توحد المقاومة خلف قيادة العراق الشرعية الطريق الوحيد للخلاص

 
 
شبكة المنصور
حديد العربي

تمهيد


بودنا أن يطلع كل مجاهدي العراق على هذا البحث بعقول متفتحة ونفوس تواقة للحق والعدل والإنصاف، ونكران للذات يغلب المصالح الجمعية على المصالح الشخصية أو الفئوية الضيقة، وبروح مطهرة من أدران الواقع الفاسد وسلبيته، وأن لا يكون عنوان البحث حاجزا أمام البعض بمبررات وقناعات مسبقة، ممن ينغلق على قناعاته ووعيه، متوهما أنها الخيارات الصائبة والموضوعية والمنطقية وغيرها محض هراء، أو يكون التعميم مانعاً لدى البعض حين يسقط سلبية ما على مسيرة حافلة بما هو صائب وسليم، أو يكون ضحية للتضليل والتشويه الذي مارسه أعداء الأمة أزماناً طويلة بقصد تزوير الحقائق وطرحها على غير صورتها من خلال عناوين قد لا تتهم بالعمالة أو الاستغفال من قبل الأعداء لتحويلها إلى بوق للتضليل قادر على تحقيق قدرة التحريف في قناعات الآخرين.


إن منطق الحوار الإيجابي غير المتشنج يمنح العقل فرصته ودوره لكي يحيط بالجوانب العديدة لكل حقيقة، فالحقيقة لا يكفينا لنلم بها حين نعلم يقيناً جانب أو جوانب محددة منها، بل هي لا تتحقق إلا بالحوار والبحث المجرد من الغايات المسبقة والأهواء الحاكمة لمسارات التفكير والاستقصاء.


لقد قيل الكثير عن واقع المقاومة العراقية المجاهدة الباسلة، وكُتِب عنها أكثر، لكن الملفت للنظر أن أغلب ما قيل وما كتب كان عبارة عن دفاع لمحامين عن متهم، ذلك أن أساليب التضليل والدعاية الواسعة في أهدافها وأطرافها، كانت على جانب كبير من الخطورة على مستقبل المقاومة وعلى طبيعة علاقتها بالشعب العراقي وصلتها بالأمة العربية والمحيط الدولي، فالتهم الباطلة التي نهض بتسويقها الإعلام المحلي المرتبط كلياً بالاحتلال وإرادته والإعلام العربي والدولي الخاضع للهيمنة الامبريالية والصهيونية تنوعت بين إنكار لوجود المقاومة وبين تزييف لهويتها، وتشويه صورتها من خلال الأعمال الإجرامية التي ارتكبها عملاء الاحتلال ضد المواطنين الأبرياء ثم ألصقوها بالمقاومة، كل ذلك كان ولا زال مترافقاً مع حصار شامل على صوت الحقيقة أن يظهر ويخاطب وعي المضللين والمغفلين ليصحح في قناعاتهم حين يكشف لهم عن الحقائق ليدحض التضليل والخداع.


لذلك فإن فرصة كاملة للحديث بعمق عن هموم المقاومة ومتطلبات استمرارها والعوامل والأسباب التي ترجح كفة ميزانها في صراعها الدامي، والاستفادة من تجارب أمتنا عبر تاريخها الحضاري الطويل في المقاومة والجهاد، ودراسة تجارب الأمم الأخرى أيضاً لم يتحقق منها الكثير، وإن ما قيل أو كتب لم يكن بالضرورة قد وصل إلى كل المقاومين، لمحدودية وسائل الاتصال التي تستخدمها المقاومة مع من يكتب لها أو يتحدث معها.
من أجل ذلك فإنا نشعر بحاجة اليوم إلى خطاب هادف يعمق من وحدة فصائل المقاومة ويعزز قدرتها على مواجهة التحديات الكبيرة، وذلك لا يتم إلا بمعرفة كل مجاهد لطبيعة المهمة الملقاة على عاتقه، والأخطار التي تنطوي عليها أهداف الاحتلال وغاياته، فالمقاومين يدركون من الدور الفارسي الصفوي في العراق الإحاطة بأطماعه في ضم العراق إلى دولته القومية العنصرية المعادية للعرب والإسلام والحاقدة عليهما، ثأراً لمجد أسلافهم المجوس الذي أذهبه العرب بالإسلام بمعارك ذي قار والقادسية الأولى والمدائن وفتح الفتوح، لكن كثير منهم قد لا يدرك أن الدور الفارسي الذي تتلاحق فصوله على أرض العراق هو مطلب وغاية صهيونية قبل أن تكون فارسية، لأن خلق بؤرة للصراع بين العرب والفرس ستشكل فرصة تاريخية للكيان الصهيوني ليحقق كامل مخططه الإجرامي على أرض العرب، فكما هو معروف أن العراق شكل المانع وقلعة الصمود وثغر الجهاد الأول أمام الأطماع القومية الفارسية طيلة القرون التي مرّت على الرسالة الإسلامية، وباستحواذ الفرس عليه ستفتح كل المغاليق أمامه للعبث في أمن الأقطار العربية الأخرى، وسيستنزف ذلك من العرب كل طاقاتهم وقدراتهم وثرواتهم، وينسيهم الكيان الصهيوني كلياً، ذلك أن الفرس ليسوا كالصهاينة منبوذين في ظاهرهم وباطنهم، لأنهم لا يتسترون كالصهاينة بحقوق وهمية مزيفة في أرض العرب، بل يتسترون بالإسلام نفسه ولا يفصحون عن حقيقة نواياهم مما يجعل الكثير من الجهلة والمغفلين عرضة لأن يكونوا أدوات طيعة في أيديهم لمواجهة الأمة بهم، كما يحدث اليوم في العراق، حيث يجند الفرس عدداً ليس بقليل من الرعاع والسفلة العراقيين لتحقيق غاياتهم الإجرامية على شعب العراق بذريعة ولاية آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.


إن الرؤية الصائبة للأحداث تمنح المقاوم قدرة إضافية على النجاح والتفوق في مواجهاته وصراعه، وتمنحه المزيد من العزم والثبات والقدرة على مواصلة الفعل الجهادي المبارك بإذن الله، وتسدد وتصوب له باتجاه أهدافه بدقة أعلى وثقة أكبر.

 
أهداف النقد

 
إن دواعينا في الإشارة إلى الأخطاء لا يقصد منها الانتقاص أو التشهير والإساءة للغير كما إنها ليست تهرباً من المسؤولية، إنما هي تصحيح لمواقف خاطئة لا تُرْجِع الأسباب لمسبباتها، كما هي إجابات عن تساؤلات يطلقها المحب والكاره معا في الشارع ولا تجد من تجيب عليها ويصوب في وعي مطلقها، لذلك فهي بهذه الصورة والاتجاه تشكل تعبير صادق وممارسة لمنهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي جعله الله تعالى وسيلة للتصحيح ومنع الانحراف.


ولا يصح أن تكون الإجابات مجرد إحالة السائل إلى أخطاء الذين لا يجيدون إلا الخطأ، حين يعقد البعض للمقارنات بين ذلك الحال وبين واقع الاحتلال ونتائجه وإفرازاته المرضية.


وإن تعطيل الإجابة أو الإشارة إلى الأخطاء أو تأجيلها لا يعطل تأثيرها، إنما يفاقم آثارها السلبية حتى يجعل من علاجها بمرور الزمن أمراً شبه مستحيل.


وأن منهج التعطيل أو التأجيل لنقد الأخطاء كان ولا زال يشكل إحدى أهم المعضلات التي تواجه الشعب العراقي وقواه الحيّة، فلا يصح أن نعيد منهج بعض المسؤولين الإداريين والحزبيين بتعليقهم للأخطاء على شماعة" نحن في حالة حرب" فأضروا بالمجتمع والدولة والحزب أضراراً كبيرة خلال معارك قادسية صدام المجيدة، ولا يصح أن نعيد كذلك حجج بعضهم بشماعة " نحن في حالة حصار" حتى استشرت الأخطاء، فكانت بتراكمها سبباً من أسباب تعطيل المشروع، الذي دفع رواده ثمناً غالياً من أعمارهم وأرواحهم ودمائهم وتضحياتهم السخيّة. المشروع الذي بتعطيله فقدت الأمة أملاً كبيراً كانت ترنو بأنظارها وأرواحها إلى نتائجه كي تنتقل من واقعها البائس إلى مرحلة استعادة الدور والمهمة والواجب الذي لا يليق إلا بها، كما أراد لها الله تعالى وأمر.
ولقد كان الشهيد صدام حسين رحمه الله خلال الفترة التي تلت ثورة 14 رمضان عام 1963م يشير وينبه بلا توقف لكل الأخطاء التي رافقت تجربة الثورة والحزب آنذاك، ولأن أحداً لم يلتفت إليها، أو لأن لا أحد كان يملك القدرة أو الحافز على التصحيح، فقد حدثت الردّة في 18تشرين من نفس العام، ونكب الحزب وتعطل مشروعه الوطني والقومي حتى عام 1968م. ولأنه ورفاقه ومن أخلص معه في أداء واجب فرضه الله تعالى عليهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد الإيمان بالله،  كانوا يتتبعون الأخطاء والهفوات بدقة وصرامة، يمنعون عليها أن تتحول إلى انحرافات عن المسيرة الموحدة للشعب نحو أهدافه المنظورة والكبرى، فإن الشطر الأول من عمر الثورة كان قد شهد منجزات تاريخية ترقى إلى مستوى الأمة ودورها التاريخي في الحياة، لكن الظروف القاسية التي فرضها أعداء الأمة والمتربصين بها وبطلائعها الثورية؛ مصدر حيويتها وطاقتها وقدرتها الخلاقة المبدعة جعلت أمر تتبع الأخطاء أمراً غير يسير، كما جعلت علاج ما عُلِم منها أعسر من وضع اليد عليها، لأنهم افتقدوا بسبب العدوان والتآمر المتواصل كثيراً من قدرة المتابعة والتصحيح كما افتقدوا إلى كثير من أدوات العلاج وأسبابه، الأمر الذي أدى بمرور الزمن إلى تراكمها وتحولها إلى انحرافات ساهمت بشكل فاعل في تحقيق غايات الأعداء وأهدافهم فيما بعد.


فقد أدى ضعف المتابعة وتراجع القدرة على التصحيح في وقته المناسب، بفعل عوامل التهديد والتآمر والعدوان التي شغلت حيزاً كبيراً من الاهتمام والمتابعة لتقليل حجم الخسائر، إلى أثار سلبية، تراكمت حتى أضعفت الصلة والتواصل بين القيادة وجماهير الشعب، التي تتأثر بالمتغيرات قبل غيرها.


وفتح بذلك الباب أمام الأطماع الشخصية على حساب المصالح العامة لتأخذ مواقعها في الحياة بعد أن كانت منزوية وجلة وخائفة من فعل الرقابة والمتابعة، فإن صيغ التشويه لواقع العراق قد اعتمدت على أطماع فئة قليلة، طفيلية نشأت في ظل الظروف الاستثنائية، نمت في جسد الحزب والدولة وعموم المجتمع بسرعة تتلائم مع ما أتيح لها من فرص، سعت بكل طاقاتها وإمكاناتها وخلفيتها المستندة إلى الحذر والتحرز من الكشف  بالمتابعة التقليدية لإبعاد المنافسين لهم، وبخاصة الذين لا ينهجون نهجهم ولا يؤمنون به، واعتماداً على ذرائع تختزن في طياتها أمراض اجتماعية فتاكة، حين كانوا يسعون لتحميلهم مساوئ أنفار كانوا ينتمون إليهم؛ طائفياً أو عرقياً أو مناطقياً أو عشائرياً، فتمكنوا من إبعاد الكثير من المخلصين لوطنهم والحريصين على شرفهم عن مواقعهم الوظيفية، وحتى الحزبية أحياناً، بتلك الحجج الواهية، مما ولد حالة من الشعور بالعسف والتجني والظلم، تطورت فيما بعد لتأخذ أشكالاً كأنها ذات أفق طائفي فئوي، وكان لعدم القدرة على معرفة دوافعها وأسبابها بشكل كامل وصحيح دوراً فاعلاً في بروز تلك المشاعر، بعد أن غذتها القوى المعادية من خلال الأكاذيب والتلفيقات والتهويلات وحملات التضليل الواسعة الأطراف والأهداف، فجعلتها وكأنها حقائق مؤكدة.
وتلك لم تكن إرادة القيادة قطعاً، لأنها اختبرت نفسها وشعبها في مواقف عسيرة وصعبة وأثبتت أنها تقف إلى جانبه صفاً واحداً، وفي خندق واحد، وأن الشاذ عنه وعنها لا يعبر إلا عن موقفه المنحرف، لكن ذلك التوغل المرضي مرر بهدوء، وعلى مراحل زمنية، كانت تلك الطفيليات في كل مرّة تستهدف فئة معينة بهدف إبعاد منافس لهم ينتمي إليها، أو استغلالاً لانحرافه الذي لا يعبر عن حقيقة الجماعة التي ينتمي إليها، كلما توفرت الفرص والحوافز المشجعة عليها.


فالمنهج العام الذي كانت تعتقده قيادة العراق وتعتمد عليه في تعاملها، أن أخطاء من يخطئ، وتآمر من يتآمر، وتقصير من يقصر، يجب أن لا تؤثر على غير فاعليها، استنادا إلى قول الله تعالى في محكم التنزيل: {  وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (سورة الأنعام: من الآية:164)، والرسول صلى الله عليه وسلم حين فتح الله تعالى له مكة لم يعاقب أبناء الذين آذوه أشدّ الأذى، وسعوا بكل طاقاتهم من أجل منعه من تبليغ رسالة ربه، بل صفح عنهم ورفق بهم وقربهم إليه، ولم يحملهم وزر ما فعل أبائهم. ولعل الكثير لا ينسى، رغم التزوير والأكاذيب التي لفقها الأعداء وأبواقهم المأجورة، قرار قيادة العراق بتبرئة ساحات عوائل المجرمين وذويهم، ممن حملوا السلاح مع الأعداء وفي خندقهم ليصبوا نيران حقدهم وعدوانهم على شعبهم وأمتهم، وفي أصعب الظروف وأدقها تعقيداً، والتي عاشها العراق خلال تصديه للعدوان الخميني الشعوبي بين عامي 1980-1988م، فقد صدرت التعليمات الواضحة والحازمة بأن لا يتأثر أحد من العراقيين، مهما كانت درجة قرابته من المجرمين والمنحرفين، ومنعت أن تتخذ بحق أحدهم أية إجراءات تبعاً لذلك، سوى ما تطلبه الأمر من تغيير مواقع الذين يعملون في أماكن حساسة يتعلق عملها بالأمن الوطني والقومي، حماية لهم من أن يقعوا ضحايا للابتزاز من قوى خارجية معادية، وتحوطاً في الحفاظ على أمن البلد، كما إن الذين تم العفو عنهم بعد أن ثبت تورطهم في تلك التنظيمات المعادية والمجندة من قبل الأجنبي لتخريب بلدهم والعبث في أمن المواطن وممتلكاته، كفرصة للمراجعة والإصلاح، وأغلبهم أحياء لكن الشيطان أخرس ألسنتهم، منحوا كامل حقوقهم ومارسوا أدوارهم الطبيعية وسط مجتمعهم دون أي تبعات.


وقد أثبتت التجربة العملية أن التآمر والخيانة والغدر ليس لها موطن مسمى بعينه، فكما خان أنفار ممن ينتمون إلى شيعة العراق، خان مثلهم، بقدرهم أو أقل منهم أو أكثر ممن يحسب على أهل السنّة، وكما خان ممن يحسب على أكراد العراق، فقد خان من يحسب على العرب، وكما خان مسيحيون فقد خان مسلمون، وكما خان من لا يرتبط بحزب البعث فقد خان من ينتسب له، وكما خان من لا تربطه صلة بالشهيد صدام حسين رحمه الله فقد خان من هو أقرب الناس إليه صلة ونسباً، وكل ذلك لا يستغرب، فإن أبا لهب، الذي لم يسم الله تعالى في كتابه الكريم أحد بسوء يخزيه في الدنيا والآخرة، ويعده بسوء المنقلب والمصير ممن ناصب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم العداوة والتآمر من قريش وغيرها سواه، هو عم رسول الله أخي أبيه، وأخو حمزة سيد الشهداء، أخوان وقف كل واحد فيهم على طرفي نقيض، لا يلتقيان أبدا، مع إنهما ولدا لأب واحد ونشئا في بيئة واحدة وورثوا تقاليد وأعراف وجينات واحدة، وكانوا من قبل على دين واحد. فهذا دليل قاطع على أن الذي ينحرف إنما ينحرف لأسباب لا تتعلق بدين أو مذهب أو جنس أو فصيلة أو بيئة، بل هي أمراض نفسية تؤثر في السلوك فتحرفه، أمراض تعتمل داخل عقل ووجدان الإنسان فتحرفه عن فطرته، ومآلها لا يتعلق بإرادة الإنسان نفسه بقدر تعلقها بما قدّر الله تعالى له أن يكون، لعلمه جلّت قدرته حتى قبل خلقه بما سيعتمل بدواخله من وساوس الشيطان حتى تهيمن على إرادته.


والحقيقة فإن كل المبررات والدوافع والغايات التي يدعيها من يخون ويتآمر بسوء حين يربطها بتآمره وانحرافه على أنها تلبية واستجابة لمطالب جمعية يربطها عادة بفئته التي يعتقد أنه يستطيع أن يخفي نواياه الخاصة خلفها، إنما هي ذرائع واهية لتبرير الخيانة والتآمر والخروج على الجماعة، لأنها لو كانت حقاً مطالب جمعية لهذه الفئة أو تلك لما كان عمله تآمراً يتخفى في جنح الظلام، بل لكانت ثورة جماعية لا صلة لها بالتآمر والخيانة والانحراف، حتى وإن استغفل البعض من الجهلة والرعاع بتلك الادعاءات والأكاذيب، فماذا قدم المجرمون من أتباع الفرس، الذين غرروا بالرعاع والغوغاء والسفلة في آذار من عام 1991م حين جندوهم بمسلك الإجرام والنهب والسلب والتخريب، بدعوى مظلومية الشيعة وحقوقهم المغتصبة، حين منحتهم قوى الاحتلال عام 2003م مكافئة العمالة والجاسوسية وخيانة الوطن بسلطة ومعها مئات المليارات من الدولارات من قوت الشعب العراقي وثروة أجياله؟ إنهم لم يقدموا لهم سوى الجوع والذلّ وفقدان الكرامة والموت الزؤام، فيما أقدموا هم على النهب والسرقة والتخريب والانتقام الهمجي المتوحش تلبية لاحتياجاتهم المنحرفة وانسجاماً مع أمراضهم النفسية الموغلة في صدورهم، وانصياعاً لمطالب وإرادات أسيادهم الغزاة، ولا شيء غير هذا، فهذا واقع يعيشه شعب العراق بشيعته الذين لم يشعروا بالظلم إلا في ظلهم، وبكرده الذين لم يزدهم تسلط الجواسيس والعملاء البرزانيين والطلبانيين عليهم إلا بؤساً وفقراً وضياع وفقدان للهوية الإسلامية، أما أهل السنّة فيه فلا يقلّ شأن مصيبتهم عما سواهم، فالمجازر التي ارتكبها الأعداء وعملائهم بحقهم وحق كل شعب العراق لا يرقى لمستوى فواجعها إلا جرائم غزو المغول بمساعدة أسلاف الذين تآمروا مع الصليبيين والصهاينة من أبناء المتع الفارسية.
لذلك فإن مطلب أن تكون المقاومة ممثلاً صادقاً لكل شعب العراق، بكل مكوناته وأطيافه، وأن تحقق القناعة لدى الشعب بأجمعه بأنها تمثله تمثيلاً يتجاوز كل المناهج والنظرات الفئوية، وأنها تعبر عن طموحاته وتطلعاته الوطنية، وأنها قادرة على تحقيقها، أمراً غاية في الأهمية، وعليه يتوقف مستقبل العراق، لكن الذي يحصل لحد الآن، وبعد مرور سبع سنوات لا زال الشعب العراقي عاجز عن أن يحقق رغبته هذه، وهو محق في كل هذا، لأن لا جدوى من مقاومة تشعره بواقع التجزئة المزيف، حين تكون بعض فصائلها صورة توحي به، فحتى المقاومة التي يجدها الشعب خيمة كبرى تظلل كل خيماتهم الفئوية وتحتضنها، ويطمئن لقيادتها ليس لأنها قيادة شرعية للعراق فحسب، بل لأنها اختبرت في الميدان زمناً طويلاً وحازت على ثقة الشعب بكونها مبدعة للوحدة العراقية الفاعلة والمبدعة والمقتدرة على مواجهة التحديات والنهوض بالبناء والإعمار.


فكما أن الإشارة إلى بعض الممارسات الخاطئة والأساليب غير الناضجة خلال المسيرة الطويلة المكللة بالمنجزات الكبرى، التي نقلت العراق من واقع التخلف إلى واقع النهوض، لا تحطُّ من شأن المسيرة ورجالها، ولا تقلل من مكانتهم، إنما هي في الحقيقة تزكية لهم من منزلقات لم يكونوا هم سببها المباشر، وليس من العدل والإنصاف أن تحسب عليهم وتلحق بتاريخهم، حين تُرْجِعها إلى أسبابها الموضوعية، وليس إلى الآثار التي خلفتها في الواقع، كما يصورها أهل الأغراض المشبوهة والنوايا السوء، أو كما يتصورها الجهال ممن لا يدركون من الأخطاء إلا آثارها الملموسة، فالجسم لا يفقد صفة السلامة إن ظهرت على جلده دماميل متقرحة، لكن الأسلم أن تنفى هذه القروح ويطبب موضعها ويعالج، لكي لا تترك أثراً مشوهاً في الجسم. فإنها حين تستهدف واقع المقاومة العراقية الباسلة وفقاً لمنهج كهذا، لا تشكل إلا مساهمات جدية في سبيل تنقية وتعبيد المسار بهدف توحيد الخطى وإيقاع المسير باتجاه الهدف الواحد المنشود، بأقل الخسائر وأقصر المسافات وأسلمها وأجداها نفعا.


وقد كنا ولا زلنا وسنبقى بعون الله ننظر لأحبتنا؛ إخواننا وأبنائنا في فصائل المقاومة المختلفة بمزيد من الحرص والمحبة ونسعى بفضل الله على تسليحهم بالرؤى الصائبة عن كثير من المواقف الهامة، حين تشتط بعضها فتبني تقييماتها ورؤاها على أسس غير دقيقة، بل وسطحية أحياناً، فقد شهدت السنوات المنصرمة من عمر مقاومة الاحتلال المباشر وقوع البعض منهم فريسة سهلة بسبب المنزلقات التي ذهبت بهم بعيداً عن غايات الجهاد ووسائله وأساليبه ومصادر شرعيته وعوامل نموه وتطوره، نتيجة الحدود المتاحة أمام وعيهم التي تنعكس على سلوكياتهم ومواقفهم وقدراتهم على التعامل مع المستجدات والمتغيرات في الواقع العراقي المتسم ظاهريا بالتخبط والارتباك وعدم الموضوعية.


وكما إن مسيرة العراق ومشروعه الحضاري أكبر من أن تغطي عليها الهفوات والأخطاء، وهي كما لم تكن من قبل ملكاً للبعث ورجاله، إنما هي استحقاق للشعب والأمة، نهض بأدائه البعث وطلائعه ومعهم كل شريف وغيور على وطنه وأمته، ولعل أفضل وأرقى معايير البعث في العراق كتنظيم طليعي أنه كان ولا زال يضع رضى الله تعالى ميزاناً للتعامل مع الجماهير ويتخذ مواقفه تجاه الأحداث وفقاً لثوابتها الأصيلة، وفارقاً دقيقاً للفصل بين ماهو صائب وما هو منحرف، وليس لتقبل القيادة لسلوك أو إجراء أو منهج أيا كان مصدره أو رفضه إلا بالاستناد إلى ذلك، فإن الشهيد صدام حسين رحمه الله كان يرى أن رضاه، باعتباره ولياً للأمر وقائداً للمسيرة، عن أي عمل يأتي استجابة لما يرضي الله تعالى، أما ما يغضب الله فإنه لجدير بأن يغضب قيادة العراق المؤمنة بدورها وواجبها تجاه الأمة وعقيدتها وتاريخها، والساعية لتحقيق آمالها وتطلعاتها وتمكينها من أداء دورها الذي اختاره الله تعالى لها، فإن مسيرة الجهاد المباركة التي تخوضها طلائع الثورة والإيمان الصادق العميق منذ سبع سنوات كذلك، هي أكبر وأجلّ من أن تسلبها الأخطاء والهفوات قيمتها ومكانتها وطليعيتها في التصدي للعدوان وإفشال كل مخططاته وتعطيل أهدافه، ليس على الواقع العراقي فحسب، بل والتي تستهدف منها الأمة برمتها والإنسانية بكل أممها وشعوبها، لأنها لا يمكن لها إلا أن تستند على ما استندت عليه قيادة العراق الشرعية من قبل لكي تجعل من وجودها ومن دورها ومن هدفها شرعيا.

 
نقد الفرقة ومبرراته

 
قد آن الأوان لنتحدث اليوم بصراحة وجدية تامة مع كل فصائل مقاومتنا المجاهدة، دون أي اعتبار كان فيما مضى يمنعنا من أن نرفع الصوت عالياً بقولٍ تلافياً لما قد يفيد منه الأعداء، حين نتهم المقاومة كلها أو بعض فصائلها أو مفاصلها بالتقصير، وهي حقاً أجدر أن لا تتهم، فلا أحد يمكنه المزايدة على تضحياتها الجسيمة الغالية، ودورها المشرف الذي جعل منها تاجاً للعزّ والمفخرة، وعنواناً بارزاً للإباء والشمم، الذي أصبح دلالة واضحة على أمتهم وعقيدتها، لكن ما حيلتنا إذا كانت الأخطاء أو الهفوات التي سنشير إليها نعتقد أنها تساهم في مضاعفة التضحيات اللازمة لتحرير العراق أضعافاً مضاعفة، وتؤزم الأوضاع وتعقدها بالمزيد أضاليل وألاعيب الغزاة تحقيقاً لمتطلبات أهدافهم الخفية التي لم يعلن عنها رغم مضي كل هذه المدة الطويلة نسبياً، بل وتقرب الأعداء من تحقيق غاياتهم بكل أسبقياتها وأهميتها.


إن الواقع العراقي يشغل المفكرين والباحثين والسياسيين والخبراء والسفهاء على حدٍّ سواء، بأسئلة لا يجد أحدهم إجابات شافية لها، فالكل يحتار بشأن ما يسمى بالانتخابات، وما تفرزه كل مرّة من متناقضات، وكلهم يتساءل عن موقف البعث وأغلب فصائل المقاومة الأخرى منها، ولا يجدون ما يقنعهم برفضها هي وما يتمخض عنها من عملية سياسية مرضية وخطيرة، وكلهم في حيرة أمام التدخل الإيراني الفاعل في الشأن العراقي بعلم الأمريكان وموافقتهم، أو على أقل التقديرات بعلمهم وعدم منعهم عن تدخلهم السافر المفضوح، ولا يجدون ما يبرر لهم قول القائل أن الدور الفارسي في العراق لا يقل خطراً عن الدور الامبريالي الأمريكي.


والسبب يعود بالدرجة الأساس إلى أن التحليلات والمواقف والرؤى كلها تدور حول الغاية الرئيسية للاحتلال من صياغة الواقع العراقي، معتمداً على التناقض غير المنطقي بين الأهداف والغايات والأساليب والنتائج المعلنة للأطراف الفاعلة في واقع الاحتلال، دون الاهتداء لكشف الإرادة التي تقف خلفها، لأنهم وقعوا ضحايا للتمويه والتضليل الموحي بتضارب المصالح وتناقضها بين أطراف الاحتلال، فصارت هذه التناقضات المزعومة أسباباً وهمية تخفي خلفها حقيقة ما يراد الوصول إلية في نهاية المطاف، وعلى أساس خلفية كهذه فإن سلوك القوى الرئيسة الفاعلة في واقع الاحتلال يبدو وكأنه تخبط وجهل وعدم دراية بالواقع العراقي، وحسابات غير مدروسة لنتائج انضمام الفرس للحلف الامبريالي الصليبي الصهيوني، وأن الفرس يرغمون الأمريكان على الاعتراف بواقع التدخل الفارسي بما يملكون من وسائل ضغط مختلفة ضمن عمليتهم السياسية، وذلك هو جوهر التمويه وأساسه.


فإن الواقع العراقي ينسج بنفس طويل ورؤية مستقبلية، تصاغ على مهل وفقاً لإرادة وغايات الصهيونية المجرمة وكيانها المسخ على أرض فلسطين، وأن كل القوى المؤتلفة في العدوان والاحتلال؛ الممسكة بدفة الصراع منها والساندة لها، من امبريالية صليبية وفارسية مجوسية، ومن التحق بهم أو سيلتحق في قادم الأيام، لا تملك إلا تنفيذ هذه الإرادة الصهيونية، أو الوصول بنتائج الصراع إلى حيث تتحقق تلك الإرادة.


وهذه الإرادة تتلخص في أن الكيان الصهيوني حريص على لفت أنظار الأمة العربية وقواها الحيّة وصرف اهتمامهم بقضية فلسطين والأخطار التي يشكلها وجود الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي صوب العراق لزمن قد يطول مداه، بما يحقق للصهيونية فسحة من الزمن والأمن للتفرغ الكامل لشعب فلسطين المقاوم لتصفيته وحسم قضيته وجعل وجوده أمراً واقعاً غير قابل للتغيير أو التعديل، عن طريق صياغة الواقع السياسي العراقي المريض والمتناقض، والذي جعله بؤرة للصراع ومصدرا للتهديد الجدّي الفاعل للأمة العربية، يخلق مزيداً من التحدي لإرادتها ولكيانها وأنظمتها ومستقبلها ووجودها، لا يقل خطورة عن وجوده على أرض العرب في فلسطين، والتهديد الذي شكله منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917م وحتى الآن على الوجود والأمن العربي، واستنزاف طاقات الأمة وقدراتها وتعطيل عمليات البناء والتطور والنهوض فيها، مما جعلها شبه عاجزة عن مواكبة مسيرة الأمم والشعوب في نهضتها المادية.


بل إن هذا التهديد قد يتفوق كثيراً على التهديد الصهيوني، لما للعراق من أهمية بالغة على كل الصعد، الأمر الذي سيجعل منه مجالاً حيوياً مرجحاً على كل المجالات الأخرى للعبث في واقع الأمة وتشتيت مساراتها التاريخية المستقبلية باتجاه الانحراف والضياع وسلبية الوجود والدور والتأثير.


وإن هدف كبير كهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالوجود والدور الفارسي الشعوبي الصفوي المباشر في الواقع العراقي تماماً كما يحدث اليوم.


ولأن الأهداف القومية الفارسية وطموحاتها المريضة بعقد الماضي لا تقل شأناً عن الأهداف والطموحات الصهيونية، كما لا تختلف عنها بشيء، فإنهم يملكون القدرة من خلال دورهم الذي رسمته لهم الصهيونية، والذي يؤدونه اليوم في العراق، على تحقيق المطلب الستراتيجي الصهيوني، وإن كان في بداياته ومرحلة طفولته، وإن كانت لكل قوى الصراع الأخرى المتحالفة مع الصهيونية غايات تتحقق كلها من خلال الدور الفارسي الجديد في الواقع العراقي، فإن مزيداً من انصياع الأنظمة العربية للإرادات والسياسات الامبريالية الصليبية سيتحقق، وإن مزيداً من قدرة الهيمنة والاستحواذ على موارد الأمة وثرواتها سيتحقق لها أيضاً، وإن مزيداً من جني الأرباح جراء تصريف الأسلحة التي فقدت أهميتها بحكم التطور في الصناعة العسكرية كجزء مهم من نتائج فتح باب جديد للصراع بين العرب والفرس، لكن الفضل كل الفضل فيه يعود لما خطط اليهود الصهاينة وما قرروا وما حققوا، فالتهديد والتربص الشعوبي الفارسي كان قد فشل في تحقيق غاياته الرئيسة خلال قرون طويلة لأنه لم يتمكن خلال كل المحاولات التي مرّت، والتي كان أخرها الاحتلال الصفوي، لأنها كانت تجابه بحزم وعزم تمنع عليها قدرة التأثير المطلوب، من الاستحواذ على العراق بشكل ثابت ومستقر، فالدور الإيراني إذن ليس سباقاً مع الحلفاء الآخرين على جني المغانم والكاسب، بل تنفيذ لهدف تتطلبه المصالح الصهيونية العليا، يكسب من خلاله ما يمكن أن تسمح له بالاستحواذ عليه. من هنا نقول أن على دور المقاومة العراقية وقدرتها يتوقف مصير الأمة كلها فيما إذا تمكنت القوى الصليبية والصهيونية من جعل العراق فلسطين أخرى وجعل الفرس المجوس البديل الصهيوني الشاغل للأمة عن أن تضع أقدامها على عتبة النهوض، أو حتى مواكبة التطور المادي المتسارع، الذي تشهده الأمم والشعوب الأخرى، فتضيع فلسطين إلى الأبد ويضيع العراق ثم تعقبه كل أقطار الأمة، أم لا.


فالدافع الملجئ إذن هو إشفاق على حالين معاً، متداخلين ويستمد أحدهما مشروعيته ومبررات وجوده من الآخر، ترابطاً تفاعلياً، لابد من النهوض بواقعهما بمستوى يليق بحجم المؤامرة وأخطارها:


حال المقاومة المجيدة ذاتها، والتضحيات الكبيرة والعزيزة التي تقدمها في ساحة الصراع وجولات النزال الدامي، وستواصل بذل المزيد منها أزماناً إضافية أخرى، وقناعتنا الراسخة بأن دماء مجاهد واحد فيها، أياً كان فصيله وموقعه وخلفيته، لا تعدلها دماء شعوبٍ بأكملها، من تلك التي ترتع في الحياة كالبهائم، ولا تحقق من غاياتها سوى الأكل والشرب والتلذذ بغرائزها المتحيونة، فكلما امتد أمد الصراع كلما زادت التضحيات وتفاقمت آلامها، ونوع التضحية التي يصعب تعويضها لا تستند على الدم الغالي والأرواح الزكية التي يتم فقدها فحسب، إنما تستند إلى الخسارة الجسيمة لمن لا تنهض الأمة وتأخذ دورها وموقعها الصحيح والمناسب إلا بأمثال هؤلاء المفقودين.


وحال شعب العراق الذي كلما زاد عمر الاحتلال يوماً إضافياً زادت معه آثاره التي تنخر في الجسد العراقي، تجهيلاً وانحرافاً ولا أدرية متواصلة، تغزو العقول والغرائز، وتصوغ مفردات سلوكية، أقلّ ما فيها من سوء، أنها تجعل الشعب غريباً أو مغترباً على أرضه، فيما تجعل الأرض مثقلة بحمله. إنه النخر والتجريف ليس لقيم ومنجزات خمس وثلاثين سنة من الكفاح والجهاد والعرق الغزير والتضحيات السخية، بل يتعداها إلى أعماق تاريخية تمتد إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام، إن لم نقل إلى سبعة آلاف سنة خلت، بكل ما حملته من إرث حضاري وحراك حيوي رسم كل المسارات الصائبة لعملية التطور البشري. فذلك أهم بكثير وأبعد أثراً من كل التضحيات الكبيرة التي دفعها وسيدفعها الشعب، البشرية منها والمادية، وأخطر من العار الذي ألحقه بهم الاحتلال بتدنيسه لأرضهم واستباحته لمقدساتهم.


والحقيقة التي يجب أن لا يغفل عنها كل مقاوم عراقي، أن الجهل والتخلف في العراق وبين صفوف الأمة له صوت وموقع، يعلو على كل صوت ويتقدم ويتفوق على كل موقع مهما كان صائبا، وأن الإنسان الجاهل لا يحتكم إلى دينه أو مذهبه الذي يدعيه ولا إلى الفكر السياسي الذي يتبناه أو ينحاز إليه ولا إلى انتمائه القبلي والوطني والقومي، كما لا يركن إلى عقله ووعيه وإرادة الخير فيه، حين يتطلب الأمر منه أن يتخذ موقفاً أو قرار ما، بل هو يلجأ ويستند كلياً إلى حاجاته الدنيوية ومتطلباتها، فيصوغ بموجبها مواقفه تجاه الآخرين وآرائهم وأفكارهم، انسجاماً مع ما يعتقد أنها تلبي أمنه الحياتي وتوفر له بعضاً من حاجاته المادية والنفسية بغض النظر عن مدى شرعيتها. أما الدين والمذهب والحزب والقبيلة وغيرها من أسباب الانحياز والانتماء فهي ليست إلا وسائل يسعى باستغلاله لها وتطويعها من أجل تحقيق تلك الاحتياجات، وذلك يفسر التناقض والتباين في سلوك المنتسبين أو المنتمين لهذا الكيان أو ذاك فيما بينهم، فكلٌّ يوظف مرجعيته من أجل تحقيق غاياته، وقليل منهم من يوظف طاقاته من أجل تحقيق أهداف مرجعيته. لذلك فإن التعويل في كل مراحل التاريخ لا يكون إلا على القوى الواعية لإنسانيتها وكنه وجودها وما تملكه نتيجة ذلك من حيوية وقدرة على التغيير.


ومع الحالين فإنا يجب أن لا نغفل حال الأمتين العربية والإسلامية ولا يغيب عن وعينا، فإن كارثة العراق قد قضت على نتائج جهود وتضحيات شتى امتد أمدها قرناً كاملاً من العمل الدائب والمتواصل من قبل كل المخلصين لأمتهم والحريصين على مستقبلها والرافضين لواقع ذلها وهوانها ونكوصها عن أداء دورٍ كانت هي رائدته وقائدة مسيره، بتحفيزها وتشجيعها على امتلاك إرادتها وقدرتها على فعل التغيير والنهوض من بين أطلالها، مارداً جباراً يقود مسيرة الخير والعدل والسلام. فإن احتلال العراق قد أعادها مرّة أخرى إلى حيث كانت، سلبية عاجزة عن مواجهة التحديات المصيرية التي تُفرض عليها، والتي تفاقمت أخطارها كثيراً عنا كانت عليه من قبل، بنتيجة التحالف الامبريالي الصليبي الصهيوني مع الشعوبية المجوسية الفارسية، والتي كشرت عن أنياب غلها وحقدها وصلفها، واستحلب سمومه في وعيها وسلوكها وإرادة الشرّ الكامنة فيها منذ معركة القادسية الأولى منتصف العقد الثاني من الهجرة النبوية الشريفة، منسجمة ومتناغمة مع الكيان الصهيوني الذي خرج هو الآخر من جحره وراح يحرك قدميه وكفيه بكل حرية وطلاقة واقتدار، يصوغ إرادة هذا النظام العربي ويرسم سياسة ذاك، يصنع نظاماً هنا ويمسك بخناق آخر هناك، فيما اجتاح الوباء الشعوبي الصفوي كل أقطار الأمة، القريب منها والبعيد على حدٍّ سواء، وامتلك قدرة الصهاينة لعبثان معاً وباتجاه واحد في الواقع العربي بعد غياب العراق، رغم اختلاف غاياتهما. أما الصليبية فقد أحكمت طوق خناقها على الأمة من خلال أنظمتها وأدوات ووسائل أخرى غيرها بمجرد غياب الأسد الذي كان يذود عنها ويحميها، فقد أذاقت جماهير الأمة خلال السبع سنوات المنصرمة صنوف العذاب والتهميش ونهب الثروات واستلابها ودفعهم باتجاه هاوية الانحراف، وكشفت عن وجه أنظمتها كذيول حقيرة لا تقوى على غير الانصياع والامتثال لإرادة الغرب الامبريالي الصليبي الصهيوني وحليفهما الجديد القديم؛ فقيه الصفوية المجوسية، ومتطلبات سياساتهم القذرة وأطماعهم المتوحشة، التي لا تتوقف عند حدّ.


ومع كل ماسبق ذكره فإن الإنسانية هي الأخرى أصابها شرر اجتياح العراق، فقد ولّد في كل أرجائها، الضعيفة والقوية، رعباً وخوفاً من القادم من أيام موجة الشرّ الامبريالي التي تركبها الولايات المتحدة الأمريكية بتفرد كامل، فإن نجاحها في اجتياح العراق، وهو الذي كان رأس الممانعة ورفض الانصياع لهيمنة القوة الغاشمة على الكرة الأرضية، قد شكل في وعي الأمم والشعوب شعوراً طاغياً بالإحباط وعدم القدرة على مواجهة هذا الطاغوت أو التمرد على خياراته، مهما بلغت بها أسباب القوة والتماسك والصمود. لذلك فإن يوم التاسع من نيسان عام 2003م لم يشهد احتلال بغداد المجد والحضارة فحسب، إنما شهد استسلاماً جماعياً غير مشروط لكل شعوب الأرض وأنظمتها أمام الإرادة الامبريالية الأمريكية وحلفها الصليبي الصهيوني الفارسي. فإن المشروع الشرق أوسطي لم يكن لينحصر أثره على الأمة العربية والمناطق المتاخمة لها، بل يتعداها ليشمل الخارطة السياسية العالمية برمتها، مع اختلاف في المسميات والذرائع والأسبقيات ليس إلا، فالحقيقة المؤكدة أن هذا المشروع الامبريالي يبدأ من حيث المركز الحيوي في الكرة الأرضية، المتمثل بالأمة العربية والعراق تحديداً، ومن ثم يمتد بدوائر شعاعية متعاقبة حتى يشمل إعادة رسم الواقع السياسي والجغرافي للعالم بأسره، وفقاً لرؤى وتطلعات وغايات الامبريالية الصليبية والصهيونية، وأطماع من تحالف معهما.

 
حدود الدور الذي تنهض به المقاومة

 
إن الدور الذي تنهض به المقاومة العراقية كبير ومتسع ومتعدد الغايات والأغراض، كما بينا آنفا، لذلك فإن النتائج التي يتمخض عنها جهادها وكفاحها تمتد هي الأخرى بمفعولها وتأثيرها تبعاً لذلك، من أجل هذا، فإن الواجب الملقى على عاتقها يحتم عليها الشعور بمسؤوليةٍ أرادهم واختارهم الله تعالى لها، وأنها تتعدى في آثارها ونتائجها تحرير العراق واستعادة دوره وواجبه وموقعه، لأنها - المقاومة - باختصار شديد تمثل الإرادة المناهضة لإرادة الطغيان والعدوان وانتهاك حقوق الغير دون وجه حق، وقد امتلكت بفضل الله ومدده القدرة على إدارة دفة الصراع مع أعدائها، وأفرزت قناعات وآمال عريضة بإمكانية تحقيق الانتصار عليهم، مجتمعين ومتفرقين، وذلك الذي جعلها مصدراً أصيلاً لإرادة الممانعة والرفض للواقع الذي أرادت القوى الامبريالية فرضه باحتلالها للعراق على كل الأمم والشعوب، فقد امتد أثرها إلى كل أرجاء المعمورة، ينعش فيها إرادة المواجهة والتصدي ورفض مشاعر العجز والإحباط مجدداً.


بمعنى آخر فإن المقاومة العراقية تنهض بمهمة قيادة الصراع بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن أمتها وعن كل شعوب الأرض ومستضعفيها، وعلى نتائج صراعها يتوقف مصيرهم ومن أنابوا عنهم، وأي إرادة ستتحكم في حياتهم؛ إرادة الخير والعدل والفضيلة، أم إرادة الشرّ والطغيان والفجور والرذيلة.


وذلك الدور قد لا يعي أبعاده وأهميته الكثير من المقاومين الأجلاء، ليس لقصور في وعيهم أو بعض جهالة، إنما هي متطلبات تركيز الجهد والفكر حول الهدف المباشر والمركزي الذي تستمد المقاومة مشروعيتها وشرعيتها منه، والثقل الملقى على عاتقهم وهم يخوضون المنازلة الصعبة ضدّ قوى لا يتفوقون عليها إلا بالإيمان والإرادة، وما عداهما فإن أعدائهم يتفوقون فيه بمستويات مختلفة، أي أنها بالدرجة الأساس تعبير عن صراع بين الروح ومرتكزات فطرتها السليمة وبين المادة ومغرياتها وحبائلها.


وهي أيضا صراع بين الروح المؤمنة التي تطوع الماديات لأجل غاياتها، وبين الماديات التي تشيطن الروح وتخرجها عن فطرتها فتحولها إلى كوارث حقيقية.


ولأن عامل الزمن مهم وحاسم في الصراع، ولأن امتداد الصراع، مع ما يحمله من تأثير إيجابي يصبّ في صالح المقاومة ومشروعها، من خلال استنزاف طاقات وإمكانيات العدو، الذي يعتمد بوسائله وغاياته على المادة، والتي لا تصمد أمام الصبر والمطاولة، لأنها في غاياتها النهائية لا تستند إلا على المتع الدنيوية، فحسابها عادة ما يكون على أساس حسابات فرص العيش لا أكثر، فإنه من جانب آخر يخلق فوائد إيجابية للأعداء ومشاريعهم، ويحيي فيهم الآمال باستمرار بحصول خطأ ما أو ثغرة قد يتيحان لهم ضربات مفاجئة وخاطفة تفقد المقاومة وعيها ورشدها.


وعامل الزمن هذا لا تتعزز تأثيراته الإيجابية - إن حصلت - لصالح هذا الطرف أو ذاك إلا بفعل الصدف أو الظروف العرضية المفاجئة التي لا تخلقها أي من الإرادتين المتصارعتين، إنما هي تفرض وجودها بأسباب عادة لا تكون متصلة بالصراع أو لها أي علاقة به، فإن للتغييرات المناخية التي تحدث خارجاً عن إرادة الإنسان ورغبته، دوراً فاعلاً ومؤثراً في توجيه دفة أي صراع إذا تصادفت معه باتجاه قد لا يكون قبل حصولها منطقياً، أو قد تتسبب في تسريع وتائره، أو تعطلها لزمن معين. كما إن التغييرات المحتملة في الخارطة السياسية الدولية قد تخلق هي الأخرى فرص لمتغيرات على مسارات الزمن وحيثيات الصراع، فالواقع السياسي الإيراني الحالي يشكل ثابت نسبي مرحلي في ترجيح كفة الصراع بجانبه العدواني، لكن احتمالية التغيير في ذلك الواقع قائمة وممكنة في أية لحظة، وعند حصول مثل ذلك فإن الزمن سيفرض متغيراً إضافياً على واقع الصراع. وأن انقلاباً عسكرياً قد يغير من أولويات السياسة التركية ودورها المعروف كمؤثر ثانوي في الصراع، وان إمكانية نجاح الشعوبية الفارسية في فرض تغييرات مفاجئة في الواقع السياسي لأقطار الجزيرة العربية وبخاصة السعودية واليمن، سيخلص متغيراً سياسياً يفرز تأثيرات متعددة على مسار الصراع وحيثياته، والكيان الصهيوني، وإن كان يسعى بكل طاقته لحساب خطواته، من أجل استمرار فعل المخدر للعاطفة العربية حيال الصراع تسهيلاً منه للحلفاء في تحقيق غاياتهم التي لا تستبعد متطلبات أمنه ووجوده، لكن لا يستبعد أن يشكل غياب التضامن العربي والتقوقع الذي تعيشه الأنظمة بعد اجتياح العراق، والتفكك الحاصل في العلاقات الرسمية العربية، إغراءاً وحافزاً لكي يتوجه صوب سوريا ليقضم من أرضها جزءا آخر، أو يجتاح حليفها الفارسي في جنوب لبنان. فيما لا يستبعد أيضاً أن تحاول سوريا استعادة الجولان كجزء من عملية التحريك لسياسات التسويات الاستسلامية.

 

وذلك كله شبيه من حيث النتائج بعامل التغيير الإجباري في التكتيكات الامبريالية ضمن سياساتها الخارجية، والذي فرضته الأزمة الاقتصادية الخانقة المفتعلة أصلاً من قبل الرؤوس التي تملك قدرة التحريك بهدف إرعاب الشعوب والأنظمة المنتجة للنفط كي تنصاع لإرادة الهيمنة وتخفض أسعاره التي كانت قد تجاوزت حينها المائة وأربعين دولار لأول مرة في تاريخ التعامل بالنفط كوقود وسلعة أساسية. من هنا يتبين أن الزمن قد لا يخلق ظروف مؤاتية تساعد على حسم نتيجة الصراع، بل وقد يعطلها بالمفاجئات غير المحسوبة.


لذلك فإن المنهج السليم والصحيح هو العمل بكل الوسائل والسبل على ضغط زمن المنازلة قدر المستطاع، ليس تقنيناً للتضحيات الجسام، ومنع الأعداء من ترسيخ قيمهم الثقافية، والتي تتطلب عمليات تحرير عميق أخرى تعقب هزيمة جيوش الغزو فحسب، إنما هو ضرورة ملحة لتجنب المفاجئات غير المتوقعة، من التي تفرضها أسباب ودواعي لا تتعلق بالصراع مباشرة، لكنها يؤثر فيه تأثيراً مهماً فتصوغ حيثياته على غير ما مخطط أو معد لها، الأمر الذي قد يشكل صدمة تفقد الصراع موازناته المستقرة، وقد يخلق إرباكاً غير مطلوب، ذلك لأن مثل هذه المتغيرات لن تكون مدرجة أصلاً على جداول العمل المباشر وحتى خططه المستقبلية، وإن كانت متوقعة ضمن الخطط العامة غير التفصيلية، والتي لا تشكل مساساً في عمل القواعد الجهادية اليومي. كما إن عامل الزمن قد يفرز حقيقة أخرى، وهي كما أن المقاومة تستثمر لصالحها أخطاء الجهات المصطرعة معها، نتيجة امتداد زمن الصراع والمنازلة، فإن العدو يتسقط هو الأخر الأخطاء والهفوات التي يفرزها طول الزمن وتراكم الاحتكاك والخبرات، فتشكل ترجيحاً له قد يساوي كفة الترجيح التي أتاحتها أخطاءه للمقاومة.


إن المنازلة التاريخية مع الشعوبية الفارسية خلال قادسية صدام المجيدة، رغم أنها - بسبب امتداد زمنها أكثر من الحدّ المعقول بكثير نتيجة الإصرار الإيراني على استمرارها تحقيقاً لأهداف القوى التي دفعته لتبنيها بالنيابة عنها- حققت للعراق وجيشه وشعبه خبرات قتالية ميدانية كبيرة، ورغم أنها حفزت في العقل العراقي كوامن قدرته لينجز حصيلة متميزة من البحث العلمي الرصين في كل المجالات، أتاحت له أن يلج منافذ للعمل والتصنيع لم يكن من قبل قادراً عليها بفعل ضغط الحاجة ومتطلبات المواجهة ورد العدوان، وكما حققت للعراقيين والعرب سِفراً متميزاً من البطولة والتضحية والفداء، وغيرت من قناعاتهم السلبية عن قدرتهم على ممارسة وإدارة الصراع مع القوى المعادية، والثقة بالنفس على إمكانية التغلب والانتصار عليها. لكنها بالمقابل، ونتيجة امتدادها لزمن قارب من ثمان سنوات، قد أرهقت الإنسان والاقتصاد وساهمت في بروز أمراض اجتماعية مجدداً كان المجتمع قد شفي منها تماماً، فكثير من الأبناء نشأوا معتمدين كلياً على أمهاتهم دون أي دور للآباء المنشغلين بالقتال على جبهات المواجهة، فيما تيتم آلاف منهم نتيجة استشهاد آبائهم أو وقوعهم في الأسر، وكل هؤلاء وغيرهم  كانت خطاياهم برقبة خميني وأتباعه الفرس لأنهم هم الذين تسببوا بكل تلك المآسي الإنسانية بعدوانهم وإصرارهم على تصدير مجوسيتهم للديار العربية ورفضهم دعوات العراق الصادقة منذ الأسبوع الأول للرد العراقي على عدوانهم الفعلي الذي بدأ في الرابع من أيلول عام 1980م رغم خسارتهم لكل معاركها الميدانية. كما أفرزت ضغطاً متواصلاً على المقاتلين، وبخاصة فئة الشباب منهم، فهم المادة الأساسية للقوات المسلحة المتصدية للعدوان، حيث تسبب طول زمن الحرب في تعطيل أو تأجيل العديد من مشاريعهم الإنسانية، من زواج أو تكوين متطلبات أسرة أو ممارسة أعمالهم التخصصية، أو فقدانهم للحد الأدنى من متع الحياة المشروعة. كما أفرزت ظواهر اجتماعية منحرفة بسبب الأثر السلبي هذه المدّة الطويلة على الاقتصاد العراقي، فقد تعثر النشاط الزراعي والصناعي والخدمي بعد أن شهد خلال الفترة السابقة للحرب تطوراً نوعياً وكمياً متميزاً.

 
لماذا لا يتحرر العراق إلا بوحدة المقاومة

 
هناك حقيقة مؤكدة تفيد أن تأخر تحقيق وحدة فصائل الجهاد الحقيقية تفعم الأعداء بالأمل الكبير في إمكانية اختراق صفوف المقاومة، والعمل على دفعها باتجاه المزيد من التناقض والاختلاف فيما بينها، من خلال أوهام وخدع عديدة يفرزها على الواقع العراقي لتسهم في تنمية فقه الخلاف والتشرذم بين قواها الحيّة الفاعلة، أو بين بعضها وبين قوى زجها في معترك المقاومة بعد أن هيأها وأعدها إعداداً خاصاً يتلائم مع طبيعة مهماتها ودعمها بالدعاية والتضليل ويجعل منها منفذا لتعميق الخلافات وتأجيجها فيما بعد بين المجاهدين أنفسهم. وإن لم يتحقق له ذلك على وفق ما أراد وخطط، فإنه لا يقطع الأمل بتراجع أدوارها الكفاحية نتيجة طول المنازلة وتشتيت الجهد والإمكانات ونضوب الموارد، واحتمالات انقطاع نفس الصبر والمطاولة لدى البعض، ممن يستعجل تحقيق أهدافه الذاتية الكامنة خلف مقاومته.


كما إن حالة التفرق بحدّ ذاتها تشكل عامل تثبيط لعزائم المقاومين بمرور الزمن، من خلال شعورهم بعدم امتلاك القوة الكافية لحسم الصراع لصالحها نتيجة التفرق والتشتت، ولا نعتقد أن أحداً من المقاومين، أو على الأقل قياداتهم التي تملك إرادة التوحد من عدمه، لا يعلم أن ثورة الشعب العربي في الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي امتدت منذ عام 1830م وحتى عام 1954م دون أن تحقق لنفسها قدرة حسم الصراع وإخراج المحتل الذي عبث كثيراً في الواقع الجزائري، لا زالت آثاره ماثلة في الواقع إلى يومنا هذا، رغم سخائهم في تقديم التضحيات تلو التضحيات، والسبب الوحيد الذي وقف خلف ذلك العجز الذي امتد قرابة قرن وربع القرن من الزمن كان غياب وحدة فصائل المقاومة، ولكنها في عام 1954 حينما أدركت أن لا سبيل للخلاص وحسم الصراع مع الاستعمار الفرنسي وتحقيق النصر الناجز عليه إلا بوحدة فصائل الجهاد والمقاومة، تداعت كل الفصائل تحت خيمة جبهة التحرير، فاستمدت من أسباب القوة والعزم والقدرة ما جعلها تحسم المنازلة بانتصار باهر خلال سبع سنوات تقريباً، فتحقق لهم من خلال وحدتهم ما عجزوا عن تحقيقه خلال أكثر من مئة عام.


وذلك الدرس من واقع أمتنا وليس غريباً عنها، والأجدر بنا أن لا نكرر الخطأ الذي وقع فيه أشقاؤنا الجزائريين، و"المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين" كما حذرنا وأرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فالتجربة الجزائرية شهدت نفس التنوع الذي تشهده المقاومة العراقية اليوم تقريباً، ففيها من يركن إلى مرجعية قبلية محلية، وفيها من يركن إلى مرجعيته النسبية القومية، وفيها من يستند إلى مرجعيته الدينية الإسلامية، وفيهم من يتخذ من حزبيته السياسية مرجعاً له في سياسته دون أن تخل في علاقته بأمته أو دينه أو محليته، ورغم ذلك فقد توحدوا حين امتلكوا إرادة القرار على التوحد، ولم تثنهم ولاءاتهم المتعددة عن تحقيق ذلك، طالما كان هدف الصراع واحداً.


فالتعددية الفكرية والتفاوت في الوعي والإدراك، والاختلافات فيما يتعلق بنظرة هذه الفصائل لما ينبغي أن يكون الحال عليه بعد التحرير، لا تشكل في الحقيقة موانع لوحدة فصائل الجهاد واجتماع كلمتها، كما أثبتت التجربة الجزائرية، وكما أثبتت المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الأولى من نشأتها، فقد انبثقت مستهل عام 1965م موحدة الإرادة والفعل على هدف التحرير رغم تعدد مرجعياتها، فحققت انجازات مذهلة، وكانت قادرة بهيئتها تلك على تحقيق أهدافها لو كُتِب لها أن تستمر، لكنها بعد ذلك تفرقت تحت مسميات وسقوف وإرادات شتى، كلها تستمد قدرتها على فرض الخلاف والشقاق من أهداف ما بعد التحرير، ففقدت قدرتها وامتدت معاناتها جميعاً مع الشعب الفلسطيني حتى أوصلها التفرق إلى مالا تحسد عليه اليوم.


وبعد كل هذا فإنا لا نملك إلا أن نقول وبثقة، أن التعددية في خلفيات فصائل المقاومة العراقية المجاهدة ليست سبباً حقيقياً ومبرراً موضوعياً لفرقتها، وأن أهداف كل جهة فيها ومرجعيتها لمرحلة ما بعد التحرير ليست هي الأخرى السبب فيها، لأنها كلها لا قيمة لها ولا تأثير إلا بتحرر العراق، لكنها إرادات القائمين عليها، تمنعهم عن الانصياع لمنطق الحق والتوحد لغايات في نفوسهم، هم يعلموها وأدرى منا بها.


ونحن لا نملك لإخوتنا وأحبتنا ودرر تاج عزّ العراق والعروبة والإسلام والإنسانية وجواهره الثمينة إلا الدعاء لهم بأن يتخلى كل واحد فيهم عن تلك الغايات والأنانيات الضيقة التي لا تليق بالجهاد ولا بالمجاهدين وينفروا جميعاً إلى وحدتهم الحقيقية الصادقة، وينفضوا عنهم هوى النفس ووساوسها، فإنهما من الشيطان، والله تعالى أمرنا مؤكداً بمحكم كتابه العزيز: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (سورة الصف، الآية:4)، وإلا فإنهم يتحملون أمام الله تعالى وأمام الناس أجمعين وزر كل الدماء التي تسفح والأرواح التي تزهق والأموال التي تنهب والشرف الذي يدنس والعرض الذي يغتصب، والنتائج الخطيرة لما يفرزه الاحتلال وأعوانه وأذنابه كل يوم على الواقع العراقي والعربي والإسلامي، وسيلحق الضرر بكل المرجعيات التي تستند عليها الفصائل المجاهدة بلا استثناء، فلا الوطنية ستسلم ولا العروبة ستنجو ولا العقيدة ستبقى نقية من التزوير والتحريف، وفي الدور الفارسي المستند إلى مجوسيته كفاية لأن يُذْهب كل تلك القيم مجتمعة ويفرض بدلاً عنها على الأمة بجميع أطيافها مما يناقضها ويغضب الله تعالى.


إن الوحدة التي نراها شرطاً أساسياً لتحقيق الانتصار النهائي على الغزاة بكل أشكالهم وغاياتهم لا يمكن لها أن تتحقق إلا أن يشيع المجاهدون فيما بينهم عوامل المحبة الخالصة المبنية على رابط الجهاد والمقاومة، وليس على فئوية كل منهم، فالفئوية لا تفضي بصاحبها حين يتمسك بها ولا يرى غيرها إلا للبغضاء والأحقاد، مهما استحضر من يركن للفئوية في نفسه من عوامل الخير والمحبة، لأنه يكون قد أغلق على نفسه أفقها ومداها الرحب، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله الشريف:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فبالمحبة فقط يمكن لهم جميعاً أن يلموا بالحقائق كاملة، لأنها تفتح أمامهم أفق التفاعل الإيجابي بعيداً عن التعصب والأنانية المقيتة، والذي لا تدرك الحقائق إلا به.


ولا يغيب عن الذهن أن وحدة المقاومة والجهاد؛ إرادة وفعل واتجاه ومسير ومؤسسات بالإضافة لما سبق ذكره مما يجعلها ضرورة ملحة وحتمية، فإنها تمنحها المزيد من الاحترام والاهتمام الشعبي والدولي، وتفتح أمامها كل آفاق التفاعل الخارجي والإصغاء، وهي غاية مهمة وحاسمة في كسر طوق التضليل والتغييب الذي تفرضه أدوات الدعاية والإعلام المعادي عليها وعلى فعلها الكبير المؤثر، والذي لا تتحقق قناعات الجدوى وفاعلية التمثيل إلا بوعي المحيط الدولي به كاملاً. كما تمنحها الوحدة القدرة والشرعية على تمثيلها للشعب العراقي وتبني قضيته، فتكون مرجعيته الوحيدة أمام الأمم والشعوب. وذلك ما لا يمكن تحقيقه في ظل واقع التشتت والفرقة والتمحور خلف مسميات شتى، ولا تملك من أسباب الخلاف والتمحور إلا أعذاراً واهية لا تتعلق بمهمات التحرير ولا ترتبط بها من قريب أو بعيد، فالنصارى العرب من أهل العراق كانوا قد ساهموا بجهد واضح ومعروف في معارك تحرير العراق من الاحتلال الفارسي خلال العقد الثاني من الهجرة النبوية المباركة، مندمجين بشكل كامل في الجيوش الإسلامية وتحت راية واحدة وقيادة واحدة ومن أجل هدف واحد، ولم تمنعهم عقيدتهم من أن يتوحدوا مع غيرهم رغم اختلافهم في عقائدهم، من أجل تحرير وطنهم من هيمنة خارجية لا تمتلك الحق في ذلك، فذلك أسبق حتى من الأديان لأنه جزء أساس من الفطرة التي خلق الله تعالى الإنسان عليها، بل وكل مخلوقاته الحيّة، فحتى النبات، فطره على خاصية الدفاع عن وجوده، حين أعطى لهذه النبتة مذاقاً مرّاً، وتلك سلحها بالأشواك، وغيرها الكثير مما يقع تحت أنظارنا وقد لا نستوعب جدواه، والنمل هذا المخلوق الضئيل في حجمه والفريد في تكوينه والذي يغرق بقطرة ماء لا أكثر أمدته قدرة خالقه بقدرة اللسع دفاعا بالفطرة عن وجوده وكيانه.


فالتنوع بكل خلفياته إذن لا يمكن أن يشكل عائقاً حقيقياً ومنطقياً لوحدة المقاومة العراقية، خاصة وأنها عملياً متوحدة على هدفها، فليس من بين الفصائل المقاومة في العراق من لا يضع التحرير وطرد الاحتلال هدفاً رئيسياً له، والخلاف أو الاجتهاد يرتكز على واقع ما بعد التحرير وطرد الغزاة، وذلك لعمري منطق أعرج لا يليق بمجاهد وأعجز من أن يبلغه مبتغاه.


فذلك المنطق يشكل اليوم حاجزاً، لا يستهان بحجمه ولا تأثيره، بين فصائل المقاومة ووعي الجماهير، فالجماهير عادة لا تملك وعياً كاملاً بآفاق المستقبل بناءاً على معطيات الواقع، بل هي كثيراً ما تصوغ وعيها وقناعاتها على ما هو متيسر أمام أنظارها، أي أنها تجيد التعامل بالملموس، ولا تجهد نفسها ولا تجازف بولوج مجاهيل المحسوس، تبني مواقفها على ما هو كائن، وليس على ما يمكن أن يكون، من هنا تشكلت في وعي الجماهير هواجس غاية في الخطورة والانحراف، فهي ترى في واقع المقاومة الاختلاف والتفرق، وعلى ضوء رؤيتها تقرر موقفها القائل: أن المقاومة مختلفة فيما بينها، لذلك فهي قد لا تتمكن من تحرير العراق، وإن تمكنت فإنها ستغرقه في متاهات الخلاف والتناحر، أي أنها بواقعها الراهن لا تشكل الخيار الحاسم والوحيد للجماهير، لأنها بفرقتها لا تستحوذ كلياً على قناعاتها المشوشة والمربكة أصلاً بالدعايات التضليلية لقوى الاحتلال وأذنابه العديدة.

 
ما الحاجة لقيادة مجربة

 
نحن نجزم أن لو كانت المقاومة موحدة وتقف خلف قيادة واحدة تملك قدرة التمثيل الوطني الكامل بعيداً عن الفئويات منذ بدايتها، لكان التفاف الشعب العراقي حولها مطلقاً، ولفشلت كل مخططات الاحتلال منذ بدايتها، ولما وجدنا مواطنا واحداً يلطخ شرفه بالحبر البنفسجي الذي تكرر مرات، بسبب التشتت وحالة الضياع التي خلقها فقه الاختلاف والفئوية في واقع المقاومة العراقية الباسلة، ولما استمر عمر الاحتلال كل هذه الأعوام.


فالمواطن البسيط في وعيه، والذي لا يملك الكثير من قوة الإرادة، غير قادر بمفرده على استشراف آفاق المستقبل، كما هو غير قادر على فرز الحقائق التي تكتنفها الأحداث الفاعلة في مسيرة حياته خلال الاحتلال من الزيف والتضليل، لذلك فإن نسبة ليست قليلة من شعب العراق لا تدرك خطورة انزلاقها في مخططات الأعداء وألاعيبهم تحت خدع الديمقراطية والتعددية والمشاركة، والذين زيف وعيهم ليعتقدوا أن مهازل ما يسمى بالانتخابات تحت حراب المحتل هي التي تحققها لهم، وإلا فإن المنطق السليم يقول أن الإمبريالية الصليبية ومن تحالف معها من صهيونية ومجوسية فارسية ومن انسجم مع متطلباتها وانصاع لسياساتها من الأنظمة والكيانات السياسية العربية، ما جازفت بأرواح علوجها ومئات المليارات من أموالها وسمعتها المبنية أصلاً على دعائم واهية من الكذب والخداع والتضليل وعدم المصداقية، من أجل سواد عيون هذا المكون العراقي أو ذاك، بدعوى توفير فرص المشاركة أو رفع المظلومية الموهومة عن كاهله، كما لم تكن من أجل دفع أخطار وشيكة كان يمكن أن يسببها العراق ونظامه الوطني عليها وعلى مصالحها، لأنها هي التي أثبتت بطلان تلك الدعوى والحجج الكاذبة، وذلك سيقود من يملك وعياً، وإن كان بسيطا، على التساؤل عن ماهية الغايات التي تقف خلف الاحتلال والأهداف التي استحقت كل تلك التضحيات الجسيمة.


فالمحتل إذن لم يأت لأجل تحقيق ما يصرح به وما يدعيه، إنما من أجل ما يغيب عن وعي هؤلاء الذين ضللتهم تلك الدعايات وجندتهم بشكل أو أخر في سياق تحقيقها. وكثير من الجماهير زيف الغزاة وعيها حتى صارت لا تدرك من شرعية حكامها إلا بقدر ما تحققه لهم من مصالح شخصية، لا تنبثق من المصالح الاجتماعية العليا بل وتتقاطع معها في أغلب الأحيان، حتى وإن أدرك أنها تساهم في ترسيخ أقدام الاحتلال على أرضه، أو تفضي إلى استلاب ما هو أهم وأجدر بالاهتمام من حقوقه.


لذلك نقول أن العمل وسط الجماهير ليس سهلاً ولا يتيسر لكل من أراد، وان القدرة على تصحيح وعيها ونفي التضليل والجهالة عنه ليست أمراً متاحاً لكل متحمس أن يحقق فيه انجاز، والأهم من كل ذلك فإن كسب ثقتها وقبولها لا يتم بالوعود وطبيعة المنهج الذي يسلكه رائد الثقة وطالبها، إنما هي لا تأتي إلا بنتيجة الممارسة الحيّة الفاعلة وسط الجماهير، فطلائع ثورة تموز 1968م لم يتمكنوا من كسب ثقة الجماهير في العراق والأمة إلا بممارساتهم النضالية الميدانية وسط الجماهير وما تمخضت عنه من إبراز لقيمهم وتقاليدهم وأفكارهم ومبادئهم وجهدهم المثابر الخلاق أمامها فجعلتها تتلمسه كواقع معاش، لذلك التفت الملايين من العراقيين حول الثورة والحزب ومبادئهما بكل حرص وإصرار وفاعلية بعد سنوات قليلة من عمر الثورة، فيما لم يتحقق ذلك من قبل اعتمادا على الجوانب النظرية للحزب والثورة رغم وجودها منذ زمن ليس بقليل ومتاح للجماهير الاطلاع عليها من خلال عمل طلائع البعث بين صفوف الجماهير خلال مراحل العمل السري.


من هنا يتأكد أن عملية خلق القيادات الجماهيرية، أو القادرة على توحيد الجماهير على مسيرها وأهدافها لا تتم عن طريق الفرض والإرغام والتطويع القسري، كما لا تتم وفق قناعات الطلائع نفسها، أياً كان شكلها ولونها، إنما هي عملية اختيار لا تتم إلا بتوفر شروطها الموضوعية كاملة، كما تبين، لذلك فإن مساحة العمل الجهادي المحكومة بالسرية والتحوط الشديد والتضييق المستمر ليست مؤهلة لأن تفرز قادة جماهيريين يصلحون لخلق حالة التفاعل والتواصل مع الجماهير والنجاح في قيادتها، رغم أن كثير منهم يصلح لذلك، ولأن الشعب غير موحد بإرادته اتجاه مقاومة المحتل، فلا يتيسر والحال هذه أن يبرز وسط الجماهير كمجاهد، وإن اختيار المقاومين لمن عرفوا خصائصه القيادية في ميدان عملهم الجهادي غير اختيار الشعب له، لأن اختيار كهذا لا يحقق لهدف التحرير تقدم مطلقاً، فقيادة كهذه ستبقى محصورة بين أهلها، لكنا بحاجة إلى قيادة خبرها الشعب كله وامتحن مصداقيتها لتكون سبباً مهماً من أسباب التفاف الشعب حول المقاومة، وذلك أمر غاية في الأهمية، لأن تحريراً للعراق لا يمكن أن يتم ما لم يلتف الشعب ويتوحد خلف المقاومة بقيادة يثق بها لأمنها ممتحنة.


لذلك فإن القيادات المجربة التي نشأت وسط الجماهير واكتسبت خبرات العمل بينها ونجحت في قيادتها في ظلّ أصعب وأدق الظروف والمراحل التي عاشها العراق منذ أربعة عقود هي الوحيدة القادرة على تلبية احتياجات المرحلة، وستمنح المقاومة كلها لو امتلكت إرادتها وتوحدت خلف قيادتها قوة هائلة وقدرة كبيرة على تجميع صفوف الجماهير العراقية وحتى العربية حولها، وستنقلها من موقع المحاصرة والتضييق إلى مواقع الانتشار والانطلاق الواسع في الوجود والفعل والتأثير.


وليس هذا فحسب، إنما ستنقلها من واقع الفئوية بكل أشكالها إلى شمولية التمثيل والانتماء والتأثير، فهي رغم أن كثير منها ليست فئوية بمعنى الاجتزاء والانتقاء والولاء، لكن طبيعة تكوينها والبيئة التي انبثقت عنها فرضت عليها أن تحمل سمات الفئوية، التي لا تتيح للشعب أن يتوحد خلفها مطلقاً مهما كانت أهدافها وغاياتها نبيلة وصحيحة، في حين أن قيادات البعث وثورته أثبتوا بالممارسات الحيّة أنهم يمثلون الشعب العراقي بكل مكوناته وأطيافه، بل إن البعث هو الوحيد الذي تمكن من خلق حالة الانسجام الرائع بين هذه المكونات وحولها إلى قوة متماسكة حققت كل المنجزات الكبرى، التي ما كان يمكن لشعب مفكك تتقاذفه أمراض الطائفية والمذهبية؛ الدينية والسياسية، والعرقية أن ينجز أية نسبة متواضعة منها.


وذلك لا يلغي حقوق الآخرين من فصائل المقاومة في التعبير عن قدراتهم وإمكاناتهم وطموحاتهم في قيادة الجماهير والعمل على كسبها لتبني مناهجها السياسية، فإن المرحلة التي ستعقب التحرير ستتيح هذه الفرص بكل مدياتها، لأن مرحلة ما بعد التحرير ستشهد جهاداً لا يقل أهمية عن جهاد الأعداء والانتصار على عساكرهم وأدوات حربهم، لأنها ستستهدف تحرير المجتمع العراقي من كل مخلفات الاحتلال، والتي هي أخطر من الاحتلال بصفحته العسكرية، لأنها خفية وغير مرئية، ولا تشكل في وعي المواطن البسيط حالة مضادة ومعوقة للاستقلال الحقيقي وظواهر دخيلة تعمل على استكمال ما قد أنجزه الاحتلال في ظل الجيوش، وهي بسبب امتدادها على مساحة من الزمن نتيجة عدم التوحد بين فصائل المقاومة ستكون آثارها غائرة عميقاً في السلوك الاجتماعي، لأن هناك فارق كبير بين أن يخرج المحتل مطروداً منهزماً لا يلوي على شيء وبين أن يخرج هارباً بعد أن يصوغ الواقع العراقي وفقاً لمتطلبات غزوه واحتلاله، ففي هذه الصفحة من الجهاد لتحقيق التحرير العميق فرصا ذهبية لكي يبرز كل ذي قدرة قدرته ومؤهله ويطرح شخصه ومشروعه السياسي على الجماهير من خلال عمله بينهم، وحينها سيحصل كل ذي حقّ على حقه وموقعه، بل إن التنوع والمنافسة الشريفة ستكون حارساً لكل الجهات العاملة في وسط الجماهير من التفرد أو الخمول أو قسر الجماهير على منهج دون غيره، لأنها مع كونها ستشكل حوافز للعمل والإبداع من خلال التنافس فهي ستخلق قدرة الاختيار الصائب والصحيح للقيادات من قبل جماهيرها نتيجة ما سيتاح لها من مساحة واسعة من قدرة التقييم والفرز.


لقد كانت واحدة من الصور المؤلمة تلك التي رسمتها بعض الفصائل نتيجة الجهل بحقيقة الواقع العراقي وكيفية التعامل معه، تعبر تعبيراً واضحاً عن قصور في الرؤية السياسية اللازمة للتعامل مع الواقع بموضوعية وعلمية وعقلية متفتحة، حين أثيرت الشكوك وأطلقت التهم على أحد الفصائل الجهادية على الرغم من دوره الواضح والمشهود في الساحة الجهادية، فقط لأنه ضمن تسميته الإسلامية لمفردة الوطنية، وكأن الوطنية كفر وإلحاد وخروج عن الشريعة الإسلامية، فأي تحجر هذا في الوعي والإدراك؟ وأي انحراف خطير في فهم العقيدة الإسلامية هذا؟ وهل يمكن لمنهج في التفكير والسلوك كهذا أن يحقق للعراق وحدته بعد تحرره؟ فمن أين جاء هؤلاء بالتناقض بين الوطنية والإسلام؟ أليست الوطنية تعبير عن الوفاء للأرض التي وهبها الله تعالى للإنسان بعد أن أبدع خلقها ليستخلفه فيها؟ أليس في المحافظة عليها وطرد الغزاة المغتصبين عنها وتعميرها بعض من الوفاء وأداء للأمانة التي استخلفهم ربهم عليها؟ أليست الوطنية تعني رعاية مصالح مخلوقات الله عليها، ألم تكن حياة وأمن وسلامة وكرامة ومصالح حتى الذين لم يسلموا ولم يهتدوا من واجب الحاكم المسلم؟ أليس الموت دفاعاً عن الأرض والعرض والممتلكات شهادة كما الموت دفاعاً عن العقيدة، بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكيف إذن مع منهج متخلف للتفكير كهذا نرجو من شعب العراق أن يلتف بأكمله حول المقاومة ويمنحها شرعية التمثيل والقول والفعل باسمه وفيها من يرى الحياة بهذا المنظور الضيق في أفقه وسعته؟


فالمجاهد عبد الناصر الجنابي والفصائل يمثلها لم يكونوا يمثلون في نظر الكثير من العراقيين والعرب والأجانب سوى منهج وانتماء فئوي محدود، لكنهم باندماجهم في الجبهة التي يقودها رجال البعث وقيادة العراق الشرعية تحولوا مباشرة ليكونوا ممثلين لكل شعب العراق وتطلعاته وغاياته بجدارة وامتياز، مع إنهم لم يتخلوا عن شيء من معتقداتهم السابقة ولم يغيروا شيئا في منهجهم وأهدافهم من المقاومة والجهاد حين اندمجوا بجبهة الجهاد والتحرير، لكن الذي تغير فقلب موازين التقييم وحول التفاعل من صيغته السلبية إلى حالة التفاعل والتواصل الايجابي المؤثر والفعال، هي الهوية فقط، والهوية لا تحققها الأقوال ولا الشعارات، بل التجربة الحية الراسخة في واقع الميدان هي التي ترسم ملامحها وتقرر شكلها وحجمها وتمثيلها، فالمتتبع لواقع العراق يجد أن كل عصابات الجريمة والخيانة والجاسوسية التي تشوه وجه العراق اليوم تحمل في شعاراتها والمعلن من مناهجها النظرية كثيرا من المبادئ والقيم النبيلة، من عدل ومساواة وحرية واستقلال، بل ان رموزها تتشدق دوما بالنضال والتضحية وإرادة البناء والتقدم، لكنها في الواقع العملي تعمل جاهدة بكل ما منحها الشيطان من مكر وصلف وبكل ما أمدتها وتمدها به القوى الامبريالية الصليبية والصهيونية والمجوسية الفارسية من قدرة على مواصلة الإجرام والتوغل عميقا في مسلك الرذيلة.


والبعث وقيادته كذلك لم يحققوا هويتهم الوطنية والقومية عبر الأفكار النظرية، بل استحوذوا عليها كاستحقاق منحهما إياه الشعب والأمة بنتائج الفعل والممارسة والاختبار في في الميدان، فمنذ أن قرر البعث حلّ نفسه كتنظيم من أجل أن تتحقق الوحدة بين سورية ومصر عام 1958م فقد وضعته الجماهير العربية عنواناً طليعياً لطموحاتها، ثم جاءت ثورته المباركة في العراق عام 1968م بمشروعها الحضاري النهضوي لتؤكد قرار الأمة وقناعاتها الصائبة.


فالشعب العراقي لم يكن في أي من أيامه طيلة سبعة آلاف سنة خلت متماسكاً خلف وطنيته وانتمائه القومي ومحتكماً لهما في علاج مشاكله ومواجهة التحديات التي واجهته، كما كان خلال قيادة البعث له عبر خمس وثلاثين سنة.


أما الأكاذيب التي روجها الأعداء والمتربصين بالعراق وتجربته الثورية المثمرة، والتي تمحورت حول أكاذيب مظلومية الشيعة والأكراد فإن عودة متأنية لحيثيات الأعوام التي احتضنت عمر الثورة تفندها وتسفه القائلين بها جملة وتفصيلا، فالمنجزات التي حققتها على كل الصعد، والتي شملت الحياة العراقية بكل تفاصيلها، لم تكن لتتحقق واحدة منها دون التفاف الشعب بكل قواه الحيّة والفاعلة حول البعث وقيادته مطلقاً، وليس هذا فحسب، بل ودفاعه المستميت عن أهدافها، فالأكراد لم يكونوا عصاة على الوطنية، ولم يكونوا دعاة للتخريب أو التآمر أو الانفصال، بل كانت زمر العمالة والجاسوسية التي جندتها الصهيونية والمجوسية الفارسية كأدوات ووسائل ضغط وتعويق للمشروع الوطني والقومي الذي صاغته ثورة تموز المجيدة، لذلك فإن مجرد رفع الغطاء عن أولئك العملاء من قبل الجهات التي كانت تسيرهم في عام 1975م بعد اتفاقية الجزائر الشهيرة، انهارت فلولهم وولت هاربة نحو أولياء النقمة الذين غدروا بهم، وبعد أن لفضهم الشعب الكردي لأنه وقفوا ضد طموحاته في العيش بأمن وكرامة في ظل ما حققته لهم الثورة من منجزات لم يكونوا ليحلموا بها من قبل حين منحتهم حكماً ذاتياً يلبي كل خصوصياتهم القومية ضمن الوطن الواحد. وقد كانت الأعوام الخمس التي تلت ذلك الانهيار لتمرد زمر العمالة عصراً ذهبياً عاشه أكراد العراق، تنسموا لأول مرّة في تاريخهم الحرية والكرامة والشعور بالمواطنة، وبدأوا يتعاملون ويتفاعلون مع الحياة بمنظورها الحضاري.


وكان حقاً على قيادة العراق أن لا تتسامح مع العملاء والجواسيس، حين هربوا خارج العراق آنذاك، إلى حيث أوكار التآمر والعداء والتأليب، بل كان مطلوباً منها أن تمارس عليهم كل وسائل وأساليب الظلم والقهر، إنصافاً لشعبنا الكردي الذي دفع ولا زال يدفع أثماناً باهظة من كرامته ووطنيته وإسلاميته بسبب ما أفرزته هذه الزمر الضالة المضلة على تاريخ العراق وأكراد العراق من تهم وشبهات لا تليق بهم.


أما الشيعة، وهم عراقيون وعرب ومسلمون قبل أن يكونوا شيعة، فهم ليسوا بأسعد حال من الأكراد، لأن ما تعرض له تاريخهم الحافل بالمفاخر، والمتمثل بعمق ارتباطهم بأمتهم وعقيدتهم الإسلامية على غير ما تريد لهم المجوسية الفارسية الشعوبية أن يكونوا، وما تعرضت له الصفحات الجديرة بالاعتزاز من تشويه وتحريف على أيدي حفنة العملاء والجواسيس الأراذل الذين لا يرتبطون بالعراق والعروبة والإسلام بصلة أو نسب، إلا إنهم ممن آواهم العراق وفاض عليهم بخيراته فتنكروا لجميله وغدروا به، والغدر ديدنهم وهم رواده، والذين تاجروا بدينهم ووطنهم وأمتهم وشرفهم لحساب من امتلأ حقداً وغيضاً وحنقاً على أمتهم وعقيدتها، وناصبهما العداء، وما انفك يتآمر عليهما، وجهد على الإساءة لهما بكل أساليب التشويه والتزوير وبشتى الدسائس، فكان الترويج لفرية أسيادهم الفرس بمظلومية الشيعة العراقيين واحدة منها.


وهذه الفرية لا تحتاج إلى جهد جهيد كي تفنّد ويظهر زيفها وبطلانها، فإن أكثر من نصف قيادة العراق الوطنية منذ الثورة عام 1968م وحتى الاحتلال عام 2003م كانت من الشيعة، وإن كانت قياسات المفاضلة آنذاك لا ترتبط بأية سمة فئوية، إنما كانت تستند كلياً إلى المواطنة بغض النظر عن الخلفيات الفئوية، التي لم يكن لها وجود أو دور في التقييم والاختيار في كل مفاصل العمل الحكومي.


ونحن لو تجاوزنا كل الأدلة والبراهين القاطعة التي تثبت بطلان وزيف اكذوبة المظلومية، فإنا لقادرون بعون الله تعالى على دحض تلك الأكاذيب جملة وتفصيلا، من خلال الدور البطولي المشرف الذي نهض به أبناء العراق المتمثل بدفاعهم عن وطنهم وثورتهم ومنجزاتهم ومشروعهم الحضاري، وعن أمتهم وعقيدتهم الإسلامية، خلال تصديهم للريح الشعوبية الصفراء التي كانت ولا زالت تهبُّ من مواطن الفرس باتجاه العراق والأمة منذ أن أرادوا هزيمة الشرَّ فيهم وتحريرهم من عبادة النار والشيطان فأرغموهم على عبادة الله الواحد الأحد، فمعركة قادسية صدام المجيدة لم يكن أمدها أياماً أو أشهراً حتى يمكن القول أن العاطفة الوطنية كانت طاغية على الشيعة فلم يتبينوا حقيقة دورهم وواجبهم، لكنها امتدت ثمان سنوات، بمنازلات دامية ومتواصلة، والعاطفة لا يمتدّ مداها ولا يتعدى أثرها بضعة ساعات، وبضع أيام في أوج تفجرها وطغيانها، ثم تخبوا ليمارس العقل حساباته مستنداً إلى خليفة وعيه وقناعاته، وكما هو معروف أيضاً فإن ساحة الصراع كانت قريباً من مدن عراقية أغلب سكانها كانوا من الشيعة، وكما معروف أيضاً فإن جيشاً لا يملك عمقاً سوقياً متميزاً لا يمكنه الصمود في معركة ساعات وليس أيام، فما بالك بأعوام، مهما بلغت به القوة والتفوق والشجاعة، فالذي حصل خلال تلك الثماني سنوات أن أهالي المدن المتاخمة للحدود مع جارة السوء ووكر الشيطان؛ إيران، شكلوا عمقاً فاعلاً للقوات العراقية المقاتلة على جبهات المواجهة، أمتها بالعزم والإصرار على مواصلة الدفاع عن أرض العراق الطاهرة، رغم أن أغلبهم كانوا من الشيعة، فحتى المناطق الحدودية التابعة لمحافظة ديالى كان أغلب سكانها من الشيعة؛ عرباً وكردا.


وهناك أمر آخر في تلك المنازلة يؤكد زيف أكاذيب الفرس وجواسيسهم، وهو أن هناك العديد من الطيارين العراقيين الشيعة أغاروا بطائراتهم الحربية إلى أبعد أعماق إيران، وكبدوا الفرس خسائر ساهمت إلى حدّ كبير في حسم نتائج الصراع منذ الأيام الأولى للمنازلة التاريخية، وكان بمقدور العشرات منهم إن لم نقل المئات أن يهبطوا بطائراتهم على الأراضي الإيرانية، ويمكنهم الادعاء بأن طائراتهم قد أصيبت بنيران معادية أو أعطال اضطرتهم للهبوط بها هناك، وكان متاحاً لأي واحد منهم أن يفعل ذلك لو كان فيهم من يصدق عليه الشعور بالمظلومية المزعومة، فأي واحد فيهم وهو يحلق في أعماق دولة الفرس يكون قد تحرر من كل عوامل الخوف، وتخلص من ضواغط الإكراه والقسر، لكن أحداً منهم لم يفعل، رغم مرور ذلك الزمن الطويل والطلعات المتكررة التي بلغت لدى البعض آلاف الساعات من الطيران في العمق الإيراني، بل إن العديد من هؤلاء الطيارين الشيعة أصيبت طائراتهم بنيران معادية داخل الأجواء الإيرانية فجازفوا بأرواحهم كي يصلوا بها إلى قواعدهم أو يقذفوا منها بعد اجتياز الحدود، كي لا يقعوا في قبضة أعدائهم، لأنهم أعلم من غيرهم بخبث الفرس وحقدهم على كل ما يمت للعروبة والإسلام بشيء.


وقد كانت إيران في ذلك الحين بأمس الحاجة لمثل تلك الأفعال من أجل تسويق أكاذيبهم بالدفاع عن الشيعة العراقيين وأنهم يريدون تخليصهم من ظلم واضطهاد الدولة العراقية، والدعوات الخائبة التي كانوا يوجهونها من خلال أبواقهم الإعلامية ليل نهار إلى شيعة العراق.


أما الذين هربوا إلى إيران، وهم قلّة، فإنهم ممن ثبت تجسسه على بلده لصالح الفرس والصهاينة، والذين مارسوا أعمال السرقة والتخريب وارتكبوا جرائم بشعة ضدّ شعبهم، ومثل هؤلاء ليس لهم إلا أن يهربوا باتجاه من ورطهم في تلك المنزلقات الخطيرة، حين كشفتهم أعين الشعب وفضحت أدوارهم هروباً من القصاص العادل. أما أغلب منتسبي ما سمي بفيلق بدر الإجرامي وعمامته الفارسية المسماة بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والإسلام منهم براء، فإنهم من الأسرى الذين وقعوا في قبضة الأعداء خلال المعارك، فمارس عليهم الفرس، خلافاً لكل الشرائع والأعراف والقوانين، شتى وسائل وأساليب التعذيب والإغراء، فسقط ضعيف الإيمان وخائر القوى والإرادة في مصيدة النساء الإيرانيات، ممن نشأن على فقه المتعة الفارسية، واللاتي كنّ كفاتنات اليهود الصهاينة؛ عناكب لا يسلم من يقع في حبائلها وبين نسجها، وعقارب الصحراء التي لا ينجو من يتذوق سمها.


لذلك فإن شعب العراق بكل أطيافه ومكوناته حين يجد من يمثله بصدق تحت خيمة العراق الواحدة، ويعبر عن طموحاته وآماله وتطلعاته المستقبلية، فإنه لن ينحرف إلى فئويته المقيتة، وذلك ما تحقق خلال معارك القادسية الثانية، واختبرت مصداقيته، ولذلك نقول أن التخلص من أي مظهر أو سلوك أو منهج فئوي يجعل من صاحبه مشروعاً للقبول من شعب العراق، لكن القرار بالانحياز والالتفاف حوله وحول منهجه لا يتم إلا بالتجربة العملية الميدانية، التي تحدد مدى مصداقيته وجديته في رفع شعاراته وتبني أهدافه، وذلك لا يتيسر اليوم لكل فصائل المقاومة والجهاد، لأن هناك فاصلة وحاجزاً وهمياً كبيراً وُضِع بين ميدان الجهاد وبين الأرضية التي أوقف الاحتلال شعب العراق عليها، ولذلك أيضاً نقول أن لا مجال اليوم أمامنا إلا أن نركن إلى الهوية التي زكاها شعب العراق بكل مكوناته وأطيافه ومشاربه، ففيها يمكننا أن نحقق الصلة الحيّة مع الشعب ونكسب قبوله وتشجيعه والتفافه وتزكيته بالتمثيل الشمولي، وليس التمثيل الطائفي المتحقق، الذي يخلق لدى الشعب دافعاً للإقبال على زرع أنبته أعداء العراق والأمة العربية والعقيدة الإسلامية وأرادوا لشعب العراق أن يتغذى عليه، بعدما أضفوا عليه الحليّة بأن ألبسوه ثوباً إسلامياً، وهو في الحقيقة لا يستهدف إلا محو الإسلام من صدور العرب، والعودة بهم إلى جاهليتهم، التي أتاحت للروم واليهود والمجوس أسلاف الصليبيين والصهاينة والفرس الصفويين الشعوبيين أن يستعبدوا العرب ويغتصبوا أرضهم وخيراتهم، قبل أن يتوحدوا بالإسلام وينبذوا جاهليتهم فيطيحون بعنجهياتهم الواحدة تلو الأخرى.


إن واحدة من أخطر المصائب تلك التي تجعل الإنسان لا يتعامل مع الحياة بمنطق التطور، حين يعاود تكرار أخطاء مرت تجاربها منذ قرون، فيكون بفعله مناقضاً ومخالفاً لمنهج التطور، فإن من أولويات التطور أن تكون نتائج الأخطاء الماضية سبباً كافياً لمنع تكرارها والعمل على تجنبها، وإلا فما معنى التطور والرقي حين يخطأ الإنسان ويكتشف أسباب ذلك الخطأ ونتائجه السلبية ثم ينهض ليصحح مساره وفقاً لتلك الرؤية وبعد الخسائر التي مني بها، ليعقبه غيره فيقع في نفس الأخطاء رغم أن عبرها متاحة أمام وعيه وإدراكه وفي متناول يده كي يتجنب الوقوع فيها، أليس حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:"لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" هو القانون الذي يوجب على الإنسان أن يأخذ بمبدأ التطور من خلال تجنب الوقوع في حفر سقط فيها من سلك السبيل قبله فأرشده إلى كيفية تجنبها ووضع له الدلالات التي ترشده إلى محلها؟ أليس التاريخ سجلاً حافلاً بتلك الدلالات وحيثياتها؟ وما جدواه إن لم يكن خزين خبرة وعبرة وتراكم بناء!

.
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ٠٨ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٤ / أذار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور