جريمة أسطول الحرّيّة .. وجرائم عرب الهزيمة

 
 
شبكة المنصور
عبد الكريم بن حميدة

ما ارتكبه الصهاينة في عرض المياه الدوليّة لم يكن مفاجئا ولا غريبا إلاّ بالنسبة إلى الذين ظلّوا إلى وقت قريب يحاولون إقناعنا بأنّ السلام ممكن، وطيّ صفحة الماضي أمر متاح، وكسر الحاجز النفسيّ لا يقتضي سوى خطوات شجاعة.. ثمّ يمضون إلى ما هو أبعد، فيطالبوننا بالحوار مرّة والتفاعل الإيجابيّ مرّات، وإبداء حسن النوايا تمهيدا لتطبيع شامل يُنهي عقودا من الصراع والحقد والدماء.


كنّا دائما متّهَمين بأنّنا حالمون واهمون أو طوباويّون لا نفقه السياسة ولا نمتلك الحكمة أو بعضها. وأحيانا نُنعت بأنّنا أعداء للسلام، شوفينيّون متعصّبون ندّعي ما لا نقدر عليه ونتاجر بقضيّة نزعم أنّنا أوصياء عليها.


الفارق بيننا وبين هؤلاء الذين يتّهموننا باستمرار لا سيّما حينما تؤاتيهم الرياح أنّنا ظللنا متمسّكين بخطّنا حتّى في أحلك الظروف، فلم نتراجع، ولم نستكن، ولم نساوم. أمّا المعسكر الآخر فإنّه سرعان ما يطلق بعض التصريحات التي يهاجم فيها الصهاينة، ويدعو إلى فتح تحقيق بخصوص جريمة ارتكبها، أو ينادي بفرض عقوبات دوليّة ما على كيانهم.. وبعد أن تهدأ الأمور يعود إلى مغازلة الصهاينة ومداعبتهم والتطبيع معهم جهارا نهارا.. وبالطبع يعود إلى كيل الشتائم لنا واتّهامنا بما ليس فينا.


علينا أن نحذر جيّدا هذا المعسكر مثلما نحذر الأعداء تماما.. فالدور الذي يلعبه بعض مثقّفي هذا المعسكر وإعلاميّيه وأكاديميّيه بالغ الخطورة من حيث استدراج شرائح كثيرة من الشباب ومن ضعاف النفوس لقبول فكرة التعايش السلميّ مع عدوّ لم نعد في حاجة إلى أيّ برهان لبيان بربريّته وعدوانيّته.


ما حصل على متن سفن أسطول الحرّيّة كان صفعة مدوّية في وجه أنصار التطبيع، وكان صفعة للمغفّلين الذين ابتزّهم الإعلام المعادي لتطلّعات أمّتنا، وظلّوا طيلة سنوات يتعرّضون لقصف مرئيّ ومسموع ومكتوب يستهدف ثوابت الأمّة وروح النضال فيها، ويرنو إلى الإجهاز النهائيّ على ما تبقّى في أبنائها من روح التحدّي والإصرار والرفض.


هذا الإعلام العربيّ/العبريّ المعادي لأمّتنا كان يعبّر عن موقف نظام رسميّ عربيّ جرّبناه وخبرناه عقودا.. فلم نجْن سوى السراب، ولم نقبض غير الأوهام. وانتهى الأمر بشباب أمّتنا إلى التسوّل على أعتاب السفارات الأجنبيّة بحثا عن فرصة للهجرة، أو الارتماء في عرض البحر لعلّ أمواجه تقود إلى ساحل أوروبيّ يمثّل ملاذا ومطمحا لمن تاهوا وضلّوا وأضلّوهم.


في رحلة معاكسة تماما جاء الآخرون إلى سواحلنا.. إلى سواحل غزّة الأبيّة ليكشفوا للعالم حجم المأساة وحجم القهر وهول الموت. جاؤوا ليكونوا شهودا وليُشهدوا العالم أنّ الجريمة التي تُرتكب في غزّة منذ أكثر من ثلاث سنوات إنّما هي جريمة مشتركة لكلّ فيها يد.. بدءا من سلطة أوسلو مرورا بمن يملكون مفاتيح معبر رفح، أولئك الذين زعموا أنّهم لن يسمحوا بتجويع غزّة، فإذا بهم يُشرفون على "حفلة" التجويع ويهندسون لها ويبنون جدار العار ويمنعون الأكسيجين عن التسرّب إلى غزّة من الأنفاق التي ابتدعها أهل غزّة الشرفاء الصابرون الصامدون.


الكلّ كان شريكا في الحصار وفي الجريمة: عرب الهزيمة وأدعياء الواقعيّة والمتمسّكون بكذبة الشرعيّة الدوليّة، وجامعة الدول العربيّة العرجاء، واللجنة الرباعيّة الدوليّة، ومنظمة الأمم المتّحدة.. كلّهم شركاء في جريمة الحصار وجريمة أسطول الحرّيّة. فلولا صمتهم وخنوعهم وقبولهم بالصهاينة سادة لما سُفح دم الإنسانيّة على أمواج البحر المتوسّط.


عندما طرق الصهاينة باب السفينة (مرمرة) كان العرب نياما.. ولم يكن بمقدور أولئك الشرفاء الذين يحملون صناديق الدواء وعربات المعاقين أن يفعلوا أكثر ممّا فعلوه. فلقد حملوا قضيّة غزّة ومن ورائها مشكلة فلسطين على ظهور سفنهم، واستطاعوا بصمودهم وثباتهم في وجه الوحشيّة الصهيونيّة أن يقدّموا للعالم صورة أخرى لما يمكن أن تكون عليه أشكال الرفض والمقاومة.


كان العرب كعادتهم نياما، ولا أظن أنّ الذين باعوا ضمائرهم وركبوا سفينة الأعداء سيستيقظون. بل لا أرى نفسي متشائما حين أقول إنّ الرهان الحقيقيّ مثلما كان دائما يجب أن يتحمّله جماهير أمّتنا وأحرارها أوّلا وشرفاء العالم بعد ذلك بما أوتي لهم من جهد وقدرة وصبر. فهذه قضيّتنا نحن بالأساس. وعلينا أن ننتبه إلى محاولات امتصاص غضب الشارع العربيّ من قبل الحكومات المأزومة المهزومة، وأن نفهم أنّ قرار حكومة مصر بفتح معبر رفح ليس إلا قرارا محكوما بدوافع اللحظة، وأنّه سينتهي حالما تتصدّر اهتمامات الناس قضايا أخرى. كما أنّ الفهم الدقيق لما يجري على الساحة الفلسطينيّة يقتضي أن نُقرّ أنّ إعلان محمود عبّاس رئيس سلطة رام الله الحداد ثلاثة أيّام ليس عنوان تحوّل في موقف هذه السلطة إزاء حصار غزّة.


والذين استبشروا خيرا بإنهاء الانقسام وضرورة اقتناص اللحظة التاريخيّة لإعلان المصالحة الفلسطينيّة عليهم أن يتذكّروا أنّ عبّاس سبق أن أعلن الحداد خلال حرب غزّة 2008/2009 وأطلق كثيرا من التصريحات المندّدة بالجرائم الصهيونيّة، لكنّه لم يستطع أن يذهب أبعد من ذلك لأنّه محكوم باتفاقيّات وتفاهمات وتنازلات لم يعد بإمكانه أن يتنصّل منها. 


ولهذا فإنّ ما تناقلته وكالات الأنباء عن عزم الرئيس محمود عبّاس تكليف رجل الأعمال الفلسطينيّ منيب المصريّ بتشكيل وفد رفيع المستوى للذهاب إلى قطاع غزّة وتحقيق المصالحة هناك ليس سوى محاولة مكشوفة لركوب موجة الاحتجاجات والظهور أمام الفلسطينيّين بمظهر الحريص على الدم الفلسطينيّ والوحدة الفلسطينيّة.


إنّ تصديق مثل هذه الأخبار في نظري لا يختلف كثيرا عن تصديق تصريح مجرم الحرب توني بلير بأنّه مصدوم ممّا ارتكبه الصهاينة في عرض البحر المتوسّط. وهل لقاتل أطفال العراق وأفغانستان أن يشعر بالصدمة أو تتحرّك بداخله مشاعر إنسانيّة وهو الذي قتل صحبة شريكه المجرم بوش مئات الآلاف من الأبرياء؟ 


التجربة علّمتنا ألاّ نصدّق هؤلاء مطلقا. أمّا الذين نصدّق أقوالهم وأخبارهم فهم أولئك الشرفاء من العرب ومن كلّ الجنسيّات الأخرى.. شأن قبطان السفينة اليوناني الجنسيّة الذي رفض تلقّي العلاج في داخل "إسرائيل"، وأصرّ على التداوي في اليونان على الرغم من إصابته الخطيرة.


هذا الرجل وأمثاله من الذين أحرجونا بشهامتهم وأخجلونا بصمودهم يستحقّون التصديق.. والتقديس.

 

akarimbenhmida@yahoo.com

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٢١ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٤حزيران / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور