المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ،دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء الثالث

 
 
شبكة المنصور
حــديـد العـربـي

الفصل الثالث

جسور التاريخ

 

البحث في التاريخ وأحداثه عملية شاقة ومضنية، تلتبس فيها الأشياء في أغلب الأحوال، فبين النوايا والأغراض والطموحات تضيع الكثير من الحقائق، أو تفتقد جوانب هامة منها، فحيثما توفرت أمانة العين والأذن ونزاهة اللسان كانت حيادية الأنامل التي ترسم الحروف والكلمات وكانت للحقيقة إحاطة جيدة، ترسم صورة الحدث بكل أبعادها، واضحة جلية، وأي خلل يشوب أحد أطراف هذه الثلاثية المتلازمة يطمس الحقيقة ويشوهها، فالسمع والبصر والنطق هي أدوات العقل ومنافذ تفاعله مع العالم الخارجي، ذلك أن كل أحداث التاريخ يحركها الصراع، والصراع لا يكون إلا بوجود إرادات مختلفة ومتناقضة ومتنافسة، كلها تعمل على فرض وجودها ووضع بصماتها على صورة الحدث التاريخي، ولا يمكن لها أن تكون على تناقضها صائبة كلها، فلكل صراع دوافع وأسباب ومحفزات متعارضة متناقضة، لا يتهيئا لكل المؤرخين الإلمام بها وبأضدادها دفعة واحدة، فتكون النظرة في الغالب أحادية الجانب، لا تغطي كل أبعاد الحدث، فالشجرة التي يعمد الفلاح ليقتلعها لأنها لم تعد تثمر، لا تشكل كل الحقيقة، لأننا لم نحط في مقابل هذه الجزئية من الحقيقة بالجزئيات الأخرى، تلك هي الأسباب التي أدت بالشجرة إلى عجزها عن الإثمار والإنتاج، فقد لا يكون رداءة نوعها أو شيخوختها هو السبب، وقد يكون الفلاح الذي اقتلعها هو سببها، فهي بحاجة لكي تنتج إلى غذاء وماء وأجواء مناسبة وتلقيح ومكافحة للآفات التي تمرضها وإزالة الأعشاب والأدغال التي تزاحمها على الغذاء وضوء الشمس الذي تصنع بواسطته غذائها، وهذه كلها من واجبات الفلاح لا الشجرة. فالحقيقة إذن لا تكتمل إن لم نجد أجوبة صادقة عن كل هذه التساؤلات، فليس كل قاتل كان دافعه الإجرام والعدوان، لأن كثير من القتلة كانوا ضحية للمقتول نفسه، ولهذا لا يكفينا الفعل دليلاً وسبباً لاتخاذ موقف منه، بل يجب الإلمام بدوافع الفعل وأسبابه ومحفزاته، وهذا ما تفتقر إليه العديد من أحداث التاريخ الكبرى والحاسمة، وإن أُشير إليها فمن زاوية واحدة لجهتي الصراع، فتكون مبتورة لا تفي أغراض الحكم العدل وتكوين الموقف الصائب.

 

والتاريخ كرجل يتجلبب برداء يوهم الناظرين بحقيقة شكله، فهل للخطوط الطولية والعرضية علاقة حقيقية بالأحجام، أم أنها إيهام للعقل، تجعله يرى الذي يرتدي ثوباً معلماً بخطوط طولية بارزة وكأنه ممشوق القوام وطويل، فيما تجعله حين يرتدي ثوباً معلماً بخطوط عرضية وكأنه بدين وقصير!

 

الحقيقة انه ليس هذا ولا ذاك، إنما هو في الحالين مجرد إيهام وتأثير على عقل الرائي من خلال عينيه ليرى الأشياء على غير حقيقتها العارية، فكما تشكل خطوط الطول وجهة نظر مغايرة لحقيقة الشيء، فإن خطوط العرض هي الأخرى تفعل فعلها، وإن كانت نقيضها، وهما معا يبتعدان عن حقيقة الشيء الصادقة بمسافة متساوية.

 

كذلك يفعل من يحاول إدراك الحقائق من خلال رؤية صورتين مختلفتين أو متناقضتين، كلٌ منهما يدعي الحقيقة، وكليهما كما الخطوط الطولية والعرضية، لا يشكلان صورة صادقة للحقيقة، إنما هما تحريف لها، وإن كانا في مجمل نظرتيهما يحملان جوانب عديدة من دلائلها، فكما أن الجسد المحرفة صورته بالخطوط يُعْلم أنه جسد فلان، وهو ذكر وليس أنثى، وأنه أبيض البشرة وليس أسمرا، وأنه كهل وليس يافعا، فإن الأكيد أن كلا من الطرفين قد أوحى بصورة مغايرة للحقيقة، حين زور جانبا من جوانبها، وذلك ما لا يمكن كشفه بسهولة كما اكتشاف أن مرتدي الثوب هي امرأة متنكرة بزي الرجال، أو أنه أسمر وليس أبيضا، إنما أوهم الناظرين بالمساحيق ووسائل التنكر الأخرى.

 

وعلى هذا المنوال تضيع كثيرا من حقائق الأشياء والأحداث، فليس كل المؤرخين يملك عيناً ثاقبة تسبر أغوار الصورة فتعريها من كل أسباب الوهم والتضليل وصولاً لرؤيتها على حقيقتها الصادقة مكتملة بكل جوانبها، والعين وإن كانت كذلك فهي لا تحقق الغاية إن لم يكن العقل راجحاً ليكشف أسباب التضليل ودوافع الإيهام، وليس كل مؤرخ أو مدون لأحداث التاريخ يملك عقلاً كهذا.

 

عندما يقف اثنان معا في خندق واحد أو على رابية واحدة يرصدان ميدان معركة؛ احدهم يلبسها خطوط الطول فيراها بطولة وشجاعة وفروسية واستخلاص للحق، والثاني يلبسها خطوط العرض فيجدها وحشية وهمجية واستهتار من المتحاربين بإنسانيتهم وتضييعا لحقوقهم، احدهم يراها وسيلة مثلى لاستعادة الحقوق، والأخر لا يراها كذلك بل يجدها تضييعا وهدرا لها، كل منهما يجهد ليجد التبريرات لموقفه ورأيه، دون أن يعرض تلك الآراء والمواقف على الحقيقة العارية المجردة من تأثيرات الوهم والتضليل، فمن لا يملك القدرة على عرض الأحداث على العقل ليحللها ثم يستنتج موقفا صائبا ودقيقا منها فإنه لا يملك القدرة على إدراكها كاملة بكل جوانبها، لذلك يسعى كل طرف لتطويع الحقائق وفقا لقدرته وإمكاناته ليصوغ بموجبها رأيه وقناعاته.

 

والمتحاربين كلٌّ له مبرراته ومحفزاته، وإلا لما كان هناك حرب واقتتال، ولا يعقل أن يكون الطرفان كلاهما صائبين، كما لا يعقل أن يكونا كليهما مخطئين، فالحقيقة إذن أن كلا منهما تبنى أهدافاً وغايات تلبي حاجات صائبة ومشروعة، لكنه أخطأ التقدير في اسلوب ووسائل تحقيقها، وذلك الذي يجعل الوسيلة لا تبررها الغايات في كل حين، ويجعل الوسائل أحياناً سبباً في تجريم الغاية رغم صوابها.

 

فما هي الأسباب التي من أجلها تجرّأ أبو لؤلؤة على اغتيال خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وما هي دوافعه؟ وما هي النتائج التي توخاها هو أو الجهات التي دفعت به لارتكاب تلك الجريمة الغادرة؟.

 

هذه هي الأسئلة التي لم تجب عنها وثائق التاريخ، أو الذين كتبوا التاريخ، تشكل الجوانب المهمة في حقيقة الاغتيال، فكيف إذن يمكننا القول أن في وثائق التاريخ حقائق الأحداث وهي لم تُحِط بكل جوانبها؟ فمن الثابت أن هذا المجرم المنفذ لعملية الاغتيال لم يكن موتوراً من قبل الخليفة ولا يطلبه بثأر شخصي، ولم يقع عليه ظلم من قبله، ولم يمنع عليه حقاً كان له، فليس إذن من سبب شخصي ذاتي يتعلق بشخص القاتل، ولا يمكن لجريمة قتل مهما كانت أن تكون بلا أسباب، فكيف بجريمة قتل تستهدف رجلاً يمثل أمة بأكملها أن تكون بلا أسباب؟ وهذا يؤكد بما لا يقبل الشك أن أسباباً ليست شخصية كانت تقف خلف عملية الاغتيال، خاصة وان القاتل لم يُعرف عنه إجرام سابق أو شجاعة، بل هو من الموالي كان للمغيرة بن شعبة، وهو مجوسي فارسي قيل أنه اعتنق النصرانية، ومما عُرف عنه أنه منافق كذاب، فقد سبق له أن ادعى أنه يصنع مطاحن للحبوب تعمل بفعل الرياح، وهو لم يكن كذلك، وإلا لفعل، ففي ذلك مصدراً للرزق كان سيدرّ عليه أرباحاً كثيرة.

 

ثم ما هي الغايات التي يمكن لرجل مثله أن يحققها من استهداف حياة ولي أمر المسلمين، وفي عاصمة دولتهم، وتحت سقف أقدس ما فيها، وخلال مناسبة لا تتم إلا باجتماعهم فيه؟ أكان مثلاً يريد بمقتل الخليفة ليكون خليفةً من بعده! ذلك ما لا يتقبله العقل والمنطق، فهو لا يملك أية قاعدة جماهيرية تسنده أو تقف خلفه، ولو فعل ذلك أحد المهاجرين أو الأنصار ممن لم تكن له مكانة اجتماعية في قومه لما تحقق له ذلك، فكيف بالموالي! فحتى الذين كانوا ينافسون على ولاية الأمر لم يجرؤ أحد منهم على حمل السيف تحقيقاً لذلك، وليس في هذا الموضع فحسب، إنما حين كانت الساحة تخلو من ولي الأمر كذلك.

 

فما الغاية إذن من الاغتيال، إن لم تكن جهات معادية تملك رؤى سياسية واضحة بأهدافها البعيدة؟

ثم ما هي النتائج التي كان ينتظرها ذلك المجرم الغادر غير القتل؟ وقد اختار مقتله بانتخابه طريقته في تنفيذ الاغتيال ومكانها وتوقيتها، وهو لم يكن مرغماً على اختيارها مطلقاً، لأنه ليس في ساحة حرب أو مطلوبٌ للقتل إن لم يَقْتُل، وهذه الطريقة لا يختارها إلا موتور بأهله أو أخصّ أحبابه، وذلك لم يكن له.

 

فالنتائج إذن تتعلق بأهدافٍ كبيرة تتعدى حتى مقولة أن القاتل كان ينتقم لهزيمة قومه الفرس وذهاب ملكهم، فلو كان الأمر كذلك لكان هدف الاغتيال هو القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لأنه هو الذي هزم جيوش الفرس في معارك تحرير العراق، وهو الذي أطاح بإمبراطوريتهم، وهو أيضاً أقرب للفرس من خليفة المسلمين في المدينة المنورة، والكوفة كانت تموج بالموالي الفرس، وإمكانية وصولهم للقائد سعد بن أبي وقاص كان أسهل عليهم كثيراً من الوصول إلى عمر بن الخطاب.

 

لكن الأمر لم يكن كذلك فحسب، إنما هو كان أداة مؤامرة واسعة، اتحدت أطرافها جميعاً على أهداف مركزية، تحقق القضاء على عقيدة التوحيد التي اختار الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم لتبليغها، لأمته بحمل رايتها ونشرها في كل أصقاع الأرض. ومن هنا تتضح هوية الحلف بجلاءٍ تام، فهم اليهود والنصارى والمجوس ومعهم بعض العرب من عشاق الامتيازات التي كانت توفرها لهم جاهليتهم قبل الإسلام.

 

ولعل مؤامرة اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت الدرس الذي استفادت منه قوى التآمر بعد ذلك، فأوجدت التنظيم السياسي العامل ضمن أوساط الدولة بقيادة اليهودي عبدالله بن سبأ، كجزء من متطلبات تحقيق الأهداف، فكانت المؤامرة التالية التي استهدفت اغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد تمت على أساس وجود القاعدة القادرة على الإمساك بزمام الأمور بعد تنفيذ الاغتيال.

 

وكما أن للتاريخ صناع فإنَّ له شهود، منهم شهود عدول، ومنهم شهود زور، وبينهم الغافل الذي ينقل عن أفواه الآخرين ما لا يفقه من أهدافهم شيء، فإما معدد لجوانب الخير فيه يسهب في سردها، يفرح بها المحب ويتمنى مثلها ويعتزُّ بِبُناتِها، ويغاض بها الكاره لأهلها أو المشكك فيها، أو مسطر للمثالب والمساوئ، يختزلها اختزالا، فتعتصر قلب المحب ألماً، لا يتمنى تكرارها، ويغتبط المبغض الكاره بها ويتمنى لأهلها دوامها، أما الغافلون فإنهم يخلطون هذا بذاك فتُبكي وتضحك شهادته في آن معاً، وبين هؤلاء القليل ممن يجهد على قدر استطاعته، يتقصى الحقائق ملتزما أمانة التوثيق، وإن كانت هذه الأمانة نسبية وتخضع لعوامل عديدة، حيث لا يمكن تجريد القائم بعملية التدوين التاريخي من إسقاطات ثقافته وقناعاته ومستوى وعيه وهوى نفسه، فهذه كلها تترك بصماتها على صورة الأحداث التي تروى أو تدون، وإن كانت بنسب متفاوتة، وبهذا لن يتحقق كل ما يراد من استذكار أحداث التاريخ واعتمادها جسوراً للاتصال والاعتبار بها بيسرٍ وسهولة إلا أن يُقرأ التاريخ ببصيرة ثاقبة تدعمها قدرة على فرز الحقيقة التاريخية عن التزوير ولمسات المزورين، وذلك يقتضي قبل كل شيء معرفة دقيقة بأهداف المزورين وغاياتهم والجهات التي يمارسون التزوير لصالحها والجوانب والمراحل التاريخية التي ركزوا على تزوير وقائعها.

 

ولكي يتمكن الدارس للتاريخ من إيصال رسالته عن حقائقه الكاملة أو التي تقترب كثيراً من الكمال عليه أن يبني أولاً جسوراً مع أهداف قراءته، فلا بد إذن من هدف وانسجام وجسر يمتد بين الكاتب وكتابه وبين القارئ، وبين المتكلم والمسموع وبين السامع، وبين المشهد وصوره وبين الرائي، ولابد من وئام وتفاعل بين المبصر وبصيرته وبين المتلقي وعقله، ولابد من طريقة أو وسيلة أو أسلوب لطرح تلك الأحداث، بما يجعلها ذات تأثير في وعي وإدراك المتلقي، ولابد من موازنة دقيقة بين الارتقاء بمستوى المتلقي لتفهم الأحداث والحكمة من طرحها أو استذكارها، وكيفية ربطها بمسبباتها، وبين استجلاب قيم الحدث إلى الواقع وعرضه منسجما مع ثقافة المتلقي ووعيه واحتياجاته وطبيعة أدوات ومفردات واقعه.

 

ولابد مع كل هذا من الاختزال، فليست كل صور الماضي صالحة للدراسة والعِضة والاعتبار أو حتى الإقتداء، وليست كلها ذات فائدة دائمية أو ظرفية معينة، ففيها ما لا يحتاجه المتلقي وما لا يفيده في ظرفه المحدد، وفيها أيضا لمسات المصورين أو المدونين وقناعاتهم وميولهم ونضح عقولهم وأهوائهم وإرهاب المتسلطين على بعضهم، مما يحوِّل صورة الحدث إلى حالة مشوشة مرتبكة، فللموثقين للأحداث والمصورين لمشاهدها وشهودها أهداف مختلفة، وأحيانا تكون متناقضة، وتبعاً لذلك فهم على أصناف، قد يكون الأبرز فيها:

 

من هو جزء من حركة الأحداث أو امتداد لمحركيها وأحيانا يكون من بينهم، فيحمّلها ما ليس فيها، يجمِّلها ويتغاضى عن الأخطاء التي ارتكبت في مسار فعلها وانجازها، أو يغفل عنها فلا تلتقطها عيناه وهي ترصد الحدث، بسبب هالة الإعجاب وسحر القدرة على الإنجاز، أو يدفع بها باتجاه الطرف المقابل كجزء من متطلبات الصراع، تبريراً وتعزيزاً لإرادة الجهة التي ينحاز لها في صراعها.

 

أو من هو في مواجهة مع محركي الأحداث وصانعيها أو امتداد لتلك القوى المعارضة أو الناقمة لشتى الأسباب والدوافع، فتراه يشكل خصائص الحدث أو الإنجاز ومزاياه وأثاره وفقا لمتطلبات المواجهة والرؤية التي تتحكم في مسار فكره ووعيه وقناعاته، يشكك في النوايا ويحاول حرف مقاصدها إلى غير حقيقتها، تلبية لدوافع معارضته النفسية والإدراكية ومتطلبات استمراره في مسار الصراع.

 

ومنهم الدعيّ يُمسك القلم فيسطر على الورق ما يفرزه خياله، حالماً كان أو سقيما، دون علمٍ أو دراية بحقيقة الأحداث التي يزعم أنه شاهدٌ عليها، أو يسطر من أفواه المحدثين ما يسمعه دون أن يعرض مصداقيتهم للامتحان والاختبار، أو يقرنها بالدليل والبرهان، فلا يوثق للحقيقة بقدر ما يوثق لوجهات نظر تجاهها، سلباً أو إيجاباً، والفرق بين الحقيقة ووجهات النظر كبير.

 

ومنهم الواقف بين هذا وذاك، يبحث بين ألوان الطيف الواسع الممتد والمتداخل عن لون الحقيقة من بينها، فيحاول تشكيل صورة للحدث بحيادية وأمانة، إلا إن مهمة كهذه لا تؤدي إلى ذات النتيجة في كل الحالات، فهي مرتبطة بمدى وعي القائم على تدوين الأحداث وقدراته العقلية ومهاراته المهنية وقدراته على البحث والاستقصاء والاستنتاج والتمييز والفرز الدقيق بين الرؤى المختلفة، والمتناقضة أحيانا، فبغيرها لا يمكن اكتشاف عمليات الدسّ والتحريف، سلبا أو إيجابا، فقد يكون واضعها من المهارة بما يجعلها تضاهي الحقيقة المجردة بموضوعيتها أو أقرب منها إليها، نتيجة امتلاكه لأدوات ٍ ووسائل قد لا يملكها طالب الحقيقة، وقد ضاعت الحقيقة أو تشوهت في مواقف كثيرة بين مهارة الدس والتحريف، لما اتصفت به بعض التحريفات من حرفة عالية ومهارة متميزة في الدس عليها، وقد أكد اليهود الصهاينة في بروتوكولات حكماء صهيون التي ظهرت مطلع القرن الماضي على تلك الحقيقة واعترفوا بدورهم الخبيث في تشويه الكثير من أحداث التاريخ، كما جاء في البروتوكول الرابع عشر" لن نبيح قيام أي دين غير ديننا" وفي مكان آخر ورد " يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان"(1) أما البروتوكول الخامس فقد كان شاهداً أكيدا على كل الدسائس التي احتوتها صفحات التاريخ وفي مسار فعلها على أرض الواقع" لقد بذرنا الخلاف بين كلّ واحد وغيره في جميع أغراض الأمميين (الأمميين في فكر اليهود تعني جميع الأمم من غير اليهود) الشخصية والقومية بنشر التعصبات الدينية والقبلية خلال عشرين قرناً"(2) كما إن أغلب المؤرخين من هذا الصنف يظهرون بعد تبدل الأحوال، مما يجعل الفاصلة الزمنية حاجزا أمام حرص المؤرخ على الإلمام بكل تفاصيل الحدث.

 

والتاريخ لا يدرس لأجل الذكرى، إنما هو عامل مهم من بين عوامل البناء ونهوض المجتمعات وتواصلها الحضاري.

 

إن التاريخ ما هو إلا انعكاس لأفعال نتجت عن أفكار وإرادات ودليل عليها وتوثيق لآثارها، والفكر والإرادة لا يأتيان إلا بمعاناة طويلة مثمرة مع نقائضهما وأضدادهما، وممارسة عمليات الصراع ضدهما، وبغير هذه المعاناة لن يكون هناك فكر يُبنى على ضوئه الفعل وتُخلق الإرادة وتتحرك في مداها الأوسع بالحياة، ليأخذ الصراع بعده التاريخي والحضاري.

 

إن مما يُعجِز التاريخ أن يحيط بحقائق أحداثه، التفسيرات المجتزئة لأسبابها وعواملها، فقد ركز بعض المؤرخين على البعد الاجتماعي للحدث التاريخي، فاعتقد أن السلوك الإنساني يقف خلف الأحداث ويخلق مبرراتها، فيما ذهب آخرون للاعتقاد أن البعد الاقتصادي هو المحرك الحقيقي لأحداث التاريخ، ورأى غيرهم أن الواقع الجغرافي وخصائصه هي الذي تفرض حتميتها التاريخية على الأحداث، واختار قسم آخر تفسيراً غيبياً لأحداث التاريخ، منفصل كلياً عن الأسباب الأخرى.

 

إن السببية التاريخية للأحداث تتشكل في حقيقتها من تفاعل كل هذه العوامل التي سبق ذكرها فيما بينها، والتي تنتج بتفاعلها دوافع الفعل التاريخي وتطبعه بمتطلبات كل منها.

 

والفعل التاريخي لا يتم إلا بوجود صراع بين حاجات الإنسان وبين وسائل تحقيقها، حين تعجز عن تلبيتها، والحاجات الإنسانية طيف واسع من المتطلبات، روحية، مادية، سلوكية، وبيئية.

 

لذلك فإن الجانب المادي لا يحقق بمفرده متطلباته التي لا غنى عنها لاستمرار الحياة، فيما لا تحقق المتطلبات السلوكية بمعزل عن الضرورات البيئية والمادية إشباعاً كلياً للحاجات الإنسانية، وهذه الدوافع، وإن كانت تنتج فعلاً حضارياً يلبي متطلبات الحاجة الإنسانية ويحقق استجابة لدواعيها في جانب، فإنه من جانب آخر يشكل تحدياً وخطراً عليها، إن لم تتفاعل هذه العوامل والدوافع مع الدافع الروحي، دافع الفطرة الإنسانية، فكل المخترعات والإبداعات الإنسانية الكبرى، التي ساهمت في نقل الإنسان من واقع إلى واقعٍ جديد، كانت تحمل في داخلها كل نقائضها، لأنها استبعدت العامل الروحي من مسار تكوينها وآثرها، فبقدر ما كان للحديد من فوائد ودور في تلبية احتياجات الإنسان، كان له دوراً آخر مناقض، مارس تأثيره في استلاب تلك الحاجات، وهذا ينسحب على كل مفردات (الحضارة الحديثة)، وقد لا يكون الخلل في عملية الاكتشاف و التكوين، لكنه يبرز بكل تأكيد في مراحل التطبيق، فالسيف كأداة للحرب كان من نتائج اكتشاف الحديد والتعامل معه، له دورين متناقضين في آن معاً، فهو أداة للدفاع عن الإنسان والمجتمع وحاجاتهم وبيئتهم وثقافتهم وفكرهم وعقائدهم، وهو في نفس الوقت أداة قادرة على إفقاد الفرد والمجتمع لكل هذه الحاجات والمتطلبات والضرورات، حين يتحول من وسيلة للدفاع إلى أداة للعدوان، فالفارق إذن ليس في الأدوات المادية لكنه يكمن في مدى سطوة الروح النقية الطاهرة على هذه المادة وفعلها من عدمه. فالذي يستثمر نتائج الفعل التاريخي لتحقيق حاجاته الإنسانية قد يفتقد لحوافز الروح وفطرتها، فينحرف به نحو تحقيق متطلباته المادية أو السلوكية أو البيئية مختزلة ومعزولة عن متطلبات الروح السوية، وعندها تتحول كلياً من واجب تحقيق الحاجة إلى سلبها، لذلك فإن كل وسائل التطور المادي التي أفرزتها الحضارات الإنسانية والتي كانت تهدف لتعزيز سعادة الفرد والمجتمع وتوسيع مساحة حريتهما، كانت في وجهها الآخر مصدر تعاستهما وتضييق على حريتهما أيضاً، وكما أن الكهرباء حققت للإنسان والمجتمع جانباً من سعادتهما فقد عملت من جانب آخر على إذهابها وتحويلها إلى كم هائل من المتاعب والمآسي المروعة، فالأسلحة الفتاكة ما كانت لتكون لولا وجود الطاقة الكهربائية، والأسلحة بكل أشكالها ومراحل تطورها لم تعد مصدراً للدفاع عن تلك الحاجات الإنسانية والمحافظة عليها، بل تحولت إلى مصدر لاستلابها واغتصابها، من جانب آخر، ووسائل التنقل والاتصال الحديثة، التي جعلت سكان الكرة الأرضية بأطرافها المترامية كأنهم يعيشون في قرية صغيرة، يرى بعضهم البعض، ويسمع أبعدهم صوت أدناهم، لم تعد وسائل تسهِّل على الإنسان تحقيق احتياجاته المختلفة، بل تحولت في جانب منها إلى وسيلة لسلبها أو شيطنة أغراضها، فالراديو والتلفاز وغيرهما تستخدم اليوم لنقل الخبرات والتجارب مع الأكاذيب والتلفيقات وتبرير الاعتداءات وسلب الإرادات دون وجه حق وبث السموم على حدٍّ سواء، دعوات للفضيلة وأخرى للرذيلة معاً، وتحول الطيران من وسيلة للتنقل السريع بين أجزاء الكرة الأرضية إلى أداة لنقل أسلحة الدمار والفناء من أي مكان إلى أبعد موقع عنه.

 

ذلك لأنها لم تكن تضع للدافع الروحي موقعاً في كينونتها وغاياتها، انسجاماً مع الفطرة التي فطر الله تعالى عليها خلقه، منهج اتجاهه وَحَدَّه واحد، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}(3)

 

كلما أتيحت الفرصة لإعمال الفكر في أحداث التاريخ وُجِد فيها الجديد والمتجدد، فكثير من عوامل الصراع وأهدافه لا تُفصح عن نفسها دفعة واحدة، إنما تتضح أغلبها بعد اكتمال مراحل الصراع وتحقق نتائجه، ولكي تكون دراسة التاريخ صحيحة وفاعلة ومجدية فإنه يتوجب فهمه وربطه بعد ذلك بالحاضر وصولاً لما يُراد للمستقبل أن يكون، بعد أن تُعرض أحداثه على الفكر بقدراته المتطورة، لنقده وتطوير رؤاه، فلو اتخذنا من حادثة تاريخية توثق بطولة القعقاع بن عمرو التميمي في معركة القادسية مثلاً، فالواجب - لكي يكون درس التاريخ مفيداً في الحركة - أن يُستخلص ويُستحضر من تلك الحقيقة التاريخية فكرها وقيمها ودلالاتها، وليس البحث عن تطابقات أو موافقات في أشكالها الظاهرية، فلا فائدة ترتجى من الحقائق المتعلقة بعدته الحربية أو القوة العضلية التي كان يتمتع بها هذا المجاهد المغوار، أو الوسائل المبتكرة في حينها بخططه الحربية وتميزه في التعبئة القتالية، فهي وإن كانت تعبر أدق التعبير عن عظمة هذه الشخصية وتميزها في المساهمة بصُنع أحداثٍ تاريخية بعينها، وإن كانت أيضا تعبيراً دقيقاً لواقع تلك الحقبة من الزمن، لكن المفيد والمثمر هو استحضار القيم التي كان يتسلح بها هذا المقاتل، أمدته بالعون والقوة والإقدام، والإيمان العميق الذي تملكه بعدالة قضيته فراح يشحذ بهمته ويقدح بفكره ويروض نفسه وجسده للذود عنها وفي سبيلها، والعقل المبدع لكل ما هو جديد ومفاجئ للعدو خلال لحضات المواجهة التي عادة ما تجعل العدو عاجز عن الاستجابة برد فعل مناسب تحت وطئة الذهول والمفاجئة واشغال الفكر بالتعامل مع النتائج المباشرة لها، والأهم من كل هذا هو موقع العقل المبدع من الروح، فالعقل هنا كان خاضعاً للروح ومنسجماً مع متطلباتها، لم يبحث عن موقع أو سلطة أو ميزة إمارة كثمن لتميزه بين الشجعان في منازلة الأعداء والرصيد المتميز من فعل الانتصارات، فالانتصار في المعركة لم يكن هو هدف القعقاع بل كان وسيلته لتحقيق أهداف كبرى ليست شخصية في كل جوانبها، ومن هنا سنتوصل إلى حقيقة أن المحفز لذلك القائد بما جعله على ما هو عليه كان شيئاً ليس من مكونات المادة، بل هي الروح التي تطهرت من كل الأدران والخبائث حينما استجابت لداعي الحق فعادت إلى فطرتها التي أنشأها الله عليها، سمت فأخذت موقعها الصحيح، تهيمن على الجسد والعقل والغرائز وتقودها إلى حيث يريد الله تعالى، وذلك هو سرّ القوة التي أبهرت.

 

ونحن لا نستطيع استعادة القعقاع أو استعارته بكيانه المادي ليساهم في تحقيق نصر عسكري في حاضرنا، فعن أي شيء إذن نبحث في دراستنا لتاريخه وما الذي نبغي ونريد؟

 

التاريخ لا يعود للحظة بعينها كان قد مرّ بها، لأنه ناتج أبداع حيوي متجدد، وصراع إرادات أخذ كامل مداه، وإذ هو كذلك، فإنه لا يمكن أن يستعيد مجرياته كاملة في مرحلة لاحقة، فالإبداع يتطور بنتيجة التواصل والاستمرار وتراكم الإنجاز، وإن مرّ بمراحل ركود أو توقف نسبي، فهو لا يتوقف بمعنى الإحجام عن الحركة إلى أمام، فتوقف كهذا يعني أن الحياة قد توقفت نهائيا، وحينها سيتجمد ويتحجر مع الحياة وليس بمفرده، أو بمعنى أخر أن توقف حركة التاريخ تعني توقف الحياة، والحياة لا تتوقف حتى يأذن الله، فالتاريخ هو الآخر لا يتوقف، ودائب الحركة كما الحياة، لأنه ناتجها الأصيل، والذاكرة الحية لصراع قواها الحية فيما بينها، وعلى هذا فهو لا يعود للوراء مطلقاً، فالطوفان الذي طهر الأرض إلا مما حوته سفينة نوح عليه السلام، كما قال تعالى:{ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}(4) لم يُعِد الحياة ولا التاريخ إلى الوراء، بل اختزن كل حركته السابقة للطوفان ونتائج صراعات مكوناتها وقواها فيمن ركب تلك السفينة، وعندما أزال الله تعالى أسباب الفناء التي أنهت حياة كل من كان على وجه الأرض إلا من كان في الفلك مع نوح و الأزواج التي اختارها من المخلوقات الأخرى، لقوله تعالى: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }(5)، واصل هؤلاء الناجون مسيرة الحياة من حيث وصلت إليه ولم يبدؤا من المربع الأول، فالسخرية بكل أشكالها وألوانها كانت من ثمار حركة التاريخ لما قبل الطوفان استمرت في الأمم التي تلته ولم يعاد اكتشافها مجدداً، { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }(6)، فقد استهزأ قوم موسى به بعد ذلك بزمن بعيد، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ }(7)، والخبرة التي اكتسبها الإنسان إثر اكتشافه لفائدة المكان المرتفع عند طغيان الماء على سطح الأرض، كما ورد على لسان ابن نوح في كتاب الله:{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ }(8) لم تذهب سداً، بل اختزنتها ذاكرة الباقين ثم تطورت مفاهيمها بمرور الزمن { وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }(9)، وخبرة الجدال التي اكتسبها الإنسان خلال مراحل تطوره السابقة لم تنته بنهاية المجادلين لنوح عليه السلام بالطوفان، { قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }(10) بل تواصل منطق الجدل يتطور ولم يبدأ من حيث كان قد بدأ، وذلك من خلال الجدل الذي مارسه القوم الذين أُرسل اليهم عيسى عليه السلام: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(11) حتى وصل إلى مرحلة تختزن كل الذي مرَّ في صورتها ومضمونها وتضيف عليه ما هو جديد في مخاض الدعوة الإسلامية وتبليغها إلى الخلق عن طريق النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد خاطبه الله تعالى بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }(12)فكان الجدال الذي مارسه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بديلاً للمعجزات التي كان الأنبياء والرسل من قبل يتسلحون بها في مواجهة أقوامهم ونشر دعوتهم، ذلك لأن خبرة الجدل قد وصلت إلى مرحلة من النضج والتطور جعلتها قادرة أن تقوم مقام المعجزات وتفعل فعلها.

وعلى هذا فإنّ العجلة حينما أُكتُشِفت بوعي عراقي منذ آلاف السنين صارت حينها حقيقة مبدعة وصارت جزءا حياً في حركة التاريخ منذ لحضتها، وما عاد الإنسان بحاجة لاكتشافها مرة أخرى، لكنه استمر مع حركة التاريخ يطورها ويطور استخداماتها في مسار صراعه مع البيئة بإبداع متواصل طيلة العصور الماضية حتى وصلت استخداماتها إلى ما هي عليه، وسيستمر تطويرها وتطوير استخداماتها خلال العصور اللاحقة، وهذا ينطبق أيضاً على الفعل التاريخي في ابتكار الحرف على أرض العراق أيضا منذ آلاف السنين كوسيلة مبتكرة لتدوين وتوثيق الأحداث والوقائع والمعارف والخبرات والمهارات، ثم توالت مراحل التطوير والتطويع حتى صارت الحروف لغات مفهومة، تفي باحتياجات الناطقين بها وتعبر عن خلجاتهم ونضح عقولهم، فابتكار الحرف حدث تاريخي في سياق زمنه ولن يتكرر هذا الاكتشاف مرّة أخرى. وبهذا يمكننا القول، أن أي لحظة تاريخية لن تعود إلى الوراء مطلقاً لتعيد اكتشاف ما اكتشف من قبل، بل تتواصل عمليات التطوير والتكييف وحلّ الإشكالات المرافقة لها ليصبح الحرف فيما بعد بأشكال وأصوات مختلفة تشكلت منها كل اللغات ورسم حروفها وآدابها وفنونها ووثائق تاريخها.

 

ولو افترضنا أن المستقبل سيعود بالبشرية إلى حيث السيف، كسلاح رئيسي في الحرب والدفاع، على افتراض ان مصادر الطاقة المتوفره في الواقع الحالي ستنضب وسيستعصم على الانسان ان يجد بدائل لها في المستقبل، مما سيؤدي الى غياب كل مفردات الحضارة الناتجة عنها، بما فيها الأسلحة الفتاكة والمعدات الحربية المختلفة، فإن السيف الذي سيكون أداة حرب المستقبل المفترض لابد وإن يتصف بخصائص عصره وزمنه ذاك، ولن يكون تكراراً لسيوف العصور التي كانت أبرز عدة قتالها، فقد تطورت إمكانات وخبرات الإنسان في عمليات الصهر وسباكة المعادن المختلفة وتطورت وسائل معالجتها نتيجة تطور المعرفة بخصائص المعادن لتخرج بخصائص جديدة ومختلفة عن سابقتها وبمسميات مختلفة أيضا، ولو اندثرت كل وسائل التطور وأسبابه أو نضبت، كما يتوقع للنفط والفحم الحجري مثلا، فلا يمكن للإنسان أن يعود للمربع الذي كان مثيله يقف عليه في لحظته التاريخية قبل ألف سنة أو حتى مئة سنة، ذلك لأنه وإن آلت به ظروف الحياة ومتطلباتها ومواردها إلى ما يشبه صورة ذلك الواقع والموقف القديم، فإنه لا يفقد خزين الوعي الفكري والمهاري الذي كانت من نتائجه جميع مفردات التطور بصورتها الراهنة، ولهذا سيكون تصرفه مغايراً ومختلفاً كلّ الاختلاف عمن كان يعيش حقيقة ذلك الموقع المشابه لمربع خطوة حركته التاريخية كلياً أو جزئياً، فعندها ستلتقي مسارات التاريخ مع بعضها دون أن تحلّ واحدة من هذه المسارات مكان الأخرى، وإن تشابهت في شكلها، فمسافة الوعي والخبرة لا يمكن أن تتشابه مطلقاً، إلا إذا محونا كل مدلولات الزمن اللاحق وتراكمات حركته، وهذا ما لا يمكن فعله، فعدة المسار اللاحق تختلف كليا عن عدة المسار السابق من حيث الكم والنوع، ولو لم تكن كذلك لما كان هناك مسار بل كانت ستكون نقطة ثابتة لا تتزحزح عن موقعها، ذلك أن مسار الحياة والتاريخ معا عبارة عن خبرات هي ناتج إرادات وأفكار وإنجازات، تشكل بمجموعها عدة المسار ودافعه.

 

وعلى هذا فإن مقولة نيتشة بان التاريخ يعيد نفسه كما تعيد الشمس كرتها من نقطة الانقلاب ليست صائبة، فصحيح أن للتاريخ دورات بمسارات قد تبدو للوهلة الأولى متشابهة، لكنها لا تتشابه إلا من حيث الشكل، إنما هي مختلفة في مضمونها وعدَّة سيرها، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، وحتى الشمس فهي لا تتكرر في دورتها بمعنى التطابق أو نسخ الدورة بشكل مطلق، فهي على أقل تقدير لا توزع أشعتها على صورة جامدة بل هي متحركة متغيرة، فالذي كان في العراء تحرقه حرارتها بالأمس قد لا تجده متسمرا في ذات المكان والهيئة في دورتها التالية، هذا إن تجاوزنا عامل الزمن، فالزمن هو الآخر لا يتكرر ولا يتوقف ولا يعود للوراء، وكل الأشياء تأخذ مشروعية حركتها من فعل الزمن ومنطقه، ولو كانت العودة إلى حيث كان الزمن والتاريخ لكانت الشعوب والأمم في خيرٍ عميم، فلا تخلو لحظات الزمن ووثائق التاريخ من أمة تخلت عن أداء دورها الحضاري التاريخي فتحولت من الفعل إلى الحلم، حلم تغرق فيه، تكون صور الماضي هي كل مفرداته، وهي حتما ستكون أجمل وأجلّ من الواقع الهاربين منه، وذلك حال من يتخلى عن أداء دوره أو يفرّط بفرصته التاريخية أو يجبر عليه، لكن الأكيد أن واحدا من هذه الأحلام لن يتحقق أو يعيد كرته كما هي الشمس كذلك، وسيبقى الحلم كسيرا يتخيل مجد الماضي وعنفوانه فيما هو في حقيقته غارق مفجوع بواقعه وقسوته.

 

إن حركة التاريخ مستمرة، ولا يمكن إعادة هذه الحركة إلى الوراء. فلهذا نقول إن الجدل العقيم والخلاف الدائر منذ قرون طويلة حول الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالاضافة الى المرامي التي تقف خلف تاجيح نارها بالنفخ في كيرها كلما قاربت التحول الى رماد بعد ان ساهمت وأدت دورها في تمزيق أوصال الأمة والدين وشرذمتهما وشوهت صورتهما ومسخت حقيقتهما، فهو أيضا محاولات غبية ورعناء للوي عنق التاريخ والعودة به إلى الوراء، والتاريخ لايعود، فخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم قد افضوا إلى ربهم الكريم وتخلوا عن مهام الفعل التاريخي بقضاء آجالهم، والتاريخ لا زال مستمرا في حركته مع الحياة، ولن يعيد ترتيب اسبقيات الاستخلاف وفقا لرأي هذا أو ذاك مهما فعلوا ومهما اختلفوا، وهنا تكمن حكمة التأريخ وحقيقة دوره ووجوده، إذن علينا البحث عما يمكننا استثماره من التاريخ كي ننجز فعلاً وحركة إلى أمام، بعد أن نضع أمام أعيننا حقيقة حركته هذه، فالخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم توقف فيهم الزمن حيث ماتوا ولم يتبق منهم إلا خزين الخبرة والوعي ودلائل الفعل السابق لموتهم.

 

فالخلفاء الراشدين أدوا أدوارهم وأنجزوا واجباتهم عل أحسن ما يكون الانجاز، ثم أفضوا إلى ربهم العلي القدير بأعمالهم. ولا فائدة يجنيها العرب والإسلام اليوم من الجدل العقيم والخلاف حول أسبقيات استخلافهم، بل كان الجدل والخلاف منفذا للفرقة والتناحر والتراجع عن أداء الدور الذي أمر الله تعالى هذه الأمة به وأراد لها أن تنهض به طيلة القرون الماضية. والمسلمون جميعاً بكل مذاهبهم وطوائفهم يحفظون لآل بيت النبي وصحابته رضوان الله تعالى عنهم أجمعين مكانتهم وقدرهم ويعترفون لهم بعظيم صنعهم وصدق إيمانهم وفضلهم ومؤازرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتضحية في سبيل العقيدة.

 

أما المنتظر، فإن أي إنسان مهما كان دينه وشكله ولونه ومنحدره يطمح بحاكم عادل يسوس الرعية بالحق والمساواة والإنصاف، وعند ظهور هكذا ولي أمر فإنه سيجد له الكثير من الأتباع والأعوان والرواد، فكيف إذا كان وعداً مقدراً من الله تعالى! فمن السفه إذن أن يختلف الفرقاء على أمر غير كائن بعد، وذلك يمكن أن يحدث حين ظهوره، لكنه من غير المنطقي أن يتقاتل الناس على أمر مستقبلي لا يعرف مداه وموعده.

 

وإن كان ذلك لا يغير من معتقدات الناس وحقيقة إيمان كل واحد فيهم شيئا، ذلك لأن الإيمان أمر لا تدركه قدرات البشر ولا يمكن الجزم به، لأنه من اختصاص الله تعالى، فهو وحده العالم بسرائر الأنفس، وهي مستقر الإيمان ومستودعه، ولو كان الحاكم قادراً على فعل مثل هذا لتمكن حكام الشيوعية الملحدين الناكرين لوجود الله تعالى أن يُذْهِبوا الإيمان من نفوس ملايين المسلمين في الاتحاد السوفييتي خلال أكثر من ثمانية عقود من الزمن.

 

فالحاكم إذن لا يزيد دوره، مهما اجتهد وامتلك من قدرات، على سياسة شؤون الدنيا وحياة الناس، ولن يكون بمستطاعه توجيه الرعية في إيمانها وقناعاتها كيفما شاء وأراد، ولو كان يمكن ذلك فلكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أجدر وأولى من غيره من البشر أن يوجه مسار ابن سلول وغيره من المنافقين والمشركين الذين عاصروه نحو مسلك الإيمان رغم رغبته الشديدة وحرصه على هدايتهم، فالهدى والضلال أمران لا يقررهما إلا الله تعالى، وليس لأحد من خلقه قرار وقدرة على ذلك. فعلى أي شيء يختلف علماء المسلمين إذن ويجندون البسطاء كأدوات لسلوك الخلاف والفرقة؟ إنهم ليسوا سفهاء، لكنهم أدوات للتآمر رغم أنفهم وإرادتهم.

 

ففي الخزين الثرّ الذي تركه لنا الأسلاف، لو امتلكنا القدرة على مدّ الجسور إليه واستحضاره، ما يعزز قدراتنا ويلهم أرواحنا وينير دروبنا، لنحقق أرقى مظاهر سياسات الدنيا بما يُرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونحدو بأمتنا إلى حيث المجد العظيم، ففي أول خطبة للصديق رضي الله عنه بعد استخلافه، يقول:" أيها الناس فاني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم فإني متبع ولست مبتدعا" (13)، وعلى هذا فقد اشترط للقول أن يطابق الفعل، بخلافه تسقط الولاية ومبرراتها، وذلك هو الرادع الحقيقي عن الزلل والشطط والتفرد وفقا لهوى النفس.

 

وهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشير إلى جانب هام وأساسي من مهمات الخلافة وولاة الأمر بقوله: " إني لم أستعملكم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أشعارهم ولا على أبشارهم وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة وتقضوا بينهم بالحق وتقسموا بينهم بالعدل"(14).

 

وعن حرمة بيت المال، والذي هو مفتاح لبابين، أحدهما يفضي لمرضاة الله حين يصرف على أوجهه الصحيحة، فيزول الفقر وتنتفي الحاجة، فتصلُح الدنيا، والأخر يفضي إلى حيث أطماع النفس الأمارة بالسوء، فيزداد الأثرياء ثراء ويزداد الفقراء فقرا، فينفرط العقد، يقول الفاروق: " إن هذا المال لا يصح فيه سوى خلال ثلاث، أن يؤخذ بالحق ويعطى بالحق ويمنع من الباطل، وإنما أنا ومالكم كولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف" (15).

 

وفي عام 16ه كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قد أنجز تحطيم معاقل الفرس على أرض العراق فحرر المدائن من دنسهم، وغنم كل ما ادخره الفرس وملوكهم، فبعث إلى المدينة المنورة بأربعة أخماس بساط إيوان كسرى و ملابسه وتاجه مع خمس الغنائم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنَّ قوماً أّدَّوا هذا لأُمناء " فردَّ عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنَّك عفَفتَ فعفَّت رعيَّتُك، ولو رتَعْتَ لرَتَعَتْ "(16) ومن هذا الموقف يمكن للأمة أن تصوغ حالها وحال ولاة أمورها لو أرادت.

 

وهذا الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول إثر استخلافه " أما بعد فإني قد حُملت وقد قبلت، ألا وإني مُتَّبع ولست بمبتدع، ألا وان لكم علي بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثا: إتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ والكف عنكم إلا فيما استوجبتم"(17)، لكن الدنيا ذهبت بأهلها بعيدا عما حُمّل خليفتهم وما اشترط لنفسه وعليها، فزاحموه بدنياهم عن دينه، فكانوا كالسماد لنبت الفتن.

 

ولقد أشار أصحاب الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بأن يأخذ من بيت المال ما يستقوي به في مواجهة معاوية الذي كان يغدق الأموال على أهل الشام وغيرهم ليلتفوا حوله، لكن الإمام علي ردّ عليهم بقوله: " أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور، والله لا أفعل ما طلعت الشمس وما لاح في السماء نجم"(18).

 

وعلي بن أبي طالب الحريص على أمته أن تتفرق كلمتها فيدق لها أجراس الخطر، الذي اتخذ من حبه أو بغضه سبيلا، فيقول: "سيهلك فيَّ صنفان؛ محبٌ مفرط يذهب به الحبُّ إلى غير الحقِّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقِّ، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط، فالزموه والزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشاذَّ من الناس للشيطان كما إن الشاذَّ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه"(19).

 

ويكتب لأحد ولاته يلزمه التواصل مع الشعب مبيناً أسبابه في ذلك بقوله: "فلا يطولن حجابك على رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيضعف عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناسُ به من الأمور، وليس على القول سِماتٌ يعرف بها ضروب الصدق من الكذب، فتحصن من الإدخال في الحقوق بلين الحجاب، فإنما أنت أحد الرجلين؛ إما امرؤٌ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من حقٍّ واجبٍ أن تعطيه، أو خلق كريم تُسَدِّد به؟ وإما مبتلى بالمنع والشحِّ، فما أسرع كفَّ الناس عن مسألتك إذا يئسوا من خيرك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤنة فيه عليك؛ من شكاةِ مظلمةٍ، أو طلب إنصافٍ، فانتفع بما وصفتُ لك"(20).

 

وهذا رجل من أهل البصرة، يصف لنا بصدق الحقيقة التي كان عليها خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم والنخبة الطيبة من صحابته الأبرار رضي الله تعالى عنهم، كان قد زار الكوفة، فصادف رجلا كان يمشي بمفرده بلا حرس، مجرداً من كل مظاهر السلطان والتميز الشكلي للحكام،يتفقد الأسواق ويراقب حركة الناس ويصحح لهم في سلوكهم وتعاملهم، يقول: "خرجت من المسجد فإذا رجلٌ يُنادي من خَلفي: ارفَعْ إزارَك؛ فإنه أَنْقَى لثوبِك وأتْقَى لك، وخُذْ مِن رأسِك إن كنتَ مسلماً. فمشَيْتُ خلفَه وهو بينَ يَدَيَّ مُؤْتَزِرٌ بإزارٍ مُرْتَدٍ برداءٍ ومعه الدِّرَّةُ، كأنه إعْرابيٌّ بَدَويٌّ، فقلتُ: مَن هذا؟ فقال لي رجلٌ: أراك غريباً بهذا البلدِ، فقلت: أجل، أنا رجلٌ من أهل البَصْرةِ، فقال: هذا عليُّ بنُ أبي طالبٍ أميرُ المؤمنين. حتى انتهى إلى دارِ بني أبي مُعَيطٍ وهي سوق الإبل، فقال: بيعوا ولا تَحْلِفوا؛ فإن اليمينَ تُنْفِقُ السلعةَ وتَمْحَقُ البركة. ثم أَتَى أصحاب التَّمْرِ، فإذا خادمٌ تَبْكِي فقال: ما يُبكيكِ؟ فقالت: باعني هذا الرجلُ تمراً بدرهمٍ فردَّه مَواليَّ، فأبى أن يقبله، فقال له عليٌّ: خُذ تمرك وأعطِها درهمها؛ فإنها ليس لها أمرٌ. فدفعه، فقلت أتدري من هذا؟ فقال: لا، فقلت: هذا عليُّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، فصَبَّتْ تمره وأعطاها درهمها، ثم قال الرجل: أُحِبُّ أن ترضى عني يا أمير المؤمنين، قال ما أرضاني عنك إذا أوفيت الناسَ حقوقهم، ثم مرَّ مُجتازاً بأصحاب التمرِ فقال: يا أصحاب التمر، أطعموا المساكين يَرْبُ كسبكم، ثم مرَّ مجتازاً ومعه المسلمون، حتى انتهى إلى أصحاب السمك، فقال: لا يُباعُ في سُوقِنا طافٍ، ثم أتى دار فراتٍ وهي سوق الكَرابيس، فأتى شيخاً فقال: يا شيخ، أَحسِن بيعي في قميصٍ بثلاثةِ دراهم، فلما عرفه لم يشترِ منه شيئاً، ثم آخرَ، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثةِ دراهم، وكُمُّه ما بين الرُّسغين إلى الكفين يقول في لُبْسِه: الحمد لله الذي رزقني من الرِّياشِ ما أتجمَّلُ به في الناس، وأُواري به عورتي، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذا شيءٌ ترويه عن نفسك، أو شيءٌ سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، بل شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُه عند الكسوة. فجاء أبو الغلام صاحب الثوب فقيل له: يا فلان، قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين قميصاً بثلاثة دراهم، قال: أفلا أخذت منه درهمين؟ فأخذ منه أبوه درهماً، ثم جاء به إلى أمير المؤمنين وهو جالسٌ مع المسلمين على باب الرَّحْبَةِ، فقال: أمسك هذا الدرهم، فقال ما شأنُ هذا الدرهم؟ فقال: كان قميصاً ثُمِّن درهمين، فقال باعني رِضايَ وأَخَذ رِضاه"(21).

 

في يومٍ آخر وجد علي بن أبي طالب درع له كان قد فقده في الطريق إلى صفين، عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شُرَيْح القاضي يخاصمه، فجلس إلى جنب شريح وقال: يا شريح، هذا الدِّرع درعي لم أَبِعْ ولم أَهَبْ، فقال شُريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى عليّ فقال: يا أمير المؤمنين، هل من بينة؟ فضحك عليّ وقال: أصاب شريح، ما لي بيِّنة، فقضى بها شريح للنصراني، فأخذها (22) وقد كانت هذه الحادثة سبباً كافيا ليهتدي النصراني فيعلن إسلامه لِما رأى من عدل وإنصاف لا يملكه إلا أصحاب حقٍّ وصدق.

 

بمثل هذه القيم يمكن أن تنهض الأمة، وإن تطورت مفرداتها وتغيرت ألوانها، فهي لا تخرج اليوم عن سياقها، لأنها لا تنسخ الماضي، أو تحاول لوي عنق الزمن والتاريخ للعودة إليه بصيغة التدهور، إنما تتفاعل معه تفاعلاً حياً لا يتجاوز استحقاقات الحاضر ولا يغفل متطلبات المستقبل، فالمطلوب من العربي اليوم أن لا يستعير الرداء المطرز بالرقع والذي كان يميز خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يستعير قيم الأمانة والعدل والعفَّة والأخذ بالمعروف والقدوة الحسنة، التي كانت تكتنف تلك الأردية ليصوغ منها منهجاً للسلوك في زمنه الحاضر، وهذا ما يحتاجه العربي المسلم من تاريخ أسلافه العظام، وليس ما يبحث عنه أصحاب الأهواء والنوايا الحالمين بما لا يمتُّ لحيوية الإسلام بصلة، أو المتكاسلين عن اللحاق بالركب، من نبش عن أي منفذ ليصوروا من خلاله حال الأمة على إنه الناتج المنطقي لخلافات قدوتهم وأسوتهم رواد الرسالة المحمدية، وإن كانوا يعلمون حقَّ اليقين أن هذه (الخلافات) ما هي إلا دسائس أُريد بحشرها في بطون التاريخ تعويق الأمة عن مواصلة مسيرها، وما هي إلا حجج واهية تبرر لهم الركون للدنيا ومغرياتها، أو المضي في رقدة الأحلام التي لا تحقق للأمة مستقبلاً، وإلا لو كانت الأمة في ذلك الزمن تتقاذفها الأهواء والخلافات، كما يصور أصحاب الغرض، لما سادت الدنيا بعدلِها، ولتسيدت اليوم ولو على مقدراتها فحسب، لو كان يمكن للخلاف والفرقة أن تبني حضارة هي إلى يومنا هذا أرقى وأسمى ما توصلت له البشرية في سفرها الطويل.

 

والدراسة المبدعة لأحداث التاريخ إن لم تُحِط بالمتناقضات والأضداد وتضعهما في الكفة المقابلة للنقيض وطبيعة الصراع بينهما فلن تكون مفيدة، فنموذج القعقاع لن يكون مفيداً إلا إذا وُضِعَ مقابله الذي يقاتل فيخسر النزال، فلكل إنجاز أسبابه ولكل فشل في تحقيق إنجاز أسبابه أيضاً، وبإعمال الفكر والنقد في كل هذا سنحصل على نتائج كبيرة وحقائق تكاد تكون متكاملة في كل جوانبها.

 

الطبيب مبدع في علاج المريض وتخليصه من معاناته جراء الداء الذي أصابه وتداعياته، وقد يُفلح في حالات ولا يفلح في غيرها، لكنّ الأكثر إبداعاً من الطبيب هو ذلك الذي يجنب المعافى وقوعه فريسة للمرض، وهذا مهمته أصعب وأدق وأطول وأكثر تشعباً من عمل الطبيب، ويحتاج إلى عقل راجح يتمتع بقدرات بحثية تحليلية استنتاجيه استباقية ونقدية ثاقبة، ومهارات كبيرة، وخزين خبرة طويلة، ليتمكن من تتبع مسببات العلل والأمراض وكيفية الوقاية منها، وذلك كان الفرق الكبير بين دور الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وبين الذين جاؤوا من بعدهم، فالفاروق رضي الله عنه كان يمارس بوعيه حماية الأثرياء من الصحابة الكرام من الوقوع فرائس لأمراض الدنيا حين كان يحدد إقامتهم ويمنع عليهم الانتشار في الأمصار، كي لا يكونوا عوامل مساعدة على ظهور أعراض لأمراض كان يرى خطورتها قبل أن تقع، وقد فعلوا خلال خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأسهموا بإمراض أمتهم وغذوها دون قصد منهم، فاكتملت بها أسباب وجود الفتن لتمارس أدوارها التخريبية، لم تلجمها الأدوية والعلاجات التي وصفها الأطباء بعد أن أًمرَضت الأمة، وإن خففت من وطأة آلامها بعض الوقت، لأنها تحولت من مشاريع فتن إلى فتن حقيقية تمارس صراعاً تاريخياً، تترك آثارها وتحقق مكاسبها استناداً واعتماداً على هفوات طرف الصراع المقابل، العروبة والإسلام.

 

إذن لا خلاف في أن تاريخ العرب يمثل خزين خبرة وعبرة ودافع تقدم ونهضة، ودرسا بليغا في صيرورة الحضارات والرقي، ومثار فخر وجذور ارتباط، وبخاصة التاريخ العربي الإسلامي، إن دُرِس ببصيرة وروحٍ نقية طاهرة، وأُجيد مدّ الجسور لاستحضار قيمه. وإن كانت حقب التاريخ التي سبقته تعدُّ هي الأخرى عناوين للمجد والرقي والتفرد، ودروسا عظيمة في كيفية البناء والنهوض، فهي في تعاقبها على أرض العرب دون غيرهم من الأمم، كانت مراحل إنضاج تدريجي للإنسانية بجوانبها المادية والروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والسلوكية وحتى العقلية، فكانت سجلات حافلة بالإنجازات والفضائل والخطايا أيضا، وكانت وعاءا واسعا لكل رسالات رب العالمين، وقوانين ثوابه وعقابه، وتفاعل دياناته السابقة للإسلام، كنتيجة لعمليات الاختيار والتكليف والإعداد التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، كي تكون فيما بعد قائدا وحكما وقدوة ونقطة ارتكاز الميزان الدنيوي، فقد قال تعالى: { وَكَذلِكَ جَعَلْناَكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }(23) ولقد شاء الله تعالى لأجل ذلك أن يجعل خلقه من البشر على شكل مكونات اجتماعية مختلفة، بعد أن نقلها من اسلوب العيش السائب الخالي من أسس التكوين الاجتماعي المعقدة، فجعلهم شعوباً وقبائل، وهم من أب واحد وأم واحدة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (24) وبهذا فقد جعل سبحانه لهذه الشعوب والقبائل من الأسس والدعائم ما يجعل من التنافس في عملية البناء الإنساني سبيلا لتطور الحياة على الأرض، وتنامي قدرات الإنسان العقلية والجسدية والروحية، وتسهيلاً لعمل التاريخ في إرجاع كل فعلٍ في مسارات حركته إلى عنوانه، فالفعل التاريخي يفقد كل قيمته إذا جُرِّد من بيئته وخصوصياتها.

 

وقد قيل إن العرب استحوذوا على قدرة الفعل الحضاري بعد أن ورثوا منجزات اليونان وفارس والهند وغيرها فانطلقوا بعد القرن السابع الميلادي، وذلك لم يكن صحيحا، فالأمة التي تنهض بفعل حضاري لا تتهيأ مستلزمات النهوض فيها من خارجها مطلقاً، والفعل الحضاري لا ينجز ما لم تسبقه معاناة قاسية تتبعها إرادة تغيير ونهضة وانطلاقة اجتماعية تمتلك من المقومات ما يجعلها قادرة على توفير مستلزماته، وقد لا تختلف أسباب ومستلزمات نهضة كل امة عن غيرها في شكلها أو دوافعها أو مفرداتها، إلا النهضة العربية الإسلامية فقد نهضت بأسباب ومستلزمات تختلف في جوانب كثيرة عن غيرها من الأمم التي سبقتها في تلك المرحلة من مراحل حضارتها أو التي تلتها، فقد كان المركَّب الباعث للنهوض والمبدع لأسبابه ومستلزماته، كما كان أيضا المركَّب الفاعل والأساس لمكونات الفعل والانجاز الحضاري هو الروح، وليس الكيان المادي كما كان في غيرها، فالروح التي تطهرت بالإسلام من أدرانها واحتلت بفضله موقعها الصحيح حينما هيمنت باقتدار على الكيان المادي وأخضعت العقل والغرائز لإرادتها ومنطقها، فأوجدت كل أسباب النهوض الحضاري، وهكذا كانت في كل مراحلها السابقة، على إن هذا لا يعني أن الانطلاقة كانت مبتورة أو طارئة، بل على العكس فقد كانت الروح تستحضر في داخلها كل مراحل التكوين الحضاري السابقة، تستقي منها كل ما هو أصيل فترسخه بعد أن تطرد عنه كل ما هو دخيل أو منحرف أو مشوه فتتطهر. فالحضارة العربية حضارة واحدة بكل مراحلها منذ النشوء الأول للفعل الحضاري على الأرض كان العرب وأسلافهم مبدعي أولى أشواطها والممسكين بدفة كل مراحلها حتى تراكم المنجز المادي كماً ونوعا، ولم تتراجع الأمة في حجم فعلها الحضاري إلا حين تختل المعادلة فيتغلب العقل والغرائز على الروح وينفيا دورها أو يحاصراه، ولم تأخذ الحضارات التي نهضت بها الأمم الأخرى منها إلا المنجز المادي فقط، ولم تأخذ من أسباب تكوينها شيئا، فكان الفرس والروم وغيرهم ينهلون من المنجز المادي ويبنون عليه ويطورون، لكنهم لم يأخذوا من قيم الروح الكثير، ولو فعلوا لكانوا على غير صورتهم التي هم عليها. ولهذا فقد كانت انطلاقة العرب بالإسلام انطلاقة أصيلة لأنها نابعة من معاناة الأمة من وطأة واقعها المنحرف آنذاك، ومتميزة وفريدة لأنها استعادت الفطرة بسطوة الروح ودورها في تركيب عناصر النهوض الحضاري، ثم امتلاكها قدرة التصدي لمهام استكمال مسيرة الفعل الحضاري المبدع والأصيل، وبهذا فهي لم تكن بأي حال من الأحوال استكمالا لمسيرة الأقوام الأخرى حضاريا، كما توهم الكثير، فهي وإن سخرت في مجال الفعل والانجاز خلاصة المنجز الحضاري للأمم الأخرى، إلا إنها لم تكن في ذلك إلا كمن يعيد الأمور إلى نصابها، فأغلب ما أُنجز من فعل حضاري لكل الأقوام والأمم إنما كان مستندا في أساسه إلى ناتج حضارة العرب في بلاد الرافدين والنيل والشام واليمن والجزيرة العربية ومستمداُ منها، لأنها أولى الحضارات وأقدمها تكويناً وأصالة وإبداعا، وليس أدل من مملكة آشور في استخداماتهم المبدعة للعجلة والمعادن وطرق سباكتها ومعمل الألبان الذي لا زالت البشرية تعتمد آلياته التي ابتكرها السومريون قبل آلاف السنين حتى يومنا هذا، وقناة سنحاريب الأشورية التي تنقل الماء إلى نينوى لمسافة تزيد على خمسين ميلاً عدتها أكثر من مليوني قطعة حجرية باسلوب هندسي متقدم، وقبلها قوانين شريعة حمورابي الملك البابلي، على مستوى رقيها في مراحله الأولى، يوم كانت الأمم الأخرى تتلمس طريقها للتحول من قيم وسلوك وثقافة الغابات والكهوف إلى بدايات التكوين الاجتماعي.

 

فالحضارة العربية إذن حضارة واحدة وأصيلة منذ نشأتها وحتى يشاء الله، وليست الفواصل الزمنية التي يتصورها البعض على أنها فواصل حضارية وهوية مختلفة إلا بعض حلقاتها المتصلة، منها ما هو مبدع وهاج ومنها ما هو قاتم يفتقر إلى الفعل الحضاري المتميز، فتارة تمسك بأسباب الانطلاق فتنهض وتنجز، وأخرى تفرِّط بها فتبطئ في حركتها، والتغيير الذي كان يحدث بفعل الرسالات السماوية المتعاقبة بهدف الإنضاج لامتلاك قدرة التكليف، إنما هو عملية تطهير ونبذ كل مظاهر الانحراف مع الدخيل عليها، فتعود لمسارها الأصيل مجدداً في كل مرّة.

 

لكن المرحلة التي ابتدأت بدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت الخلاصة الحقيقية لكل تلك الحقب والمراحل السابقة وزبدتها وعصارة خبرتها، ومرحلة نضجها وتكاملها ورشدها، فبها اكتملت مراحل التدرج الذي أراده الله تعالى في بناء نظام الحياة المتكامل على الأرض، تسوده الروح كموجه أساس وجوهري في حركتها التاريخية إلى يوم القيامة، بعد أن أخضعت العقل والغرائز فعادت بهما إلى حيث الفطرة الحقة، وذلك ما أمر به الله تعالى رسوله ومن اتبعه بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(25) وبعد أن اختطّ من بين كل المراحل السابقة لهذه الأمة نموذجا جعله وسطا بين الغلو والتفريط، متمكنا ومقتدرا على حمل التكليف الإلهي، فبعقيدة الإسلام ما عادت البشرية بحاجة إلى وحي وتبديل شرائع أو نسخ أحكام، لأن الله تعالى وهو الأعلم بخلقه، أوصلها إلى حيث اكتمل فيها نقاء الروح وقدرتها ونضج العقل بما يمكنها استخلاف الأرض والعمل فيها، ولهذا خاطب الله تعالى أمة خاتم رسله وأنبيائه، محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين، في أواخر التنزيل القرآني: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (26)والإسلام لم يكن مخصوصاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم النسبية أو مختصاً بها، بل هو للإنسانية جميعاً دون استثناء، لقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(27) فالكمال إذن يتعلق بعقيدة وشريعة تغطي الحياة البشرية كلها، ومرحلة من النضج البشري تكون معها قادرة على تحمل أباء العقيدة، واختص العرب بحمل رايتها وتبليغها وصيانتها والدفاع عن بيضتها، عن طريق النموذج المشع المعبر عن قيم الرسالة وأعرافها وثقافتها، عدتهم فيها الروح ثم العقل ثم المادة، كلٌّ بموقعه وحسب دوره.

 

وقد جعل الله تعالى البشر بعد رسالة الإسلام على بينة واضحة جلية، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، بعد أن بينهما لهم،والإيمان بالله والإقرار بالعبودية له، وإخلاص العبادة له دون سواه من مخلوقاته، بقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(28)وفي هذا دوام الحال الذي ترك الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، بعد أن بلّغ رسالة ربه وشريعتها السمحاء.

 

فلِم تغير الحال ولم يدم على ما كان عليه في ذلك العهد النبوي العظيم والخلافة الراشدة؟

فأما الذين لا يجيدون قراءة التاريخ ببصيرتهم فقد استسلموا لواقعٍ مزيف وسطحية في الرؤية والوعي، وغائية منحازة في الحكم والتفكير، فانقسموا فريقين، كل فريق يختصر الأسباب ويختزلها باتجاه واحد، يحمَّله كل الخطايا والآثام ويشحذ بخياله ليصوغ لها المبررات والأسباب، فأضاعوا الحقيقة وأغفلوها وشوشوا على المتطلعين لاكتشافها.

 

اعتقد فريق أنها أسباب داخلية صرفة نتجت عن تفريط الأمة بعقيدتها وشريعة ربها فأفقدها النعم التي كان قد أتمها عليها، دون ربطها بأسباب هذا التفريط والعوامل التي ساعدت على بروزها، والإرادات التي مارست صراعها فيما بينها بدوافع السلطة والعقيدة والقيم والمصالح، فيما ذهب الفريق الآخر إلى ربطها بعوامل خارجية خالصة من فعل أعداء الله تعالى وأعداء الأمة، دون أن يربطها جدلياً بالعوامل الداخلية التي تفاعلت معها فأنجحت مسعاها، معتقداً أن التآمر الخارجي يمكن أن يؤدي أغراضه دون الحاجة إلى أرضية يقف عليها من داخل الأمة، تستجيب لأغراضه أو تسعى لتحقيق أغراضها هي من خلاله.

 

فلم يربط أيٌّ من الفريقين بين التفريط والتخلي عما أراد الله تعالى وأمر به، وبين مكائد الأعداء ودسائسهم وهجماتهم، ولم يهتدوا للعلاقة الجدلية بين العوامل الداخلية والخارجية وتآزرهما فيما بينهما على تحقيق أهداف كل منهما، فالصراع الذي خاضته الأمة العربية وعقيدتها الإسلامية كان صراعاً ضد أطراف متعددة ومختلفة، خارجية وداخلية، وقفت جميعها بوجه الفعل الحضاري وتوحدت على تعويقه رغم اختلاف وتناقض أهدافها من التعويق نفسه.

 

على أن الأصل في تغير الحال، هم أهل الحال أنفسهم وليس أعدائهم، على أهمية وخطورة مكائدهم، فهم كانوا أدوات الأعداء وعدتهم، وقد قال الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}(29)، فلم ينفذ الشيطان وحزبه إلى ساحة أهل الحال، إلا حينما فتحوا له الأبواب المؤصدة، ونخروا سياج وحدتهم لينفذ من كواتها الأعداء بمكره وغوايته، وقد ورد في فتح القدير في التفسير للشوكاني: "إن الله لا يغير ما بقوم" من النعمة والعافية "حتى يغيروا ما بأنفسهم" من طاعة الله. والمعنى: أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها. قيل وليس المراد أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما في الحديث إنه "سأل رسول الله سائل فقال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" وقد قال الله تعالى في مستهل هذه الآية الكريمة:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان]: "يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء، ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائما، فكما أن علم الله محيط به، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد، بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم، ولا ينسى منها شيء" من هذا نستدل أن الانحراف التدريجي عن الحال التي ارتضاها الله تعالى لهذه الأمة، بعد أن اكتملت رسالة نبيه وتكاملت أوامره ونواهيه على المسلمين، هو الذي أوجب عليها السوء، أما السوء فقد كان موجودا وسيبقى إلى يوم القيامة، يبتعد ويقترب ويتداخل مع فعل الإنسان، بحسب نوع ذلك الفعل ونتائجه، فقد قال جلَّ من قائل:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(30) فكلما اقترب الإنسان من أمر ربه ابتعد عنه سوء الشيطان ومكره، وكلما ابتعد عن أوامر الله ونواهيه تلقفه الشيطان من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وشماله.

 

وبدل أن يمسك العرب بمفاتيح النجاح وألواح النجاة فرطوا بها، وقد أرشدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فعن عبدالله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يامعشر المهاجرين، خمس خصال إذا نزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن: إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يُعْلِنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن في أسلافهم الذين مَضَوا؛ ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدّة المؤُنة وجور السلطان؛ ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا مُنعوا القَطر من السماء، فلولا البهائم ما مُطروا؛ وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سُلِّط عليهم عدّو من غيرهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم؛ وما لم يَحكم أئمتهم بكتاب الله وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"(31) وقد تفشت كلها في المجتمعات العربية.

 

وبدل أن يتسابق العرب والمسلمون على استذكار قيم الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد الجسور إليها بهدف الاقتداء والتمثل في الحياة والسلوك، ومواصلة البناء والارتقاء، ذهبوا يناطحون التاريخ ويحتالون عليه يريدون لوي عنقه وحرف مسيره ليعود إلى الوراء لمجرد تغيير أولويات الاستخلاف، كلٌّ وفق ما يهوى ويريد، وهم لا يعلمون أنهم يسعون للإمساك بالسراب، والسراب ليس كائنا ماديا ليقع في أيديهم، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(32) وكذا مسار التاريخ، فهو كالسراب لا تملكه اليد مطلقاً، ولا ينال مرتجيه إلا الأماني الكاذبة الخادعة بالإرتواء بعد العطش، فيما وجد غيرهم استحالة مد الجسور مع الماضي واستحضار قيمه، نتيجة العجز والاستسلام للواقع المريض الذي تعيشه الأمة، ولفشل غيرهم لوي عنق الحياة والتاريخ ليعودا بهم إلى ماضٍ بعيد، فجنحوا يبحثون عن بدائل غريبة عن واقع الأمة وجذورها الأصيلة، وبهذا فقد تخلى العرب عن كثير من قيم دينهم ودنياهم من التي أقرهم الله عليها فضعفت همتهم وخوت أمتهم وخارت قواهم، حتى أطمعوا بها وبهم الغير، خلطوا بدين ربهم بدعا وأهواء، منها دخيل عليهم، تجرعوه من مكر اليهود ودسائس الفرس وحقد النصارى، وهو الأغلب، ومنه ما هو من نتاج أطماعهم الدنيوية وهوى نفوس أهل ردتهم، خلائف الجاهلية العربية، ابتدعوا لها ما يسوغها في عقل العربي المسلم، حين فصلوا بين المادة والروح، وشوهوا طبيعة الصلة بينهما، وقبلها أوجدوا للعقل والغرائز منافذ وفجوات لتنفلت تدريجياً من سيطرة الروح وسطوتها، وبذلك أفقدوا الإسلام جوهره، فانقسموا إلى صفين، إما روحي مترهبن، سلبي في الحياة، افتقد نضح العقل وحافز الغريزة، فأفقدها الفعل والإنجاز، وإما مادي، سلبته المادة ومغرياتها هيمنة الروح فاقد لقيم الدين وثوابته، وأباحت له الغرائز المنفلتة من فطرتها تحليل محرماته، فتحول من التكليف إلى البهيمية، فعلَ وأنجز، وما من أثر لفعله وإنجازه، وكلاهما قطع جسوراً كان يمكن لها أن تمتد عبر مراحل التأريخ، وشيئا فشيئا انهار البناء، فمن كان خلف كل هذا؟ إنها الأفعى التي أفرخت أربعة رؤوس.

 

وبهذا فقد تخلى العرب المسلمين عن حمل رسالة رب الكون، أو تهاونوا في توفير مستلزمات النهوض بها، حين تراجعوا عن موقع القدوة والنموذج الإنساني المشع على الأمم الأخرى، المجسد في سلوكه وسعيه كل القيم النبيلة التي جاءت بها رسالة الإسلام، الرسالة التي اختص الله تعالى هذه الأمة لحمل رايتها دون سواها من خلقه وأجناس البشر، والله تعالى حذرها بقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(33) فمن لا يبحث ويدقق ويحقق بالفعل والانجاز الذي استجلب هذه النعمة أو تلك بصيغ التواصل والتفاعل لن يكون قادرا بأي حال من الأحوال على المحافظة عليها، وعندها يهون عليه التخلي عنها أو التفريط بها أو الانحراف عن ثوابتها، أو الجمود على متغيراتها، وفي هذا حكمة التاريخ وعبر الأولين.

 

------------------

(1) محمد خليفة التونسي، الخطر اليهودي بروتوكولات حكماء صهيون، ص169، دار الكتاب العربي، ط4 بيروت.

(2) المصدر السابق، ص134.

(3) سورة الأحزاب، الآية: 70.

(4) سورة هود، الآية: 40.

(5) سورة هود، الآية: 44.

(6) سورة هود، الآية: 38.

(7) سورة الزخرف، الآية: 46-47.

(8) سورة هود، الآية: 43.

(9) سورة الأعراف، الآية: 74.

(10) سورة هود، الآية: 32.

(11) سورة الزخرف، الآية: 57-58.

(12) سورة النحل، من الآية:125.

(13) الطبري، ج3 ص 210، ابن هشام، السيرة النبوية، ص817، دار الكتاب العربي، بيروت 2005م.

(14) الطبري ج3، ص273.

(15) أبو يوسف، كتاب الخراج، ص117.

(16) ابن كثير، البداية والنهاية، ج10،ص17، دار هجر، ط1، القاهرة 1998م.

(17) الطبري، ج3، ص446.

(18) نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، ج2،ص182.

(19) نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده،ج2،ص8، مكتبة النهضة،بغداد1984م.

(20) ابن كثير، مصدر سابق، ج11، ص115-116.

(21) المصدر السابق، ج11، ص106-107.

(22) المصدر السابق،ج11، ص 108.

(23) سورة البقرة، الآية: 143.

(24) سورة الحجرات، الآية: 13.

(25) سورة الروم،الآية: 30.

(26) سورة المائدة، الآية: 3.

(27) سورة سبأ، الآية: 28.

(28) سورة الذاريات، الآية: 56.

(29) سورة الرعد،الآية: 11.

(30) سورة الأعراف، الآيات: 11-17.

(31) ابن هشام، السيرة النبوية، ص 798، دار الكتاب العربي، بيروت 2005م.

(32) سورة النور، الآية:39.

(33) سورة البقرة، الآية: 211.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت  / ٠٣ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٧ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور