كتاب * احْتِلالُ العِرَاقِ
العوامل التي ساعدت على نجاحه والأسباب التي أفشلت أهدافه

﴿ الجزء الخامس ﴾

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعـربي

التهاون في فضح المجرمين

 

إن التعمية على الأخطاء والجرائم مهما كان الهدف منها تشكل خللاً كبيرا في الحياة، فالإصلاح لا يتم في كثير من الأحوال إلا بالعقاب، والله تعالى أوجد العقاب كما أوجد الثواب، منهجين مترابطين متوازيين، كل حين، وفي كل حال، فهو سبحانه لم يجعل من الثواب حافزاً للعمل الصالح فحسب، بل جعل من العقاب وسيلة للإصلاح الذي يذهب بصاحبه نحو العمل الصالح أيضاً. فقد أمرنا الله تعالى أن يكون القصاص من جنس العمل الذي استوجب عليه العقاب، فقد ورد في كتاب الله العزيز: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة المائدة، الآية:45).

 

فلم لم يأمرنا بأن تكون اليد التي فقأت العين هي هدف القصاص بدلاً من العين التي لم ترتكب الجرم، والتي قد لا تكون من المحرضين عليه؟

 

ولم نهانا الله تعالى عن المثلة بالقاتل واعتبره عدواناً، مع إن القاتل أجرم بغير ذنب من المقتول، والمقتص لا يجرم بأخذ حقه؟

 

إن إفقاد الجاني لعينه مقابل عينٍ أذهبها بجرمه سيجعله يشعر كلياً بحجم الجرم الذي ارتكبه، والأذى الذي تسبب به لغيره والنعمة التي أفقده إياها، من خلال المعاناة التي سيعانيها كالتي سببها لغيره. لكن قطع اليد التي كانت وسيلة القاتل في اقترافه الذنب لا يؤدي الغرض والهدف المطلوب من القصاص كعملية إصلاح بالإضافة إلى كونه إحقاق للحقوق وتأدية لها، فالمقتص منه لا يشعر حينها بحقيقة المعاناة التي يعانيها من فقأ عينه بيده، بل قد تخفف عليه الآلام حين يبرر لنفسه أن يده فعلت فعلاً وجوزيت به، فلا يحدث بذلك الأثر الذي يحقق رادعاً للعدوان وداعياً للإصلاح.

 

أما التمثيل في جثة المقتول حتى بالقصاص، ففيه جرأة على الإجرام، والاقتصاص هدفه أخذ الحق مع عبرة الإصلاح، فالذي يقتص من غيره حقاً أباحه الله تعالى له، سيبذر في نفسه حقداً وانتقاماً قد يكون دافعاً فيما بعد للإجرام حين يمثل بجثة القتيل، فهو عدوان على ما ليس بحق له، والاقتصاص هدفه إصلاح الآخرين كي لا يؤتوا مثل ما آتى به القاتل.

 

في عام 1990 شمرت كل القوى الامبريالية والصهيونية والشعوبية وأعراب الردّة عن سواعد الجد للإيقاع بالعراق، بعد أن خيبت الخمينية آمالهم بتحقيق نصر على العراق بعد منازلة طاحنة دامت ثمان سنين، وتحقق لها ما أرادت بفضل حكام الخليج، وبالأخص حكام الكويت، فكان العدوان الثلاثيني في 17كانون الثاني 1991م الذي توقفت صفحته الأولى بنهاية شهر شباط، وعاودت إيران دورها متداخلة مع انسحاب الجيش العراقي من الكويت، فالتأم صلفها مع الغدر الأمريكي قتلاً وتنكيلاً بكل من وقع في أيدي عصاباتهم، مع حملات قذرة اجتذبت خلالها السفلة والرعاع عن طريق إغرائهم بممتلكات المواطنين والممتلكات العامة معاً، بالنهب والتدمير، فسقطت بنتيجة ذلك الغدر الفارسي مدن الجنوب والفرات الأوسط بيد الفرس ومخابراتهم، في توقيت متزامن مع العصابات الكردية التي أجرمت بحق الشعب الكردي، متسللة أيضاً من حدودهم وحدود العمالة السورية باتجاه المحافظات الشمالية لتعبث فيها وترتكب من الجرائم ما لم تكن تختلف عن جرائم الفرس وأتباعهم العملاء في خستها ووحشيتها ومجافاتها لكل عرف ودين، الأمر الذي لم يكن العراق ليحسب له حساباً، خاصة وأنه يواجه عدواناً همجياً تساهم فيه كل الرؤوس العفنة التي يصفها الخمينيون بالشيطان الأكبر، وما كان العراق يجزم رغم شكوكه أنه هو ولي أمرهم الأعلى. وعلى أثر ذلك تناخى أبناء العراق رغم المحنة وشدة العدوان وآثاره المدمرة، لتطهير مدن العراق وأرضه التي تجاسر الفرس في غفلة من العراقيين على تدنيسها وارتكاب جرائمهم عليها، وخلال أعمال التطهير تمكنت القوات المسلحة من إلقاء القبض على أغلب المتورطين في تلك الجرائم، مع أعداد ليست قليلة من المخابرات الفارسية، التي كانت تقود وتوجه تلك الأعمال الإجرامية.

 

وقد تم الاقتصاص من بعضهم، فيما أطلق سراح أكثرهم بعد ذلك، في محاولة من قيادة العراق لرأب الصدع، وخلق حالة من التسامح والتسامي على الجراح، ومن هنا بدأ الخطأ الكبير، فالجرائم التي ارتُكبت في محافظات الجنوب والفرات الأوسط استهدفت أبناء الجنوب أنفسهم، وهم كما هو معروف غالبيتهم من الشيعة، والجهة التي ارتكبت الجرائم تدعي أنها تمثل الشيعة وترعاهم وتدافع عن حقوقهم، وكذلك الجرائم التي ارتكبتها العصابات الكردية، فقد كانت أغلبها موجهة ضد الشعب الكردي، مع أعداد من الموظفين العرب المتواجدين هناك، وكان على القيادة أن تستثمر تلك الجرائم لفضح حقيقة الفرس والعصابات الكردية العملية، وطبيعة مراميها وأهدافها، وكان ذلك ممكناً جداً، فالجرائم ارتكبت في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد، ولم يكن أحد منهم مجهولاً أو خافياً على ذوي الضحايا، كما إن الجرائم كانت من البشاعة والوضاعة والوحشية، ما كان يمكن لها أن تشكل صدمة رهيبة في كل أرجاء الكرة الأرضية، وكانت ستقلب التضليل الإعلامي الموجه ضد العراق على أصحابه، وكانت ستجعل من تلك الجرائم مناسبة لا تقل وحشية عن هيروشيما وناكزاكي، وجثث الضحايا كانت موجودة ومصورة وموثقة.

 

فكان الإجراء المطلوب فعله أن يصار إلى محاكم علنية، تنقل وقائعها إلى الشعب والأمة والرأي العام العالمي، لكي تفتضح الأدوار الإيرانية التي استهدفت الأبرياء من أبناء العراق، نساء وأطفال وشيوخ، كما استهدفت أرزاقهم وممتلكاتهم العامة والخاصة، والأساليب الهمجية التي عامل بها من كان الغرب الامبريالي والصهيونية العالمية تطبل وتوهم الشعوب على أنهم ثوار انتفضوا ضد السلطة ومنهجها، كما كانت تلك المحاكمات ستفضح الأدوار التآمرية التي وقفتها الأنظمة الضالعة أجهزتها المخابراتية فيها، وبخاصة نظام الملالي الفارسي الشعوبي.

 

لكن إرادة قيادة العراق في عدم التطرق لكل ما يسيء للشخصية العراقية، كانت هي الحائل دون حدوث ذلك، وهي رغم النوايا النبيلة التي ينطوي عليها هذا التوجه، وهي ليست صائبة في كل الأحوال، فالسوء حالة طبيعية تكتنف الحياة الإنسانية في كل ظرف وحال، تتقلص مساحتها وتتوسع تبعاً لمعطيات الواقع، ومدى وعي الجماهير وانسجامها مع أهدافها في الحياة، ووجود نسبة من السيئين في أوساط الشعوب لا يشكل استهانة بها، كما لا يقلل من شأنها، بل إن السوء هو السبب الأساس الذي يسعى أصحاب الهمم العالية لتجاوزه ونفيه عن واقع المجتمعات. كما إن الاعتزاز بالسلف والاقتداء بهم لا يمنع الإشارة إلى ما هو سلبي في تاريخهم، فكما أن للإنجاز التاريخي استذكار مفيد يحفز الشعوب نحو العمل الجدي المثابر، فإن استذكار النكسات والهنات التي ترافق تلك الإنجازات يشكل درساً بليغاً إن لم يستثمر فإن تكرار الوقوع فيها مرة أخرى أمر محتمل.

 

لذلك فقد ذهبت القيادة إلى تضميد الجراح النازفة وتغاضت عن فضح الجناة والمجرمين والمتورطين في أخسّ الحلقات التآمرية، حينما وضعوا من أنفسهم أدوات تمارس تخريب ما لم تنله آلة الحرب والعدوان الغاشمة، بفعل حبها للشعب وحرصاً على تاريخه المجيد أن يشوه، وثقتها بأن هذه الشراذم لا تشكل في ميزان الشعب العراقي ثقلاً يحسب له حساب، وقد اقتصت من بعضهم وعفت عن البعض الأخر بهدف الإصلاح وإعطاء المزيد من الفرص للتراجع عن مسالك الغي والانحراف، معللة لهم أفعالهم أنهم قد فقدوا توازنهم بفعل شدَّة العدوان الامبريالي وقسوته على الشعب.

 

ولو حصل الذي كان يجب أن يكون لما تمكنت القوى المعادية من استغلال هؤلاء الأراذل وعوائلهم بالمغريات والتهديد لكي تجعل منهم أبواقاً للتزييف والتضليل وخداع الشعوب بضحايا ما يسمى بالانتفاضة الشعبانية، فحولوا التآمر والإجرام بأبشع صوره بطولات وتضحيات.

 

فوالله لو أن نسبة ضئيلة من تلك الجرائم البشعة التي ارتكبتها العصابات الإيرانية بحق الشيعة العراقيين والعصابات الكردية المتصهينة بحق الأكراد الوطنيين الشرفاء قد عُرِضت على الشعب العراقي والرأي العام العالمي، وكل وثائقها وأدلتها ومسارحها كانت موجودة، لأحدثت ضجة ما كانت لتتوقف حتى يومنا هذا، ولكانت خلقت هوة سحيقة بين الشعب العراقي وبين هذه الأدوات الإجرامية والجهات التي وقفت خلفها وأمدتها بكل سبل ووسائل الإجرام لا تردم فجوتها بكل تراب الأرض. ولانكشفت صورهم الكالحة فما وجدت لها من يؤويها بعد ذلك، أو يتورط في أية صلة بها.

 

فإنا لم نستفد من القصاص العادل الذي استحقوه لأننا لم نُظهر فضائحهم وبشاعاتهم التي استحقوا عليها ذلك القصاص، وإن كان في ذلك رحمة ورأفة بالشهداء الذين غُدِروا ومُثِّل بأجسادهم والحرائر الآتي انتهك شرفهن بأبشع الصور وأكثرها خسَّة ودناءة وحيوانية، لكن الرحمة بمن لم ينله ذلك الإجرام عام 1991م كانت أولى وأوجب، فقد عادوا إليهم مع الدبابات الأمريكية ليفعلوا بهم مثل ما فعلوا بمن سبقهم إلى الشهادة.

 

وقد فوتنا على المواطن أن يعي ويتحسب لحقيقة التناغم والانسجام بين السلوكين الفارسي والصهيوني، فقد عبر الفرس المجوس عن ارتباطهم الكامل بالمنهج اليهودي الصهيوني وتأثرهم به. ولعلنا نستذكر هنا بعض الأساليب التي انتهجتها الصهيونية مع الشعب العربي في فلسطين واتخذتها العناصر الفارسية المجوسية الخمينية دليلاً ومنهجاً في سلوكها مع شعب العراق. خلال الفترة التي كان الكيان الصهيوني يعد لنكبة جديدة بالعرب قبل الخامس من حزيران عام 1967م، مارس حملات تضليل إعلامية ودعائية ماكرة وشيطانية خبيثة، أجبرت الرأي العام الغربي على الوقوف معه رغم عدوانه على العرب وتحديه لقرارات الأمم المتحدة التي صدرت لصالحه. فكانت من وسائلهم أن أوفدوا إلى الدول الأوربية قبل العدوان بنحو شهرين أعداداً من الرجال والنساء الصهاينة يصحبون أطفالاً، وهناك راحوا يستهدفون العائلات ذات النفوذ في الأوساط الاجتماعية والسياسية والإعلامية الأوربية، ويطلبون منهم الاحتفاظ بالأطفال لديهم، بحجة أنهم يخشون عليهم من أن يذبحهم العرب الذين يعدون العدّة لشن الحرب عليهم، فالدول العربية الكبيرة والكثيرة تريد العدوان على كيانهم الصغير والوحيد، ويطلبون إليهم أن يحتفظوا بهؤلاء الأطفال في منازلهم ريثما ينتهي عدوان العرب المزعوم، وأنهم سيعودون ليأخذوهم إن نجو من الموت، وإلا فعليهم تسليمهم للجمعيات الخيرية لإعالتهم وتربيتهم(1).

 

وقد استعار الفرس هذا المنهج الصهيوني بكل خسة ودناءة من أجل تضليل الرأي العام العالمي، بأكاذيب مظلومية الشيعة في العراق من قبل النظام الوطني، مع إنهم لم يكونوا مظلومين في أحد أيامهم شأنهم شأن العراقيين الآخرين، ولم يقع عليهم غير الذي وقع على غيرهم، ولم يأخذوا أقل مما أخذ غيرهم. واستغلوه أيضاً في خدعة اضطهاد الأكراد، وهم أيضاً لم يضطهدوا إلا من قبل العصابات الكردية العاملة في خدمة المشاريع الصهيونية والفارسية. واستخدمه الحلف الشرير مدعوماً بأعراب الردّة في مسرحية حاضنات الأطفال الشهيرة، والتي أدت دور البطولة فيها ابنة الدبلوماسي الكويتي"نيرة".

 

وقبل هذا فإن الخميني كان من أشدّ المتأثرين بالصهيونية، فقد فعل تماماً كما أراد المفكر الصهيوني "زفي هيرش كاليشر"(1795-1874م) حين وضع نظريته القائلة بأن اليهود لا يمكن لهم انتظار (المسيح) زمناً آخر ليحقق لهم أهدافهم التوسعية العنصرية، بل عليهم العمل على تحقيق أهدافهم بكل الأساليب والوسائل لاغتصاب أرض الفلسطينيين وطردهم منها. فابتكر لأجل التخلص من قيود انتظار (المهدي) فكرة "ولاية الفقيه" النائب عن المنتظر، وبها اعتلى عرش الكسروية، وأزاح عنه شاهنشاه إيران محمد رضا بهلوي، وتوجه من فوره يؤجج الحقد والعداء على العرب والإسلام.

 

كما كان التوغل الخميني الصفوي في العراق بعد احتلاله من قبل الأمريكان، شبيهاً بالتوغل الصهيوني في فلسطين بعد احتلالها من قبل البريطانيين تماماً، فقد مارست المليشيات الفارسية ذات الأساليب الوحشية التي ارتكبتها المليشيات الصهيونية ضد عرب فلسطين، بقصد إرهابهم وإجبارهم على ترك الأرض لهم ليعيثوا فيها فساداً. ففي يوم 9نيسان 1948م قامت عصابات "ارغون" و "شتيرن" مدعومتان بعصابات "الهاغاناه" الصهيونية بارتكاب واحدة من أبشع مجازر التاريخ، ضد سكان قرية دير ياسين، حين قتلت 250 من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين العُزّل، وألقت بجثث 150 منهم في بئر القرية، فيما وزعت الجثث الأخرى على الطرقات وهياكل الدور المهدمة، ثم أقلّت النساء في عربات بعد أن تمت تعريتهن من ملابسهن تماماً وطافت بهنّ في شوارع القدس. واقتداءاً بهم فعل الفرس من خلال عصابات "فيلق 9بدر" و"المهدي" بإسناد من "فيلق القدس" الفارسي المجوسي، فارتكبوا في كل مدينة وضاحية وقرية وريف وبادية مجزرة تضاهي دير ياسين وتتفوق على إجرامها.

 

كما استفادوا من خبرة الإجرام الصهيوني في مجزرة كفر قاسم في 29تشرين أول 1956م حين قتلوا 51 فلسطينياً، من بينهم 12 امرأة و17 طفلاً، وكانت النتيجة أنهم كرموا الضباط والجنود الذين تفذوا تلك المجزرة بزيادة مرتباتهم. وقد فعلوا مثلهم تماماً مع الشعب العراقي، وبأدق التفاصيل، فلن يغيب عن الذاكرة العراقية التكريم الذي ناله ضباط وجنود الحكومة الصفوية الذين قاموا بقتل الأبرياء في حي العامل واغتصاب النساء.

 

كما لم تكن حملات الصفويين بإحراق المساجد وتدميرها إلا تمثيلاً صادقاً لما فعله الصهاينة حين أحرقوا المسجد الأقصى في 21آب 1969م.

 

وكما قيد الكيان الصهيوني الأنظمة العربية باتفاقيات (السلام) فأتاح له ذلك الاستفراد بالشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وأحكم عليها الطوق من قبل الأنظمة العربية نفسها، فهم يمارسون اليوم ذات الاسلوب بهدف تطويق الشعب العراقي ومقاومته الباسلة المجاهدة، من خلال العمليات الإجرامية التي يستهدفون بها الشعب العراقي ويلقون بتبعيتها على الأنظمة العربية المجاورة، بهدف منعهم عن ممارسة أي دور مساند لشعب العراق ومقاومته للاحتلال، وإرغامهم على القبول بالواقع الجديد والتعامل معه بإيجابية. فكما كانت سيناء هي الثمن الذي دفعه الصهاينة من أجل تكبيل الشعب المصري ومنعه عن أداء دوره تجاه قضايا الأمة، فإن المشاكل التي خلقها الفرس للأنظمة العربية من داخل كياناتهم جعلتهم يرضخون كلياً للإرادة الفارسية الشعوبية يتركون لها العراق تعبث به كيف تشاء.

 

______

(1) د.يوسف هيكل، فلسطين قبل وبعد، ص167، دار العلم للملايين، ط1، 1971 بيروت.

 

 

عدم وضوح أهداف التحول

 

إن عدم الوضوح أمام الجماهير في الأهداف الرئيسة والمرحلية معا بما يجعل سبلها شاخصة كليا أمام العيان يشكل تحديا خطيرا لها، وقد يضللها الدس والتآمر في ظرف ما، وقد حدث مثل هذا خلال الأيام التي رافقت احتلال بغداد يوم 9/4/2003م فقد كان في حسابات القيادة قبل الغزو بأشهر عديدة أن القوة المادية الغاشمة التي يتمتع بها الأعداء غير متكافئة كليا مع إمكانات العراق في المواجهة، كنتيجة منطقية للحصار الطويل، الذي لم يكن تأثيره جديا على الواقع الاقتصادي فحسب، بل كان شاملا لكل مناحي الحياة، بما فيها القدرة العسكرية على مواجهة الأخطار المحدقة به، وهو احد أهم دوافع فرض الحصار، وكان من بين أثاره الضغط النفسي الكبير على المواطن العراقي بسبب العوز والحاجة وفقدان الكثير من المكتسبات التي تحققت خلال مرحلة الإعداد لعملية النهوض، أو تخلفها وقصورها عن أداء دورها في تحقيق حياة كريمة له.

 

وكانت القيادة قد أعدت نفسها لاحتمالات هذا الواقع غير المتكافئ بتهيئة واسعة وكبيرة لمستلزمات مرحلة جديدة ومختلفة في إسلوب الدفاع وطبيعته إذا ما حصل العدوان، وكان الأمر يتلخص بالانتقال المنظم والفوري من حالة الدفاع بأشكاله ومستلزماته المعروفة إلى حالة الهجوم بمستلزمات ووسائل وسبل مختلفة كثيرا عن سابقتها في حالة تحقق فعل التفوق المرحلي للقدرة المادية المتاحة للأعداء، فكان الأمر واضحا أمام القيادات أن تنتقل كل القوى الفاعلة في عملية التصدي للغزو من إسلوب التنظيم والتحشد إلى إسلوب التفكك والذوبان وسط الجماهير للانطلاق بحرب العصابات التي تسقط هامش التفوق لدى الأعداء فتوقع بهم خسائر جسيمة وقادرة على دحرهم، لان أساليب الكر والفر التي تعتمد وتستند عليها حرب العصابات لا يمكن أن تتهيئا للقوة الغازية التي لا تملك عمقا سوقيا أو حاضنة بيئية في ساحات المعركة، وبالتالي سيكون العدو بكل قدراته المادية المتطورة هدفا مكشوفا مثقلا بمستلزمات التطور هذه، فيما يتحول المدافعون إلى أشباح يصعب رصدها واستهدافها وإيقاع فعل أسلحة التدمير عليها بسهولة كما يحدث للجيش المنظم في مواضعه، الأمر الذي سيهزم كل أدوات العدو ويعطل إلى حد كبير مفعولها وتفوقها، مما يسبب أزمة نفسية قاتلة للقوات المهاجمة يفقدها كل حوافز المواصلة ويوهن هممها، فيما يستند المهاجمون إلى حوافز الإيمان وجهاد الكفار ودفع عدوانهم، تعززها قيم الرجولة والبطولة والأثر الجدير بان تتلقفه وثائق التاريخ لتصوغ منه درسا وعبرة للأجيال.

 

لكن هذا لم يتحقق خلال عملية التحول والانتقال إلى الصفحة الجديدة بشكله الصحيح، التحول الذي كان يمكن له أن يسهم بشكل فاعل في دحر العدوان خلال مدة قد لا تتجاوز الشهر الواحد إن لم نقل بضعة أيام ولا سواها، التحول الذي كانت القيادة العراقية قد أنجزت كل تفاصيله منذ أمد بعيد، وكانت - وهي على حق - تجد فيه الاسلوب الأمثل لخوض المواجهة المفروضة من قبل الأعداء والخروج منها بنصرٍ كبير يضاف إلى انتصارات الأمة عبر تاريخها الطويل، فيضعها على مسار قدرتها الصحيح، ويبدد كل أوهام العجز التي أراد العاجزون أن يوقعوا الأمة في حبائله زمنا جديدا.

 

والسبب الأساسي والجوهري كان يكمن في عدم وضوح هذا الأمر أمام المقاتلين في إطار القوات المسلحة من غير القادة والآمرين، والأهم والأخطر أنه لم يكن واضحا كليا أمام الجماهير، التي لم تدرك أسبابه وأبعاده وضروراته ونتائجه المحفزة، فانقلبت عملية التحول إلى كارثة مروعة، وكأنها هزيمة منكرة لم يعتدها العراقي في ثقافته السلوكية منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، فتصوروها عملية تخلي عن أداء الدور والمهمة بكل ما يحمله هذا التصور من آثار مدمرة على المجتمع وقيمه وسلوكه، فانهارت المعنويات بشكل مذهل ومريع وسريع جدا، ولم تكن القدرة متاحة في ظل ذلك الظرف العصيب للنهوض بمهمات التوضيح الكامل لأبعاد التحول وأهدافه، لأن سبل التواصل كانت قد تقطعت بفعل العدوان وهمجيته، مع موجات الأكاذيب والحرب النفسية التي تحشدت أبواقها فغطت على كل الأصوات، والتي قادتها كل وسائل الإعلام المعادي والخاضع له، كجزء من حملة العداء وتبريراته، فصورة الجندي المقاتل الذي لم تعهده الجماهير إلا بمظهره المعروف والمميز حين تحول إلى صورته الجديدة، والتي لا يعرف هو أسبابها أصلاً، أفقدته قيمته ومكانته كلياً أمام الشعب الذي يجهل هو الآخر أسباب التحول وأهدافه، وهو معذور في ذلك لأنه يجهل الأسباب الحقيقية لهذا التحول والغاية منه، والتي لم يعهد مثيلاً لها في سفر الجيش العراقي من قبل، فلم يكن يختزن في وعيه شيئاً منها، لذلك انقلبت الصلة العميقة بين الجندي المقاتل ومحيطه الاجتماعي إلى نفرة واستهجان وتذمر واتهام، فيما كان ضباط الميدان والجنود غير قادرين على الدفاع عن وضعهم الجديد لأنهم لا يدركون أسبابه ودوافعه الحقيقية والضرورات التي تطلبته، الأمر الذي خلق حالة من الفوضى والإرباك والتشتت بين مكونات المجتمع العراقي كلها، فلا يمكن لشعب حي يملك رصيدا تاريخيا هائلا وهو يخوض غمار مرحلة حضارية جديدة كان يتلمس آثرها في واقعه وفي الواقع العربي برمته أن يُذعِن لمنطق الهزيمة بأي حالٍ من الأحوال، فالأسلحة والمعدات التي تطلب الظرف المستجد للمقاتل إيداعها لدى المواطنين لم تكن ذات قيمة وفاعلية وأهمية ليحافظ عليها، بعد أن تصورها جزءاً من أسباب الهزيمة المتصورة على خلاف الحقيقة، فأدى هذا إلى كارثة أخرى، حيث ذهب كثير منها ليقع في أيدي العصابات القادمة من إيران وغيرها وفي حوزة العصابات الكردية المتصهينة الجاثمة على صدور أكراد العراق، مما أفقد الشعب جانبا مهما من عدته في المرحلة الجديدة من المواجهة، وكان أيضا الحافز والدافع للذين سقطوا في حبائل الأعداء باستهدافهم لممتلكات الشعب ونهبها بالطريقة التي أرادتها قوى الظلام والضلال والعدوان أن تكون.

 

ولم تكن الجهود التي بذلتها الطلائع الثورية مجدية في توضيح صورة الواقع الجديد وإقناع الجماهير بحقائقه وأسبابه ودوافعه لأنها كانت تجابه بحاجز نفسي كبير تشكل سريعا كردَّة فعل معاكسة، فقد تصورتها مجرد تبريرات لواقع الهزيمة التي حلَّت، تسندها صورة الجندي وهو يتخلى عن تجهيزاته العسكرية دون هدف وغاية، والتي لم تبددها صورة جديدة كان يفترض بها أن تتشكل بتواصل تام وبزخم كبير ودون انقطاع، بالتحول الفوري إلى إسلوب ومنهج حرب العصابات، لتغطي على الصورة المشوهة وتمحو آثرها من وعي الجماهير، ليتزن سلوكه مجدداً ويفيق من هول الصدمة التي شلته كلياً.

 

لقد أفصحت القيادة عن هذا الخيار قبل العدوان بعام تقريباً، ووضعت برامجه وخططه، ووفرت الكثير من مستلزماته، شملت حتى العُدد اليدوية البدائية التي يمكن استثمارها في المعارك المتوقعة، وقد ظهر المجاهد الشهيد صدام حسين رحمه الله على شاشات التلفزة يتجول في معرض أقيم لهذه العدد وقام بتجربة بعضها، كما نهضت ببرامج تدريبية شملت قطاعات واسعة من الشعب بالإضافة إلى التنظيم الحزبي بكل مواقعه ودرجاته تركزت على مناهج القتالات الخاصة وحرب الشوارع وتطهير المدن وأساليب الكرّ والفرّ التي تتميز بها حرب العصابات، ووفرت معها الكثير من مستلزماتها وتم توزيعها على أبناء الشعب من خارج التنظيمات الحزبية، لكن الخلل والخطأ القاتل كان يكمن في عدم الوضوح بإيصال هذه الرسالة إلى الجماهير بشكل كامل وتهيئتها نفسياً وعملياً لموقف يمكن أن يُتَّخذ في ظرفٍ لاحق، بصورته الحقيقية والواقعية، ولو تم ذلك لما تحولت مشاهد تخلي الجنود عن بدلاتهم العسكرية إلى حكم قاطع بالهزيمة والتخلي عن أداء الدور والواجب، بل لاستوعبته حينها الجماهير فتلاحمت كلياً مع أفراد الجيش ومهدت لمهماتهم الجديدة كل أسباب النجاح والمواصلة، ولو كانت الصورة واضحة أمام الجنود وضباط الجيش من الرتب الدنيا لما اتخذوا من عملية التحول ذريعة لمغادرة الساحة والانشغال بالبحث عن وسائل وسبل للعودة إلى مناطق سكناهم فحسب، وحتى في هذا كان يفترض بقيادات الجيش أن تضع برامجها ليعيد تشكيل هياكله بمجاميع صغيرة تنتشر في مناطق سكنها وفقا لمتطلبات حرب العصابات، ووضع الخطط الكفيلة بتحقيق فاعليتها بالسرعة المطلوبة مع تحديد للقيادات البديلة المفترضة والمجموعة التي سيعمل معها ضمن المناطق ذاتها، وهذا أيضا لم يحصل، ولو كان هذا قد تحقق لكان من الصعب، بل المستحيل على عصابات الغدر والجريمة والجاسوسية التي كانت تنتظر دورها وفرصتها خلف الحدود، أو التي تسللت مع القوات الغازية، أن تمارس دورها وتأثيرها أو تفرض وجودها بعد ذلك بأشهر قليلة جداً على مساحات واسعة من أرض العراق، وتتحول إلى مراصد متقدمة للغزاة، تسهل عليهم أداء مهماتهم الإجرامية كثيرا، وتمنع أجزاء مهمة من المجتمع العراقي عن أداء واجباتها تجاه الوطن وتجاه نفسها وممتلكاتها ومصالحها، ومنع عليها قبل ذلك أن تنجح إلى حدٍّ ما في تمزيق أوصال المجتمع بدعاوى الطائفية والمذهبية والعرقية وتعدد الولاءات والمصالح، واستهداف الآلاف من خيرة أبناء العراق بالاغتيال والتنكيل والتغييب في معتقلات الإجرام الصفوي المجوسي، والتهجير داخل الوطن وخارجه، وتكميم أفواه الشعب بالبطش والإجرام والوحشية، ومشاركة الغزاة في نهب خيرات البلد، وتجويع أهله وإذلالهم.

 

وتجدر الإشارة إلى أن القاطع الجنوبي قد شهد خلال الأيام الأولى للمنازلة تطبيقاً فعلياً رغم محدوديته بتوجيه وإشراف من المجاهد علي حسن المجيد، حيث أوقعت المجاميع المقاتلة الصغيرة خسائر فادحة بالقوات البريطانية وأرغمتها مراراً على التقهقر والتراجع في ساحات المعارك ضمن قاطع البصرة، كما أبطلت مفعول القدرة العسكرية الغاشمة أن تلحق بالمقاتلين خسائر جدية نتيجة تحولهم إلى مجاميع صغيرة تمارس أساليب الكرّ والفرّ بنجاح تام.

 

أوهام التحول

 

في قراءات غير دقيقة وأراء غير ناضجة تصور البعض من مفكري الأمة ومثقفيها أن طلائع الحركة الثورية التاريخية في العراق قد انتقلوا فكريا من منهج إلى منهج أخر مستهل العقد الأخير من القرن العشرين، وتصوروه مختلفا عن سابقه، بل ومناقضا له، فيما ذهب آخرون إلى ابعد من هذا حينما أوهموا أنفسهم وغيرهم أن الطلائع الثورية في العراق قد كشفت عن انحياز مذهبي ضيق وبدأت تصوغ الواقع العراقي وفقا لمتطلباته، مع إنهم يعلمون جيداً أنها لا تتخذ من العرقية التعصبية والمذهبية الطائفية كأداة من أدوات عملها، بل على العكس تماماً، فهي تعدها من أسباب وهن الأمة، وهي سبل سلكها الأعداء ليمنعوا عليها مواصلة مسيرتها الخالدة.

 

وهذا التصور الخاطئ في جانب منه ناجم عن قصور أو عدم استيعاب كامل لفكر الحركة التاريخية وأهدافها، والمراحل التي تجتازها في سبيل تحقيقها، والتي صاغ أهم أسسها الشهيد صدام حسين رحمه الله وقاد مراحل بناء قاعدتها الحضارية وأشرف على توفير مستلزماتها وأدواتها، ورسم مساراتها، وحدد أهداف كل منها بدقة ووضوح.

 

ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت بالبعض إلى تبني هذه التصورات هو عدم إدراكهم لشروط النهضة الحضارية وأسبابها وعُددها ومراحلها المتلاحقة، أو عدم امتلاكهم قدرة الإلمام بها، فهم غالباً لم يعايشوا تجربة عملية من هذا النوع، ولم يدخر وعيهم خزيناً عنها، بل ظلت أفكارهم يسبح في فضاءاتها الوعي النظري المجرد من التجربة ومتطلبات الواقع وإرهاصاته.

 

إن مشروع النهضة الحضارية الذي أبدع الشهيد صدام حسين نظريته العملية ووضع أسسه موضع التطبيق في الواقع العراقي المعقد، والذي تتركز فيه كل أمراض الأمة وأسباب وهنها، وقاد مراحله بتميز مشهود، تطلب تمهيدا لا يمكن الشروع بنهضة حقيقية دونه مطلقا، وهو يستهدف بالدرجة الأساس تحقيق وحدة اجتماعية رصينة ومتماسكة، لتكون قادرة على تلبية احتياجات بناء القاعدة الحضارية التي يشيَّد عليها المشروع هذا، ولأن المشروع لم يكن ردَّة فعل مباشرة على النكبات والنكسات التي أحاقت بالأمة واستجابة لدواعيها فحسب، إنما هو عمل كبير يسعى لاستعادة الأمة لدورها كاملا، لذلك لم يذهب باتجاه حرق المراحل فيسعى لوحدة كالتي تمت بين القطرين المصري والسوري عام 1958م، بل توجه نحو خلق القاعدة الرصينة التي يمكن لوحدة مثل هذه أن تعيش في محيطها وتحقق الأهداف المرجوة منها، لا تركن إلى العاطفة التي يختفي أثرها بمجرد اصطدامها بالواقع المريض الشاذ فينفرط عقدها وتتحول من أمل إلى عامل إحباط مضاف.

 

فالهدف كان بناء نموذج مشع يعبر اصدق تعبير عن العرب كأمة وعن الإسلام كعقيدة ومنهج حياة لها، يستمد شرعيته وثباته من قدرة الجماهير الواعية لحقيقة دورها وجوهر وجودها وليس قراراً تفرضه لإرادة الحكام على الجماهير " نحن العراقيين جزء من العرب الذين ينبغي أن ينهضوا بدور قيادي في إبلاغ المفاهيم والمبادئ العميقة الدلالة عن دور العرب والتي وردت في القرآن الكريم إلى ابعد نقطة في الأرض، ولكن هذا الإبلاغ يأتي بطريقة النموذج، أي أن نتصرف بما يجعل المبادئ الإنسانية التي نؤمن بها مرئية من ابعد نقطة في الأرض...وان نتصرف بنفس الحكمة والمنطق والمبدئية التي تصرف بها أجدادنا، وينفس الاتجاه الذي تصرف به أجدادنا تجاه هذه المبادئ من قبل"(1)

 

لذلك فقد مرًّ العراق بمراحل متلاحقة نقلت مجتمعه تدريجيا من واقع العجز والتشتت إلى واقع جديد، امتاز بانحياز كبير لأهداف المشروع وتبنيها والدفاع عنها والتضحية في سبيلها، انسجم خلالها خطو المسير بدرجة متقدمة على مسار التوحد بقاعدة الانطلاق ووحدة المسير والأهداف.

 

لكن التآمر المتعدد الوجوه والأشكال والذي كان التمرد في شمال العراق أحد أشكاله الواضحة، فالعصابات الكردية من البرزانيين والطلبانيين المرتبطة ارتباطا مصيريا بالمصالح الصهيونية، والمدفوعة والمدعومة من قبل الأنظمة الإيرانية الشعوبية الحاقدة على الأمة وتاريخها وعقيدتها، والعدوان الخميني المباشر ومحاولات تصدير أحقاده المجوسية إلى ساحات الأمة عبر بوابة العراق ولثمان سنوات من المواجهات الطاحنة، قد أعاق بشكل كبير هذه المسيرة وعرقل تقدمها نحو انجاز كامل أهداف مراحل التكوين لقاعدة النهوض، وعطل انتقالها إلى مرحلة بناء النموذج القادر على قيادة فعل التغيير الجذري والحاسم.

 

فتداخلت متطلبات مشروع النهضة مع عمليات التصدي والمواجهة دفاعا عنه وعن مكتسباته التي تحققت، والمضي في انجاز مراحلها المتقدمة، الأمر الذي سبب إرباكاً في وعي البعض، فالهدف الأساس لم يكن تكوين قدرة عسكرية للدفاع عن الوجود العربي، وان كان هذا مطلبا وهدفا يأخذ مكانته بين حزمة من الأهداف والمتطلبات الأخرى، إنما كان إنضاج قاعدة تصلح لنهضة حضارية تمد جسورها إلى عمق التاريخ حيث الأصالة والنقاء وقدرة الفعل والانجاز التاريخي لتستحضر كل قيمه القادرة على تحقيق التواصل التاريخي، فلا تنشأ مبتورة عن جذورها وأسسها ومصادرها، بل تستند إليها وتواصل مسيرتها التي تلكأت وشابها الخمول والخدر، بعد أن شوهتها المؤامرات الداخلية والخارجية وأفقدتها كل عناصر قوتها فأعجزتها عن قدرة الفعل والانجاز الحضاري، ولأن مفاهيم الاستحضار تختلف كلياً عن مفاهيم العودة التراجعية إلى حيث تقف مصادرها، فتتحول إلى مجرد اجترار للماضي، لا يمكن تحقيقه على ارض الواقع، لأنه يخالف قوانين الحركة الكونية ومنطق التاريخ، ولهذا كانت ملامح المشروع الحضاري في العراق تتضح معالمه وتتبين ملامحه كلما تقدم خطوة إلى الإمام باتجاه أهدافه، فيكون حينها من الطبيعي أن تبرز خصائص وصفات لم تكن واضحة وجلية في بداية المسار، ذلك لان عملية خلق القاعدة الحضارية معقدة وتنطوي على مراحل ومهمات متداخلة فيما بينها،تكون بمجملها الكيان المؤهل لتحمل أعباء الشروع بمسيرة النهوض، وفقا لمفاهيم الحركة التاريخية، فالانتقال بالمجتمع من واقعه المتخلف والمتناقض مع أصوله التاريخية المتمثلة بمرحلة النقاء والأصالة التي تحققت للعرب بفعل العقيدة الإسلامية في عصرها الأول، كان يحتاج إلى عبور مراحل متعددة، وانجاز مهمات كثيرة، كي لا تنقلب بالمجتمع انقلابا مفاجئا يفقده توازنه وقدرة الاستيعاب للقيم المراد لها أن تشكل منظومته السلوكية الجديدة، فهي عملية متدرجة ومتصاعدة، كأنها عملية تنقيب عن آثار دقيقة التفاصيل، ثمينة جداً ونادرة، تحتاج من المنقِّب ارق الأدوات وأدقها والمزيد من الجهد والوقت والصبر الجميل والخبرة والمعرفة بخصائصها، حتى يتمكن من طرد الغبار والعوالق والترسبات الملتصقة بها، والتي تطمس معالمها وتشوه صورتها.

 

إنّ المشروع الحضاري الذي تجسدت مفردات قاعدته على أرض العراق خلال الفترة بين الأعوام 1968-2003م لم يكن علمانياً ينهل من مفاهيم السياسة والفكر الغربي المتشيطن، والغريبة عن واقعنا العربي والمتناقضة مع طبيعة الرسالة الخالدة التي كُلفت بها أمتنا، كما لم يكن رجعياً متخلفاً لا يستوعب حقائق الحياة والتاريخ ومتطلبات تطورهما، كما لا ينهج نهج التيارات التي تتخذ من الدين غطاءاً ووسيلة لتحقيق مآربها السياسية ومصالحها الاقتصادية الضيقة، بدعوى التراجع والجمود أو بالتوظيف العاطفي كما فعلت الخمينية لتحقيق أطماعها الشعوبية، إنما هو مشروع حضاري أصيل في غاياته وأدواته، يملك قدرة استحضار الإرث التاريخي بجسور الوعي والارتباط، بعد تنقيته من الدسائس والأهواء، وينهض بعملية استعادة قيمه في نفس الوقت الذي يطارد فيه قيم الواقع المزيف، ويجري عملية التفاعل الحضاري القادر على استشراف آفاق المستقبل وتلبية متطلباته، فيصوغ في نهاية المطاف منظومة للسلوك قادرة على تلبية حاجات النهوض برسالة الأمة الخالدة وتبليغها للإنسانية في كل مكان.

 

وسيتواصل هذا المشروع مهما حاول الأعداء بالتآمر والبطش والعدوان منعه عن الاستمرار، لأنه ملمس النور في نهاية النفق المظلم الذي حُشِرت فيه الأمة قرونا طوال، فلا يمكن للذي رأى النور أن يتقبل المكوث في الظلام حيث الضلال والضياع، وإن طال الزمن، فقد أمسكت الأمة بأسباب خلاصها ولن تفرِّط فيها بإذن الله تعالى، زادها إصراراً وتمسكاً وقفة رائد المشروع وقائد حركته الثورية ومبدع مناهجه وأدواته المجاهد الشهيد صدام حسين رحمه الله من خلال وقفته المشهودة في عيد شهادته الأصيل كأصالة مشروعه الحضاري، يتقدم الجموع ويهزم الحتوف بطهارة الروح وإيمانها العميق، يسبح في فضاء نقي بعيدا عن واقع الانحطاط والتخلي عن أداء الدور الذي أراد الله تعالى وأرتضى.

 

________

(1) صدام حسين، العرب والدور القيادي لرسالة الإسلام،ص13،دار الحرية 1983، بغداد.

*طبع هذا الكتاب بنسخ محدودة في دار السلام بغداد عام 2009م تحدياً للغزاة وأذنابهم الذين لم يسلم من همجيتهم ووحشيتهم وحقدهم حتى الكتاب والقلم.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت  / ١٠ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٤ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور