المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء الرابع

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعـربـي

الباب الثاني

مؤامرة التشيع الفارسي

 

الفصل الأول

الغلو والتفريط

 

من دروس التاريخ أن مفاهيم الغلو والتطرف ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بأحداث بارزة كانت مخاضات لفتن قاسية تولدت عن كل واحدة منها أو ترافقت معها وفي سبيلها شحنة من الغلو والتطرف قابلتها شحنة من التفريط والتحلل، فضاعت بينهما قيم الاعتدال والوسطية، انسجاماً مع قانون الفعل وردّ الفعل، فلابد للرد على الفعل من أن يكون نقيضاً له أو يقف على الطرف المقابل له، فكلما ابتعد الغلاة عن مركز الاعتدال ابتعد المفرطون مسافة تقابلها وتتساوى معها من الطرف الأخر وإلا لأختلّ الميزان وسقطت الأثقال كلها.

 

بعد سابقة الفرس المجوس بفتحهم باب الجرأة على ولي الأمر بإقدام المجوسي أبو لؤلؤة على اغتيال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي زمان ومكان لهما من الدلالات ما يجعل تكرار فعلةٍ كهذه أمراً سهلا ويسيرا، فاستهداف خليفة المسلمين وولي أمرهم ورأس كيانهم المادي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى البقعة ذاتها التي تطهرت بركوعه وسجوده، وخلال أداء أعزّ الفرائض وأهمها، فالصلاة لا يسبقها في دلالات الإيمان إلا توحيد الألوهية لله تعالى والشهادة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فتأتي الصلاة تعبيرا عن توحيد العبودية لله تعالى دون سواه، وبهذا فقد أهدرت هيبة الخلافة، وهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهكت حرمة مسجده، الذي يعدّ الحرم الثاني التالي للكعبة المشرفة من حرمات الله على الأرض، ونعتقد جازمين أن هذا الاختيار تم بعناية ودراية وتخطيط، مستهدفاً هدم كل تلك القيم وتبديد هيبتها بالتجاوز عليها، فقد كان المسلمون قبل ذلك يمتنعون حتى عن الهمس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة ورغبة في عفو الله ورحمته، ويضع أحدهم نخامته في ردائه على قيمته الكبيرة في ذلك الوقت، فجلهم لا يملك غيره، ولا يجرؤا على تلويث تربة المسجد بها، فما بالك بسفك الدماء وإزهاق الأرواح، وأي أرواح! روح القائم بأمر الأمة وقدوتها وربان سفينتها، والممسك بزمام القافلة لا يدعها تشتط أو تحيد عن سبيلها قيد أنملة، ودليلنا على ذلك أن هذا الموضع هو المكان الوحيد الذي لا نجاة للقاتل فيه على الإطلاق، والخليفة عمر ابن الخطاب كان دائم التفقد والتجوال منفرداً أو معه نفر أو نفرين وبعيداً عن أعين الناس في الليل والنهار، خلال ممارساته المعروفة في تفقد أحوال الرعية، وفي تعقب ابل الصدقة، وفي تسقط أخبار الأمصار وأمرائها من المسافرين عين يستقبلهم في الطرقات قبل دخولهم المدينة، وهي أحوال كثيرة تتيح لمن يريد اغتياله فرصاً مثالية وذهبية كثيرة لتحقيق غايته والنجاة بجلده من القصاص دون أن يراه أحد، بل حتى من إمكانية التعرف عليه، وكان هذا الأمر معروفاً حتى في الأمم التي لم تدخل الإسلام، لأنها كانت ممارسات لم تألفها البشرية من سلاطينها وحكامها، فاشتهرت لشدَّة غرابتها، ولهذا فإن اختيار المكان والزمان والهيئة كان مبيتاً بوعي ودراية وإصرار، ولأهداف مقصودة كما أسلفنا. فالجريمة إذن وإن كانت فعلاً فردياً، لكنها كانت استجابة لإرادات تآمرية جمعية وتحقيقاً لغاياتها.

 

وبهذا فقدت الخلافة هيبتها وفقد ولي أمر المسلمين حصانته، فكانت أطراف المؤامرة قد مهدت الطريق سالكاً لمن أعدتهم للشغب ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي راح ضحيتها الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وإن تركت آثارها غائرة في واقع المسيرة، فهي وإن لم تحقق أهدافها المباشرة المتمثلة بالقضاء على كيان الدولة، لكنها فتحت باب الخلاف والتمحور والتحزب، وذلك كان هدفاً كبيراً يتيح لأطراف التآمر تمزيق طلائع العرب المسلمين وإذهاب وحدتهم، التي كانت الضمانة الأكيدة لقدرتهم على مواصلة حمل الرسالة والنهوض بأعباء نشرها وتبليغها. ومن هنا ولدت الفتنة الأولى على مستوى أدائها وأهدافها ونتائجها من رحم أمها، ودبت في الأرض دبيب الأرضة، فكان من نتائجها ظهور مفاهيم الغلو والتطرف ومبادئ الانحراف والتشويه في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لإفقاد العرب المسلمين كل مظاهر القوة والمنعة والاقتدار التي منَّ الله تعالى بها عليهم، متمثلة في حركة ابن السوداء عبدالله بن سبأ اليهودي، الذي نعتقد أن اختياره لمهمة كهذه كان مبنياً على معايير دقيقة، وأن عملية إعداده كانت مضنية، فيقيناً أنه كان متسلحاً بثقافة يهودية واسعة ويمتلك من المكر والدهاء وخصائص وصفات القيادة وإدارة الحوار والقدرة على الإقناع الشيء الكثير.

 

كانت دعوة ابن سبأ تطبيق لفكر يهودي منظم، استمد من النصارى والمجوس والإرث الجاهلي ما عزز قدرته على التأثير، فاتخذ من عقول وغرائز من لم يتطهر كلياً من العرب وسيلة لهزيمتهم عن طريق نزع الإيمان من قلوبهم وتجريدهم منه والإغراء بتمردها على الروح التي كانت قد صاغ لها الإسلام موقعاً يحميها من أن ترتدَّ عن فطرتها التي فطرها الله تعالى، بعدما تعذر عليهم هزيمتهم بالمعارك والمكر والخداع، فبدأ دعوته بتسليط الأضواء الكاشفة على الأخطاء والتجاوزات التي حصلت من بعض أمراء الأمصار في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك الأمر تحول من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى فقه المعارضة الفوضوية الهدامة، كإحدى نتائج فعل المجوسي أبو لؤلؤة، بعد تهويلها وتحميلها من الأكاذيب والتلفيقات الكثير، حتى تصورها الجياع أنها سبب جوعهم والمرضى سبب مرضهم، وجدب الأرض بإثمهم، وهذا ما قاد بالنتيجة للبحث عن بديل، فكانت خديعة ابن سبأ التالية أن استغل حب المسلمين لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال بأحقية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة بعدما أضفى على شخصيته من خزين إرثه ما يجعلها بديلاً لابد منه، وهذا أمر توخى فيه ستاراً حاجبا لكل من يشك في أهدافه ومراميه، فلآل بيت النبي مكانتهم الخاصة في نفوس المسلمين، ثم استنفر ثقافته اليهودية لتدله على القول بأمرٍ سماوي ونص قرآني بولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون سواه، ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته بغدير خم، وهنا كانت الأهداف مزدوجة، أولاهما تبرير ثورة المسلمين ضد خليفتهم وولي أمرهم، لأنه وفقاً لهذا الاعتقاد يكون ظالما ومغتصباً لحق غيره، وعاصياً لأمر الله بالنص المزعوم ولرسوله بالوصية، وثانيهما تشكيكهم بدستور دينهم وشريعتهم بمسألة النص، فالنص غير موجود، وهذا ما استلزم من ابن سبأ القول أن كتاب الله قد حُرّف على يد الصحابة والخلفاء الثلاثة وأخرهم عثمان بن عفان في جمعه للمصحف، فهو يعلم أن هذا الباب من التشكيك يصعب غلقه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أفضى إلى ربه وانقطع الوحي عن النزول، فمن يُرتجى سؤاله ليقطع الشكّ باليقين، كما إن التشكيك في سنة النبي أمر لا يقل خطورة عن تحريف كتاب الله ففيهما كل الهدي، وذهب اليهودي هذا إلى أبعد من ذلك، حتى لكإنا نتصوره خبيرا نفسيا، فقد جاء بمقولة كبيرة، حينما ادعى بالحلول، فقال إن روح الله قد حلّت في جسد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ليجعل منه حلما يراود المسلم، أو العصا السحرية التي تصحح بها كل الأخطاء ويُطعم بها الجياع، ويغاث الناس ويعم الخير والرفاه، وفوق كل هذا فقد أصبح الطريق سالكا لكل من يريد الإطاحة برأس الخليفة أو ولي الأمر بفعلة المجوسي أبو لؤلؤة، ولقد كان التنظيم السبئي سرياً ومنضبطا لدرجة أنه تمكن من جمعه في وقت ومكان واحد وعلى هدف واحد من جميع الأمصار، من البصرة والكوفة والفسطاط متحلقين حول رقبة الخليفة حتى أزهقوا روحه علنا جهارا نهارا، ثم هرجوا في عاصمة الدولة، مدينة رسول الله، يمزّقون شمل أهلها ويشتتون رأيهم ويستنزلونهم على أرائهم ونواياهم، على إن هذا التنظيم لم يكن يعي حقيقة الأهداف التي كان يسعى ابن سبأ والجهات التي وقفت خلفه، إنما هم أناس ضعاف تمكن ابن سبأ من إمراض نفوسهم عن طريق تحفيز ما كان يكمن فيها من قيم جاهلية سيئة.

 

والفتنة تلد أخرى وتمهد لها، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ (1) وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ (2) إِذْ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ(3) بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِيي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ " (4).

 

وهذه الفتنة التي وُلِدت من رحم الفتنة التي سبقتها أولدت فتناً أخرى، فالإمام علي بن أبي طالب صار خليفة للمسلمين، وحقٌّ عليه القصاص من قاتلي الخليفة الذي سبقه، فهو ولي الأمر، لكنه غير قادر على فعل هذا، أو لا يملك أسبابه، لأن القتلة يلتفون حوله ويملكون أمره، منعوا عليه حتى الصلح مع الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله، وهما رفيقا دربه وشجعان أمته، والذي كان القعقاع بن عمرو التميمي قد أبرمه، وذلك ما كان ليتم ومروجي الفتنة ومثيريها في الجيشين، فإتمامه يعني السبيل الذي سيجعل الخليفة قادرا على القصاص منهم وإخماد الفتن كلها، فالجيش الكبير الذي كان مع أهل الجمل سينظم بالصلح لجيش الخليفة لو تم، وهذا ماكانت تسعى أطراف المؤامرة لمنعه بكل الوسائل والسبل، فالهدف التالي كان يرتكز بوضوح تام على منع توحد الأمة بأي ثمن بعد أن نجحوا في تمزيقها، فابن سبأ لم يكن عبثياً في توزيع ولاءات أتباعه بين علي وطلحة والزبير، إنما كان ذلك يعدُّ الصفحة التالية في حال فشل الانقلاب المسلح في المدينة المنورة بعد اغتيال عثمان بن عفان، فلو كانت الإرادة موحدة على الخليفة المنتخب في كل الأمصار لعادت الأحوال إلى سابق عهدها، وما كانت قوى التآمر لتحصد شيئاً من مؤامرتها تلك، لذلك فقد انتقلوا مباشرة إلى تنفيذ هذه الصفحة بأن وزعوا الولاءات كما كان مخططاً له من قبل بين الخليفة الجديد وبين طلحة والزبير، فكانت الجمل نتيجة حتمية لما خططوا ونفذوا، ولو كانت هذه الأمصار كلها قد توحدت خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما تجرأ أمير الشام على التمرد مطلقاً. من هذا نستدل أن المخطط التآمري كان على مستوى عال من التخطيط والتنظيم، بحيث أمكنه تطويع آلاف من العرب المسلمين رغم أنفهم لتنفيذ مؤامرتهم تلك، والتي كانت الباب الأوسع الذي دخلت منه كل الفتن التالية وتوالت حتى تمكن المتآمرون من تحقيق أهدافهم.

 

أما الفتنة الأخرى فقد كانت عصيان أمير الشام على الخليفة ورفض بيعته، ثم التهديد بالحرب إن لم يسلّم قتلة الخليفة السابق له للقصاص منهم، وهذه كانت الحجة التي لم يتراجع عنها معاوية بن أبي سفيان، رغم أن بوادر الانحراف في الشام كانت إحدى أهم الثغرات التي نفذ منها ابن السوداء وحزبه كي يطيحوا برأس الخليفة المغدور، بالإضافة إلى الغزو الفكري الذي مارسه الرومان خلال فترات احتلالهم للشام، الذي افرز أنماطا من السلوك المنحرف، كان أبرزه تلك القيم التي تشكلت في الواقع هناك حول السلطة وشرعيتها وأساليب حمايتها، فقد كان نظام الحكم الروماني يستند بالدرجة الأساس إلى الحكم العائلي، الذي يتسم بالقدسية مع وجود الحاشية العسكرية التي تحيط به وتعمل على حمايته، والامتيازات التي تستحوذ عليها بنتيجة ذلك، فانتقل كل ذلك إلى جسد الإمارة في الشام بعد التحرير فأنتج أطماعاً بالملك، تكشفت حينما أرغم الناس على توريث الملك لولده يزيد، ولم تكن دماء الخليفة عثمان بن عفان إلا السِقاء الذي روى أطماع الدنيا في نفسه، وهواجس الزعامة الجاهلية التي كانت لأبيه، فكانت صفين، كما أرادت قوى التآمر وخططت لها أن تكون إسفينا يندقّ في عنق الأمة ويمزق وحدتها، والتي أنجبت غلوا وتحزباً من جانب فيما أفرخت تفريطا وتراجعا من جانب آخر، ثم فرّخت فتناً أخرى ومهدت الطريق لغيرها، فكان التحكيم ثم الخوارج ومحنة العرب المسلمين في فكرهم وغلوهم وتطرفهم والدماء الغزيرة التي استحلوها، ثم تطورت أساليبها حتى وصلت حدّ السبّ والشتم على المنابر لآل بيت النبي، ثم فتنة الملك وبيعة يزيد، التي أفرغت النظام العربي الإسلامي من أساس محتواه الشوري، وارتُكبت في مسارها أبشع الجرائم وأشدها وحشية، كانت ذروتها استشهاد سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحسين بن علي عليهما السلام، ومن ثم عبدالله بن الزبير وقبله مصعب بن الزبير وما سبقها وما تلاها من جرائم طالت حتى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكعبة المشرفة قبلة المسلمين، وهذه الفتن المتوالية والمترابطة في مسارها وأساليبها كانت كافية لأن تُمزّق شمل العرب المسلمين، وتُوجد الأرضية الخصبة للغلو والتطرف، والتي حمل لوائها وبذر في تربتها اليهود والنصارى والفرس المجوس، كلٌّ بأسبابه وأهدافه، تتقارب فيما بينها تارة وتتباعد أخرى تبعا لتلك الأهداف والنوايا، فأمسكت بخلاف التنوع وانحرفت به باتجاه مسلك آخر، بات يشكل خطراً محدقاً بوحدة المسلمين، حين تحول إلى خلافٍ في الأصول، واتخذ من التكفير منهجا وسبيلا.

 

وفي ظل هذه الأجواء صار الطريق ممهداً للعبث في عقيدة الإسلام، فبعد إضعاف العرب المسلمين لأنفسهم ولكيان أمتهم ودولتهم بتفريق الكلمة وتشتيت الرأي، صارت عمليات الدس ممكنة، بل وسهلة التنفيذ، فقد أفقدوا الأمة جوهر قوتها وأساس منعتها، فشهدت تلك المرحلة دس آلاف الأحاديث تقولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقبلها طعنوا في جوهر الإسلام، حينما نوهوا بتحريف القرآن الكريم وحشر الكثير من موروث اليهود والنصارى والمجوس في العقيدة الإسلامية، وقد اعتمدوا على الجانب الفكري بالدرجة الأساس خلال مرحلتي الحكم الأموي السفيانية والمروانية، والعمل السري، لخلق الأرضية الفكرية الملائمة ولعدم تمكينهم من المواقع السياسية والعسكرية، لكنها تحولت بخلافة بني العباس لتمتزج الدسائس الفكرية بالمؤامرات العسكرية والتنظيمات السياسية، وكلها تتستر برداء الإسلام وتتخذ من ولاية آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سلماً ووسيلة.

 

والحقيقة التي لا يمكن أن نغفل عنها أن الفرس كانوا قبل الإسلام يملكون رصيدا حضاريا معروفا، وهذا الرصيد لابد وأن يترك أثاره على الشخصية الفارسية بأي شكل من الأشكال، خاصة وأنهم - الفرس - دخلوا الإسلام مرغمين وليسوا مختارين، فكما كانت أغلب القبائل العربية التي أسلمت بعد الفتح مرغمة على إسلامها، ولم تتمكن قيم الإسلام من جلاء ثقافتهم السلوكية تماما من رواسب الماضي لقلة الفترة وللطبيعة التي اتسم بها إسلامهم، وقد دللت على ذلك أحداث الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فإن الفرس كانوا أولى من العرب للارتداد لأسباب عديدة، أهمها أنهم يختزنون في ذاكرتهم ثقافة أسلافهم وحاولوا كلما سنحت الفرص مزجها بالثقافية الإسلامية الوافدة إليهم، ليس من اجل أن تترسخ الثقافة الجديدة فتطرد ما يناقضها ويخالفها خارج مساحة الوعي بل من اجل استعادة قيمهم القديمة على أساس أنها جزء من هويتهم القومية، وذلك كان يجد استجابة من الفرس لأنه يستهدف الجانب العاطفي في نفوسهم، فالقيم الجديدة لم يعلو فيها شانهم المادي، إنما كانوا يشعرون بأنهم تحولوا إلى تابع ذليل للعرب، فيما تخلص بعضهم بمرور الزمن ورسوخ الفكر الإسلامي في وعيهم من أغلب متناقضات الإرث الحضاري للفرس نتيجة استيعابهم لفضل العرب بنقلهم للعقيدة وليس سلب إرادتهم القومية.

 

وذلك كله لم يكن ليرق إلى مستوى الذين اختاروا الإسلام كعقيدة بوعي وإرادة، فالمهاجرين والأنصار كانوا قد اختاروا بمحض إرادتهم، فجردوا أنفسهم من رواسب الماضي، كلاً أو بعضا، كنتيجة منطقية لذلك الاختيار، لذلك اختصهم الله تعالى بالرضا والقبول، فقال سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(5).

 

أما الفرس فقد كانوا ضحية صراعٍ مستمر بين قيم الدين الإسلامي وشريعته السمحاء المرتبطة في جوانب مهمة وأساسية منها بالعروبة، وبين ما يذكيه في وعيهم دهاقنة المجوسية وعشاق المجد الإمبراطوري الفارسي الشعوبي المرتكز أصلاً على التقليل من شأن العرب، وفي ذلك تناقض كبير وعميق بين ثقافة العبودية للخالق وحده وبين ثقافة العبودية للحاكم المخلوق، كما تقضي بذلك كل الثقافات الفارسية السابقة للإسلام والمرافقة له حتى يومنا هذا، حتى اختلطت عليهم القيم فمسخت في كثير منهم إسلامهم، بعد أن وقفت أحابيل هؤلاء بوجه المسلمين الفرس وضللت عليهم مساراتهم " ولم تستطع الضربة القاصمة التي أنزلها بإيران غزو العرب إلى تحول هذا الاتجاه الفكري، لأن الإيرانيين صمدوا لقوة العرب المادية، ولسيطرة الإسلام القاهرة بفضل قوة تقاليدهم ذاتها، واستطاعت إيران بإقبالها على التشيع وجعله مذهباً إسلامياً، وعلى التصوف - باعتباره من المقاصد الروحية - الاحتفاظ بمذاهبها الفكرية في حدود الإسلام، فإن فكرة الشيعة عن (المهدي) التي تقول في الحفيد الثاني عشر - من سلالة علي - سوف يظهر في نهاية العالم ليقضي على الشر، وينصر الخير النصر الأخير، جعلت الإيرانيين يحيدون عن العقيدة الأصلية التي تعد محمداً خاتم الأنبياء وأعظمهم، بل وأحيت فيهم روح أساطيرهم القديمة التي تقول بعودة البطل عودة مظفرة بعدما يظن انه قد مات"(6).

 

ولأجل هذا كان لزاماً عليهم التشكيك في العقيدة من خلال إثارة الشبهات حول مصادرها، ولهذا يقول أحد دهاقنتهم"إذا قام قائم آل محمد ضرب فساطيط يعلّم فيها القرآن على ما أنزل، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم لأنه يخالف فيه التأليف"(7) للتدليل على أن القرآن الكريم قد حُرّف وبُدّل جرياً على عادة اليهود والنصارى.

 

ومن هذا نجد أن التشيع الفارسي ليس تشيعا لآل بيت النبي كما يدعون بل هو تشيع لمفردات حضارتهم الفارسية ألبسوها ثوباً إسلامياً خشية من العرب، وخوفا من الفرس الذين وجدوا في العقيدة الإسلامية منقذا لهم من الظلم والجور والعبودية فقد كانت هذه الشيعة التي تتستر خلف ولاية الإمام علي بن أبي طالب وراء كل المشاكل التي تعرض لها خلال فترة خلافته؛ خذلوه ومكنوا منه كل مخالفيه، وأسهموا، على الضد من إرادته وسعيه، في تمزيقهم لأوصال الأمة وشرذمتها، و كان رضي الله عنه وأرضاه قد تلمس في أحوال شيعته ردة الدنيا وطغيانها عليهم واستحواذها على عقولهم، فخاطبهم بقوله: "وليس أَمري وأَمرُكم واحداً، إِنِّي أُريدكم لله وأَنتم تُريدونَني لأَنفُسِكُم" (8)وحقاً هم فعلوا ذلك، فقد أرادوه بديلاً عن أكاسرتهم، لا يختلف عنهم بشيء يعبدونه من دون الله، وهو كان يريدهم عباداً لخالقهم لا يشركون به أحدا. وهذا الحسين بن علي الشهيد يخاطب شيعته وشيعة أبيه من قبل، والذين غدروا به ووصلت بهم الوحشية أن أرادوا سلب نسائه وأطفاله قبل قتله فيقول لهم "ويحكم يا شيعة الشيطان كفوا سفهاءكم عن الحريم والأطفال فإنهم لم يقاتلوكم"(9) ولم يكن حينها قد استوعب الدرس من معاناة أبيه رضي الله عنهما حينما خاطبهم بقوله: "أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصُّمَّ الصِّلاب وفعلكم يُطْمِع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كَيْت وكَيْتَ، فإذا جاء القتالُ قلتم حِيْدِي حِيَاد، ما عَزَّت دعوةُ من دعاكم ولا استراح قلبُ من قاساكم، أعاليلُ بأضاليل... أيُّ دارٍ بعد داركم تمنعون، ومع أيُّ إِمامٍ بعدي تقاتلون، المغرور والله من غررتُموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسَّهم الأخيبِ"(10).

 

من هنا يمكننا القول أن هناك فارق كبير ومسافة شاسعة تفصل بين الإرث الحضاري العربي الإسلامي، وبين الإرث الفارسي، أو ما يُستحضر من ذلك الإرث انتقاءً واختزالاً. وذلك كان ناجماً عن معادلة غير صحيحة، فالقيم العربية التي أقرها الإسلام لم تكن إلا قواعد للفطرة السوية، التي أوجبها الله تعالى على خلقه جميعاً، والإرث الفارسي المناقض لها هو في حقيقته دخيلاً عليها وليس أصيلاً أو معبراً عنها.

 

وقد أفرج العصر الراهن بأحداثه الجسام عن طبيعة استلهام العربي لتراثه وتمثل كل عناصر الخير فيه، وبخاصة في الأحداث التي شهدها العراق خلال العقود الأربعة الأخيرة، كما أفرج عن الإسلوب الذي يتبعه ساسة الفرس ومفكريهم في استلهامهم لتراثهم القومي الذي سبق اندماج الشعوب الإيرانية في دولة العرب الإسلامية، وإن كان هذا الاندماج شكليا في كل شيء.

 

لقد استنهض العرب وطلائعهم في العراق الروح واستحضروا كل قيم الخير والفضيلة والتسامح والأعراف السامية النبيلة من خزين إرثهم الحضاري الإسلامي، دونما أي إيهام للعقل، أو تعمد تعميته وتغييبه عن مسرح فعله وتأثيره، فيما كان الفرس لا يستنهضون من تراثهم إلا روح العداء للعرب والمسلمين، متخذين من أساليب التزوير والتزييف والدس وسائل لتحقيق ذلك العداء وتأجيج أحقاده على مرّ حقب التاريخ، محملين بذلك العرب المسؤولية التاريخية عن تراجع موقعهم الحضاري بين الأمم، ذلك لأن فهمهم للفعل الحضاري لا يتعدى الهيمنة والسيطرة والاستحواذ، وذلك ما دفعهم إليه إصرار الفقراء والمسحوقين من الشعوب الإيرانية من خلال تمسكهم بالإسلام الذي وجدوا فيه ضالتهم، والمنقذ الحقيقي لهم من الجور والبؤس، فتمسكوا به أشد التمسك ورفضوا التخلي عنه لصالح استعادة الأمجاد القومية التي بنيت صفحاتها على عذاباتهم، ولهذا كانت كل الحركات الفكرية والسياسية و العسكرية تتخذ من الإسلام ستارا ورداء، لأنها غير قادرة على تطويع الشعوب الإيرانية لفكرها المباشر وتوظيفهم في مسار أهدافه الحقيقية، لذا اتخذت لنفسها مسارا مغايرا في شكله منسجما في جوهره، فراحت تطعن بالعرب والإسلام باسمهما.

 

فور وفاة الخميني أصدرت القيادة العراقية توجيها ملزماً علنياً وصارماً يمنع بموجبه ذكر هذا الرجل بسوء في أي وسيلة إعلامية أو تصريح رسمي كان أو غير رسمي، لأنه قد مات وأفضى بعمله إلى ربه تعالى الحكم العدل، وقد جاء هذا القرار في وقت لا ترجو منه القيادة العراقية أي مكسب أو فائدة سياسية، بل كان تأكيداً وترسيخاً للقيم التي أمنوا بها، مع إن هذا الرجل كان قد تسبب للعراق والأمة العربية والإسلامية متاعب كبيرة لا تنسى أبد الدهر، فهو المفسد حدّ الوضاعة بفتواه المشهورة: " يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين دواما كان النكاح أو متقطعا وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة"(11)، وهو يتحمل أمام الله والتاريخ على أقل التقديرات وزر الدماء التي أريقت منذ يوم 26 أيلول 1980م وحتى يوم 8 آب 1988م، بعدما أعلنت القيادة العراقية عن رغبتها بوقف الحرب واستعدادها لذلك دون شروط سوى منع العدوان، ورفضها هذا الرجل وأصر على مواصلة الحرب حتى أعيته نتائجها وخارت قواه، ولم تسعفه إمدادات الغرب الإمبريالي أو الصهيونية المجرمة، ومع إن التآمر والتأليب الإيراني لم يتوقف بتوقف الحرب، بل استمر بوتائر متصاعدة، ومع كل هذا فقد عبَّر طلائع العرب عن مكنون أنفسهم وتفاعلهم الحقيقي مع إرثهم الحضاري حينما منعوا على أنفسهم حتى مجرد التشفي بقاتل سفاح استمرأ دماء العراقيين والعرب عموما طيلة حياته، وجاهر بعدائه لهم، وتجاوز على كل مقدساتهم، وتنكر لأفضالهم حينما آووه خمس عشرة سنة في ديارهم ووفروا له العيش والحماية.

 

ولقد كان هذا الموقف منسجما تماماً مع قيم العروبة وثقافة العراقيين، لأنه من صميم واقعهم الجديد المرتبط بجذوره الأصيلة.

 

فيما نجد الفرس يعبرون عن حقيقة ثقافتهم العنصرية الشعوبية خلال استشهاد المجاهد صدام حسين رحمه الله وبعده، فقد مارس أتباع الخميني والسائرين على نهجه ضغوطاً كبيرة ليكون الاغتيال بطريقة لا تنمّ إلا عن خسة وحقارة فاعليها، واختيار توقيت كشف بصدق عن طبيعتهم الشعوبية المشبعة بالعداء والحقد على العرب والإسلام، حينما اختاروا متعمدين بإصرار عجيب عيد العرب والمسلمين الكبير، عيد الأضحى كتوقيت لتنفيذ جريمتهم البشعة التي فضحتها هتافات الشرك الصفوي وأقنعتهم اللصوصية الغادرة.

 

ولم يكفهم كل هذا حتى سلطوا كل أبواق إعلامهم تسبّ وتشتم وتلعن به، وتكذب وتزور الحقائق تشويها لسمعته حتى يومنا هذا.

 

وبأفعالهم هذه عبروا أصدق تعبير عن حقيقتهم ومزقوا كل أستارهم وأقنعة غدرهم وعدائهم، وقد استندوا في سلوكهم هذا إلى حقيقة الإرث الذي يستلهمون، والفكر الذي به يؤمنون.

 

وهي قطعاً إرادة الله تعالى، الذي أراد أن يخزيهم في الدنيا قبل الآخرة ويفضح نواياهم أمام المغفلين من العرب، المغررين بكذبهم ودجلهم ونفاقهم، ولا نعني بذلك تجار الاستجداء منهم، وإلا فما كان كل الذي فعلوه ليفيدهم بشيء، فسبحان الله رب العرش العظيم

 

-------------------------------------

يَنْتَضِلُ: يرمي بالسهام.

جَشَرِهِ: إخراج دوابه للرعي.

يُرَقِّقُ: يُزين.

رواه مسلم في صحيحه- الامارة.

سورة التوبة، الآية: 100.

دونالد ولبر، إيران ماضيها وحاضرها، ت عبدالمنعم محمد حسنين، ص112، دار الكتاب العربي، ط2، 1985م.

المفيد، الإرشاد، ص365.

نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده،ج2،ص19، مكتبة النهضة،بغداد1984م.

الشبلنجي، نور الأبصار، ص210.

نهج البلاغة، مصدر سابق،ص73-74.

الخميني، تحرير الوسيلة، 2/241.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد  / ٠٤ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٨ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور