في العراق اليوم ... برلمان معلق أم وطن معلق ؟

 
 
شبكة المنصور
د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي / عمان
تردد في وسائل الاعلام مؤخرا مصطلح البرلمان المعلق , في وصف نتائج الانتخابات البريطانية , والذي يعني عجز أي حزب عن الفوز بأغلبية برلمانية , مما يمنع الحزب من تمرير القوانين التي يريدها , وبالتالي يصبح دور البرلمان كمؤسسة تشريعية معطلا حتى أشعار أخر . وأذا كانت الاحزاب البريطانية قد تجاوزت هذه المعضلة بأسرع من الضوء , وتم أنتقال السلطة بسلاسة من حزب العمال الى المحافظين بدافع الوعي بالمصلحة الوطنية العليا , فأننا في العراق لازلنا في حالة تعليق دائم لكل مناحي الحياة .


أن الاستشهاد بالحالة البريطانية الاخيرة , وأسقاطها على التجربة العراقية لاتعني بالضرورة يقينية التماثل بين الحالتين , فالديمقراطية البريطانية عراقتها مكتسبة من تراكم عمري طويل حتى أصبحت أعرافها لها ما للقانون من قوة , أما مايسمى ( الديمقراطية ) العراقية فلا يمكن بأي حال من الاحوال أن نصفها بالفتية أو حتى بالوليدة , لان كل الاطر والمضامين التي أنبثقت منها , والمؤسسات التي تدعي تمثيلها , أنما هي هياكل خاوية من المضمون الحقيقي لهذا المفهوم , كما أنها ليست وليدة الظروف التاريخية والاجتماعية للبيئة العراقية , ولم تأتي نتيجة تطور وعي المواطن في ظل أزدهار علمي وأقتصادي , لكننا نراهن هنا على أن الشعور بالمصلحة الوطنية العليا هو القاسم المشترك الاعظم بين الشعوب , أذن ماهي العناصر التي دفعت بالاحزاب البريطانية لتجنب المرور بمرحلة البرلمان المعلق , بينما لازلنا في العراق نسعى للبقاء في مرحلة التعليق حتى أشعار أخر , على الرغم من الخسائر المادية والمعنوية التي تتولد عن هكذا حال ؟


أن التشظي السياسي الذي ولدته مايسمى ( العملية السياسية) , والدخول المحموم للخوض في غمار السياسة من قبل أوساط بعيدة كل البعد عن العمل السياسي , جاهلة بأروقته ودهاليزه , دافعها الوحيد تحقيق مصالح طائفية وقومية ضيقة , أو أهداف شخصية نفعية , هو الذي عزز المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية العليا لدى أوساط أجتماعية كبيرة في المجتع العراقي , بعد أن مارس هؤلاء عمليات تثقيف واسعة النطاق , لامست مفردات الحياة اليومية للمواطن ودغدغت عواطفه , بوسائل دينية وعرقية وعشائرية ومناطقية طوال سبع سنوات من عمر الاحتلال , حتى أصبح من يدعون أنهم يمثلون الطائفة والقومية والعشيرة ملعونون على السنة المواطن يوميا لثرائهم الفاحش مقابل فقره المدقع , لكنه يقف عاجزا عن التخلي عنهم في اللحظات الحاسمة التي تقتضي منه الاختيار بين مصلحة الوطن والمصالح الضيقة , لان مؤوسسات الوطن غاب دورها الفاعل من حياته طوال سنوات الاحتلال , وأصبحت الهياكل الاخرى ممثلة بالشيخ والسيد والزعيم , هي الحاضنات التي وفرت له جزءا من الحماية الاجتماعية , ولابد أن يرد لهم الجميل وينتخبهم مجددا كون الشعور العام لديه , هو أنه مازال مهددا في وجوده وفي قيمه الدينية والعشائرية , التي لن يخبو وهجهها الا بعد أن يضيء الوطن مرة أخرى في حياته أمنا ورخاءا وعدالة أجتماعية ,

 

لذلك فأن الصورة الحالية التي يعيشها المواطن يوميا في العراق , أنما هي القاسم المشترك الاعظم التي يحرص المحتل وأذنابه على أستمرارها والدفع بتغييب الخيمة الوطنية , من أجل بروز القيم الدنيا في المجتمع وتأصيلها بشكل حاد حتى تصبح واقعا لايمكن التخلي عنه , كي تضمن الاطراف الفاعلة فيه مصالحها , لذلك نجد بأن الخط البياني للازمات الاجتماعية في العراق مازالت مؤشراته تدل على أستمرارية تصاعدية في الكم والنوع , على الرغم من أن الظروف المحيطة تشجع على أمكانية حصول هبوط حاد في هذه المعاناة لو كان حسن النية متوفرا , فالدولة المحتلة تملك من الامكانات المادية والمعنوية كتكنولوجيا وخبرات تقنية عالية , مايمكنها من جعل العراق واحة غناء , وتنتقل به الى مايوازي الحالة التي مرت بالكويت في العام 1991 عندما أعادت اليه كافة الخدمات في غضون أشهر قليلة , كما أن الواردات المالية التي يوفرها تصدير النفط العراقي يمكنها أن تقفز بالوضع العراقي الى حالة متقدمة , فالحالة العراقية في ظل النظام الوطني قبل 2003 وعلى الرغم من تأثيرات الحصار الدولي والعزلة الاقليمية والدولية , وعدم السماح له بالتصرف الحر بموارده النفطية وأستخدام التكنولوجيا العالمية لخدمة مشاريعه , لكنه كان متقدما بالكم والنوع على الوضع الذي يعيشه المواطن اليوم , فالخزين الغذائي كان حتى ساعة الاحتلال يفوق الخزين الموجود لدى وزارة التجارة اليوم , وكان مستوى الخدمات والامن والتعليم أعلى من الموجود حاليا في ظل جمهرة الاصدقاء والحلفاء الدوليين , وخدمات البنك الدولي وهيئات الاعمار .


أن الصورة المأساوية العراقية اليوم لاتقتصرعلى (برلمان) معلق فحسب , بل أن فيه مؤسسات ووزارات لها صلة بحياة المواطن وشؤونه اليومية , مازالت أدوارها معلقة بسبب تعادل الارادات الطائفية والحزبية, كما أن شخصيات وأحزاب معلقة بأرادات دولية وأقليمية , بل حتى الدين علقه المتحدثين بأسمه بأحبال السياسة ودهاليزها المظلمة , فتعطل دوره السامي الذي يحظ على الفضيلة والتكافل الاجتماعي , والامر بالمعروف والنهي عن المنكر .


أن التشظي الجغرافي الذي ولدته( العملية السياسية) العقيمة , بشخوصها المتشرذمين سياسيا وبمنظومتها الفكرية التي قسمت العراق على أساس خطوط الطول والعرض منذ العام 1991 قد أنتجت عراقا معلقا في 9 نيسان 2003 وحتى اليوم , وتمزقت خيمته عندما مسكت أطرافها قوى أقليمية ودولية كل يبحث عن مصالحه فيه , فولدت في الوطن الواحد أشباه أوطان بعدد الاحزاب التي تم تصديرها الينا والمصنوعة خارجيا , وأطلق على شعبه تسمية ( المكونات ) فأصبح مجرد جمع لافراد شيعة وسنة وعرب وكرد ويزيديين وتركمان ومسلمين ومسيحيين وصابئه وغيرهم ,وأنطلقت بعدها حرب المناطق المتنازع عليها, فأصبحت( كركوك) قدس اقداس الكرد و( النخيب) قدس أقداس محافظة النجف ضد الانبار , ويعترض مجلس محافظة (البصرة) على قرار مجلس محافظة( ذي قار) الذي شرع بأنشاء سد على نهر الفرات لرفع منسوب المياه في الاهوار بعد أن تضررت العوائل التي يشكل الهور مصدر رزقها الوحيد , بحجة أن الماء الذي سيصل اليهم سوف يصبح قليل , وترتفع وتيرة الكلام بين محافظتي (المثنى) و ( القادسية) على مصير قرية ظهر فيها حقل غاز , كل يدعي أنها ضمن حدوده الادارية , فيجتمع مجلس العشائر فيها ليقرر أن من يقدم لهم نصيبا أكثر من الاموال فأنهم سوف يقررون الانظمام اليه , كما أن قضاء ( أبو الخصيب ) في محافظة البصرة يطالب بتحويله الى محافظة لان أغلب حقول النفط تقع فيه وهو أحق بالاستفادة منها من غيره .


أن الاوطان لاتحيا الا على ركائز البنى التحتية التي هي تغليب المصلحة العليا على المصلحة الدنيا , ونكران الذات والعمل من أجل المستقبل الجمعي والتعايش السلمي الذي يرتقي بالوطن والشعب الى مراتب عليا في الحرية والعيش الكريم , وأن هذه القيم هي الاداة التي تصبح بها الاحزاب أحزابا تاريخية عندما تجعلها مبادئ ثابتة في مناهجها الستراتيجية , لذلك تجاوزت الاحزاب البريطانية عقدت البرلمان المعلق , كي لايصبح الوطن معلقا , بينما لايمكن توفر هذا الفهم في عراق اليوم في ظل أحزاب لاتعيش الا في برك الطائفية الضيقة , وتخشى السباحة في البحر الواسع الذي هو الوطن .

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين  / ٠٣ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٧ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور