من أدب المقاومة العراقية

(٢٢)

 يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة - أشتاقُ إلى روحي المرحة التي لا تعرف العنوسة

 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي - كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة العانس

الغيوم الداكنة في السماء تنذر بمطرٍ غزير، بغداد التي أطلّ عليها من نافذة غرفتي تبدو حزينة، منكسرة.. حزنها جميل، عذب، تسطو على القلوب والعقول.. تخطو بصري مسافات إلى الإمام وكان لي عيون زرقاء اليمامة فألمحُ كومة نفايات تكدست مثل جبلٍ عملاق في عرصة متروكة يقال إنّ أحدهم اشتراها ثم قُتل فهاجر أولاده وبناته وتركو بغداد.


بعد موت الأب، يطغى على حياة أفراد الأسرة انقلاب ليس باليسير. ما قيمة الأراضي والأملاك والعقارات حين يُقتل الأب برصاصة غادرة، ويذهبُ دمه سدى. يسرقون الآباء منا فيسرقون منّا الحياة.


تقول لي هبة في رسالة بعثتها لي بعد هجرتها إلى كندا: "صرت يتيمة بعد مقتل أبي يا سُرى، واليتمُ لم يعد للصغار فقط".


عشرات الأراضي متروكة في بغداد بلا بناء. ومئات الدور هجرها أصحابها وتركوها في ليلة بلا قمر. الروح أغلى من البيت. أتربص بالنافذة فألمحُ شوارع بغداد وهي تعجّ بالكونكريت، وبالرجال الملثمين، خالية من السيارات لكنها تعجّ بآليات الشرطة وهمرات الأميركان.


البارحة وقع انفجار بسيارة مفخخة استهدفت نقطة تفتيش وسوق شعبي، وبغداد اليوم تبدو خالية من البشر، لقد اعتزموا الجلوس في البيت حداداً على الدماء التي تراق ضريبة الديمقراطية المضرجة بدمائنا.


من نافذة غرفتي المطلة على سماءٍ مفتوحة، أرفع رأسي إلى الأعلى، أرفعه نحو الشمس العالية في كبد السماء، أرفعه نحو السحب السوداء التي تتجمعُ من الشرق والغرب: أرفعُ كفي نحو السماء وأردد مع نفسي: إفرجها يا رب علينا. سلّط عليهم غضبك، وأرسل عليهم طيرك الأبابيل، ترميهم بحجارة من السجيل. أشتاق إلى بغداد آمنة، مرحة. أشتاق إلى شوارع مفتوحة تركض مثل المهرة، أشتاقُ إلى روحي المرحة التي لا تعرف العنوسة. أبصرُ الأعلى، وأرى السحب تجتمع بكثافة موحية بمطرٍ غزير، ينبهني صوت انفجار قوي وصوت بوق سيارة شرطة تمرق من الشارع مسرعة، يأتيني صوت أمي من المطبخ: "سرى مو كافي نوم"، فأهبط الدرج، وأنا أقسم لها أني لم أنم طوال الليل، وكنت أتقلب في الفراش، انتظر نور الفجر لكي يلوح من النافذة فأصحو.


في جلسة الشاي، وقع جدال عنيف بين شقيقتي دنيا وكريمة شقيقة هند زوجة عاصي التي كانت قد حضرت مع والداتها وشقيقها مهند للإطمئنان على هند، فهي في الأيام الأخيرة من الحمل وعلى وشك وضع المولود. دنيا اختارت اسم "ريم" للمولود الجديد بينما تود كريمة إطلاق اسم "زبيدة". لم يتدخل أحد في حسم النزاع، لكن كريمة قالت لنرى سرى أي الأسماء تفضل.


أنهيت تقديم الشاي ثم جلستُ قُبال الستلايت. اشتدد إلحاح الصبيتان على الاسم الذي أفضله. رفع عاصي من صوت الستلايت وكان هناك برنامج وثائقي ورد فيه اسم الشهيدة الفلسطينية السمراء "دلال المغربي". فقلتُ لهنّ لنُسمها "دلال".


سألتني كريمة: لماذا فضلت هذا الاسم؟ بادلتها بالسؤال ألم يعجبك؟ قالت: بلى، لكن لماذا تحبينه؟ قلت لها: تيمناً باسم الشهيدة دلال المغربي التي استشهدت في الحادي عشر من مارس/آذار سنة 1978 وهي في العشرين من العمر، شاركت في عملية بطولية جريئة ضد الإسرائيليين. وهي أول شابة تشارك في مجموعة قتالية كلفت بتنفيذ مهمة معقدة عبر البحر المحروس جيداً من قبل الدوريات الإسرائيلية. وكان نجاح المجموعة المكونة من أحد عشر مقاتلاً، في استخدام القوارب المطاطية للوصول إلى الساحل الفلسطيني قرب شاطئ يافا، والتمكن من الاستيلاء على حافلة إسرائيلية والتوجه إلى "تل أبيب" والاشتباك مع العدو لساعات، ولم تتمكن القوات الإسرائيلية من السيطرة على الموقف إلا بعد نفاد ذخيرة المقاتلين واستشهادهم ـ فيما عدا اثنان تم أسرهما ـ بعد إيقاع خسائر كبيرة في العدو.


تمعنت كريمة في أسارير وجهي ففهمت إنها لم تستوعب القصة. هي لازالت صبية تهتم بالدمى والعرائس ولا علاقة لها بالسياسة - لا من قريب لا من بعيد - الجيل الجديد المولود بعد الاحتلال لا يعرف شيئاً عن فلسطين، ولا عن شهداء أو استشهاديات فلسطين، لكنه يعيد عليك مثل الببغاء طوابير السيارات الملغومة التي تضرب بغداد وضواحيها كل يوم. يعدد لك أسماء القنابل ومناشئها وطريقة استخدامها. هذه متفجرة تدعى "تي إن تي"، هذه رمانة، هذه عبوة، هذه البناية تفجرت بقذيفة "اربي جي" وتلك البناية تفجرت بقنابل حرارية. هذا همر، وتلك دبابة، والأخرى ناقلة جند. أطفال يغرسون في قلب الحدث ويحدثونك عن التفجيرات والمتفجرات والضحايا.


نظرت إليّ كريمة وقالت: لنسمها دلال (اسم حلو)، بينما أردفت دنيا وهي ترنو باتجاه عاصي قائلة: سنسمي أطفالك بأسماء الشهداء!


***


نبهتني أمي أن لا أذهب إلى الدائرة صباح غد لنهيئ مستلزمات حفل خطوبة سهاد على فيصل. وقالت أمي إن سهاد سترافق عمتي نجود إلى دبي بعد إنهاء عقد القرآن في بغداد. الوضع الأمني سيئ جداً في بغداد، ولا مجال لتنظيم حفل وجارتنا سعاد فقدت زوجها قبل أيام، فقد أصيب بسكتة قلبية مفاجئة إثر سماعه خبر مقتل ابنه زياد الذي يداوم في أحد مراكز الشرطة ببغداد إثر انفجار عبوة ناسفة على الدورية التي كان مكلفاً بواجب أمني فيها.
نشرة أخبار وجبة الغذاء ليوم أمس تضمنت مقتل سبعة من جنود الجيش والشرطة العراقيين باستخدام أسلحة مزودة بكواتم الصوت، في حين أدت قنابل زرعت في ثلاث نقاط أخرى إلى إصابة عدد آخر. وفي حوادث منفصلة لقي مدنيان حتفهما وأصيب خمسة بجنوب بغداد جراء انفجار قنبلة مزروعة على الطريق كان تستهدف دورية للشرطة، بينما أصيب ثمانية في انفجار قنابل زرعت خارج منازل ضباط شرطة بمدينة الفلوجة الغربية.


كانت هند تثرم اللحم لأمي التي قررت إعداد طبخة "كُبة برغل" نزولاً عند رغبة عمتي نجود التي قالت إنها تشتهي كبة البرغل، ومنذ إقامتها في دبي لم تأكل لأنّ إعدادها يتطلب (مزاجاً رائقاً) لكن أم كرار صديقة أمي وجارتنا في الحيّ أفسدت عليهنّ الخطة، فقد قالت لأمي إنها ذاهبة لزيارة "الكاظم عليه السلام" وطلبت من أمي مرافقتها، فانضمت إليهنّ العمة نجود التي قالت "عيني على الكاظم (باب الحوائج) صار لي ست سنوات ما زرت".


كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف مساءً عندما عادتا من الزيارة، قالت العمة نجود وهي تلهث من التعب إنها لن تتورط ثانية في مثل هذه الزيارة، فقد سارت على الأقدام لمدة ساعة كاملة إلى أن وصلت لباب الكاظم، وقضت ساعات في غرف التفتيش ولم تتمكن أن تصل إلى المرقد وتلمسه بيدها وتقبله كما كانت تفعل قبل الاحتلال، فقد كان يعجّ بالزوّار. وقالت أمي إن الإجراءات الأمنية هي التي تعكرّ أجواء الزيارة. وقالت: كنا نزور الكاظم كل يوم خميس ونقضي فيه وقتاً طويلاً ولا نعود إلا بعد صلاة العشاء، وعندما كانت بغداد آمنة، نجتمع نسوان المحلة ونزور في الليل (عيني على الكاظم، حتى الأئمة ما سلمت منهم)، ثم فتحت حقيبتها وناولتني قطعة قماش خضراء اللون وقالت: تزيل عنج الحسد ويرزقج بابن حلال. واحتفظت بالباقي، وقالت إنها ستحفظ به في حقيبتها وتأخذه إلى زوجها "عمو فاضل" عسى أن يشعر بالراحة حين يشمّ "ريحة الكاظم".

 

Golshanalbayaty2005@yahoo.com

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت  / ٠١ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٥ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور