تأملات  / قراءة متأخرة لدروس ستراتيجية

﴿ الجزء السادس ﴾

 
 
شبكة المنصور
سمير الجزراوي

أقول إن الذي يجري في العراق لا يمت بصلة للطريق نحو الديمقراطية   والتي يروج لها المحتلون لكي يمررون من خلالها ما يريدون ويغطون على جريمتهم .. إن كان المحتل صادق في إقامة ألديمقراطية في العراق فعلى الأقل أن يلتزم بمفاهيم والمعايير الحقيقة لإقامة الديمقراطية وأن يتبع التطور التاريخي لاعتماد الديمقراطية وعلى ماهو يؤمن به ويتعامل به  في بلدانهم وسارت أجياله عليها والمتمثلة بالفقرات التالية:

 

1-الديمقراطية لا يمكنها إن تقوم بدون أن تسبقها عملية تثقيفية يتم فيها خلق ثقافة ديمقراطيةعلى الأقل يتم فرز وفك التشابكات بين بعض المفاهيم والسلوكيات الغريبة عن الديمقراطية. إن كل التجارب الديمقراطية الناجحة في العالم لم تولد مباشرة بعد إحداث تغيرات في المجتمع و الدولة والسياسة ,بل إحتاجت لمرحلة يتم  فيها تهيئتهما وإنضاج فكري وسياسي لكي نحصل على ولادة طبيعية للتجربة الديمقراطية وليست قيصرية ، و في هذه الفترة الانتقالية يتبلور الكثير من جوانب الحياة للمرحلة الديمقراطية,أي بمعنى أن لا يكون الدخول للتجربة الديمقراطية كأنه مفاجأة المجتمع ويطلب منه التعامل معها في بناء دولة مؤسسات تؤمن وتعمل بالنهج الديمقراطي,ففشل التجربة على هذا النحو مؤكد ,وهذه حقيقة سواء قبلناها أم رفضناها, وبعكس ذلك لا يمكن أن تفرض تجربة مثل الديمقراطية وأحد ألاعمدة التي تقوم عليها ترتكز عل الإنسان نفسه ,و حيث أن الإرادة الحرة لا يمكن لأي قوة أن تشتريها ولا سحبها ولا حتى خداعها,لأنها تعبير يترجمه الواقع وبكل الإشكال التي يمكن أن يلمسه المواطن وغير المواطن.                                     

 

2_لكي تنجح عملية تطبيق الديمقراطية لابد أن تكون البلاد مستقرة ولديها دستور مدني وفي مجتمع مدني,بمعنى أن البلد لا يحكم بأي نوع من أنواع العسكريتاريا أو الاوليغارشي العسكرية(حكم فئة العسكر) سواء كانت وطنية أو أجنبية(كالاحتلال),وألاحزاب و القوى المدنية التي تتعامل بالديمقراطية لابد أن تجتمع على قاسم واحد مشترك بينهم وهو الوطنية ( أي الولاء للوطن أولاً وأخيراً) و أما الاختلاف في الرؤى و البرامج السياسية والعقائد يمكن أن تكون عوامل تقوية للتجربة الديمقراطية , وفي هذا الصدد ينتقد جان جاك روسو بشكل عام كل تنظيم لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات القائمة بين الأفراد، ويعتبر ذلك استهدافا للإرادة العامة.ولكن أن كان الاختلاف في الوطنية أي توزع الولاءات بين قوى ودول أجنبية,أوالاجتهاد في المحافظة على وحدة الوطن فهذه ليست ديمقراطية بل هذه تجربة لمجموعة من اللصوص أجانب وغير أجانب لتوزيع كعكة وطن,بل هي فرصة لهم للسرقة والإثراء الغير المشروع ,والعراق اليوم خير نموذج لهذا الوضع والصورة..


3-الديمقراطية صورة حية للتطور الإنساني في بناء المجتمعات الإنسانية المتطورة وليس كما يصورها البعض بل ويعمل إلى تشويهها بأنها صورة متقدمة لصورة المجتمع البدائي مع بعض الرتوش الإعلامية والدعائية,لأنها تصبح كذلك إذا كانت التكتلات والتخندقات والائتلافات مبنية في حقيقتها على الطائفية والعرقية والقومية والدينية ولكن في مظهريتها وخطاباتها السياسية تدعي الوطنية,إنها شكل من أشكال التسيب والانفلات والفوضية,بل إساءة مقصودة للديمقراطية الحقيقية ,والذي يزيد من الإساءة للديمقراطية إن هذه الغوغائية السياسية تستخدم صناديق الانتخابات وسيلة وسخة لإعطاء الشرعية لهذه الفوضى والتسيب,والأهم من كل هذا وذاك ليس في صحة الانتخابات وسلامة صناديق الاقتراع الذي أُريد أن أقوله أن الديمقراطية الحقيقية مرهونة بتحقيق شرطين أساسين:-


(أولا) سلامة العملية الديمقراطية والتي تشمل دقة الإحصاء السكاني وسلامة مراكز الاقتراع والتصويت الصحيح وحرية الناخب في اختيار ممثليه وشرعية العملية الانتخابية ودقةعملية الفرزوالعد سواء كانت يدوية أو الكترونية وطريقة إعلان النتائج وغيرها من الاساسيات الادواتية لعملية التصويت .


(ثانياً)الآليات السليمة والأدوات الفعالة في إعطاء القدرة الكافية على مراقبة أداء ونشاط الممثلين وما يعطيه الدستور من حقوق للمواطن في محاسبة السلطة التشريعية(البرلمان أو مجالس الشعب أو المجالس المحلية أوالبلدية أو المحافظات..) ومراقبة إدائها بما يخدم المواطن..ففي هذا يعتبر جان جاك رسو: (لكي تكون الإرادة عامة، لا ينبغي تمثيل الشعب.فهو يؤاخذ على الانكليز على الخصوص وعلى نموذجهم التمثيلي التخلي عن حرية المشاركة السياسية بواسطة التصويت الانتخابي. يقول روسو يعتقد الشعب الانكليزي أنه حر، فهو مخطئ كثيرا، فهو ليس حرا إلا في فترة انتخاب أعضاء البرلمان، فما أن ينتخبوا، حتى يصير عبدا، ولا شيء. الفترات القصيرة لحريته، الاستعمال الذي يقوم به لحريته يجعله يستحق فقدانها.)(1)..إن النقاش حول الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية نقاش فلسفي قديم،حيث سبق للفيلسوف جون لوك أن ألمح إلى: (محدودية الديمقراطية التمثيلية عندما اعتبر أن لا أحد يمكنه أن يضفي الشرعية الديمقراطية على سلطة سياسية غير المواطنين أنفسهم.وأنه لا يكفي بالنسبة للمواطنين التعبير عن اختياراتهم، عبر التصويت لفائدة ممثلين عنهم، بل ينبغي أن تكون لديهم القدرة على مراقبة نشاط هؤلاء الممثلين)(2)..فنحن نريدها ديمقراطية يتم تمثيل الشعب فيها وفي نفس الوقت يشارك الشعب فيها. إن تمثيل الشعب وفي نفس إعطاء الفرصة له في المراقبة عنصران أساسيان في ديمقراطية حقيقية.فهل نستفاد من فلسفات الشعوب والامم التي تشاركنا في كوكبنا هذا,وأقصد بالاستفادة أي ما نريده ونختاره نحن لا أن يفرض علينا مستعمر أومحتل أو عميل.وعراق اليوم يعطي صورة حية لهذه الفوضى الذي جاء بها المحتلين ورَقَصَ على أنغامها قطعانه التي لا تتعدى معرفتها عن الديمقراطية سوى حروفها,وفي العراق نلاحظها اليوم وبوضوح في سلوك الأحزاب والمجاميع التي تشارك فيما يسمونها العملية السياسية ,فهم لا يميزون بين النقد وبين السب والشتم والتجريح, وهم لا يفرقون بين الحرية والفوضى ولايميزون بين الائتلافات السياسية والقائمة على البرامج السياسية الوطنية وبين الائتلافات الطائفية والقائمة على المحاصصاات الطائفية والعرقية,والاهم تتركز ثقافتهم على أن وصولهم للسلطة هي فرصة لجني المكاسب الحزبية الطائفية العرقية ولن تتكرر مرة أخرى..       


4- إن من الأوجه الحقيقية للديمقراطيات في العالم (الديمقراطية التمثيلية أو الديمقراطية التشاركية) هي إقامة التنمية الحقيقة سواء كانت محلية أوشاملة,وبمشاركة جماعية وبدون استثناءات أو إجتثاثات أو إقصاء على الهوية الطائفية أو الدينية أو القومية أو حتى السياسية في المجتمع الواحد أو في تكتل لمجتمعات متعددة ومن جذور مختلفة في النشاءة والتكوين كالاتحاد الأوروبي.   وهذا يجعلنا في بدء حوارنا هذا أن نفهم أن الديمقراطية ليست صناديق إقتراع وتوجه الشعب للادلاء بالاصوات بل هي غيظا في قدرة النظام على تحقيق رغبة وقدرة الناس في التعلم في كيفيةأن يخضعوا إرادتهم رهن للإرادة العامة وكيف يخضعوا جهودهم رهن الخاصة للفعل المشترك أي بتبادلية سلمية قائمة على التقديرات العلمية والأخلاقية في احترام كلي للآراء والأفكار,وبمهنية عالية من الكل وخاصة في نواحي البناء التنموي والتي لا تخضع في تقويمها لأي عامل باستثناء المهنية العلمية.. بذلك يحق القول إن جماعة الشعب أو المجتمع في البلدة أوالمدينة أو كما عندنا المحافظات تتمثل فيهم الفسحة الفضائية النموذجية للممارسة الديمقراطية الجماعية والتي يصح إن نطلق عليها بالديمقراطية المحلية، لأنها الأكثر قربا من الناس مواطنين ومواطنات.

 

هذه الديمقراطية المحلية تستلزم بدورها،بل تصبح في حكم الحتمية مشاركة جميع الناس (رجالاً ونساء شباباً وشابات) مشاركة حقيقية في العمليات السياسية التي تجري في الوسط الذي يتواجد فيه جماعتهم في مدن أو بلدات أُخرى أو في محافظات متعددة والتي تتيح لشعب المدينة أو المحافظة المشاركة في صياغة وصناعة واتخاذ القرارات التي تؤثر في حياة الجماعة، فبذلك فقط يصح القول إن الديمقراطية المحلية مبدأ أساسي من المبادئ التي تقوم عليها التنمية المحلية, من أجل تحسين أطر العيش وتحقيق وجود أفضل، وبناء مستقبل يستجيب لطموحاتهم وأمالهم .أي أن إستراتيجية التنمية المحلية هي جزء من مجموعات التنمية المتحققة والتي تشكل وتصب في التنمية الكلية للبلد الواحد أو مجموعة اتحادية كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الفيدرالية,وقفة منصفة وخالية من غرض مسبق..             

 

هل من خلاف حول كل الذي ذكر بشأن وجه أساسي من أوجه الديمقراطية وهي التنمية.سوألي لكل من لا  يحمل غرض مسبق أو مواقف متطرفة أي مطلوب إجابة بتجرد هل ما يشير في العراق إلى شيء مما ذكرناه؟, أو هل هنالك في الأفق المنظور ما يدل على أية ملامح لهذا المجتمع الديمقراطي الطموح؟! والى كل العقول التي تعني بالإستراتيجيات وأُسجل احترامي للكل وبدون استثناء أو إقصاء أو..هل في المسار السياسي الذي تسير عليها مايطلقونها العملية السياسية في العراق يوحي بأنها سوف تصل بنا إلى إحدى هذه المحطات التنموية وفي ظل ديمقراطية حقيقية,وهل وبعد سبعة سنوات من الاحتلال وفي ظل حكومات متعاقبة, يمكن لأي منصف أن يؤشر أي خطوة تنموية أوحتى خدماتي حقيقية ,سواء على مستوى المحافظات(محلية) أوعلي مستوى القطر.بل الممكن أن نؤشر حالات من التدمير في كل مناحي الحياة وتدهور في كل الحياة في العراق... 

 

(1) جان جاك روسو (28 يونيو 1712-2 يوليو 1788) فيلسوف و كاتب و محلل سياسي سويسري أثرت أفكاره السياسية في الثورة الفرنسية و في تطوير الاشتراكية و نمو القومية. و تعبر مقولتة الشهيرة "يولد الإنسان حرا ولكننا محاطون بالقيود في كل مكان" والتي كتبها في أهم مولفاتة (التناقد الاجتماعي) تعتبر أفضل تعبير عن أفكارة الثورية وربما المتطرفة     

                                  
(2) جون لوك (1632 - 1704) هو فيلسوف تجريبي و مفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رينگتون) في إقليم (Somerset) وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد، حيث انتخب طالبا مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ١٢ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٦أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور