ليبيا : شعبك أولى بالمعروف يا عبد الرؤوف

 
 
شبكة المنصور
علي الصراف

لسببٍ ما، وجد عبد الرؤوف بن عبد الغفور إن به حاجة للذهاب الى سوق طرابلس الغرب. ولكنه لم يلبث من أمره ساعةً حتى عاد مرعوبا، وقد إصفّر وجهه، يداه ترتعشان، ويكاد لا يستطيع الوقوف على قدميه من شدة الخوف.


سأله صاحبه عبد الحق بن عبد الصبور، ما بك يا عبد الرؤوف؟ ولماذا عدت بسرعةٍ من مشوارٍ كان يجب أن تقضي فيه نصف النهار. فقال لصاحبه: يا عبد الحق، لو كنتَ رأيتَ ما رأيت لوقعتَ من طولك من شدة الخوف.
"وماذا رأيت؟"، سأل عبد الحق.


فقال عبد الرؤوف، "كما تعرف فقد ذهبت الى سوق طرابلس لأقضي أمرا، فرأيت ما بدا لي انه رجل طويل نحيف يرتدي عباءة سوداء، ولا شيء يظهر من خلف جسمه إلا العباءة. لا يديه ولا قدميه ولا حتى شعرة من رأسه. وحيث كنت أنظر اليه بطوله الفارع من خلف ظهره، فقد شدني الفضول لكي أذهب لأرى وجهه، لعلي أعرف مَنْ يكون. وأنت تدري، فانا أعرف كل أهل البلاد. وكان الرجل يمشي مستقيما وكأنه عصا، وكنتُ بالكاد أرى رأسه يلتفت يمينا وشمالا. وقررت أن أغذُّ السير نحوه. وفي زحمة السوق، ما كان لي من سبيل إلا أن أتدافع مع هذا وذاك لأشق طريقي اليه. أما هو فكان كأنه يمشي على غمام، يمضي في طريقه وكأن لا أحد يعترضه، وتقطع خطواته الممرات الضيقة وكأنها أفسح من مكانٍ رحب. ورغم اكتظاظ السوق، فقد كانت عباءته لا تمس أحدا، ولا أحد ينظر اليه، وكنت وكأني الوحيد الذي أراه".


ـ "وماذا بعد يا عبد الرؤوف؟" سأل عبد الحق صاحبه، وقد نفد صبره.
فقال عبد الرؤوف، "والله يا عبد الحق لن يمكنني أن أصف لك ما رأيت. ولكني لحظةَ ما اقتربت منه، غلبني الشعور بأني لن اتمكن من أن أسبقه بخطوة أو خطوتين لأراه من الأمام، فآثرت أن أربت على كتفه بزعم الحاجة إني أريد أن أساله معروفا، وما أن وضعت يدي على كتفه بالفعل، حتى إلتفت إليّ، ويا ويلي مما رأيت".
ـ "ماذا رأيت؟"، صاح عبد الحق مدهوشا بوجه صاحبه.


فقال: "لقد كان شبحا يا عبد الحق، لا ترى من وجهه إلا ظلالَ خطوطٍ بيضاء يمتزجُ فيها النورُ بالظلام لتشكل ملامحَ من الرمل والرماد وكأنها الموت. انه ملاك الموت يا عبد الحق. وما أن رآني حتى رفع يده، فهربت. وبقيت أجري. وعدت الى هنا".


التقط عبد الرؤوف شيئا من أنفاسه الضّالة وقال: "لن أبقى في هذه المدينة دقيقة واحدة. يا عبد الحق. دعني أذهب الآن يا عبد الحق".
ـ "والى أين تريد الذهاب يا عبد الرؤوف؟".


قال: "سأذهب الى سرت على الفور. وسأبقى هناك ولن أعود حتى يطمئن بالي وتهدأ احوالي. فكما تراني ارتجف. وارجوك دع السيارة تأتي لتأخذني الآن من دون أي تأخير. ولا أريد ان يتصل بي أحد. ولن احمل معي هاتفا. اتركوني وحدي. مفهوم؟".
لهجته الآمرة، اخرست صاحبه، فبدا وكأنه أسقط في يده.
طلب عبد الحق بن عبد الصبور أحدث وأسرع ما لديه من سيارات، قائلا لعبد الرؤوف، إن شاء الله خير، إذهب ولا تعد حتى تهدأ. وخشيتي ان الأمر كله هواجس رجل مُتعب. فاذهب لترتاح.


ـ "انها حقيقة يا عبد الحق. صدقني لقد رأيته هناك". قال عبد الرؤوف، واستطرد بلهجة واثقة: "إذهب لترى بنفسك".


ذهب عبد الرؤوف الى سرت. وقرر عبد الحق، وقد اشتد به الفضول، ان يذهب هو الآخر الى سوق طرابلس، لعله يرى ما رآه صاحبه. وما هي إلا دقائق او حتى ثوان من وصوله الى السوق حتى عثر على الرجل. وحيث كانت لديه فكرة عما سيرى، فقد استجمع شجاعته ليتحدث إليه، قائلا في نفسه، والله لن أهرب حتى ولو كان الجن الأزرق.


ـ "يا شيخ. أنت يا أيها الشيخ"، صاح عبد الحق. فوقف الرجل ودار بعباءته السوداء وكأنه يفرش بها فسحة لنفسه. فبادره عبد الحق بالسؤال: لماذا يا شيخ رفعت يدك في وجه صاحبي. هل تعرف كم أصبته بالخوف؟
فقال الرجل: "أنا لم أرفع يدي في وجهه. كل ما في الأمر هو اني دُهشتُ. فقد أذهلني أن أجده هنا. ورفعت يدي لكي يغرب عن وجهي، لا من أجل أن أصيبه بالخوف. لم أكن أريد أن أراه في هذا المكان ".


ـ "وأين كنت تريد أن تراه يا شيخ؟"، سأل عبد الحق.
فقال الرجل: "موعدي معه في سرت. وما كنت احسب أن أراه في طرابلس. لقد شغلني وزاحم غيره. مواعيدي محسوبة عليّ وليس من طبع الأمور أن أتأخر بها. وكنت أريد أن أقول له: مكانك ليس هنا يا عبد الرؤوف. ليس في هذا السوق يا عبد الرؤوف، وليس اليوم، بل عصر الغد يا عبد الرؤوف. ولكنه مضى يجري بخفة الريح. وقد فعلها بي مرتين".


ـ "ماذا فعل؟"، سأل عبد الحق.
فقال الرجل:" لم يسمع ما كنت أريد أن أقوله له، لا في هذه المرة، ولا قبل 40 عاما. جئته محذرا في المرة الأولى، ولكنه هرب، وعدت خائبا، فقال لي من أرسلني اليه: اتركه. هذا رجل لا يُصغي إلا الى طنين أذنيه. ولا نفع فيه. اتركه بهياجه، حتى يحل موعده. وظل هائجا منذ ذلك الوقت، مشاعره تتبلّد كلما مضى به العمر، وتحول قلبه الى حجر صوان من كثرة ما تسبب بالأذى للناس. تركته وأنا أعرف كم من الضحايا سوف يأتون إلينا من بين يديه. ونهر الدم الذي أغرق فيه آلاف المظلومين ما يزال ينتظره".


بدا الشيخ هادئا، وشعر عبد الحق انه يتحدث مع إنسان وديع. وبرغم مظهره المخيف، إلا أن عبد الحق ادرك في نفسه انه ليس خائفا، وانه يتحدث معه حديث رجلين يعرفان بعضهما منذ زمن.


ـ "وماذا كنت تريد أن تقول له أول مرة يا شيخ؟"، سأل عبد الحق.
ـ "كنت أريد أن أقول له: شعبك أولى بالمعروف يا عبد الرؤوف".


حيّا عبد الحق الشيخ بإشارة من رأسه ولم ينبس ببنت شفة. وودعه بأن القى نظرة عميقه في وجهه، واغمض عينيه لبرهة امام عيني الشيخ، في إشارة قالت الكثير من الكلام. وعاد ادراجه شاعرا باليأس. وفي الطريق، عثر على برميل للقمامة، فألقى بهاتفه النقال فيه.


وقف على باب مكتبه، ولكن فجأة شعر وكأنه نسي شيئا. فعاد راكضا الى حيث ترك الشيخ. وصل الى هناك واللهاث يغزو صدره. بحث عنه في كل مكان، فلم يعثر على أثر له. سأل عنه بعض المارة والباعة، فقالوا له انهم لم يروا أحد يرتدي عباءة سوداء. وألح عليهم بالسؤال حتى ظنوا انه مجنون.


افترش عبد الحق بن عبد الصبور الأرض كبعير عجوز. أحاط رأسه بكفيّه وقد اشتد به الإعياء واليأس، وهو يردد: أنا أحمق، أنا غبي. كيف نسيت؟


ادرك عبد الحق بن عبد الصبور، بعد فوات الأوان، انه لم يسأل الشيخ إن كان لديه ما يريد أن يقوله له هو. وشعر ان الفرصة ضاعت منه الى الأبد.


كان الشيخ يعرف ان عبد الحق عاد ليفتش عنه، ولكنه كان في الطريق الى سرت وهو يسأل في قرارة نفسه: ماذا يمكن للغفور ان يقول لعبده الصبور، اكثر مما فات من الرؤوف على عبد الرؤوف؟

 

alialsarraf@hotmail.com

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت  / ١٥ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٩أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور