إن لم يكن لها أساس وجذور في ذلك الواقع، فالأعداء لا يملكون بذرة، لكنهم يبحثون على الدوام عن بذور صالحة الإنبات في بيئة المجتمعات المستهدفة، وحين يقررون أنها يمكن أن تطرح ثمارا تلبي حاجاتهم العدوانية فإنهم يتعهدونها بالرعاية والعناية ويغذونها بكل ما يمكن أن يسرع في نموها ويشد من أزرها، على إن ذلك لا يتيسر لهم في كل حين، فليس كل ظرف يلائم الإنبات، والمشكلة كما النبات لا تكون إلا إذا توفرت لها التربة الصالحة والبيئة الملائمة وموارد التغذية وكل مستلزمات الإنبات الأخرى، فكلما كان مالك الأرض حيويا ونشيطا في عمله ويملك وعيا بمفردات عمله، كلما تقلصت فرص إنبات بذور لا يريدها هو أن تنمو في أرضه وبين محاصيل حقله، ومالك الأرض لا تكفيه رغباته ومعارفه بأضرار النباتات التي تنمو خارج إرادته فتزاحم زرعه الأصيل وتشاركه بالساحة والضوء والغذاء، والتي قد تتمدد فتطغى عليه وتخنقه، بل يستلزم لتحقيق ذلك جهودا جمعية لكل فريق العمل في زراعة تلك الأرض، من أخوة وبنين وبنات وزوجات، والجهد الجمعي هذا لا يكون هو الأخر فاعلا ومؤثرا إن لم يتسلح كل أفراده بالوعي والإدراك والمعرفة اللازمة لامتلاك قدرة فرز كل النباتات الضارة التي تنمو في أرضهم منذ بداياتها، لأن اقتلاعها في أوقات متأخرة لا يمنع ضررها، فتكون حينها قد استلبت كثيرا مما خصص للنباتات المزروعة وأفقدها جانبا من عافيتها، فلا يغادرها إلا وترك فيها عللا ووهنا، وذلك حال أغلب المشاكل التي تنشأ في المجتمعات، فإنها تنمو في بداياتها بمظهر يبدو لطيفا ويوحي بالفائدة، وبخاصة في وعي وسلوك الذين لا تتجاوز طموحاتهم الأغراض الشخصية، هذا بالإضافة إلى حتمية وعيهم لما يسببه هذا الإنبات من آثار سلبية على محصولهم المرتجى، فإن كثيرا من العاملين في هذا المجال رغم خبرتهم الطويلة ونجاحهم النسبي في العمل والإنتاج، لا يدركون الكيفية التي ينمو فيها النبات، وكيف يصنع غذاءه، وعلى أي الأشياء يتغذى، ويعلم أن هذا النبات ينمو صيفا ولا يمكن زرعه خلال فصل الشتاء، لكنه قد لا يعلم السبب في ذلك.


هكذا هو حال المجتمعات وحال العاملين فيها، بل هو أكثر تعقيدا من ذلك، فالإنسان وإن كان كائنا حيا يحتاج كالنبات لكل أسباب الإنبات والنمو والتعهد بالرعاية والعناية والحماية، لكنه يتفوق عليه في التعقيد والتعامل بوجود العقل والغرائز، والنفس البشرية أكثر تعقيدا من النبات وغيره من مخلوقات الله تعالى.


كما إن الحقائق لا تدرك من خارج ميادينها كاملة مهما امتلك طالبها من وعي وإدراك وقدرة على التحليل والاستنتاج، فالذي يمر بمزرعة ويجد فلاحها عند الصباح يتوسد ظلال شجرة ويغط في نوم عميق، لا يستطيع بكل ما يختزن من وعي وإدراك إلا الحكم على ذلك الفلاح بالخمول والكسل والسلبية، لأنه يضيع ما عرف عنه بأنه أفضل أوقات العمل، لما يتمتع به الإنسان من نشاط وتجدد الحيوية عند الصباح بعد ساعات الليل التي يسترخي فيها ويهجع، وهو حين يستند إلى قدراته على التحليل والاستنتاج والتقييم فإنه سيجد أن ذلك الفلاح الكسول مستبد برعيته ولا يجيد إلا التسكع تحت الظلال الوارفة فيما يرغم رعيته بطغيانه ودكتاتوريته عليهم للعمل في تلك الأرض وعمارتها.


لكن الذي ينطلق في نظرته إلى ذلك الملتحف أفياء الشجر عند الصباح من ميدان الواقع فإنه سيرى الحقيقة المناقضة تماما لما استنتجه ذلك القادم من مكان آخر، أي من خارج الميدان، فذلك الفلاح لم يكن كسولا ولا اتكاليا، إنما هو يملك وعيا وفهما لطبيعة عمله والأشياء التي يتعامل معها، منها أنه يدرك أن الليل هو أفضل وقت لسقي مزروعاته في فصل الصيف حيث الحرارة القاسية في النهار، لذلك فهو يقضي ليله ساهرا يتعهد مزروعاته بالسقي والإرواء، وحين تبزغ الشمس تكون الأرض قد امتصت المياه فتغير تأثير أشعة الشمس عليها، فهي لن تؤذي المحاصيل لأن تأثيرها على التربة الرطبة يختلف كليا عنها وهي مسلطة على الماء طافيا على السطح، فكانت ساعات الصباح الباكر وقتا مناسبا لتعويض الجسد عما أصابه من إرهاق وتعب خلال ساعات الليل، وهنا انقلبت حقيقة مشهد ذلك الفلاح من خامل كسول ظالم لمعيته إلى كادح يمارس نشاطا مضاعفا وعلميا من أجل تقديم أفضل رعاية وعناية لمزروعاته التي تعود مواردها على تلك المعية بالخير، فالسقي في أجواء الظلام يتطلب جهودا مضاعفة عما هو في الضوء، لمحدودية الرؤية مما يتطلب منه الكثير من التركيز والتدقيق والمتابعة لمقادير المياه ومناسيبها، فزيادته قد تخنق النبات وتقتله كما إن قلتها قد لا تعود عليه بفائدة إن لم تصل إلى جذوره، ناهيك عن انه يكون بتلك الحال دون أنيس يغالب النعاس طيلة ساعات الليل البهيم ، يحتال عليه بشتى الوسائل والسبل كي لا يقعده عن أداء مهمة أمن بها وقرر إتمامها على وجهها الصحيح.


وليس جهل الحقيقة يأتي دائما ممن هو طارئ على الميدان، فالميادين تنطوي على من لا يجيد التفاعل مع ميدانه، فلا يملك القدرة على استيعاب مفرداته بشكل كامل، حين لا يلم بكل جوانب الحقيقة، وهي  لا تخلو أيضا من صاحب غرض، يعمد إلى تضليل الحقيقة فيحرفها عن غاياتها الحقيقية التي يعلمها يقينا، لكن مرضا نفسيا نما في دواخله واستحكم في سلوكه ووجدانه، لأن أحداً لم يستطع تشخيصه مبكراً، نتيجة الجهل بأعراضه، ولم يعالج في وقته، فاستفحل وصار علاجه أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد، ذلك هو داء الحسد، الذي ينمو أصلا نتيجة ضعف الصلة بين ذلك المخلوق وخالقه، فإن أي إنسان يدرك أن الله تعالى هو الذي يوسع الرزق لمن يشاء ويقدر على من يشاء لا يمكن أن يترك للحسد مجالا كي ينمو في نفسه، ولو علم أن فيما قسمه الله له فيه خير لما شعر بالصغار تجاه من أوسع له في رزقه، فسعة الرزق قد لا تكون مصدرا لسعادة صاحبها وقد تكون سببا لهلاكه. ولأنه لا يملك الهمة والإرادة على سهر الليالي ومكابدة العناء كما يفعل غيره، وفقا للقاعدة التي يتداولها المجتمع العربي دون وعي الكثير بمعانيها والتي تقول: "إن الذي لا يتيسر له أن ينال العنب في عرائشه فإنه يبرر عجزه بالقول: إنه حامض" ولأنه قد لا يملك الوعي والإدراك لأفضلية سقي المزروعات في الليل خلال فصل الصيف، فإنه عادة لا يملك نفسا زكية ونقية تدفعه للاعتراف بذلك، فما يكون أمامه لتبرير ضعف همته أمام غيره لنفسه ولمعيته حين يؤنبونه بحياء واستحياء على تفوق ذلك الساهر ليله عليهم في خدمة أرضه وفي مردود حاصلها إلا أن يبتدع الأكاذيب والتلفيقات ضده، وفي أحسن الأحوال تجده يركن إلى الضنون والشكوك، فليس غريبا عند ذاك أن يقول ربما انه يتواعد مع إحداهن بحجة السقي متخذا من ظلمة الليل ستارا، أو لربما يستغل تلك الساعات المظلمة للتآمر على هذا أو ذاك بهدف إيذائه أو سرقته، وكثير غيرها مما يوسوس به الشيطان، وهو لا يعجز في هذا مطلقا.

 
عقدة الصغار


عقدة الشعور بالنقص أو ما يسمى بالصغار تتولد عادة عن فوارق اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو تكوينية، تجعل من الذين يعانون من تدني مواقعهم في مجتمعاتهم عرضة للإصابة بأمراض اجتماعية ونفسية عديدة، كلها تفضي بالنتيجة إلى الحسد والحقد وتمني زوال ما يتمتع به الغير من مواقع اجتماعية أو اقتصادية متميزة، وليس كل الذين يعانون من هذه الفوارق يصابون بأمراضها، لكن الذين لا يدركون كنه وجودهم وجوهر رسالتهم في الحياة، والذين لا يجيدون إحكام الصلة بمحيطهم وفق ما أراد الله تعالى وأمر، يصابون بها لا محال.


فالذي لا يدرك أو لا يؤمن بان الحياة ما هي إلا رحلة قصيرة، وميدان اختبار، على نتائجه يتقرر المآل النهائي للإنسان، لا تمتد رؤيته إلى ابعد من ميدان الاختبار، على قصر مسافته ومداه، فيصوغ أهدافه وقيمه ويوظف طاقاته ويحصر قناعاته بذلك الميدان، كغاية ووسيلة معا.


وعند ذاك فإن ندبة سوداء ستنمو في الذات، وتكبر وتتسع بمرور الزمن كلما ازداد الاحتكاك بالمجتمع الذي يشكل البيئة التي يتفاعل معها، تلك هي بذرة الحقد على كل من يعتقد انه يتسبب له ولأمثاله المرضى بالصغار الاجتماعي أو يولد فيهم الشعور بالنقص.


وهنا ينقسم هؤلاء المرضى إلى فريقين؛ فريق يمتلك الطموح والإرادة على تجاوز واقعهم واللحاق بمن يشعرهم بالنقص، متوسلين بكل الوسائل والسبل المتاحة، المشروعة منها وغير المشروعة، وفريق أخر لا يمتلك الطموح، أو يملكه لكنه لا يملك الإرادة القادرة على تحقيقه، فيحوله عجزه إلى ناقم حاقد، لا يجيد سوى إفراز السموم على غيره والسعي لإلحاق الأذى به كلما أتيحت له الفرصة، فيتزايد خطره على المجتمع وينمو الحقد بداخله كلما أحسن إليه أحد، وكلما احتك بشخص متزن الشخصية سليم النفس، فإن ذلك يؤجج فيه مزيدا من نيران الحقد وإضمار العداء، على خلاف ما يبغي من يحسن إليه.


ولذلك فإن غالبا ما يكون التعامل الايجابي مع مرضى من هذا النوع يعود على فاعله بنتائج سلبية غير متوقعة، فالحقد الذي ينشأ بفعل مشاعر النقص يؤدي إلى خلق حالة من الصراع بين المريض ومرضه، فإن تمكن منه المرض حول صراعه مع محيطه الاجتماعي.


فالإحسان الذي قد يقدمه أحد الأسوياء لمريض بالصغار لا يعود عليه بشكر ذلك الإحسان، إنما يعود عليه بنقمة الذي أحسن إليه، ذلك أن شعوره بعدم القدرة على الإحسان كغيره يجعله يزيد من حقده على كل قادر عليه بما فيهم ذلك الذي أحسن إليه ورفق به، فإنه يشعره بنقصه وخيبته، لأن الجهل لا يدفعه للبحث عن الأسباب التي صيرته إلى ذلك الحال لمعالجتها ونفيها كي يلحق بذلك المحسن ومن على شاكلته، بل تراه يعمل بنتيجة عجزه وسلبيته على سحب ذلك المحسن من واقعه الذي هو فيه إلى واقعه هو كي يتساوى معه في السلبية والعجز، متوسلا لأجل ذلك بكل الوسائل والسبل القبيحة كي يحقق ما يصبو إليه، بالتهم الباطلة وتزوير الحقائق والمكائد وأساليب الغدر والخداع والنفاق والتأليب والعدوان إن أمكنه ذلك.


ولذلك فإن إرادة الانفصال عن المحيط ستنمو في وعي وسلوك هؤلاء نتيجة المعاناة القاسية من الشعور بالغربة عن كيانهم الاجتماعي، وهنا تتولد في دواخلهم الإرادة والاستعداد على التغيير السلبي للواقع، وعندها فقط يكون هؤلاء مهيئين كلياً لأن يتحولون إلى أدوات للهدم والتخريب داخل الكيان الاجتماعي الذي ينتمون إليه، وعرضة لأن يكونوا أدوات طيعة بيد أي قوة خارجية ترتبط مصالحها وأهدافها بتمزيق ذلك الكيان الاجتماعي أو إلحاق الضرر به، فينفذون لها أغراضها ومطالبها من أجل أن يحققوا هم ما يريدون، تعبيرا عن نقمتهم وحقدهم، حتى وإن كان في ذلك إضرار لهم ولمصالحهم، فالتشفي نتيجة الحقد الأسود سيكون أكثر طغيانا من تلك الحاجات والمصالح الشخصية.


لذلك فإن دراسة علمية دقيقة لشخصية أي جاسوس أو عميل لجهة خارجية، على اختلاف غايات تلك القوى وذرائعها وأساليبها، ستنتهي عند تلك الحقيقة المذهلة المتمثلة بذلك المرض النفسي، عقدة الصغار، كأرضية مشتركة يقف عليها كل من سلك هذا المسلك الخبيث، وكمنطلق لإيجاد الأعذار الواهية والزائفة تبريرا لمنهج الانحراف، المتمثل بتولي جهات خارجية، والسعي لتنفيذ مطالبها وأهدافها، وإن كانت تجاهر بعدائها، وقد لا يشذ عن هذه القاعدة أحد، على خلاف المنطق القائل أن لكل قاعدة شواذ، فالعراقيين الذين تولوا قوى وجهات خارجية معادية وحاقدة على بلدهم وكيانهم الاجتماعي والطامعة بأرضهم وثرواتهم، خلال العقود القليلة المنصرمة، لا يشذ فيهم أحد عن قاعدة الشعور بالنقص وضحالة المكانة الاجتماعي، كعامل ودافع لقبول العمل والتفكير والتحريض على تدمير المجتمع العراقي وسلبه كل مقدراته وإمكاناته وتاريخه، بهدف الانتقام والتشفي، وكمحاولة منهم لسحب كامل المجتمع إلى الدرك الذي يجدون أنفسهم فيه، ولا يملكون القدرة والإرادة على تجاوزه إلى حيث يقف المجتمع، بغض النظر عن مدى شرعية عمل كهذا من عدمها، لأن الحقد لا يدع للضمير أو الفطرة دورا في تقييم السلوك وردع صاحبه.


أحزاب وطوائف العقد النفسية


أثير الكثير من اللغط والتنظير والتحليل والاستنتاج حول ظاهرة انحراف بعض العرب، ومنهم العراقيين بالتحالف مع قوى خارجية لا تخفي عدائها للعرب والعراق وعقيدة الإسلام، بهدف تدمير العراق وتمزيق أوصاله إلى شراذم مرضية يمكن لها أن تكون بؤرا للتآمر على الأمة العربية كلها فيما بعد، لتحطيمها وإفقادها لكل أسباب قوتها ومنعتها بهدف تعجيزها عن أداء دورها في حمل رسالة رب العالمين وتبليغها إلى أمم الأرض بما ينجيها من الضلال ويخرجها من الظلام إلى حيث النور، ويخلصها من احتناك الشيطان لها.


فهذا يجدهم أغراب على العراق يتسترون بثوب العروبة بقصد التآمر عليها.


وذاك يراهم زمر أمسكت الأجهزة المخابراتية بخناقها نتيجة توريطهم بفضائح جنسية وجرائم مختلفة وضعتهم عرضة في أي وقت لعقاب القانون فوظفتهم كأدوات في مسارات تآمرها وعدوانها لتحقيق بعض غاياتها.


وأخر قال إنهم مجرد عبيد للدينار والدرهم، مرتزقة يعرضون أنفسهم على كل صاحب غرض، ينفذون أغراضه مقابل ما يجود عليهم وما يرضي طموحاتهم المادية، وإن كانت مصادرها الرذيلة والفواحش.


وغيره وجدهم من مخلفات الجاهلية في ردتها على العرب حين تطهرت أرواحهم بعقيدة الإسلام، فواصلوا سعيهم المحموم منذ ذلك التاريخ يتوارثون مناهج الردة وفقهها ويعززون من قدراتهم ومواقعهم في دوامات الصراع الطويل.


والحقيقة أن تلك ليست أسبابا، إنما هي نتائج أفرزتها  أمراض نفسية تتمحور كلها حول مفهوم عقدة الشعور بالنقص أو الصغار أمام الآخرين.


فأنت حين تتصفح عقائد هذه الأحزاب التي نشأت في العراق وأغلبها بأقنعة إسلامية تطورا أو امتدادا لما سبقها، فانك تجد كل واحدة منها تستند في أوجه خلافها مع غيرها على أقوال نسبت لمن تحزبوا له، وليس إلى صاحب الرسالة ومبلغها، فهم يستمدون مبررات الفرقة والتناحر مما يزعم أنه إرث أولئك الذين تحزبوا لهم ومن مواقفهم وأرائهم وعقائدهم بشأن المختلف عليه، وذلك كله لا يصح أن يكون من الإسلام أو معبرا عنه، فالحقيقة التي لا يختلف عليها أحد حتى من المتحزبين أنفسهم أن يثرب كانت مسرحاً لنزاعات دموية مدمرة امتدت قرابة المائة وعشرين عاما متواصلة بين مكونيها الأساسيين الأوس والخزرج، وأن مشيئة الله سبحانه لحكمة عظيمة اقتضت أن تبنى دولة الإسلام انطلاقا من تلك المدينة الشهيرة آنذاك بواقعها المعروف، والذي لا يوحي بنجاح لمثل ذلك المشروع الكبير بكل حسابات المنطق والعقل والسياسة، فالثابت أن الإسلام تمكن من تحقيق وحدة سكان مدينة يثرب بمجرد أنهم قرروا اعتناق عقيدته والعمل وفقا لشريعته، تلك الوحدة التي عجزت كل الجهود عن تحقيقها طوال اثني عشر عقدا من الزمن، والثابت أيضا أن هذه الوحدة لنسيجها الاجتماعي القديم مضافا إليه ما اشتبك به من القادمين إليهم من مكة وغيرها من المهاجرين قبل وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قد حققت بوصفها قاعدة انطلاق، أعظم حضارات الأرض وأكثرها رقيا وأبهرها منجزات وأصدقها أصالة وأعدلها إنسانية، وذلك ما كان ليتحقق لولا تلك الوحدة الرصينة المتينة التي صفت لبناتها لتنتج جدارا صلبا تحطمت على صخوره كل إمبراطوريات الشر وأوكار الشيطان في ذلك الحين.


لذلك فإن من الواجب القول أن فقه التحزب والخلاف دخيل على الإسلام وغريب على عقيدته، ويصح كثيرا التشكيك في مصداقية تلك الأحزاب والطوائف في دعواها بالانتساب للإسلام، ذلك أنها تتناقض معه في واحدة من أهم خصائصه ومرتكزات وجوده، فقراءة متأنية لكتاب الله تعالى تجعل المرء يجزم أنه لا يمكن للعقيدة الإسلامية أن تعيش وتنمو وتزدهر إلا في ظل أجواء المحبة والتسامح والعدل والإنصاف والإحسان والألفة وتقديم المصالح العامة على المصالح الشخصية الضيقة، وتربية العقول على التفكر بنعم الله واستثمارها وفق ما أراد وأمر، ولجم الغرائز ومنعها من الخروج عن غايات خلقها. والتحزب الذي نشأ في الإسلام لم يحقق للمسلمين إلا عكس ما ذكرنا، فأفقدهم كل أو بعض ما أنعم الله تعالى عليهم من فضائل الإسلام، فقد فرقهم على سبل ومسارات كثيرة، قد لا تفضي بعضها إلى البعض الأخر مهما امتد المسير فلا يلتقيان، فأين التحزب إذن من الإسلام!


والاجتهاد لا يبرر التحزب مطلقا، فالاجتهاد كان موجودا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم ينتقل بالمسلمين من الوحدة إلى التفرق والانقسام، والأدهى من ذلك فإن كل المذاهب تجيز الاجتهاد داخل المذهب الواحد، بل إن بعضها لا يأخذ رجالها قيمتهم ومكانتهم بين نظرائهم إلا حين يأتون بجديد، والجديد عادة لا يكون إلا بأفكار تخالف من سبقها أو تغير في وجهته، أو تصحح فيه، فما جدوى المذاهب والتحزب إذن إن كان متاحا الاجتهاد ضمن الجسد الواحد دون تحزب وتكتل وتشرذم!


إن الذي سهل على هؤلاء المرضى أن يحزبوا الناس، بعيدا عن المنهج الصحيح في تتبع خطى النبي صلى الله عليه وسلم والتوحد بالمسير خلفه، هو الجهل، فالجهل افقد عقول الناس القدرة على التعامل والتفاعل مع شريعة ربهم مباشرة، واللجوء والتزلف لمن وضعوهم جسورا، فانحرفوا بهم إلى التحزب كل وفق أهواءه، وقدرة كل منهم على الفهم والاستيعاب للعقيدة بما يحقق له مراميه وغاياته الدنيوية، ولجوء الناس إليهم في كل أمور العقيدة منحهم سلطات أشعرتهم بمسؤولية التحزب وضروراته، كان الهاجس فيها متناغما مع السعي لتجاوز مشاعر النقص والصغار في غالب الاحوال.


وما كان مطلوبا من الناس تلك الاتكالية التي أفضت ببعضهم لأن يجعلوا لله أندادا مما خلق دون علم وإرادة منهم، فالعقيدة الإسلامية لم تكن غريبة على العرب خصوصا، لأنها انبثقت من واقعهم، وعالجت فيما عالجت مشاكل كانوا يعانون من آثارها، وهم أصلا يرثون أسسها الحنيفية وإن كانت مشوهة عن أصلها، ولم يكن ذلك عسيرا ولن يكون، فالعقيدة نزلت بلغتهم واتسمت كثير من مفرداتها بخصائصهم البيئية والسلوكية والحضارية، وهي قبل هذا وذاك منسجمة تماما مع الفطرة الإنسانية المجردة من الأهواء. والجهل بالعقيدة الذي تفشى بين المسلمين لم يكن عائدا لصعوبة في فهم واستيعاب أحكامها، بل هو ناتج عن أهواء الدنيا للبعض ممن تعلموا، والتي فرضت عليهم أن يجاروا الأتباع على جهلهم، بدل أن ينهضوا بتصحيح مساراتهم ونفي الجهل عنهم، فبغيره لا يحصل الإتباع ولن يتحقق التحزب، الذي يرضي في جانب منه غرور المتبعين في الريادة والزعامة والتسلط، التي تخلق للأتباع مبررات واهية لتحقيق مآربهم المستندة في أغلب أحوالها إلى أمراض نفسية مما وصفنا، تلتقي كلها عند عقدة الصغار والشعور بالنقص.


فيما كان التآمر مرافقا للرسالة الإسلامية منذ بداياتها، وأخذ يتصاعد ويتعاظم مكره كلما ارتفعت راية هذه الرسالة وامتد أفقها، الأمر الذي أشعر الأعداء بخطر العقيدة الإسلامية، فتوحد لأجل الوقوف بوجهها كل أعداء الأمس، من يهود ونصارى وفرس، وقد وجدوا في أولئك المرضى من العرب أنفسهم أداة مثلى ينفذون بها ومن خلالها مآربهم وغاياتهم.


لقد كان للتحزب الذي نشأ في المجتمع الإسلامي بسيطاً إثر وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حول ولاية الأمر، وتطور فيما بعد على مدى مراحل متلاحقة من الزمن، فامتلك قدرة التأثير والتفاعل، دورا هاما وخطيرا في تنمية هذا المرض ونشره بين صفوف المجتمع العربي الإسلامي، حين تمكنت قوى التآمر المتمثلة باليهود والنصارى والمجوس من استغلاله أبشع استغلال تحت شتى ذرائع المظلومية.


ففي الوقت الذي لم يدون لنا التاريخ أن أحدا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابه الشعور بالصغار أمام من تولى أمر المسلمين، فإن كل تلك التنظيمات السياسية التي تذرعت باغتصاب حقهم كدافع للتمرد والتخريب والتآمر، كانت دوافعها الخفية والحقيقية هي استجابة لنوازع الإصابة بعقدة الصغار والشعور بالنقص.
وذلك طبيعي ومنطقي، فإن آل بيت النبي وصحابته كانوا قد اهتدوا إلى الغايات النهائية الصائبة التي تنطوي عليها فسحة الحياة، علموا وأيقنوا أنها امتحان واختبار ينتقل الإنسان بنتائجه إلى الحياة الأخرى، فجعلوا سعادتهم في الحياة الدنيا لا تستمد مبرراتها إلا من خلال ما يحقق لهم التفوق في ميدان اختبارها، وذلك في الحقيقة لا يلغي لذة التمتع بما يسر الله تعالى للإنسان من أسباب السعادة في الحياة الدنيا مطلقا، لكنهم وظفوا تلك المتع النبيلة من أجل غاياتهم الأسمى، والمرتبطة بجوهر الحياة الأخرى، التي لا تكتنفها الصدف، بل هي نتائج لحصاد السعي في الحياة الدنيا.


لكن الذين تحزبوا لم يكونوا كذلك، بل هم، كنتيجة للتضليل والخداع وتزييف الوعي، أدوات أرادت أن تحصر كل غاياتها في الحياة الدنيا، والتنافس على مغانمها، فانحرفوا جميعا عن غايات الاختبار حين اعتقدوا أن النتائج لا تحسب على أساس خط النهاية للسباق، إنما تحسب على أساس المتحصل في محطاته العديدة، والتي لا تخرج عن دائرة متع الدنيا ومغانمها، دون أن ترتبط بالنتيجة النهائية لذلك الاختبار والسباق، والسعي لاجتيازه بنجاح، فغالبهم يكتفي بما يحققه أو يتحصل له من انجاز في أولى محطات السبق، فينغمس في مغانمها.


إن مما يؤكد الانحراف الخطير الذي أفضى له التحزب في الجسد العربي الإسلامي، أن كل الذين تحزبوا كانوا يستندون لتبرير خلافاتهم مع غيرهم على آل بيت النبي وصحابته، وفي ذلك تجاهل أو جهل بحقيقة أن آل البيت والصحابة جميعا لم يأخذوا مكانتهم التي ينحاز إليهم بسببها المتحزبون إلا من خلال إيمانهم برسالة رب العالمين التي بشر بها ودعى إليها الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للنسب والصحبة دور في هذا، فليس كل من ارتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم بصلات من هذا النوع أو ذاك قد آمن، فعمه أبي لهب سيصلى نارا ذات لهب، وما أغنت عنه عمومته للنبي من شيء، فيما لم تكن عمومة حمزة بن عبد المطلب هي التي ذهبت به إلى جنات الخلد، بل هو الإيمان برسالة ربه التي دعاه إليها ابن أخيه المكلف من الله تعالى بتبليغها، فطهر فؤاده وأيقن وامن بالله وجاهد في سبيله حتى استشهد.


ثم ان كل هؤلاء الذين آمنوا لم يكن لأحد منهم أن يتنزه عن منهج الصواب والخطأ، الذي فطر الله تعالى الحياة عليهما، فجعل التوبة وأردفها بالمغفرة، فكانوا يجتهدون ثم يصححون ما لم يصيبوا فيه من أمور الدنيا، كل على قدر استطاعته وما تيسر له من فهم واستيعاب للعقيدة وشرعتها.


لكن النبي صلى الله عليه وسلم تعهده الله بوحيه والتنزيل لحفظه من الخطأ والزلل، فصحح له ما اجتهد فيه من أمور الدنيا ولم يصب بآيات بينات، فهو كما كل الأنبياء والرسل إذن يتميز على سائر البشر أن لا سبيل للخطأ والاجتهاد في منهجه الذي تعهده الله تعالى بالرعاية والعناية والحفظ، فكانت نتيجة التحزب لمنهجه أن جعلت الأمة موحدة كأنها بنيان مرصوص، فهو إذن أحق وأجدر أن يتحزب له كل من أسلم وجهه لله وآمن، وذلك لا يحقق للمسلمين وحدتهم فحسب، إنما يضعهم على المسار الصحيح والآمن لبلوغ الغايات.


ولأن خطر الأمة على أعدائها والمتربصين بها يكون محدقا بوحدتها على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا بد من البحث عما يفقدها هذه القدرة، فكان التحزب لغيره أيسر السبل وأنجعها، وكان مرضى الصغار أفضل أدواته ودعاته.

 
نماذج للعمالة والصغار


كثيرة هي الأسماء التي تصلح أمثلة تتجلى في سلوكها كل أعراض الصغار والشعور بالنقص في مجتمعنا العراقي، ولعل الظروف القاسية التي عاش في ظلها الشعب العراقي خلال الفترة من عام 1980 وحتى اليوم، نتيجة العدوان المتواصل بكل أشكاله العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية قد أفرزت لنا الكثير من هذه الأسماء وبرزتها ووضعتها تحت مركز الضوء، وبخاصة بعد احتلال العراق عام 2003م، فكل الذين وظفتهم قوى الاحتلال كعملاء مأجورين صغار يتسابقون على تنفيذ مخططاتهم العدوانية على شعب العراق وأرضه هم مرضى بتلك العقد النفسية بامتياز كبير، وإلا ما كان بإمكان أحد أن يوظفهم في تلك المسارات القذرة المنافية للفطرة والقيم الاجتماعية بأبسط أشكالها، ناهيك عن العقيدة التي يدعونها والنسب الذي يلصقون مسمياتهم به، مهما كانت الإغراءات والضغوطات. وسنستعرض هنا نماذجا من هؤلاء المرضى ممن اكتنفتهم مناهج الاحتلال، وعليها يقاس كل الذين على شاكلتهم، فلا شذوذ في هذه القاعدة، كما أسلفنا.


مقتدى الصدر: نشأ يعاني كثيرا من التهميش داخل أسرته ومحيطه الاجتماعي حتى استحوذ عليه مرض الصغار والشعور بالنقص، بعد أن نمت فيه بذرته منذ الطفولة المبكرة، فكان الغزو الامبريالي الصليبي الصهيوني الفارسي للعراق بمثابة الفرصة الذهبية ليحاول من خلالها التعبير عن مكنونات نفسه المريضة، وباتجاهين متناقضين، ففي الوقت الذي عمل جاهدا على سحب المجتمع إلى واقعه المريض، عمل أيضا على لعب دور الرجل الذي يفتقد القدرة على أن يكونه، وهو لا يملك في الحقيقة إلا أن يتوجه صوب الرعاع والجهلة وعصابات السرقة والإجرام، لأنهم يشكلون البيئة الأنسب لعمل كهذا لأنهم في الغالب مصابون بذات الأمراض النفسية التي يعانيها، ولأنه لم يكن يملك القدرة على الإيقاع بالمجتمع في مستنقع مرضه، كما لا يملك أيضا الأسباب التي تمكنه من أن يلحق بركب الأسوياء في المجتمع.


وهؤلاء الذين التفوا حوله سريعا من الرعاع والجهلة والسفلة لم يكن متاحا لهم أن يحققوا غاياتهم بالصورة التي تحققت لهم خلال أعوام الاحتلال إلا بالاستناد إلى واجهة، وإن كانت وهمية كاذبة، لكي تكون غطاء لهم، يتسترون خلفها ويبررون بها أعمالهم القذرة ويمنحون أنفسهم الشرعية في ممارستها. فالجاهل المتخلف والوضيع في موقعه الاجتماعي يشعر بالحنق على كل إنسان سوي يستحوذ على مكانته الاجتماعية بعلمه وخلقه وإنسانيته وقدرته التي أهلته للبروز في كيانه الاجتماعي، ويسعى بكل وسيلة للإيقاع به انتقاما من واقعه المتردي، لكنه لا يملك الجرأة والشجاعة لكي يفصح عن مكنون نفسه، لذا كان الستار الديني الطائفي، الذي تحقق بوجود مقتدى الصدر وغيره، فرصته السانحة كي يمارس من خلالها تفريغ حقده على من يقع في يده من الأسوياء، أو الذين يشعرونه بالصغار تجاههم.


لقد استغلوا جميعا هم ومقتدى المكانة الاجتماعية التي كان والده يحضى بها قبل اغتياله من قبل الفرس، فمحمد صادق الصدر كان في نظر الدولة والمجتمع العراقي أقرب المراجع الشيعية للعرب، فجلهم من الأعاجم وأغلبهم يأنف حتى التحدث بلغة القرآن الكريم، لأنها لغة العرب، بل وامتنع كثير منهم عن طلب الجنسية العراقية رغم مرور عقود كثيرة من الزمن على مكثهم في العراق، كما إن محمد صادق الصدر قد أنقذ شيعة العراق من مشكلة كبيرة بإقامته لصلاة الجمعة لأول مرة في تاريخهم منذ عهد الانحراف بما سمي بالغيبة، حيث كان الشيعة في العراق يعانون من هذه المشكلة كثيرا حين يجدون أنفسهم على خلاف وتناقض مع أمر الله تعالى في القرآن الكريم، فالله تعالى يقول في التنزيل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ }(سورة الجمعة: من الآية9) ومراجعهم يقولون لا صلاة حتى يظهر الغائب المنتظر، في محاولة منه لفك أحد التناقضات الرئيسية بين العقيدة الإسلامية والمذهب الذي صاغ مفرداته دعاة الشعوبية الفارسية كستار لتحقيق مآربهم المجوسية، كما فعل الخميني بولاية الفقيه للإفلات من قيود انتظار المهدي حينما سنحت الفرصة للحكم والسلطة بإرادة القوى الصليبية والصهيونية العالمية.


لكن هذا الاستغلال كان في كل تفاصيله منحصرا على إضفاء الشرعية الزائفة على عمليات القتل والسلب والنهب والعبث بمقدرات المجتمع، أيا كانت مذاهبه وأحزابه، انسجاما مع عقدة الصغار والشعور بالنقص التي ولدت أحقادا عارمة تجاه المجتمع العراقي بكل أطيافه.


فكانوا بالنتيجة أدوات طيعة وفاعلة بيد أجهزة المخابرات الإجرامية المختلفة، نفذت لها كل ما أرادت بثمن وبلا ثمن كجزء من أعراض ذلك المرض الخطير.


عبد العزيز الحكيم: كان هو الآخر يعاني من الشعور بالصغار هو وأخيه محمد باقر الحكيم نتيجة الفجوة الكبيرة التي كانت تفصلهما عن أبيهما المرجع الشيعي المعروف، ولشعورهما بالحيف نتيجة الإهمال الاجتماعي لهما بعد وفاة والدهما واستحواذ عائلة المرجع الذي خلفه على موقعهم السابق، فكانت دعواهما الزائفة بالدفاع عن الشيعة العراقيين ونسجهما للأكاذيب والتلفيقات حول مظلوميتهم الوسيلة الوحيدة لاسترجاع تلك المكانة المفقودة، فلا سبيل غيرها يوصلهما لمبتغاهما في التخلص من عقدة الصغار والتهميش، فهما لم يكونا يملكان من الخصائص والصفات ما يؤهلهما للاستحواذ على مكانة في المجتمع سوى مرجعية والدهما، وبفقدها فقدوا معها مكانتهما، يضاف إلى ذلك أنهما كانا يعانيان كثيرا من عقدة الجبن والخوف، والوسائل المعروفة التي اتبعها عبد العزيز الحكيم في سبيل إعفائه من الخدمة العسكرية في الجيش العراقي كانت دليلا قاطعا على مشاعر الجبن المتأصلة فيه. ولعل أهم الأعمال التي مارسها محمد باقر وعبد العزيز الحكيم تعبيرا صادقا عن عقدة الشعور بالنقص والجبن هي الممارسات الإجرامية البشعة التي قاداها ونفذاها ضد أسرى العراق في إيران خلال معركة قادسية صدام المجيدة، فتعذيب الأسرى وإرغامهم على التصريح بغير قناعاتهم واستخدام مختلف أساليب التعذيب الوحشية وإغراء النساء لتوريط من تورط معهم في عصابة الإجرام الصفوي المسماة بدر، دليل قاطع على وضاعة نفسيهما وجبنهما، فليس هناك من شجاع فعل فعلهما على مرّ الدهور والعصور، بل إن من صفات الأسوياء والشجعان حتى في عصر الغابة أن يحسنوا معاملة أسراهم، لأنهم مسلوبي القدرة والإرادة، وعندهم لا يسيء لمثل هؤلاء إلا جبان غادر، والشجاعة لا تكون إلا في ميادينها المعروفة. لقد كان التشيع والإسلام وحق آل البيت أقنعة أخفى خلفها آل الحكيم غاياتهم المعبرة عن عقدة الصغار والضحالة والتهميش الاجتماعي، وطبيعي جدا أن يلتف حولهما من لا يخرج عن محيط المرض الذي يعانيان منه مطلقا، فلا يصح أن يكون بينهما وعلى منهجهما إنسان سليم معافى من هذا المرض النفسي القاتل، ولو نظر أحد إلى وجه ذيلهما وأداة إجرامهما هادي العامري لقرأ على تقاسيم وجهه كل أعراض عقدة الصغار وجرب الضحالة الاجتماعية.


احمد عبد الهادي الجلبي: فتح عينيه على واقع كانت أبرز ملامحه أن والده كان يمارس عمل كلب الحراسة والصيد لسيده البريطاني منذ احتلال العراق عام 1917م فاستحوذ خلال الفترة الممتدة منذ ذلك الحين حتى قيام الجمهورية عام 1958م على مغانم ومكاسب كثيرة ليس في بغداد فحسب بل وفي أغلب مناطق العراق، كان سيده يقتطع مما لا يملك ويعطيه وهو لا يستحق، فترسخ في وعي احمد الجلبي أن المغانم لا يستحوذ عليها إلا بالطرق التي استحوذ عليها والده كلب الانكليز وأحد عملائهم الصغار، فكان الحكم الوطني ومفاهيم الوطنية التي تجرم العمالة للغير قد جعلت منه شخصا مريضا تائها في واقع لا يجيد من مفرداته شيء، لذلك كان لزاما عليه أن يفرّ من ذلك الواقع ويذهب بعيدا يبحث عن دور يؤديه على أن يكون مماثلا لدور أبيه، فهو لا يملك القدرة والإرادة لأن ينتفض على ماضي أبيه المخجل بعد أن ترك له ثروة طائلة كان يتنعم بها، ولا يملك القدرة على التضحية بها والتخلي عنها، لأنه نشأ وقد صيغ وعيه وهدفه في الحياة مرتكزا على الحياة وملذاتها دون الإيمان بأن الحياة ميدان اختبار وليست غاية لذاتها، فهو من الذين يبيحون كل شيء من أجل متع الحياة، ليس في أعرافها فاصلة بين فضيلة ورذيلة، بين وفاء وأمانة وبين خيانة، فكلها سواء، مجرد وسائل لبلاغ الغايات الدنيوية. تضخمت أعراض المرض في نفسه حتى شك في رجولته فراح يجرب عليها أنوثة النساء حتى أدمنها. امتلأت نفسه حقدا على العراق وعلى عروبة العراق وعلى عقيدة أهل العراق، لأن قيمها كلها تشعره بصغاره وضحالة وضعه في المجتمع، فما كان منه إلا أن يكون كلبا تابعا للأغراب كأبيه.


إبراهيم الأشيقر الجعفري: نموذج آخر تجسدت فيه كل أعراض الصغار، نشأ في العراق وهو ليس من أهله، فهو من أصول باكستانية، خلال مرحلة زمنية كان العراقي فيها ملتصقا ومتمسكا بعروبته وعراقيته أكثر من أي زمن مضى، بل ويشعر بالفخر لانتمائه الوطني، الأمر الذي جعل من الأشيقر المتعصب لأصله ومنحدره يشعر بالغربة والتشتت في بلد عاش فيه وتنعم بخيراته، وما كان يمكن له أن يدخل كلية الطب ويحصل على شهادتها دون أن يكلف عائلته أي ثمن مادي لولا العراق وفضله ورعايته، لكنه لا يملك في خزين وعيه أن يشعر بالمواطنة تجاه العراق ويلتصق به كما العراقيين، مما أدى به إلى الشعور بعقدة النقص والصغار تجاه الانتماء والمواطنة، فتمرد على واقعه وذهب يسعى للانتقام من البلد الذي آواه ولم يمنحه المواطنة، متناسيا أو غافلا أن العراق لم يمنع عليه أن يتمتع بمواطنة كاملة، بل قدم له كل ما كان يقدمه للعراقي الأصيل، لكنه الوعي الزائف الذي نشأ عليه داخل أسرته التي كانت ترضعه رفضا للبلد الذي آواهم كما رضعوا هم الرفض والتخلي عن بلدهم الأصلي حين تخلوا عنه وقطعوا جذورهم عنه، فلم يكن أمام الجعفري إلا أن يتمسك بمنهج الاغتراب وأوهام المظلومية والتهميش، على أمل أن يجعل من العراقيين غرباء في وطنهم لأنهم أشعروه بالمسافة الكبيرة الفاصلة بينه وبين المواطنة وأنه غريب عنهم، وذلك لا يتحقق عادة إلا حين تصادر إرادتهم من قبل الأغراب، فكانت إيران الصفوية هي الملاذ كما كانت ملاذا لغيره ممن سبق ذكرهم كمنهج شعوبي يتفاعل في الواقع الفارسي منذ آلاف السنين، يرتكز أساسا على النيل من عراقية العراقي وعروبته وإسلامه، وذلك الذي جعل منه كغيره جاسوسا وعميلا لعدة أطراف مختلفة ومتناقضة فيما بينها، لا تتفق إلا على الإساءة للعروبة والإسلام والسعي للإيقاع بهما، فكان هذا هو مؤهله الذي مكنه من الحبو خلف دبابات الغزاة، سعيا منه لأجل إفقاد العراقيين وطنيتهم وانتماءهم ليتساوى معهم في المرض وأعراضه.


مسعود مصطفى البارزاني: نشأ وترعرع على هوس أبيه الذي كان لا يجد غير السلاح والتآمر والعمالة والدماء طريقا له كي يصل إلى غايته المرضية المنبثقة عن عقدة الشعور بالنقص والصغار، والمتمثلة بالهيمنة على أكراد العراق وممارسة دور الآغا عليهم، فكان هدفه طيلة حياته أن يرغم الأكراد على المكوث في براثن جهلهم وتخلفهم وفقرهم، فلا مجال لتحقيق أحلامه بالهيمنة عليهم إلا من خلال إخضاعهم قسرا أو بالأكاذيب والتضليل والدعاوى العنصرية الشوفينية لواقع الجهل والتخلف الذي وجدهم عليه، ووجد فيه البيئة الملائمة لتحقيق طموحاته المرضية. ولأجل ذلك فقد ولج كل سبيل قذر من عمالة للأجنبي وتحالف مع الأعداء وتولي الصهيونية المجرمة حين صار ممكنا لأكراد العراق أن يلتحقوا بعربه في سعيهم لتكوين دولتهم القطرية بعد الاحتلال البريطاني وانتفاضة الشعب عام 1920م، واستمر يحث الخطى في سيره بذلك المسلك الشائن، والذي لم يكن الكثير من بين الأكراد ممن يملك الوعي الكافي ليكتشفه على حقيقته حتى قيام ثورة تموز المجيدة عام 1968م حين قررت قيادة العراق الوطنية العمل بجدية وحزم على تغيير واقع الأكراد العراقيين المزري من خلال بيان 11 آذار عام 1970م فكان البرزاني وغيره ممن سار على نهجه وأراد لنفسه المريضة موقعا مماثلا، قد بذلوا كل ما في وسعهم من أجل تعطيل تطبيق قانون الحكم الذاتي للأكراد، لأنهم علموا جيدا أن تطبيقه سيقضي على أحلامهم، بما يفتح أمام الأكراد من أفاق رحبة للمستقبل المشرق والتطلع لحياة كريمة آمنة، بالعلم والعمل والاندماج الفعال في حركة المجتمع العراقي الذي قطع أشواطا مهمة في مسيرة الانجازات لتهيئة قاعدة النهوض الحضاري للبلد، ولم يتوقف حتى تخلى عنه النظام الفارسي عقب توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975م، فلم يكن أمامهم حين ذاك إلا الهروب إلى حيث الأسياد، فتنعم الأكراد لأول مرة في تاريخهم الحديث عبير الحرية وأتيح لأبنائهم التعلم والتواصل مع الحياة بكرامة بعيدا عن أساليب التجهيل والتوحش والعذاب التي مكثوا في ظلها عقودا طويلة من الزمن. ولم يكن مسعود إلا وفيا لمنهج أبيه وحريصا على تتبع خطاه، فهو مصاب بالعدوى بذات الأمراض النفسية التي نخرت من قبل في عقل ووجدان أبيه ملا مصطفى؛ الضيف الدائب على تل أبيب والمضياف الدائم لعصابات الموساد الصهيوني في كهوف كردستان العراق. وقد لا يحتاج سليم العقل والسريرة مزيد عناء كي يقع بنفسه على الأدلة والبراهين الكثيرة التي تثبت بما لا يقبل الشك ما قلناه، ومنها الصراعات المتواصلة بينهم وبين من نافسهم ولا زال على المسعى بعد أن أصابته عدوى مرضهم المزمن، فالصراعات الدامية بين البرزانيين والطلبانيين والمكائد التي كان يحوكها كل طرف لمنافسه لم تتوقف حتى بعد وضع الغزاة أقدامهم على ثرى العراق ومنحهم ما اعتقدوا أنه سيداوي عللهم ويشفيهم منها، لكنهم رغم كل الذي حصل لا زالوا جميعا يسبحون في بركة الصغار الآسنة، أسرى عقد الشعور بالنقص والضحالة والدونية في المجتمع العراقي، ولعل مساعيهم اليوم للانفصال عن الجسد العراقي ما هي إلا محاولة أخرى لعزل الأكراد عن ارتباطهم بوطنهم كمحاولة غبية للهروب من واقع يشعرهم في كل لحظة بالصغار والهامشية، وفي سلوك مسعود وجلال اليوم ما يؤكد تلك الحقائق بجلاء كبير.


أياد علاوي: لم تلفظه مسيرة البعث بعد ثورة تموز المجيدة عام 1968م إلا لأنه كان يبغي من وجوده في جسد الحزب من قبل كي يحقق علاجا لمرضه بالصغار، وحين وجدها ثورة تهدف للتغيير الإيجابي للمجتمع، تتطلب المزيد من الجهد والعمل والتضحيات ونكران الذات والتجرد من المصالح الشخصية الدنيوية الضيقة، ولى هاربا لا يلوي على شيء، لكن شعوره بالضحالة والدونية الملازم له كظله كان يوحي له على الدوام بأن يدعي ما ليس فيه تغطية على وجعه وألمه، فلم ينجح كدعي سياسة كما لم ينجح كدعي طب وإلا فنفسه كانت أحوج إلى طبه من غيرها، وذلك الذي وضعه في سوق العبيد يتزايد عليه أصحاب الدولارات رغم أنفه، فكان يتقلب كغيره بين تجار العبيد لمن يدفع أكثر، وقد أثبت بعد الاحتلال، حاله حال الذين ذكرنا ومن لم نذكر أنه لا يصلح إلا عبدا مطيعا يتقلب بين جيوب تجار النخاسة والرذيلة، وإلا فإنهم جمعا لا يملك أحد منهم قيادة نفسه المريضة، فكيف يكون قائدا وحاديا وأميرا لشعب لا يقاد كما تقاد النعاج والإبل.


وإلى هنا سأتوقف عن ذكر المرضى بعقد الصغار والضحالة، فهم كثر وأحوالهم متشابهة قد تختلف في تفاصيلها لكنها قطعا لا تختلف في أعراض مرضها ولا في الأضرار التي تلحقها بالمجتمع ولا في مآلهم ونهاياتهم المتطابقة، فكلهم كما ذهب من قبلهم كل من أصابه ذلك المرض اللعين سيقذف بهم إلى مزابل التاريخ، ومن ورائهم جهنم وبئس المصير. وإن كان نوري المالكي شبيها بإحدى الجثث التي كانت تستوردها الدولة لاستخدامها في دروس التشريح لطلاب الطبية والنحاتين، لكن مبضعي لا يطاوعني من شدة نتانة الجثة وعفنها وقذارتها.


أما الرعاع والجهلة ممن صار بعضهم أدوات بيد الأعداء تقودها تلك العناصر الموبوءة بأمراض الصغار قبل الغزو ومن التحق بهم بعد الاحتلال، فإنا نسوق مثلا قد يعبر تعبيرا واضحا عن نسبة كبيرة منهم، فهناك شخص ولد معافى سليم الجسم والعقل، لا ينقصه شيء من مستلزمات العيش بحدودها المعقولة، تعهده عمه الأكبر بالرعاية فأدخله المدارس حتى أكمل تحصيله، ثم انخرط بعدها في العمل الوظيفي حتى تبوء موقعا مرموقا بمرتب جيد وسكن مجاني وعجلة حكومية تحمل أقدامه، ولولا رعاية العم الأكبر لما تحقق له كل الذي حققه، لأن والده أمي يجهل حتى قيمة العلم والتعلم، بل ولا يلم بقيمة الخدمة العامة وأثرها في المجتمع، ولا رغبة لديه إلا توظيف أولاده على جهلهم وأميتهم كعاملين معه في حقله الزراعي، لكن لم يكن بمستطاعه مخالفة رغبة أخيه الأكبر فانصاع أمام إصراره على ضمه إلى أولاده حتى يكمل تعليمه، فكان ينفق عليه كما ينفق على أولاده دون تمييز. فما الذي حدث له بعد ذلك!  وكيف قابل إحسان عمه ورعايته وعطفه؟


لقد نشأ منذ صغره وهو يشعر بان والده أدنى مكانة من عمه، وان كان واقعهما الاقتصادي متشابها، فان مكانة أبيه في المجتمع المحيط متواضعة جدا أمام مكانة عمه الذي تعهده بالرعاية، فهو متعلم ويرتبط بعقيدته الإسلامية ارتباطا واعيا ويتأسى في سلوكه بسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويمتلك علاقات واسعة وطيبة مع المجتمع بكل شرائحه، يتصرف مع المال كأداة وليس غاية، ويصرفه على أوجه الخير والفضيلة والإحسان، فيما لا يرى فيها والده ككل الجهلة إلا غاية، في جنيه واكتنازه تتحقق القيمة والمكانة بين الناس.


فكانت تلك الفجوة بمثابة التنور الذي احرق فيه ذلك الشاب كل إحسان عمه ورعايته له، ذلك أن الشعور بالنقص نما فيه كما نما جسده، فقد كان لا يُعرف بين الناس إلا حين ينسب نفسه لعمه، ولأن عائلته جاهلة وغير قادرة على اكتشاف أعراض ذلك المرض مبكرا ليمكن علاجه منذ البداية، فإنه لم  يكن قادر على علاج نفسه حين تقدم به العمر وترسخ المرض فيه واستحكم بوعيه وسلوكه، وصار ملازما له، لا يملك الخلاص منه، فبدل أن يقتدي بعمه ويخوض تجربته في الحياة ليصنع لنفسه ولأولاده من بعده سمعة طيبة بين الناس، لأنه وجد في ذلك امرأ غير يسير ويحتاج إلى زمن طويل من الكفاح والنضال والعمل الدؤوب والواعي، فان سلوكه تمحور بشكل أساسي على إلحاق الأذى بمن يعتقد انه يشعره على الدوام بالصغار. فبدل أن يرد بعضا من جميل عمه، وبدل أن يتخذه قدوة له في بناء حياة أسرته، راح يكيد به وبعياله المكيدة تلو الأخرى، معتقدا أن ذلك سيضعه في موقع مشابه لموقعهم، أو يسحبهم إلى موقعه هو، متوهما انه بذلك سيكون ندا لهم. والغريب ان أحدا لم يشعره بمنّة على ما عمل معه، لكن المجتمع هو الذي كان يشعره على الدوام أن ما فعله عمه معه أكبر قيمة مما حققه هو في حياته العملية، وطبيعي أن ترتبط الأسباب بمسبباتها، فالمجتمع عادة ينظر للقيم الاعتبارية بإعجاب اكبر من غيرها، تعويضا عن حالة القصور والانحراف التي يعيشها.


في عام 2003م وبعد الغزو والاحتلال فقد موقعه الوظيفي الذي كان يحاول من خلاله التغطية على مشاعره بالنقص، فحاول أن يثري مستغلا أية فرصة تسنح له فاستولى كغيره على العجلة الحكومية التي كانت بعهدته وباعها، لكنها لم تحقق له وضعا مميزا أمام السراق الذين استهدفوا المصارف وكل شيء، فوجد في طريق المقاومة والجهاد سبيلا مناسبا للبروز وردم الفجوة الموهومة بينه وبين عمه، فانخرط فيه، لكن العثرات كانت تطيح به في كل خطوة يخطوها، لأن الجهاد والمقاومة لا يمكن لهما أن يكونا وسيلة لأغراض كتلك التي كان يهدف لتحقيقها، فالمجاهد يقاتل باسم الله تعالى، وفي سبيله، وهو اعلم بما تكن الأنفس، فيكل كل نفس لغاياتها، لذلك لا يمكن لأحد يبتغي غير مرضاة الله تعالى في قتاله الأعداء أن يفلح ويكون مجاهدا، فتحول بفعل تلك العقدة النفسية إلى حاقد يختلق الذرائع والأوهام تبريرا لجرائم القتل والخطف، وحين وقع بيد الغزاة نتيجة سعيه للشهرة، كجزء من تغطيته على مرضه، لم يلبث إلا قليلا حتى أذعن لمطالبهم بالانخراط في خدمة أهدافهم وغاياتهم، بان يكون جزءا فاعلا من أداتهم في خلق الأجواء لحرب داخلية تتخذ من الطائفية والمذهبية ستارا وقناعا خادعا، فخرج من معتقله وهو مفعم بالقدرة والإرادة على سحب المغررين به ممن كانوا يعملون معه قبل اعتقاله إلى المسار الذي اختطته له المخابرات الأمريكية والصهيونية والإيرانية، فتحول إلى وحش كاسر على أبناء جلدته، ولا تعجزه الحيلة أن يبرر ويجد الذرائع لقتل من يقع بين يديه أيا كان وسلب ما معه من ممتلكات على أنها غنائم حرب، وحينذاك تصدى له ذلك العم المنكوب بانحرافه وضياع آماله في أن يرى نتائج رعايته له من قبل، ورغم أن التصدي كان بالحسنى والكلمة الطيبة بهدف الإصلاح، لكنه أشعل في ابن أخيه نيران الحقد والغضب عليه وعلى أولاده لأنهم أشعروه مرة أخرى بصغاره ووضاعته بتلك النصائح، فصاروا الهدف الأول الذي يشغل تفكيره ويحاصر إرادته ويصوغ مفردات سلوكه، هو الإيقاع بهم وبأية طريقة ووسيلة، وقد تحقق له ذلك، فتسبب في اعتقال بعضهم وتشريد البعض الآخر، فيما لم يشف غليله الغدر والوشايات الكاذبة، ولم يرتوي من قبل بدماء الأبرياء الذين أزهق أرواحهم على أيدي عصابته الذين تحولوا من مجاهدين يتربصون بالقوات الغازية المعتدية إلى قتلة مأجورين ينفذون أغراض الغزاة أنفسهم بالاقتصاص من كل عراقي شريف رفض الاحتلال وقصرت يده أن تمتد لمصافحة ومسامحة أذنابه العملاء، بسبب الجهل وضعف الوعي والإدراك لطبيعة المسار الذي وضعهم فيه بأمر ممن كانوا يعدونهم أعداء ويجب جهادهم، فقتلوا بعضهم وغيبوا البعض الأخر في المعتقلات بطرق غادرة وجبانة وبشعة تنم عن التوحش والإجرام.


إن تلك السيرة المؤلمة لذلك المريض بعقدة الصغار لم تكن دواعيها وأسبابها المرجحة، نكران الجميل، كما لم تكن بذرة للشر في أصلها، ولم تكن كذلك نتيجة الأساليب الشيطانية التي اتبعتها المخابرات المعادية، وإن كانت كلها عوامل مساعدة، بل كانت النتيجة الطبيعية لذلك المرض النفسي، الذي لم يجد له من يعالجه منه، ولم يستطع هو معالجة نفسه من مرضها، فيحرر نفسه من أوهامها وأضاليلها، لأنه لا يملك الإيمان الكافي ليقوى على مثل ذلك، فبالإيمان فقط يمكن محو تلك الندبة السوداء التي تبدأ مجهرية ثم تتسع وتنمو بمرور الزمن حتى تغرق صاحبها في ظلامها.


فالإجرام والقتل يشبع في مثل هذا رغبة الانتقام بما يفرزه الحقد الدفين من عمى على البصر والبصيرة أن ترى عواقب الأمور، والإجرام أمر لا يحتاج إلا إلى مبررات الحقد لكي يكون، فباستطاعة أي مخلوق أن يمارسه ويبرع فيه، لكن فعل الخير لا يتيسر لكل كائن أن يمارسه أو يفلح فيه، لأنه عمل ينطوي على مشقة وصبر وتضحية وإرادة ونفس سليمة معافاة من الأمراض النفسية المختلفة، وتتطلب قبل هذا وذاك هدى الله وتوفيقه.


إن هذه الآفة لا يمكن نفيها عن الواقع الإنساني كليا مهما تضافرت من جهود وعقول وإرادات ، فتلك خاصية أصيلة في النفس البشرية، فهي حتى في أرقى مراحل التاريخ وأكثرها مثالية لم تغادر الواقع الإنساني كليا، بل كانت تحاصر وتسلب قدرة الفعل المؤثر فحسب، وذلك ما حصل خلال عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلال عهد الخلفاء الراشدين، ونحن نعيش أخوى عصور أمتنا وأكثرها تخليا عن أداء دورها وحمل رسالتها، فكيف لا تكون أعدادهم كالذباب الذي يملأ المزابل ؟ لكن المؤكد أن الحياة لم تخلق كي يتسيد فيها الذباب، وإن غدا لناظره قريب بإذن الله.


{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ }(سورة النحل، الآية:26)

 


٢٨ نيسان ٢٠١٠ م

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ٢٨ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٢ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور