دراسة
المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء الثاني

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعـربي

الفصل الثاني

بدايات الانحراف

 

إن الأسباب التاريخية التي أدت إلى انهيار الحضارة العربية الإسلامية معقدة ومتعددة الجوانب والمراحل والأهداف والوسائل، على الرغم من تداخلها فيما بينها زمانيا ومكانيا، بعواملها الداخلية والخارجية معا.

فالاغتيال السياسي لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب الذي نفذه الفرس بعون النصارى واليهود ودعمهم لم يكن ليتحقق لولا وجود الأرضية الملائمة والبيئة التي ساعدت على تحقيقه، من بين العرب المسلمين أنفسهم، وعلى الرغم من أسباب هؤلاء الأعداء الخارجيين في عدائهم وحقدهم وغيضهم على العرب ورسالتهم ودولتهم، فإنَّ المجتمع العربي نفسه كان متفاوتا في ولائه للقيم ومنظومة السلوك الجديدة التي تضمنتها العقيدة الإسلامية، وان تبناها وتقبلها، وحتى مركز الدعوة ومنطلق النهوض وقاعدة الطلائع من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ المدينة المنورة لم تخل من وجود أمثال هؤلاء، فقد دخل المنافقون حظيرة الإسلام اضطراراً وتقية ونفاقا، يتحينون الفرص السانحة، حالهم حال الذين أسلموا بعد الفتح عام 8 هـ، فكثير منهم لم يُسلم إيمانا، بل لضرورات تطلبتها مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، بما تحمله من تناقضات سلوكية موروثة، لم تتمكن الطلائع العربية الإسلامية من محاصرتها كلها وطردها خارج منظومة السلوك الجديدة، لأسباب عديدة، قد يكون أبرزها، الانشغال بتحرير الأراضي العربية المحتلة من قبل الروم والفرس، ومواجهة أخطار الردَّة التي حدثت داخل كيان الأمة، والتي استنزفت الكثير من الجهد والوقت وتضحيات لا يستهان بها قدمتها الطلائع المميزة من الرعيل الأول خلال معاركها الدامية، وحتى من قبل الفتح فقد أسلم البعض، ممن أعاد النظر في حساباته، وفقاً لمفهوم الربح والخسارة، فوجد أن كفة الرجحان قد مالت إلى المسلمين، وعليه أن يعيد النظر في مواقفه، وذلك ما حدث لعمرو بن العاص، فقد أسلم بعد خالد بن الوليد بلحظات، لكنَّ الفرق بين إسلامهما كان كبيراً، بل ومتناقضاً، ظهرت نتائجه فيما بعد، فمقابل المكائد التي نهض بها عمرو بن العاص خلال إسلامه، ومنها مكيدته في التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، والتي اتسمت بخصال الغدر الذي تأنفها العرب حتى في جاهليتها، فتسبب بشرخ وصدع في جدار وحدة الأمة لازال أثره فاعلاً فيها إلى يومنا هذا، كان خالد بن الوليد قد عبَّر عن شعورٍ عالٍ بالمسؤولية تجاه أمته ودينه، حين عزله الخليفة عمر بن الخطاب فاستمر يقود صولات العرب المسلمين على حجافل الروم الجرارة ويفرض النصر الباهر عليها في معركة اليرموك، ثم يمتثل للأمر على قسوته، نتيجة الإيمان الراسخ بعقيدته التي تبناها مع ابن العاص سوياً، والسبب في هذا التناقض يعود أصلاً لنوع الاختيار، فعمرو بن العاص كان قد بنى إسلامه على ضرورات التفوق التي خلقها الواقع آنذاك، فقد قال لأصحابه الذين رافقوه في سفرته إلى النجاشي ملك الحبشة " والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوَّا منكرا"(1) فكان الدافع رجحان كفة المسلمين، كما قلنا، أما خالد بن الوليد فقد كان دافعه غير ذلك، وذلك يتضح من جوابه لإبن العاص حين ترافقا متوجهين إلى المدينة لإشهار إسلامهما:" والله لقد استقام المَنْسِم، وإنَّ الرجل لنبي، أذهب والله فأُسْلِم، فحتى متى؟"(2) فكان إسلام خالد تصديقاً وإسلام عمرو مصلحة، والفارق بينهما كبير، وعليه فقط يجب أن تقاس أعمالهما، خاصة وأن تغييراً لم يحدث بعد ذلك في قناعات أحدهما.

 

ومع تطور عوامل الوحدة الاجتماعية والسيادة والانسجام بين المحليات العربية فيما بينها من جانب، وبين المجتمع والسلطة من جانب آخر، من خلال الارتباط الصميم بالعقيدة الإسلامية، التي أثمرت منجزات حضارية هائلة على أرض الواقع، من عدل اجتماعي واستقرار وإنتاج أخذ يتطور بوتائر سريعة ومتلاحقة، فقد كانت ترافقها عوامل مناقضة لها، تتطور بتطورها، معتمدة كلياً على موروثها الجاهلي، معززاً بالأخطاء والهفوات التي حدثت خلال مسار النهوض، فقد كانت الأمة تعاني أوضاعاً شاذة وغريبة منذ القرن الرابع قبل الميلاد، حين اجتاحتها جيوش الاسكندر المقدوني عام 331ق. م فقد عمد الاسكندر تنفيذاً لمشورة معلمه ووزيره أرسطو طاليس بتفتيت الأمم إلى كيانات صغيرة، يتول كل كيان منها ملكاً مستقلاً، فكاتبهم الاسكندر ووفر لكل منهم أسباب المنعة على كيانه وطائفته، فاستبد ملوك الطوائف بما تحت أيديهم واحتكروا الملك في أعقابهم، كل منهم يمانع عما في يده ويطمع بما في حوزة غيره، لكونها كانت جميعاً ممالك لا تملك من أسباب التطور شيئاً، ولا يتيسر لها الاكتفاء بما تملك، ولذلك فقد دبَّ الخلاف والاقتتال بين هذه الطوائف زمناً طويلاً، تمزقت خلاله عرى المودة والأخوة وموجبات التجاور، فتأصل فقه التجزئة وتجذر في واقعها، وهذا ما كان يريد الاسكندر حصوله لتسهل عملية انقيادهم لسلطانه، واستمرت تداعيات ذلك الواقع المفروض من قبل المحتل حتى القرن السابع الميلادي، فقد تعرضت الأمة كنتيجة لذلك إلى غزوات تعاقبت عليها من الروم والفرس، تركت آثارها واضحة على الواقع العربي وثقافته الاجتماعية بمختلف التشويهات.

 

ولقد حملت مرحلة الشروع بالتحرير ومن ثم نشر الرسالة الإسلامية خارج حدود الأرض العربية مع دافعها الأساس والجوهري، المتمثل بالجهاد في سبيل الله لنشر كلمة التوحيد وعقيدة وقيم الدين الجديد، كجزء أساس من شروط الإيمان، حملت أيضاً عوامل تداخلت فيها القيم القديمة والجديدة رغم تناقضهما، فقد كانت العوامل الاقتصادية نتيجة الفقر وقلة الموارد في الجزيرة العربية، ومشاعر التحدي للردَّة والعامل النفسي الكامن خلف مشاعر الانتصار والمنسجم مع روح الفروسية والاستعداد الدائم للقتال كأحد أبرز مظاهر البداوة، كل هذه العوامل تداخلت بنسب متفاوتة مع عوامل الإيمان والنقاء الروحي والسعي لتخليص البشرية من ضلالها وتبديد الظلمات عنها.

 

وقد بدأ الصراع بينهما خفياً، حتى برزت مغريات الدنيا لتشكل عاملاً ضاغطاً ومرجحاً للمخلفات الجاهلية على حساب العقيدة الإسلامية، نتيجة اتساع رقعة الفتوحات والاختلاط بمجتمعات تختلف في منظوماتها السلوكية وثقافاتها الاجتماعية وخصوصية كل منها، ولما تحقق من مكاسب مادية لم يعتد العرب الحصول عليها من قبل في ظل أجواء الصحراء، مما أدى إلى ترجيح فعلها وتراجع عوامل الإيمان والجهاد في سبيل الله أمامها، وبذلك بدأت مرحلة الانحراف والردَّة تنشأ وتترعرع في رحم المجتمع الجديد مع انطلاقته الحضارية، وهو في أوج قوته وقدرته على العطاء الحضاري المتميز، ثم بدأت آثارها تترك بصماتها على الواقع شيئا فشيئا، حتى تحول المجتمع الجهادي المقاتل من مهمات نشر العقيدة الإسلامية السمحاء فكراً وسلوكاً وعقيدة بين الأمم الأخرى خلال جهاده، إلى مجتمع يرضخ كلياً أو جزئياً لمتطلبات الحياة والمكاسب المادية الدنيوية الفاقدة لمتطلبات الروح أو التي تعيش على هامشها.

 

إن عوامل التجزئة وتغليب التناقضات الثانوية على الأساسية كانت تتغذى أصلاً على الأخطاء التي أعادت للوجود بعض مظاهر الاستغلال والاضطهاد بنسب متفاوتة وأشكال مختلفة، كان الصراع على السلطة أهم محفزاتها، انتقل من مرحلة كانت تتسم بالتهديد إلى مرحلة انطوت على أخطار كبرى، فقد تحولت من الشورى وإرادة الجماهير إلى نظام ملكي عائلي وراثي، نشأت حوله طبقة نفعية مترفة شكلت حاجزا أبعد السلطة عن الجماهير وأفقدها قدرة التواصل معها ومتابعة أحوالها وفرض الرقابة على سلامة سلوكها، ورفع الحيف الذي توقعه هذه الطبقة بمصالحها، كما إن من طبيعة أنظمة التوريث التي تحصر السلطة في عائلة محددة لا تخرج عنها إلا بالتآمر وسفك الدماء، أن تخلق فكر ومبررات وسلوك المعارضة المسلحة، التي لا يمكن تحويل مسار الحكم إلا من خلالها، الأمر الذي يحتم وجود الحركات السرية المبنية على العداء للسلطة، وما يتطلبه كسب الأنصار لهذه الحركات من حملات للتشويه وتهويل للأخطاء وتلفيق الأكاذيب.

 

وهذا ما يوجب على الدوام التطرف في أساليب التحسب والتحوط من كل فكر وسلوك يؤشر إمكانية تهديد السلطة وموقعها، لذلك تحيط أنظمة الحكم من هذا النوع نفسها بسياج حديدي من البطش والقسوة بمختلف الأدوات والوسائل، مما يساعد على فقدان الصلة الحية بين الحاكم والمحكوم، أو يقوض أركانها ويفرض عليها ثقافة الشك وفقدان الثقة.

 

فالقاعدة التي اعتمدها معاوية بن أبي سفيان بقوله:" لو أن بيني وبين الناس شعرةٌ ما انقطعت أبداً... إذا مدُّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتُها"(3) شكلت جوهر فلسفة الحكم الجديد المنحرف عن أصله على عهد الخلفاء الراشدين واختلاف غاياته ووسائله، ذلك أن العلاقة تحولت من مسؤولية تاريخية تؤدي دورها في حدود غاياتها إلى مكسب يتطلب الحفاظ عليه وتوفير مستلزمات ديمومته، تحولاً نقلها من موقع الوسيلة إلى الغاية والهدف.

 

فالشعرة بين ولي الأمر والرعية ليست قابلة للجذب والإفلات وفقاً للعقيدة الإسلامية ومتطلباتها، بل هي فاصل دقيق بين الحق والباطل، بين العقيدة وما يخرج أو ينحرف عنها، فإن أرخت كان التفريط، وإن شُدَّت كان الظلم والجور، وهذا ما لا يستقيم وجوهر العقيدة، إنما ينسجم مع سياسات الملوك ووسائلهم في حفظ مواقعهم وامتيازاتها، أي إن القيم والثوابت لا تحكمها العقيدة، بل تتغير وفقاً لمتطلبات العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهذا يجعل الحدود الفاصلة بين الحق والباطل تتداخل فيما بينها، وتتشوه قيم الإيمان بخصائص الكفر والشرك التي تطلبتها عمليات الشدِّ والجذب، فتجد التشويهات والانحرافات مواقعها في ساحات العقيدة لتختلط بها، وتتحول بمرور الزمن كأنها جزءاً أصيلاً منها.

 

وقد ساعد هذا كثيراً على ظهور المفاهيم العنصرية والشعوبية والطائفية والمذهبية، وإحياء الأعراف القبلية بصيغها الجاهلية مجدداً، والتي تحولت فيما بعد إلى صراعات أخذت تتفاقم بشكل مضطرد، يعمقها ويرسخ وجودها بروز الظاهرة العسكرية، التي تحولت إلى أداة للبطش حفاظاً على السلطة والسلطان ومكتسباتها التي ارتبطت بهما، فيما كانت الوسيلة الوحيدة للتغيير، فليس هناك من سبيل غير القوة العسكرية لتغيير منهج التوريث، مما استدعى فتح الأبواب واسعة للنفوذ الأجنبي بكل مظاهره المسلحة وغير المسلحة، وهو العامل الأساس الذي عزز مواقع الفكر والسلوك الشعوبي، ومنحه الفرصة الكاملة ليؤدي دوره المطلوب، فالشعوبية الفارسية ما كان بمقدورها أن تتطور ويستحكم فكرها في الواقع الإيراني وينتقل تأثيره إلى الأوساط العربية لولا الأحقاد التي أججها بعض أمراء الجيوش الأموية من خلال تعسفهم وقسوتهم في جمع الأموال، ثم جاء استغلال العباسيين لهم كأداة وحاضنة للتمرد ضد نظام التوريث الأموي، ذلك التكليف الذي أضفى على دعواتهم الشعوبية قدسية الدين، بدعوى استعادة حق آل بيت النبي في الحكم، ليعزز أحقادهم ويحولها إلى تنظيمات واسعة، فبذروا من خلاله منهج الشعوبية الحاقدة على العرب، وأنضجوا ثماره، وجندوا في مساره حتى العرب أنفسهم، الأمر الذي أراد خلفاء بني العباس علاجه بغلمان الترك فانقلب عليهم وبالاً.

 

فيما كانت الفتوحات الخارجية قد اعتمدت في ظل تلك الأحوال البعيدة عن جوهر العقيدة في وسائلها، على العصبيات القبلية، وبدوافع مستجدة، لم تكن من أهداف الإسلام ودوافع المسلمين فيما مضى، تلك هي المكاسب المادية الناتجة عن الفتوح، حين اختلطت أهداف نشر العقيدة الإسلامية بأهداف أخرى، تمحورت كلها حول طلب الثراء، فكانت الغنائم فيما بعد هاجسها الأساس، فأفقدت هذه الجيوش أسباب القبول والترحيب من قبل الشعوب التي تُفتح أراضيها، لأنها لم تلمس فيهم عدل العقيدة الإسلامية وروعة ثقافتها السلوكية، مع إن الله تعالى كان قد حذَّر الأمة من ذلك الانحراف بقوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(4) الأمر الذي أدى إلى إفقاد هذه القبائل المجاهدة أسباب جهادها لتتحول إلى أهداف دنيوية تتملكها العصبية الجاهلية بكل ما تحمل من ردَّة عن الإسلام، فعادت أسباب التجزئة والتناحر التي كانت سائدة في المجتمع العربي قبل الإسلام.

 

وبذلك فقد أُضيفت إلى أمراض المجتمع العربي، التي كانت قبل الإسلام، أمراضاً أخرى جديدة، هي من نتائج هذا التداخل مع الأقوام الأخرى والتفاعل الحضاري غير المحكم مع بيئاتها الاجتماعية، فالتجزئة السياسية التي كانت بسيطة وغير مركبة لا يشوبها التعقيد، صارت تنهل من الموروث الحضاري للشعوب التي فتحتها الجيوش العربية في جانبها السياسي دون إخضاعها لثوابت العقيدة العربية الإسلامية، بالإضافة للمفردات الدخيلة التي كانت موجودة أصلاً في الواقع العربي نتيجة الاحتلال الأجنبي لأجزاء مهمة من أرض العرب قبل الإسلام، مما حمل الثقافة العربية المزيد من المفردات الدخيلة، الغريبة عليها، والتي لا تنسجم مع عقيدتهم، وكذلك كان الأمر في المجالات الأخرى، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والسلوكية، حتى صار الواقع بمرور الزمن وتراكم التأثيرات هذه هجيناً ومشوهاً غير متجانس ومعقد أشدّ التعقيد في مفرداته.

 

فتعزز الصراع القبلي بصراعات قومية متعددة، كما حدث خلال العصر العباسي بين العرب والفرس والترك وغيرهم من الأقوام التي التحقت بالدولة العربية الإسلامية، ونتيجة لواقع التغريب هذا فقد كان لابد من بروز ظواهر التعصب بصيغ دينية مذهبية، ليتحول الصراع إلى تحديات قومية ودينية وطبقية وحضارية، وتحول الحوار الفكري والاجتهاد، الذي كان من أبرز علامات النشاط الحيوي في ترصين الثقافة الاجتماعية وتطوير مفرداتها، وحل إشكالاتها، بما يعزز التمسك بالمبادئ والأسس التي ارتكز عليها الإسلام، إلى صراع سياسي يعمل على تعميق التجزئة وتفتيت المجتمع العربي، بعد أن استغلته القوى المعادية والحاقدة وغذته من فكرها ومنظوماتها السلوكية المختلفة عن ثقافة الواقع العربي الجديد كثيراً، حتى حولته إلى طوائف وفرق، اعتمدت أغلبها مناهجاً عنصرية معادية للعروبة باسم الإسلام وسعت لتقويض الكيان العربي.

 

كما إن عاملاً آخر كان قد برز خلال العهد الأموي ساعد كثيراً على تعزيز مظاهر الردَّة وتغذيتها بسبل البقاء وأمدها بالقدرة على الصراع، ذلك هو القصور في نظرة الدولة إلى الرعية وعدم قدرتها على حل إشكالات التطور السريع الذي طرأ على كيان الدولة بعد أن ترامت أطرافها وامتدت إلى مناطق شاسعة وبعيدة عن مركزها، ومارست عمليات التفاعل الحضاري مع الأقوام التي التحقت بكيانها، والتي لم تحكم مفاصلها وآلياتها جيداً، مما أدى إلى خلق صراعات اجتماعية تستند في جانب منها إلى التفاوت الطبقي، والذي توضحت ملامحه في العهد الأموي، خلافاً للتركيبة البسيطة للمجتمع العربي الإسلامي خلال العهد النبوي والخلافة الراشدة، والتي كانت تتسم بمشتركات اجتماعية واقتصادية وثقافية عديدة.

 

كما ساعد على الردَّة أيضاً النظرة القاصرة والمنحرفة لطبيعة السلطة ومهماتها وأسباب وجودها، مما حولها إلى مسار يختلف كثيراً ويتقاطع مع صورتها التي رسمتها الشريعة الإسلامية، تميزت بالاستئثار بها دون وجه حق، وحصرها في بيوت محددة، مما استوجب نشوء الحركات السياسية السرية، كنتيجة طبيعية للحكم العسكري الشديد، الأمر الذي خلق أمراض اجتماعية عديدة وخطيرة، كان أبرزها النفاق والتآمر والخداع والتزوير وتبرير الوسائل بالأسباب التي لا تبيحها العقيدة، كما إن المذاهب والفرق التي نشأ بعضها كخلاف تنوع واجتهاد وتحولها إلى نشوء سياسي خالص، لم يكن إلا استجابة لتلبية متطلبات السبيل إلى السلطة وطموحات الاستحواذ عليها، خلاف ما ادعى ونظَّر أصحابها خلال مراحل نشوئها وتطورها حتى يومنا هذا، فهي في حقيقتها وسائل للوصول إلى السلطة أولاً وأخرا.

 

ومما زاد في خطورة هذا الواقع دخول غير العرب أطرافاً أساسية وفاعلة في هذا الصراع السياسي على السلطة، فقد كان التخلي عن منهج الشورى ونشوء الصراعات على السلطة مدعاة للاستعانة بغير العرب تحقيقاً لأهداف تغيير نظام الحكم، مما برر لتلك الأقوام سعيها لتكوين دول خاصة بها خارج نطاق الدولة العربية الإسلامية، فتوقف انتشار الإسلام، وعادت حدود دولته تنكمش تدريجياً، حتى تم الاستيلاء عليها بالكامل فيما بعد، وبذلك فقدت الوحدة العربية والإسلامية كقوة هائلة محركة لمسارات التاريخ والفعل الحضاري مصدر قوتها ووجودها، التي كانت تمثلها الشورى، فقد تشظت الدولة من أطرافها رويداً رويدا حتى تقوضت أركانها باجتياح عاصمتها بغداد عام 1258م من قبل المغول بدفعٍ وعونٍ وإسناد من الفرس، فمن الغرب خرجت الأندلس والمغرب العربي بدولة الأدارسة ثم الدولة الفاطمية، فيما ولدت في شرقها دولة الفرس مجدداً باسم الدولة الطاهرية والصفارية والسامانية وقريبا منها الخوارزمية، رافقتها الدولة الحمدانية من الشمال، وتتابعت الأحوال حتى تشظت أغلب هذه الدول المتشظية، فالأندلس تحولت إلى دويلات، رافقها انهيار للنظام السياسي للدولة الأصل بالتآمر والتحريف والتشويه، حتى تحول أمر بعض هذه الدويلات في المشرق من شراء وجودها من الخليفة العباسي بالأموال إلى فرض الغرامات المالية على الخليفة نفسه لقاء جلوسه على كرسي الخلافة.

 

وقد شهد القرن العشرين بداية الإعداد لمرحلة جديدة من النهوض، أفرزتها مراحل الانحطاط والتردي وتلاشي دور الأمة في حمل رسالتها وتراجع فعلها الحضاري، كانت المعانات أبرز دوافعها، لكن صياغة الواقع العربي من قبل الجهات التي تعاقبت على احتلاله قرون طويلة من الزمن صار معوقاً لأي عمل يستهدف توحيد كيانها من أجل النهوض لتحقيق أهدافها، فحالة التجزئة قد تعمقت في الثقافة والسلوك، كما بسطت هيمنتها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي برمته، مما صار يدفع باتجاه المزيد من التجزئة وليس التوحد، فالجهود المحلية التي اتسمت بها عمليات التحرر الشكلي من الاحتلال بكل ألوانه كانت قد عززت من واقع التجزئة وعمقته، فيما عملت القوى الامبريالية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على إضفاء الصفة الشرعية على ذلك الواقع من خلال تجزئة كيان الأمة إلى أقطار ورسم الحدود الفاصلة بينها وتكوين إداراتها الحكومية المستقلة عن بعضها البعض كلياً، وأثقلتها بقيود تمنع عليها التواصل مع أمتها لضمان تمتعها بامتيازات سلطاتها، ساعد على ذلك اكتشاف النفط كمورد اقتصادي مهم بمراحل متباعدة نسبيا بين قطر وآخر، مما عمق من الفوارق الاقتصادية بين أقطار الأمة، فأضاف لقيودها قيداً جديداً، خلق فجوات في التطور الاقتصادي وأنماط متباينة للعيش بين أقطارها.

 

كما كان من بين أهم البذور التي أنبتها الاحتلال الأجنبي في أقطار الأمة، تشويهات تستهدف بالدرجة الأساس الوعي والسلوك العربي، فقد أسس لتنمية الجانب الفردي الأناني في الشخصية العربية على حساب الجانب الاجتماعي فيها، من خلال مناهج التعليم ووسائل الدعاية والتثقيف المختلفة، حيث اعتنت القوى الاستعمارية الحديثة بالجوانب الفردية من سلوك العربي، وبرزتها كثيراً كجزء من عملية التهديم للكيان الاجتماعي العربي الواهن أصلاً، فيما كانت من جانب أخر تعتمد على الخصائص المعرفية الصرفة دون ربطها بعملية التكوين السليم للشخصية، وتأثير المعرفة فيها وعلى سلوكها، مما أدى إلى خلق حالة من الشعور بالتعالي على الجماهير والانفصال الوجداني عنها في ثقافة المتعلمين، وتنصلهم عن مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه معاناة الجماهير الشعبية والأخذ بيدها نحو خلاصها من واقعها المرير، وقد ركزت السياسات الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين على هذا الجانب كجزء هام وفاعل في مسار عملية التعويق وتعميق مناهج التجزئة وما تفرزه من أجواء التغريب والانقطاع الكلي أو الجزئي عن الجذور الحضارية للشخصية العربية، لهذا كان حصر أهداف التعليم في الوطن العربي ضمن أطر لا تخرجها عن اجتياز الاختبارات المنهجية للحصول على وظائف حكومية، واستمر تأثير هذه التشويهات في الواقع الاجتماعي حتى يومنا هذا، وان كان بدرجات متفاوتة، ولعل التغيير الذي نهضت به أغلب الحكومات العربية بعد تحرر أقطارها من الاحتلال العسكري المباشر خلال القرن العشرين لم يكن يتجاوز استبدال اسم وزارة المعارف باسم وزارة التعليم أو التربية والتعليم، دون الالتفات إلى أهداف التنمية الاجتماعية وأسس التربية السليمة في شخصية المتعلم، واحتياجات عملية النهوض الحضاري للأمة.

 

لقد مارست القوى الامبريالية الاستعمارية أدوارها في ترسيخ التجزئة وتفعيلها في الواقع العربي، فقد سبب احتلالها المباشر فرض صيغ التجزئة من خلال تقاسم الأرض العربية كأجزاء منفردة عن بعضها، كما ساعد على بروز ظواهر عمقت من هذا الواقع ودفعته باتجاه الثبات.

 

فالنزعات العرقية؛ الامازيغية والقبطية والكردية والزنجية، كانت قد برزت كظواهر تؤدي أدوارها الفاعلة في تعميق التجزئة وفكرها وسلوكها نتيجة دعم القوى الاستعمارية لها، وإبرازها كجزء من عمليات (فرق تسد) لضمان سيطرتها.

 

والنزعات القطرية التي اتخذت أشكالها الواضحة الصريحة بفعل سايكس-بيكو و سان ريمو، كانت القوى الاستعمارية قد وضعت لها الأسس وأوجدت لها الكيانات وأمدتها بسبل القدرة على الاستمرار والمواصلة الفاعلة.

 

والنزعات الطائفية والمذهبية كانت هي الأخرى قد حفزها الاحتلال ووضع أقدامها على طريق التناحر والسعي باتجاه التحزب والتشرذم، فقد برزت أدوار التشيع الصفوي الفارسي والوهابية والصوفية والمذاهب الأربعة تمارس صراعات جديدة تتسم بالطابع السياسي الخالص، لم يعد جدلا واجتهادا، بل تحول إلى تحزب سياسي فئوي يتمحور حول مكاسب سياسية.

 

كانت كل هذه النزعات قد برزت ومارست أدوارها في ترسيخ واقع التجزئة وفقه الفرقة والتناحر تحت ظل الاحتلال ورعايته المستمرة، خلف أستار الحريات والديمقراطية وحقوق الرأي وغيرها، وقد ساعد على ذلك، أن الاستعمار والاحتلال كان متعدد الأطراف، الأمر الذي ساهم في تعميق فكر ومنهج التجزئة، فالعراق وفلسطين والأردن ومصر والجزيرة العربية سقطت في قبضة السياسات البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى، مارست عليها عمليات التمزيق السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والديني أيضاً، فيما كانت سوريا ولبنان ترزح تحت الاحتلال الفرنسي، وليبيا كانت تحت السيطرة الإيطالية، أما المغرب العربي فقد مارس الاحتلال الفرنسي كل الوسائل والأساليب في سبيل تجزئته إلى كيانات متعددة، وقد نجح في تفتيته إلى مراكش والجزائر وتونس وموريتانيا والصحراء، وجعلها كيانات ينطوي كل منها على أسباب للفرقة والتناحر مع الأخرى.

 

وكنتيجة لتنوع هذا الاحتلال كانت الثورات والانتفاضات وأعمال المقاومة تتشكل تبعاً لهوية الاحتلال وطريقته في إدارة المناطق والحدود الوهمية التي وضعها فيما بينها، فكانت كلها تحمل طابعاً محلياً يوحي بالقطرية ويعزز من وجودها، لهذا فإن التكوين السياسي لها قد اعتمد أساساً على عاملي الاحتلال والمقاومة له، فولدت كلها قطرية قاصرة عن تلبية احتياجات الأمة والتعبير عن طموحاتها وقدرة وشرعية تمثيلها، ولهذا لم يتح لأي جزء من أرض الأمة أن يتحرر بجهود قومية.

 

وهذا المنهج هو الذي وقف خلف قرار الكيان الصهيوني بالتنازل عن جزيرة سيناء وإعادتها إلى مصر، لكي يمنع على العرب أن يجعلوا من قضية فلسطين واجباً قومياً، أو حافزاً يؤجج فيهم مشاعر المصير المشترك، وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ بعيد.

 

ساعدت على ذلك أيضا الفترات الزمنية المتباعدة نسبياً التي تحقق استقلال هذه الأقطار خلالها على تكوين كيانات قطرية متفاوتة في أعمارها وأشكالها ووسائلها، فالفترة التي استغرقتها الأمة للاستقلال امتدت نصف قرن من الزمن، فتشكلت كيانات سبقت غيرها في التكوين خمسين سنة امتدت من عام 1920م حتى عام 1971م، وهي مسافة كافية لتجعل من التوحد بينها أمراً شائكاً وصعبا، كما إن الاختلاف في أشكال الحكم فيها كان عاملا آخر لا يقل أهمية عن غيره من العوامل الأخرى، فقد تنوعت أنظمة الحكم المنبثقة من واقع الاحتلال بين حكم عائلي أميري أو ملكي وبين جمهوري ليبرالي أو راديكالي، ففي الوقت الذي أنشأت فيه بريطانيا دولة ملكية دستورية في العراق كانت قد أنجزت بجوارها بناء دولة ملكية قبلية عائلية في الجزيرة العربية، يختلفان في كل شيء.

 

وهذا ساعد بدوره على ترسيخ التجزئة كثيرا، من خلال تركيز القوى الاستعمارية على تكوين الكيانات القطرية وإبراز خصائصها المحلية وترسيخها بقوانين ورايات وأناشيد وطنية وقوانين وضعية متباينة وأنظمة اقتصادية وثقافات سلوكية ترتكز كلها على خصائص محلية خالصة، تعززها أنظمة تعليمية ناشئة على عين الاحتلال وتحت رعايته، تختلف من قطر إلى آخر في مناهجها وأساليبها وأهدافها، وهذه كلها كانت تآزر الأنظمة القطرية على ترسيخ مفاهيمها في وعي الشعب ضماناً لمكاسبها ومصالحها وعشقها للزعامة على حساب وحدة الأمة.

 

ولم تنج من محاولات ترسيخ التجزئة حتى اللغة، فاللغة العربية رغم أنها ليست الأداة الوحيدة للتفكير، وإن كانت أهمها وأكثرها رقياً، لكنها الأجدر والأقدر تعبيراً عما سواها، فمنافذ الفكر هي السمع والبصر والنطق، لذلك ربط الله تعالى بينها وبين العقل في كتابه العزيز { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}(5) ومع إنها إحدى أهم الروابط التي تنسجم بها وحدة الأمة وتتعزز، فإنها المنفذ الأبرز للتعبير عن الفكر والخبرة والسجايا السلوكية والطموحات الفردية والاجتماعية، فهي الوسيلة التي يتعامل من خلالها العربي مع مفردات عقيدته الإسلامية ويعبر عن صلته بها، لأنها لغة القرآن الكريم ومحتوى العقيدة والشريعة، وهي الأداة التي عن طريقها أُخذت السنة النبوية وانتقلت إلى الأجيال اللاحقة، وهي الوعاء الذي جمع فيه التاريخ أحداثهم.

 

مع كل هذه الأهمية التي أُضيفت لها بالإسلام كأهمية تتسم بالقدسية، نجد أن القرن الثاني للهجرة قد شهد بروزاً للتشويه فيها، نتيجة التفاعل الحضاري غير المنضبط والمستند إلى أسس غير صحيحة، فقد اشتدَّ اللحن فيها، وبدأت تتخللها مفردات دخيلة وغريبة عليها، رغم عدم وجود أي حاجة أو ضرورة لها، ثم شهد القرن الثالث الهجري تفاقمها، فقد اشتد هجوم العاميات حتى طغت على اللغة الأم؛ لغة القرآن الكريم.

 

ولو عدنا لدراسة أصول هذه اللهجات العامية لوجدناها لا تشكل شيئاً من أصالة هذه المحليات العربية كما يتصور البعض ويعتقد، إنما هي في الغالب مفردات دخيلة، نُقِلت إلى الثقافة العربية بالتفاعل الحضاري غير المتزن، أي الذي حشرته القوى المتفاعلة مع أمتنا بشتى الوسائل والسبل لأهدافٍ وغايات معروفة، فيما استوعبتها المحليات الاجتماعية العربية بسذاجة وغفلة كاملة، دون الانتباه لغاياتها وآثارها الخطيرة على وحدة الأمة، كانت الأمصار والأقطار التي خضعت للاحتلال قبل الإسلام وبعده بكل أشكاله مواطن لإنبات هذه المفردات الدخيلة بحكم تفاعلها مع ثقافة هذه القوى، وبخاصة في العراق ومصر والشام واليمن والمغرب العربي، ثم مارست هذه المحليات عمليات النقل إلى مجتمع الجزيرة العربية، الذي لم يشهد صيغ للاحتلال المباشر كالتي تعرضت لها تلك الأقطار. فيما كان القليل منها عبارة عن مفردات محرفة عن أصولها العربية.

 

ثم جاءت الموجات الاستعمارية الغربية لتدفع بهذه اللهجات العامية بعد أن أثقلها الفرس والأتراك وغيرهم بمفردات عديدة، لتضيف عليها موجة جديدة من المفردات، وعملت على جعلها تساهم بجدية في تعزيز واقع التجزئة العربية، حتى شهد القرن العشرين دعوات صريحة وواضحة للتخلي عن اللغة العربية الأم على اعتبار أنها صارت معوقاً أمام تطور العرب، وتمنع عليهم مواكبة التقدم الحضاري، قادها ألمان وبريطانيون، وتجند في خدمة مشاريعهم أعداد ممن صيغت مفردات ثقافاتهم على أسس غربية خالصة، كان من أبرزهم أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري سلامة موسى.

 

ولا زالت إلى اليوم تتوالى الدعوات وتخلق لها شتى المبررات والوسائل في سبيل استبدال اللغة الأم بهذه اللهجات الهجينة، واستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، كما فعلوا بالأتراك فأضاعوا عليهم ارتباطهم بإرثهم وتاريخهم، وحولوهم من شعب مسلم إلى تابع ذليل للثقافة الغربية وأعرافها، يسعى بكل قواه ليحمل هوية غربية مزيفة، رغم رفض الغرب لذلك حتى الآن. فقد شهد القرن الماضي إقحاماً لمئات المفردات الانكليزية والفرنسية في هذه العاميات بحجج متطلبات التطور العلمي ومصطلحاته، وقد شهد العراق خلال تطبيق مشروع النهضة الحضاري منذ عام 1968م تشريع قوانين عديدة للمحافظة على سلامة اللغة العربية، وتمت خلالها حملات لتعريب المصطلحات العلمية بما يوافقها في العربية، وفرض حتى على الذين يضعون لوحات تعريفية على واجهات محلات عملهم وأعمالهم أن يستخدموا لغة عربية سليمة، ومنع عليهم كتابة عناوينها الرئيسية بغيرها، لكنه اليوم وبعد الاحتلال راح يغذّ الخطى سريعاً للحاق بمن تشوهت اللغة على ألسنتهم من أقطار الأمة الأخرى بفعل السياسات الحمقاء لحكامهم واستسلام الكثير من مثقفيهم.

 

لقد خرجت القوى الامبريالية من الأبواب بصيغتها العسكرية لكنها في الحقيقة عادت لتتسلل مجدداً إليها من خلال هذه القطريات كشبابيك وضعتها في جدار الأمة بعناية ووجدت لها من يحرسها من بين العرب أنفسهم، فكانت عودتها خفية غير مرئية لا تؤجج ضدها مشاعر الجماهير، الأمر الذي يجعلها أخطر من الاحتلال العسكري وأعمق أثراً من فعل القوة العسكرية، فقد عملت على إنعاش هذه الكيانات القطرية، بعد أن ساهمت بقسط كبير في إيجادها، وقدمت لها الدعم والرعاية والحضانة بهدف ترسيخ وجودها كأنظمة قطرية مستقلة عن غيرها من الكيانات القطرية الأخرى، ضماناً لمصالحها ومنعاً للأمة من بلوغ أهداف وحدتها، التي تمنحها القدرة على النهوض برسالتها الخالدة من جديد، فالتجزئة كانت وستبقى هدفاً مركزياً للقوى الامبريالية والقوى الإقليمية في المحيط العربي، كي يستمر نفوذها وفرض إراداتها على هذه الكيانات القطرية الضعيفة بكل القياسات إذا ما قورنت بقدرات الأمة الموحدة، والتدخل في رسم سياساتها الخارجية والداخلية.

 

لهذا عمدت القوى الامبريالية إلى سد كل منفذ للتقارب بين أقطار الأمة، حتى بصيغ التعاون والتكامل، فوضعت متعمدة وبعناية فائقة بين كل قطر عربي والأقطار المحيطة به إشكاليات مؤجلة، يمكن لها أن تنفجر في أي وقت ترى أن هذه الأقطار بدأت تتجاوز فعل العوامل التي وضعتها أو احتضنتها كعوائق للوحدة العربية بكل أشكالها وصورها، فاقتطعوا الكويت من العراق وتركوا وجوده سائباً دون ترسيم لحدوده معه، وجعلوا منطقة الحياد مصدراً مؤجلاً للنزاع بين العراق والسعودية والكويت، واقتطعوا من الكيان السوري مناطق ألحقوها بلبنان وتركوها مشروعاً لمشكلة تنفجر متى شاؤا، فيما جعلوا من مياه الفرات سبباً لتخريب أي علاقة قد تنشأ بين العراق وسوريا، كذلك فعلوا مع الحدود القطرية والإماراتية مع السعودية، أما المغرب العربي فقد أوجد فيه الاحتلال الفرنسي علَّة الصحراء خلال تقسيمه لكياناته الحالية، فصيرها مشكلة تمنع على المغرب والجزائر وموريتانيا أي فرصة للتقارب فيما بينها، وفوق كل هذا خلقوا في قلب الأمة الكيان الصهيوني العنصري على أرض فلسطين، ليكون مصدر للفرقة والاختلاف ومنع الترابط بين أجزاء الأمة في أسيا وأفريقيا فيما بينها.

 

كما عملت هذه القوى على خلق أسباب عديدة للنزاع العربي مع محيطه الإقليمي، فلأجل ذلك اقتطع الاحتلال البريطاني إقليم الأحواز العربي من جسد العراق ومنحه لإيران عام 1925م ووضعوا أقدام الفرس على الضفة الشرقية لشط العرب، فيما اقتطعت لواء الاسكندرونة من الجسد السوري وألحقته بتركيا، وتمادت حتى منحت فلسطين للصهاينة اليهود بعد أن استجمعت أشتاتهم على أرضها، ثم أخلت بريطانيا الجزر العربية أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى لتحتلها إيران عام 1971م، فيما جعلوا من البحرين مطمعاً فارسياً، والموصل مطمعاً تركياً، والسودان مطمعاً أفريقياً، أما في المغرب فقد خلق من الأراضي التي تحتلها اسبانيا مشروعا للتهديد والتأزم الدائم.

 

وكما تشتِّت التجزئة جهود الأمة وتسحق إرادتها، فإن الأنظمة القطرية تعمل على تعميقها ضماناً لمصالحها ومطامعها ونزعاتها بالتفرد والنفوذ والزعامة، لا يتحقق لها شيئا مما هو في أيديها لو توحدت الأمة وامتلكت إرادتها، ولهذا فواقع الأمة اليوم، في ظل التجزئة يشهد غياب دورها كاملاً، لأن القطرية تدفع باتجاه الانقسام، ولا تتحقق مصالحها إلا به.

 

إن ما تعانيه الأمة ليس بسب مشاكل في تكوينها، إنما هو في الحقيقة انعكاس صادق لفكر وسلوك وأهداف المنهج القطري، فالطائفية والعرقية إفرازات حفَّزتها القوى الاستعمارية، وعزَّزت مواقعها الأنظمة القطرية ومناهجها القاصرة عن التعبير عن حقيقة الأمة وطموحاتها.

 

فماذا كانت ستشكل نسبة سكان جنوب السودان إلى الأمة الموحدة كي تتحفز فيهم الروح العنصرية الانفصالية؟ وماذا يشكل حجم أكراد العراق أو سوريا؟ وماذا كان سيشكل الخطر الطائفي الذي تسعى الدولة القومية الفارسية الشعوبية في إيران من خلاله ابتلاع أجزاء مهمة أخرى من جسد الأمة المنكوبة؟ وماذا يشكل الوجود الماروني اللبناني في جسد الأمة؟ وهل كانت ستنحرف هذه وغيرها لتشكل بؤر للتآمر على الأمة، تتمسك بالقطرية وتسعى لتعزيز مفاهيم التجزئة وتعميقها في الواقع العربي، وتتحول إلى أدوات طيعة بيد أعدائها في مسار التمزيق والتشرذم، لو كانت الأمة قد توحدت ونهضت من سباتها العميق وعاودت فعلها الحضاري؟

 

لقد نهضت طلائع الحركة التاريخية في العراق بعد ثورتها المباركة عام 1968م بعملية تغيير شاملة وكاملة، استعداداً لبناء قاعدة لنهضة الأمة على طريق وحدتها، معتمدة إسلوب خلق النموذج الكفاحي، فانتقلت بالمجتمع العراقي نقلة نوعية متميزة، واتخذت للتعليم نظاماً يعتمد على أصولها الحضارية النقية، وملبيا لطموحات الأمة في تعزيز الجانب الاجتماعي في التنمية السلوكية والثقافة الشخصية، وإعداد الشباب إعدادا ينسجم ومتطلبات المشروع النهضوي الحضاري الذي تبنته تلك الطلائع، لكنها لم تحقق كامل أهدافها وأغراضها نتيجة حملات التعويق بالتآمر والعدوان والحصار والتي ختمتها القوى المعادية للأمة حلفا واسعاً في غزو العراق وإيقاف عجلة تقدمه عام 2003م، استثمرت فيه كل خصائص القطرية المقيتة في مسار عدوانها، ومع كل هذا فقد خلقت قاعدة للنهوض على امتداد مساحة الوطن العربي، رغم محدوديتها فإنها تمارس اليوم دورها الطليعي النضالي ضد واقع الخنوع والانهزام والتفكك حتى تغيره بإذن الله تعالى وعونه ومدده.

 

 

(1) ابن هشام، السيرة النبوية، ص581، دار الكتاب العربي، 2005 بيروت.

(2) المصدر السابق، ص585.

(3) ابن عبد ربه، العقد الفريد، ص10، ط1، خياط 1967م بيروت.

(4) سورة النساء، الآية: 94.

(5) سورة البقرة: من الآية 171.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس  / ٠١ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٥ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور