رسائل التبصير :  كشف ألغام التحرير
الرسالة الخامسة : لغم عفوية انطلاق المقاومة العراقية

﴿ الحلقة الثالثة

 
 
شبكة المنصور
صلاح المختار

الى الماء يسعى من يغص بلقمة فإلى اين يسعى من يغص بالماء ؟

مثل

 

                                                                

اين يكمن لغم ( عفوية المقاومة ) ؟

 

بعد تثبيت ملاحظات اساسية تساعد على تفكيك الغام سوء الفهم في حالات معينة ، او الغام سوء النية في حالات اخرى ، في فهم ما جرى في العراق لابد من تأكيد افكار محددة لا يمكن القفز من فوقها او تجاهلها ، ونتمنى ان تساعد من اخطـأ بطروحاته حول عفوية المقاومة على التراجع عن تلك الطروحات الملغومة ، وابرزها ما يلي :

 

1 – هل الاحتلال وعملاءه هم من ينفذ الاجتثاث فقط ؟ ثمة من لا يدرك المعنى الحقيقي لسياسة اجتثاث البعث ، ويظن ان من ينفذها هم عملاء الاحتلال واعداء الامة العربية التقليديين فقط ، وهذا خطأ كبير لان ثمة من يساهم في تنفيذها من الوطنيين عن جهل ، او نتيجة خلافات سياسية وايديولوجية تغيّب العقل والموضوعية وتدفع لانكار الحقائق او تشويهها اذا كانت تخدم الطرف الذي نختلف معه ، لذلك لابد من تنبيه من لم ينتبه الى المضامين العملية ، والاستخبارية ايضا ، لسياسة اجتثاث البعث . واول ما يجب التنبيه اليه هو مسألة غاية في الاهمية والحساسية لابد من حسبانها بدقة ، وهي ان الاجتثاث عملة ذات وجهين وكأي عملة لا يمكن لها ان تكون عملة الا اذا كانت بوجهين هما الوجه والقفى ، فما هما وجها عملة اجتثاث البعث ؟ ان الاجتثاث يحتاج الى عملية تسبقه وتمهد له وهي الشيطنة ، فمن المستحيل ان يقبل او يحصل الاجتثاث ويجد من يشارك فيه بدون الشيطنة اولا ، والشيطنة تعني ببساطة ووضوح تشويه صورة من يجب اجتثاثه عبر مسلسل اكاذيب من جهة ، وتزويرات من جهة ثانية ، وبواسطة تمويه الحقائق بحيث يؤدي ذلك الى تجريد هدف الاجتثاث من كل فضيلة يمتلكها ولا تبقى في صورته سوى الاعمال الشريرة والشيطانية ، من جهة ثالثة . لذلك لابد من تسليط الضوء على هذه الفكرة الجوهرية بالذات .

 

كيف تتم شيطنة البعث ؟ ان الاجابة على هذا السؤال تضع النقاط على الحروف وذلك يمكّن من قراءتها بصورة صحيحة . ان الشيطنة تقوم على ركيزتين رئيسيتين مندمجتين ببعضهما الركيزة الاولى تلفيق الاكاذيب وتشويه الحقائق من اجل تصوير البعث كأنه شيطان رجيم ، فتكرهه الناس وتصبح ما بين مطالب باجتثاث البعث وساكت على تصفيته بكافة الوسائل ، والمثل على ذلك ترويج اكاذيب المقابر الجماعية والمظلومية وخرق حقوق الانسان وامتلاك اسلحة الدمار الشامل والولع بالحروب والاعتداء على الجيران ...الخ . اما الركيزة الثانية وهي الاهم ، فانها العمل بكافة الوسائل على تجريد البعث من اي فضيلة او انجاز او عمل جيد رغم انه حزب الانجازات العظيمة بلا منازع . الركيزة الثانية هدفها حرمان الانسان العادي من القدرة على الدفاع عن البعث بترويج كذبة انه لم يقدم شيئا ولم يحقق للناس اي خدمة او عمل جيد وبقي حزب شعارات فقط وكان السبب في كوارث العراق ، ومن ثم فان اجتثاثه ضرورة ولا تشكل جريمة او اعتداء .

 

وهنا يجب التنبيه الى ان هذه الركيزة تحتل المكان الاول في شيطنة البعث ، طبقا للمخططات المتلاقية الامريكية والصهيونية والايرانية وغيرها ، لان تجريد البعث من اي فضيلة لا يسمح بتصفيته دمويا او سياسيا فقط ، دون اعتراض فعال من قبل الراي العام ، بل انه ايضا يجعل بعض انصاره ، الذين يعرّضون لكم هائل من الاكاذيب يصبح كبرها وعددها ضخما بحيث لا يتسع الوقت لتدقيقها كلها ، كما يعرضون للمؤثرات النفسية السلبية التي تربك العقل وتشوشه ، فيقعون اسرى مشاعر متضاربة من بينها شعور داخلي بالخطأ او وجود خلل في موقفهم ، وهكذا يصبحون غير قادرين على الدفاع عن حزبهم وانفسهم حتى حينما يعطون فرصة الرد وهي فرص نادرة وضيقة جدا ، وهنا تكمن خطورة الشيطنة .

 

من بين اهم اساليب الركيزة الثانية تكتيك تجريد البعث من فضيلة مقاومة المحتل ، او الاعداد لمقاومته ، وتزداد خطورة عملية التجريد هذه حينما يقوم بها عنصر وطني مناهض للاحتلال ، لان هجمات واكاذيب عملاء الاحتلال ضعيفة وتافهة ولا يقبلها المواطن العادي ، في حين ان الوطني الذي يوجه الاتهامات للبعث يتمتع بصدقية ، وبدرجات مختلفة ، ولذلك فان المواطن العادي وحتى نصير البعثيين يقع بين نار تصديق الوطني الذي يجرد البعث من فضائلة ومنها دوره في الاعداد للمقاومة وتفجيرها ، وبين معرفته ان البعث حزب مقاوم ولديه انجازات كبيرة في هذا المجال . وتزداد خطورة هذا التكتيك في شيطنة البعث حينما يقول هؤلاء بان البعث مسئول اخلاقيا ووطنيا عما حصل للعراق لانه كان حزبا حاكما ولذلك فانه يتحمل مسئولية الاحتلال والتحرير ، بكل ما تعنيه هذه المسئولية من معنى واسع وفضفاض ومتناقض التفسير ، وهو معنى ينطوي على اتهام مباشر للبعث بانه اما تواطأ مع الغزاة او انه لم يقم بما يجب لمواجهتهم .

 

نعم البعث مسئول عن التحرير لانه الحزب الوطني الرئيسي ولانه حكم العراق ايضا ، وهنا تكمن الحقيقة ، ولكنه ليس مسئولا عن الاحتلال الا اذا كان من يمارس هذا التكتيك ويتهم البعث بتلك التهمة المشينة يريد تبرئة امريكا وبريطانيا وايران والكيان الصهيوني من حقيقة ان غزو وتدمير العراق كان الجزء المقوم ، اي الجوهري ، في مخططات العدو المشترك لتدمير العراق ، والتي وضعت منذ تأميم النفط وترسخ الموقف القومي الاصيل تجاه القضية الفلسطينية وبدء عملية النهضة القومية العلمية والتكنولوجية الشاملة . وهذه الحقيقة تجعل مسألة ارتكاب اخطاء من قبل النظام الوطني ليست السبب ولا القضية لان من غزا العراق لاتهمه الاخطاء ولا يعترض على طبيعة النظام السياسي ، والدليل انه يدعم انظمة بالغة الرجعية وتمارس اسوأ انواع الديكتاتورية وتتميز بالفساد ، بل يريد السيطرة على العراق من اجل نهبه والاستفادة من موقعه الجيوبولوتيكي الخطير . ويترتب على ذلك ان النظام الوطني حتى لو كان نظام ملائكة ولا يخطأ او يقصر فان الغزو كان مقررا وكان ويجب ان يحصل مادامت هناك مطامع استعمارية . اذن القول بان البعث مسئول عن الاحتلال اتهام يقع مباشرة في خانة الشيطنة المدروسة وتسقيط واضح للبعث بانكار دوره الايجابي والتعتيم على فضائلة الكثيرة واستغلال اخطاء طبيعية وقع بها كأي تنظيم بشري غير معصوم ، لتوجيه اتهامات غير صحيحة ، فلعل وعسى تختلط الامور على البعض ويصدق تلك الكذبة التي عرف الشعب العراقي بغالبيته الساحقة الهدف الحقيقي المدمر لها بعد الاحتلال .

 

ومن المفارقات التي لابد من تسليط الضوء عليها الان لانقاذ الوطني الذي يقول بان البعث مسئول عن وقوع الاحتلال ، حقيقة ان هذه الفكرة تقع في قلب الدعاية السوداء لكل من امريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني وايران ، ومن يتبع هذه الاطراف ، حيث سمعناها الاف المرات تطرح لتبرير دعم الغزو بالقول ( ان صدام حسين هو الذي جلب الغزو باخطائه وتقصيره وسياساته الداخلية والخارجية ) ، ولذلك فاننا فوجئنا حينما كتب وطني نحترمه بتأثير ودفع نعرف من قام به ، بان البعث مسئول اخلاقيا ووطنيا عن الاحتلال وعن التحرير !

 

هل تقع هذه الاطروحة ضمن شروط شيطنة البعث ؟ نعم بكل تأكيد وبلا اي غموض لان توجيه الاتهامات الخطيرة للبعث ، خصوصا تلك المتعلقة بمن كان السبب في احتلال العراق ، يشكل محاولة من شخص وطني لاسقاط البعث بتجريده من فضيلة بذل كل ما يملك من جهد وتضحيات من اجل حماية العراق من الاحتلال ، لكنه وقع نتيجة عامل حاسم واساسي وهو التفوق المطلق للعدو المشترك في كافة المجالات باستثناء المعنويات . فهل واجب الوطني الحقيقي الان تشويه صورة البعث مع ان الاحتلال يقوم باشنع عملية تصفيات دموية له بالاضافة لنشر الاكاذيب حوله لتبرير اجتثاثه ؟ وهل ثمة وسيلة لتفسيرها بمنطق مقبول غير انها محاولة لعزل البعث عن جماهير الشعب ؟ والا يقود ذلك ، وبغض النظر عن النوايا ، الى التلاقي مع الاحتلال في موضوع اجتثاث البعث ؟

مما لاشك فيه وفي ضوء تجربة الاحتلال التي مضت عليها سبعة اعوام كاملة ودخلنا العام الثامن ان هناك وطنيين كثر يتمنون ازاحة البعث من طريق مطامحهم ومطامعهم السياسية ، الشخصية والفئوية ، بل يوجد من بينهم من يفضل بقاء الاحتلال على عودة البعث للسلطة ! والسبب واضح جدا فالبعث هو القوة الرئيسية في العراق ، سياسيا وعسكريا بشكل خاص ، والتي لايمكن لاي خيار ان يمر بدون موقف من البعث داعم او رافض له ، فازالة البعث ، بالشيطنة القائمة على انكار فضيلة مقاومته كدولة وفضيلة مقاومته للاحتلال كحركة تحرر وطني بعد الاحتلال ، ليس سوى تعبير أنموذجي عن نزعة أنانية فردية وفئوية متطرفة للسلطة والتسلط  حتى لو ادت الى الحاق افدح الاضرار بالعراق ، مادامت محاولة اقصاء البعث ، وان كانت حلم ظهيرة يوم تموزي ، لن تفضي الا الى المزيد من الكوارث لشعبنا وقطرنا ولن تسمح بتحقيق اي استقرار حتى لو ابيد الاف البعثيين ومئات الالاف من ابناء العراق على يد من يفكر باستلام السلطة باي ثمن ، والاسوأ والاخطر حتى لو كان الوصول للسلطة بدعم من دول جوار كتركيا او انظمة عربية يعلم الجميع انها لا تتحرك الا باوامر امريكية قدر تعلق الامر بموضوع العراق وهو موضوع ستراتيجي وخطير بالنسبة لامريكا !

 

2 – وعي قاصر : ويظهر اللغم ايضا في مجال الوعي السياسي ، فمن يقول ان المقاومة انطلقت عفوية ، واذا تعاملنا مع وطني قال ذلك ، لا يؤكد الا حقيقة انه ساذج سياسيا ويفتقر للحد الادنى من الوعي السياسي المطلوب لممارسة العمل السياسي والخبرة ، ناهيك عن تزعم تيار او حركة . فالمقاومة في حالة العراق ، لها جذور بعيدة في تاريخ العراق الحديث ، فمنذ قيام ثورة 17 – 30 من تموز عما 1968 بدأت خطوات الاعداد للمقاومة ، حينما لاحت في الافق ملامح حملات معادية اخذت صورة واضحة جدا بعد تاميم النفط العراق عام 1972 . ولمن يجهل او يتجاهل هذه الحقيقة لابد من التذكير بها : فالنفط العراقي كان ومازل من بين اهم عاملين – الاخر هو موقف البعث من القضية الفلسطينية - في استعمار بريطانيا للعراق ومحاولة امريكا ورائها بعد طردها منه ، ولذلك فان معركة العراق مع الغرب الاستعماري لم تبدأ بدخول العراق للكويت ، كما يظن البعض من ناقصي الوعي ، بل بدأت بتاميم النفط الذي عد الضربة العراقية الاكثر خطورة للمصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة كلها وليس في العراق فقط . وهنا يجب التذكير بأمر كبير الدلالة وهو ان المخابرات الامريكية قد اسقطت مصدق رئيس الوزراء الايراني في بداية الخمسينيات من القرن الماضي لانه امم نفط ايران ، والسبب هو ان الغرب ( بريطانيا ثم امريكا ومن معها )  عد ومازال يعد النفط جزء اساسيا من مكونات الامن القومي لبلدانه ، وهو ما ثبتته الستراتيجية الامريكية رسميا ، بعد حرب اكتوبر عام 1973 وما قدمته من دروس في مجال الحرب والنفط ، كأحد الاعمدة الثابتة فيها ، في مبدأ معروف هو  مبدا كارتر   Carter Doctrineوالذي يقول بان النفط في الخليج العربي جزء أساسي من مكونات الامن القومي الامريكي ولذلك فان ايقاف وصوله الينا والى حلفاءنا يهدد امننا القومي وامن حلفاءنا وسيواجة بكافة الوسائل ومنها الحرب ، سواء جاء التهديد من قوة عظمى او قوة اقليمية .

 

بتأميم النفط في عام 1972 بدأت معركة كسر العظم بين العراق بقيادة البعث وبين القوى الاستعمارية الغربية ، وكان انشاء قوات التدخل السريع الامريكية ( R.D.F ) بعد حرب اكتوبر وقيامها بالتدرب على حرب الصحراء ردا مباشرا على ما تفرضه قيمة النفط الذي تعرض ( لتهديد خطير جدا ) هو الاخطر منذ مصدق ، كما جاء نقل مركز اهتمام امريكا الستراتيجي من اوربا الى الخليج العربي في تلك الفترة ردا مباشرا على قيام العراق بمس ( قدس اقداس ) القوى الاستعمارية وهو النفط ، تماما كما يشكل الان موضوع كركوك ( قدس اقداس ) صهاينة شمال العراق .

 

واذا اضفنا موقف البعث الرافض للتفريط بفلسطين تحت شعار الحل السلمي والذي اكد للصهيونية العالمية ، بكل ما لديها من نفوذ خطير في الغرب وغيره ، ان نظام البعث هو الخطر الاكبر والمباشر على خطط الصهيونية وكيانها كما اكدت كل الستراتيجيات الصهيونية منذ نهاية السبعينيات ، واخيرا وليس اخرا اذا تذكرنا بان الغرب الاستعماري ومنذ بداية القرن العشرين قد وضع خطوطا حمر على العرب عدم تجاوزها ( تقرير لجنة بنرمان ) وفي مقدمتها  امتلاك التكنولوجيا الحديثة فقام عراق البعث بتحدي ذلك مباشرة ، بتوفير الفرص المجانية ل 300 الف عراقي للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه ، على اعتبار ان ( جيش العلماء والمهندسين ) ، اخطر بكثير من اي جيش عسكري قوي قد يمتلكه العرب ، لان وجود العلم الحديث وحيازته من قبل العرب وتكوين علماء قادرين على توفير عوامل التقدم والقوة ذاتيا هو المقدمة الطبيعية والشرط الحتمي لتحقيق نهضة عربية حديثة وشاملة ، أذا اخذنا كل ذلك بنظر الاعتبار ادركنا ان الغرب والصهيونية ومعهما ايران الشاه وايران الملالي بعده ، قد قرروا اسقاط نظام البعث بكافة لطرق بما في ذلك العمل العسكري .

 

3 – عسكرة العراق : هذه الحقيقة كانت وراء ما سمي ب ( عسكرة العراق ) ، لانها كانت ضرورة لابد منها لمواجهة معسكر كبير وخطر ومقتدر على كافة المستويات اقوى بكثير من العراق ، والعسكرة ترجمت كالاتي : تدريب ملايين العراقيين على قتال المدن وحرب الشوارع ، في اطار واجبين ، واجب دعم القوات المسلحة في الداخل لمواجهة قوى معادية مرتبطة بعدو خارجي وتخدمه ، وواجب خوض حرب عصابات اذا دخلت قوات اجنبية الاراضي العراقية بقصد غزوها . لقد تم تشكيل الجيش الشعبي في السبعينيات ليقوم بهذين الواجبين ، وضم الاف العراقيين ، وجاءت محاولة خميني غزو العراق لتأكيد وجود مخططات شاملة ومتعددة لغزو العراق واسقاط نظامه ، ولتعطي للجيش الشعبي فرصة تاريخية لممارسة دور الداعم للقوات المسلحة من جهة ، والمستعد لمقاتلة من يغزو العراق من جهة ثانية . اما في التسعينيات فان الحشد الدولي المعادي للعراق والذي حصل بعد تفجير ازمة الكويت من قبل امريكا وادواتها العربية ووقوع العدوان الثلاثيني في عام 1991 وفرض حصار شامل مدمر ، كان الاكبر منذ الحرب العالمية الثانية ، بل انه كان اكبر من حيث عدد الدول المشاركة فيه من معسكر الحلفاء او من معسكر المحور ، ناهيك عن تفوقه في منظومات الاسلحة التي استخدمها ضد العراق في حرب عام 1991 التي دامت 43 يوما ، لذلك كان لابد من اعداد الشعب ليتولى بنفسه واجب الدفاع المنظم والذاتي عن العراق – عندما تتحطم ألة الدولة نتيجة تفوق العدو - ولم يكن هناك اي خيار مناسب سوى عسكرة العراق شعبا ودولة .

 

لقد اكد العدوان الثلاثيني الذي شاركت فيه 43 دولة وقاتلت العراق جيوش 28 دولة منها ، الحاجة لتعميق فكرة حرب العصابات وضرورة اعداد الشعب العراقي كله لخوضها مادام الغرب والصهيونية وايران قد عقدوا العزم على غزو العراق واسقاط نظامها الوطني وتغيير هويته العربية وتقسيمه . من هنا جاء الانجاز التاريخي باعداد حوالي عشرة ملايين عراقي لخوض حرب المدن او حرب العصابات .

 

هذه الكتل البشرية الضخمة من المدنيين المدربين على حرب العصابات ، وهو عدد من الكتل البشرية لم تشهده اي تجربة تحرر اخرى في العالم الحديث على الاقل ، لعبت دورا ممتازا منذ العدوان الثلاثيني في عام 1991 في حماية العراق حيث سمحت للقوات المسلحة بالانتشار في مناطق حدودية او ستراتيجية خارج المدن بينما امسكت القوات المدنية المسلحة مدن العراق وضمنت الامن والاستقرار فيها خصوصا وان العدو المشترك – امريكا والكيان الصهيوني وقبلهما ايران - كان لديه عملاء داخل العراق قاموا بعمليات تخريبية لصالح العدو الخارجي .

 

اذن هل عسكرة العراق شعبا ودولة امر عادي ويمكن اهماله ؟ ام انه احد اهم مظاهر الاعداد للمقاومة المسلحة على اعتبار انها مقاومة الشعب المسلح والمدرب على الحرب ؟ وهل يمكن انكار ان انطلاق المقاومة السريع والمذهل لتكون ستراتيجية الحرب البديلة حال دخول بغداد واحتلالها ، ماكان ممكنا لولا هذا الاعداد الممتاز للشعب وخطة العسكرة ؟ هل يدرك من اتهم البعث بعدم الاعداد للمقاومة بالقول انها كانت عفوية ، ان اي مقاومة بلا اعداد لا تصبح مقاومة بل مناوشات عابرة ؟ واخيرا وليس اخرا هل يوجد من يتجرأ على انكار ان القوات المسلحة العراقية ومن درب من ابناء الشعب ، بقرار من قيادة البعث ، هم من قاوموا ويقاومون الاحتلال في كافة الفصائل دون اي استثناء ، حتى الان ؟ ان اهمال هذه الحقيقة يشير الى ان من انكر الاعداد للمقاومة هو واحد من اثنين اما انه جاهل وقليل الوعي ، وفي هذه الحالة لا يحق لهكذا اشخاص ممارسة العمل السياسي ، او انه يعرف لكنه يحرّف وينكر اشباعا لرغبة انانية خطيرة ، وفي هذه الحالة نقول بان العراق قد شبع من الانانيين الساعين للسلطة باي ثمن ولا مكان بعد الان لهم في صفوف الوطنيين اذا واصلوا هذا النهج المدمر .

 

4 – حدود القدرة النظامية : هناك من يحاول استغلال وقائع معينة ومنها غزو العراق ، للتشكيك بالبعث نظاما وحزبا وفكرا ، مثل القول بان الغزو قد نتج عن تقصير كبير جدا او حتى عن خيانة كبرى ، فهل هذا صحيح وما معنى الغزو والنصر والهزيمة في الحروب ؟

 

حينما وصلت قوات الاحتلال الى بغداد كانت مراكز المقاومة العسكرية والمدنية قد تعرضت لعمليات تصفية منظمة بالصواريح الذكية وقصف الطائرات وبدون حصول مواجهة مباشرة بين بشر في احيان عديدة ، حيث كانت الدبابات العراقية تضرب وتدمر دون رؤية من ضربها ، ويكفي هنا ان نذكّر بحقيقة ان بغداد كانت تتعرض يوميا ومنذ بدء الغزو لالف صاروخ كروز فقط ماعدا الصواريخ الاخرى ، وكانت هذه الصواريخ تدمر مراكز القيادة والتوجيه والاتصالات والدروع والمدفعية ومقرات الحزب في بغداد وحولها ، لذلك فانها حينما وصلت الى مقتربات بغداد واجهت مقاومة شرسة بما تبقى من دروع ومدفعية ومقاتلين ، شاهد العالم بعض صورها بصورة دبابات تحترق وجثث شهداء ملقية على الارض بعد قتال ملحمي دار بين قوات متفوقة بشكل مطلق وقوات لا تملك الحد الادنى من الامكانات العسكرية والتكنولوجية مقارنة بالعدو .

 

ما معنى هذه الحقيقة ؟ انها تعني ان الوصول الى بغداد قد اقترن بنبش كل شبر من الارض والمؤسسات والمراكز العسكرية والمدنية القيادية بعد ثلاثة اسابيع من القتال الملحمي المشرف للقوات المسلحة . الامر الذي خلق حالة فوضى واضطراب وانقطاع الاتصالات بين ما تبقى من القوات والقيادة ، ولذلك شهدت بغداد معارك شرف وبسالة في انحاء منها جرى التعتيم عليها عمدا لتركيز وفرض صورة عدم وجود مقاومة لا عسكرية ولا شعبية ، وان الموجود كان فقط اسقاط التمثال في جو  هادئ وبلا قتال ! وهذا الواقع يفرض سؤالا محددا : هل هذه النتيجة غريبة على الحروب خصوصا بين قوتين بينهما هوة هائلة في مجال التسلح والقوة والتقدم ؟ كلا طبعا فهذه النتيجة برزت بين قوى متكافئة في كل شيء ، مثلا غزو المانيا النازية للاتحاد السوفيتي وفرنسا ودول اخرى في الحرب العالمية الثانية نتيجة التفوق العسكري الالماني رغم ان تلك الدول كبيرة جدا وقوية جدا ، لان الحرب تعتمد نتائجها على عوامل عديدة ومعقدة جدا تتناقض احيانا حتى مع المنطق السليم . وهنا يجب التذكير بان الحرب هي كيمياء وليست رياضيات ، فالكيمياء تعتمد نتائج تفاعلاتها على البيئة المحيطة فالحرارة والبرودة وغيرها من العوامل تؤثر في نتيجة الاختبار اما الرياضيات فان نتائجها ثابتة بغض النظر عن البيئة فواحد زائد واحد يساوي اثنين وهذه النتيجة نحصل عليها في جو قارص البرد كروسيا وفي جو حار جدا كالهند .

 

( ضعف ) المقاومة مقارنة بما كان متوقعا في يوم احتلال بغداد ،  هل هو دليل عدم وجود مقاومة ام انه نتاج نمط من الحروب الجديدة التي تجرد الطرف الاقل قوة ، في مجال الحرب الكلاسيكية ، من قدراته العسكرية التقليدية بسرعة وفاعلية من خلال الاستخدام الامثل لعوامل التفوق ؟ وهل وجود حالة او لحظة تراجع نتيجة صدمة اختلال موازين القوى مؤشر لانعدام التخطيط للمقاومة ام انه نتاج فقدان التوازن المؤقت ؟ وهل لحظة الانتقال من ستراتيجية الحرب النظامية الى ستراتيجية اخرى مختلفة هي ستراتيجية حرب العصابات ، وهو ما حصل في يومي 9 و10 / 4  بعد شل القوات المسلحة النظامية ، يخلو من الاضطراب والتراجع والتخفي والانسحاب المنظم من اجل الانتقال الى الاسلوب القتالي الجديد ؟ وماذا تقول تجارب التاريخ الحديث للحروب ؟ هل التراجع او لحظات الصدمة تختصر كل الحدث التاريخي وتحجب الاوجه الاخرى له ؟

 

ان احتلال بغداد كان ذروة ما سمي ب ( الصدمة والترويع ) وهي نمط من الهجمات  يقوم على تحقيق صدمة تشل العدو ولو مؤقتا من اجل استثمار ذلك لتحقيق تقدم فوري وصاعق دون استبعاد امكانية ان يستطيع العدو الذي تعرض للصدمة استعادة رباطة جأشه واستئناف القتال بطريقة اخرى تستوعب وتحتوي أثار الصدمة والترويع وتجبر الاحتلال على خوض نمط اخر من الحرب لا يستطيع الاحتلال خوضه الى النهاية ، وهذا ماحصل بالضبط حين انطلقت المقاومة المسلحة ليس بصفتها حالة مرافقة ومكملة للحرب الكلاسيكية ، كما كان الحال في الفترة الاولى من الحرب بين 20 / 3 و 9 / 4 ، بل بصفتها الستراتيجية الرئيسية المعتمد عليها .

 

مرة اخرى واخيرة اسمحوا ان اسئل : هل توجد مفاجئات في الحروب تقلب اتجاهاتها المتوقعة ؟ نعم في الحرب العالمية الثانية لم تحسم امريكا الحرب مع اليابان الا باستخدام السلاح الذري الذي اجبر الاخيرة على الاستسلام رغم انها كانت تريد مواصلة الحرب بلا توقف ومهما كان الثمن ، وفي حرب اكتوبر فوجأ الكيان الصهيوني بالعبور العظيم والاستخدام الرائع لمضادات الطائرات والدروع فهزم الجيش الصهيوني في البداية ، وفي الحرب العالمية الثانية قام هتلر بغزو اغلب الاتحاد السوفيتي ...الخ ، وفي كل الحالات فان من هزم لم يستسلم بل غير طريقة واسلوب القتال فحقق النصر او التقدم ، فالجيش الصهيوني فتح ثغرة الدفرسوار والغى عظمة نصر العبور ، والاتحاد السوفيتي استعاد زمام المبادرة حينما عسكر الاتحاد السوفيتي شعبا ودولة فاصبح القوة الاساسية التي دحرت النازية .

 

ومن مفارقات الزمن اننا الان نقرأ عسكريين تفتقت عبقريتهم فجأة ، بعد ان كانوا صما بكما قبل الغزو لا يتقنون حتى الكتابة باللغة العربية ، واخذوا يتحدثون عن معارك العراق من منطلق الادانة او النقد غير المهني العسكري مع انهم كانوا في الجيش العراقي وكان بامكانهم المشاركة في تعزيز قوة الجيش ، وهو نقد يكشف خطأه حتى مدني له تجربة سياسية او تاريخية ، بل المحزن هو ان كتاباتهم تدل على تقصير فاضح في مستواهم العسكري لان مدني مارس للعمل السياسي يعرف اكثر مما يعرفون عن القضايا العسكرية ، ونحن هنا لا نرفض النقد والتقويم لان هناك اخطاء قد وقعت بالتاكيد على المستوى العسكري ،  ولكنها لم تكن هي السبب في نتيجة الحرب على الاطلاق ، فلو استمر القتال بصورة افضل وبلا اخطاء لوصلت الحرب لنفس النتيجة حتما كما توقعت القيادة العراقية قبل الحرب بسبب التفوق المطلق للعدو لا غير . ان من يتحدث عن احتلال بغداد بصفتها نتاج تقصير وليس بسبب التفوق عليه ان يتعلم معنى الحرب وان يقرأ تاريخ الحروب والعوامل التي تحرك اتجاهها . ولنتخيل ان من ينتقد الان اداء البعث ، مدنيا كان او عسكريا ، اثناء الحرب كان هو في السلطة هل كان سيحقق نتائج افضل ؟ بالتاكيد كلا ونحن نعرف ما نقول .

 

لقد قرر البعث الانتقال من ستراتيجية الحرب النظامية بعد ان دمرت او شلت اغلب القوات المسلحة وفقدت القدرة على الصمود ، الى ستراتيجية الحرب الشعبية ( حرب العصابات ، حرب المدن ...الخ ) ، وهكذا انقلبت موازين القوى جذريا فاصبحت قوات الاحتلال تتعرض لتحديات خطيرة اجبرتها على الانتقال من الهجوم الشامل والقوي الساحق والذي بدء يوم 20 / 3 / 2003 وانتهى يوم 10 / 4 /2003 الى الدفاع اليائس نتيجة انطلاق المقاومة الشعبية المسلحة بصفتها الستراتيجية الرئيسية المعتمدة لمواجهة الغزاة ، وراينا النتيجة الباهرة والتاريخية وهي تمريغ انف امريكا في وحل كالهزيمة وهو ما لم يحصل لها حتى في فيتنام . والفضل كل الفضل لسياسة عسكرة الدولة والشعب ، والتي وفرت لمن اراد القتال كل الفرص الحتمية لخوض القتال واهمها الخبرة القتالية السابقة والتدريب على القتال والتزود بالسلاح والمال ، والتي لولاها لما حصلت المقاومة الا بعد سنوات قد تكون طويلة . ولو افترضنا ان هناك تقصيرا – وهو افتراض غير صحيح بالتاكيد - فان فضيلة عسكرة الدولة والمجتمع كانت كافية لوحدها لجعل البعث والنظام الوطني قائمين بالواجب التاريخي لان ذلك وفر اعظم الفرض لنشوء اعظم واسرع واخطر مقاومة شعبية في التاريخ .

 

أذن ليست الهزيمة العسكرية في معركة من معارك الحرب الكبرى هي المعيار للتقويم الاخير بل النتائج النهائية للحرب ، ان من يجهل هذه الحقيقة او يتجاهلها واحد من اثنين اما جاهل هابط الوعي السياسي والستراتيجي ، او حاقد اعمت بصره وبصيرته حقائق الصراع وتعقيداته ومأزقه ومفاجأته . هل يصلح مثل هؤلاء لاصدار احكام عامة حول احداث تاريخية ؟

 

 

كتبت بين ٦ و١٤ نيسان عام ٢٠١٠

 

salahalmukhtar@gmail.com

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة  / ٠٩ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٣ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور