دراسة
المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام
دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء الاول

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعــربي

مقدمة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على معلمنا وقدوتنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعرضت أمتنا العربية إلى هجوم متواصل منذ أن اختارها الله تعالى ميزاناً للبشرية، أمة وسطاً تقف بثبات بين الإفراط والتفريط، لتكون قدوة في العبادة والسلوك والتصرف، متسلحة بعقيدة التوحيد، ممسكة بقارب النجاة إلى يوم القيامة، تنسخ كل الأدوار التي سبقت رسالتها، وتطرح بديلها الإلهي الثابت، بعدله وإنصافه وثقافته السلوكية المثلى، واستجابته لكل المستجدات واستيعابها. العقيدة التي تُعيد الإنسان إلى مسار فطرته التي خلقه الله تعالى عليها، وأمره أن لا يخرج عن محيطها أو يشذَّ عن سبيلها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون}(1) تضع العقل في مساره الصحيح، تمنحه القوة والقدرة على الإبداع والإنتاج المثمر والفاعل في صياغة الحياة كما أرد الله تعالى لها أن تكون.

 

واستمر الهجوم يتلاحق بلا هدنة أو هوادة، تجمعت في مساره كل القوى التي وجدت في العقيدة وحملة رايتها العرب خطراً داهماً على مصالح الشيطان وأتباعه ووجودهما، قوى متناقضة لا يجمع بينها جامع إلا العداء للعرب والإسلام واستشعاراَ بخطرهما معاً، فقوى الشرك والجاهلية هزمها الإسلام بالعرب أنفسهم، وأضاع على الفئات المتنفذة والمستفيدة من فكر وقيم جاهليتها مواقعها فتحفزت للثأر، واليهود درجوا على العناد والشقاق فقد سبق لهم أن قتلوا الأنبياء وحرفوا كلام الله الذي أُنزِل إليهم، مسخ الله منهم قردة ولم يرعووا ولم ينصاعوا لقول الحق وأمر الله تعالى، جاء الإسلام ليفضحهم ويكشف زيفهم وغدرهم، فشمروا عن سواعد الكيد والغدر، والنصارى فعلوا فعلهم فجعلوا لربهم شركاء وأندادا، جاء الإسلام ليفند أكاذيبهم ويظهر حقيقة عيسى بن مريم عليه السلام عبداً من عباد الله تعالى وليس إلها يعبد، فأضمروا الحقد والشرّ تارة، وأخرى أظهروه فساسوا حياتهم وفقا لمتطلباته، والمجوس كانت ديارهم أوكاراً يعبد فيها الشيطان، يُذعنون لمكره وكيده، غزاهم الإسلام فأطفأ نار مجوسيتهم وبدد الظلمات التي أغرقهم فيها هو وأتباعه، فتستروا بأعز وأجل أهله لينفذوا إلى ساحته غدراً ومكراً وصلفاً وتشويها.

 

هذه هي الأفعى التي تلبسها الشيطان فأخرج بجلدها أبا البشرية آدم وزوجه من نعيم الجنة ورغد عيشها إلى دنيا الشقاء والامتحان، لكنه هذه المرة صيرها برؤوس أربعة، فإذا كانت أفعى واحدة قادرة على إخراج آدم من الجنة، فإن رأساً واحداً لا يكفي الشيطان ليخرج ذرية آدم عن سبيل الجنة إلى سبيل النار والعذاب، فالسبل أضحت واضحة جلية، لا يتزحزح عنها سالكها إلا بتضافر المكر والغدر والغش والخداع والإغراء، فقد امتلك الإنسان خلال مسيرته الطويلة الشاقة وعياً وخبرةً وقدرات كافية لتقيه مكر الشيطان واحتناكه له، من خلال كم الرسالات السماوية المتعاقبة. ولهذا كانت الحاجة ملحة لإيجاد أكثر من رأس أفعوي متشيطن، ليمارس كل واحد منها دوراً قد لا يستطيع غيره تحقيقه، فالأمر تطلب المزيد من التخفي خلف أستارٍ جديدة غير مستخدمة، وسلوك سبل لم يكن قد طرقها من قبل، ليسهل على الشيطان النفاذ مجدداً لكل الساحات التي طُرِدَ منها، فكان الذي أراد، حرباً عليها من داخلها، بأدواتٍ تبدو وكأنها مألوفة لها وليست غريبة عنها، فأغلب أدواتها ووسائل تخريبها كانت ولا تزال تعتمد في ظاهرها على العقيدة الإسلامية وقيم السلوك العربية، حتى أثخنت الأمة جراحاتها فهوت على وجهها، تندب حضها العاثر، ولا تجهد نفسها في إيجاد العلاج الذي ينفي عنها أثر السموم التي أفرزتها رؤوس هذه الأفعى، ويمنحها المناعة من لدغاتها القادمة، كي تنهض من جديد وتنطلق برسالة ربها الخالدة إلى يوم الدين، نقية صافية من الانحرافات التي شوهتها وأفقدتها قدرة التأثير والانجاز. غير معتبرين من أحداث مرّت عليهم دون أن تفرز نتائج التحصين في وعيهم، رغم أن الله تعالى قد دلهم على ذلك بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}(2) ويقول جلَّ في علاه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}(3)

 

هذا ما سنحاول التنقيب عنه والبحث فيه لاستظهاره بعد طرح ما أمكننا الله تعالى من عوالق الزمن عنه، نكشف التآمر، بأسبابه وآثاره، عوامله ومصادره، وكيف السبيل إلى الوقاية منه، مع تبيان شروط ومستلزمات معاودة النهوض والانطلاق، وإن كان هذا الموضوع من التعقيد ما يجعل أمر تحقيقه غاية الصعوبة، فالتشويه الذي طال أحداث التاريخ العربي الإسلامي كان شديداً وقاسياً، تلاحق وغطى أكثر أحداثه، وأهمها وأخطرها، فشكل بمرور الزمن الآراء الثابتة والراسخة في الوعي، وكأنها هي الحقائق الناصعة المتكاملة لتلك الأحداث، فالذين مارسوا تزوير وتشويه أحداث هذه الحقبة الهامة من التاريخ الإنساني، كانوا يملكون من الأدوات والقدرات والإصرار على مواصلة المهمة ما شكل عائقاً مُحْبِطاً لكل الذين أرادوا النهوض بمهمة استخلاص الحقائق التاريخية من بين أكوام الزيف والكذب والتزوير. فهي خطوة نطمح أن تكون على خطى روادها، حافزاً لذوي الهمم العالية كي يواصلوا مسيرتها، حتى تتطهر أحداث تاريخنا وتظهر حقائقها جلية واضحة، فتتحول من أسباب للتناحر والتفرق إلى دافع للوحدة الرصينة في العقيدة والانتساب والانتماء والولاء.

 

وقد وجدنا من المناسب تقسيم هذه الدراسة إلى أربعة أبواب، وكالآتي:

 

الباب الأول: حقائق التاريخ، ويتضمن ثلاثة فصول:

الفصل الأول: استنطاق التاريخ، الفصل الثاني: بدايات الانحراف، والفصل الثالث: جسور التاريخ.

 

الباب الثاني: مؤامرة التشيع الفارسي، ويتضمن خمسة فصول: الفصل الأول: الغلو والتفريط، الفصل الثاني: المؤامرة الكبرى، الفصل الثالث: من فصول المؤامرة، الفصل الرابع: ثورة الحسين وحقيقة التشيع، الفصل الخامس: محبة آل البيت وأكاذيب الفرس.

 

الباب الثالث: أخطاء تاريخية عززت من وجود التشيع الفارسي، ويتضمن خمسة فصول: الفصل الأول: أدوار الأمويين والهاشميين في إنماء التشيع الفارسي، الفصل الثاني: دور العثمانيين في إنجاح الغزو الصفوي للعراق، الفصل الثالث: التهلكة الفارسية، الفصل الرابع: الأساليب الفارسية في التوغل، الفصل الخامس: من نتائج حلف المجوس واليهود.

 

الباب الرابع: الرسالة الخالدة، ويتضمن فصلين، الفصل الأول: خصوصية التكليف، الفصل الثاني: من شروط النهوض الحضاري.

 

ولعل الغزو والاحتلال وجرائمه الشنعاء المتوحشة الهادفة لتعويق أبناء الأمة عن أداء دورهم المطلوب، وسعيه لتزييف وعي العراقي والعربي ومسخ تاريخه بقصد قطعه عن جذوره وأصوله، وحرفه عن مساره الصائب، كان محفزاً لي كي استل بارق قلمي من غمده وأدون حروف كلماتي بمداد دمي، الذي أراقه الغزاة غير مرة على تراب أرضي، من شراييني ومما تجذر في تربة العراق، أولئك الأسخياء بالبذل والعطاء؛ شهداء العراق والعروبة والإسلام، في لجة عصفهم بالطغاة الغزاة، منذ أن كتب الله تعالى علينا أن نكون الناهضين برايات رسالة نبيه الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم عالياً في سماء المجد والعزّ والسؤدد.

نسأله تعالى فيها التوفيق والسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير.

 

المؤلف

1430هـ 2009م

 

---------

سورة الروم، الآيات: 30-32.

سورة الحج، الآية: 46.

سورة غافر، الآية: 21.

 

الباب الأول

حقائق التاريخ

 

الفصل الأول

استنطاق التاريخ

تواجه الأمة واقعا مريراً مزرياً، لكنها غير قادرة على تغييره، فأسباب انحطاطها التي صيرتها بصورتها المأساوية، كما ترويها وثائق التاريخ، لا زالت هي الأعذار التي تدفع بها للمكوث في أجواء ذلها وهوانها، وتفرض عليها فرقتها وتمزقها، والأسباب هذه التي يحتضنها التاريخ، لا يتغير فيها شيء، اعتماداً على القناعة التي تفيد بأنها حقائق التاريخ. فهل هي حقاً حقائق التاريخ التي لا يغلفها الباطل ويربض بين صفحاتها، ولا يشوهها الدس والتزوير، ولا تحرفها نوايا السوء عن أصلها، أم هي غير ذلك؟

 

المنطق يقول أن أمة نهضت في القرن السابع الميلادي من واقع أكثر بؤساً وتخلفاً من واقعها الذي تعيشه اليوم، فقدمت للبشرية حضارة كانت ولا زالت مثار إعجاب الدنيا وتقدير المنصفين من كل الأمم والأقوام، لا يمكن أن تكون الأسباب الهامشية التي سطرتها الأقلام على أوراق التاريخ هي التي أذهبت حضارتها وعادت بها إلى حيث كانت من قبل، وهذا يعني أن هناك أسباب وعوامل داخلية وخارجية متداخلة توحدت على أهدافها وتآزرت فيما بينها لتطيح بالأمة وحضارتها، فهل المؤامرة هذه حقيقة واقعة طمست معالمها عمليات التزوير الواسعة لحقائق التاريخ، أم هي مجرد وهم يعلق عليه العرب نتائج وهنهم وعجزهم؟

 

ذلك ما سنحاول استنطاق التاريخ عن حقائقه، من خلال إخضاع أحداثه ووثائقه لمنطق التنقيب والتقصي عن أسس دثرها التزوير والتشويه وإحالة الأسباب لغير مسبباتها، بحسن أو سوء نية، فالحق أحق أن يظهر ويشار إليه أياً كانت نتائجه، فالذي فارق سبيلاً سوياً هُديَ إليه لا يُعيده إليه إلا معرفته بالخطأ الذي اقترفه وأسبابه ونتائجه، وامتلاك الإرادة والقدرة على تجاوزه بعد إصلاح شأنه وتغيير مساره، كي لا يشتط مرة أخرى ويسلك سبيلا غيره في أول منعطف يصادفه، فالمتربصين لا تغمض لهم أعين، ولا ينتابهم اليأس حتى يعيدوهم إلى حيث كانوا، وإلى حيث يقفون هم، فالله تعالى يقول: { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(1).

 

كل هذا سنحاول مناقشة حقائقه التاريخية وأسبابه ومبرراته، وحجم المؤامرة التي دام فعلها قرون طويلة من الزمن حتى أتت بعض أُكُلَها، والآثار التي تراكمت في واقع الأمة من جرائها، عسى أن تضيء السبيل لمن طفح به كيل الذلّ والهوان وأراد أن يفيق من سباته الطويل ووجد في نفسه العزم والهمة.

 

نحاول قراءة التاريخ وأحداثه قراءة جديدة تعتمد البصيرة لا البصر، فالتاريخ كان أحد أهم الأهداف المباشرة في مسار المؤامرة لتشويهه وتزوير الكثير من أحداثه وطمس حقائقها، مما سهل عليهم رسم تلك الصورة القبيحة عن العرب المسلمين الذين كانوا رواد أعظم الحضارات في التاريخ على الإطلاق. ونفي التزوير عنه سيسهل علينا الإجابة عن أسئلة طالما حيرت الكثير وأوقعتهم في شراك المؤامرة دون وعي منهم أو إرادة، وأعجزت آخرين عن قدرة الفعل الحضاري الأصيل، فلم يسلم من الدسّ والتزوير شيء من أحداث التاريخ، حتى التي سبقت الإسلام، وهذا مثلٌ منها. ينقل الطبري، وهو من أجلّ المؤرخين وأعلاهم منزلة في تاريخه "تاريخ الرسل والملوك" دسائس تنمّ عن قدرة كبيرة في استغلال أحداث تاريخية لتشويه صورة العرب، دون أن يتمكن هو وغيره من كشف زيفها وأهداف وضعها، فيسطِّر عن الحاضرة العربية التي نشأت على أرض العراق في الحضر وملكها الضيَّزْن بن معاوية ابن العبيد بن الأجرام، وهو عربي من قضاعة، كما يروي عن هشام بن الكلبي، حين حاصر حصنها الملك الفارسي سابور بن اردشير أربع سنين لا يقدر على هدمه أو الوصول إلى الضيزن، "ثم إنّ ابنة للضَّيْزن يقال لها النَّضيرة عَرَكت فأُخْرِجت إلى رَبَض المدينة، وكانت من أجمل نساء زمانها - وكذلك كان يُفعل بالنساء إذا هنّ عَرَكْن- وكان سابور من أجمل أهل زمانه – فيما قيل – فرأى كلّ واحد منهما صاحبه، فعشقته وعشقها، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة وتقتل أبي؟ قال: حكمك وأرفعك على نسائي، وأخصك بنفسي دونهنّ. قالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة، فاكتب في رجلها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم أرسلها، فإنها تقع على حائط المدينة؛ فتتداعى المدينة. وكان ذلك طِلَّسْمِ المدينة لا يهدمها إلاّ هذا، ففعل وتأهّب لهم، وقالت: أنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صُرِعوا فاقتلهم، وادخل المدينة. ففعل وتداعت المدينة، ففتحها عنوة، وقتل الضَّيْزَن يومئذ، وأبيدت أفناء قضاعة الذين كانوا مع الضَّيْزن، فلم يبق منهم باقٍ يُعرف إلى اليوم، وأصيبت قبائل من بني حُلْوان؛ فانقرضوا ودَرَجوا... وأخرب سابور المدينة، واحتمل النَّضيرة ابنة الضَّيْزن، فأعرس بها بعين التَّمر، فذكر أنها لم تزل ليلتها تَضوَّر من خشونة فرشها، وهي من حرير محشوة بالقزّ فالتُمس ما كان يؤذيها، فإذا ورقة آس ملتزقة بعُكنة من عُكَنِها قد أثّرت فيها. قال: وكان يُنظر إلى مُخّها من لين بشرتها – فقال لها سابور: ويحك بأيّ شىء كان يغذوك أبوك؟ قالت: بالزُّبْد والمخّ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر. قال: وأبيك لأنا أحدثُ عهداً بك، وآثر لك من أبيك الذي غذاك بما تذكرين. فأمر رجلاً فركب فرساً جموحاً، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطّعها قطعاً"(2)

 

فاستسلم هو وغيره من المؤرخين للتزوير واتخذوه كحقائق تاريخية، على الرغم من أنّ الصيغ التي صُورت بها الأحداث بكل تفاصيلها تؤكد أنها أكاذيب لا يستسيغها العقل السوي، فالحصن مشيد – وفقاً للرواية المزورة – على أسس وهمية اسطورية لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع، فكيف يمكن لحصن أعجز جيوشاً جرارة أن تهدمه حمامة بحيض جارية؟ إن هذا لا يستجيب له العقل السوي مطلقاً، وليس فيه أية خصائص فيزيائية أو كيميائية يمكن أن تحدثها حمامة تحطّ على حصن وتمنحها قدرة على فعل، وإن كان أدنى من هذا بكثير، فهذه القصة الخيالية كانت خرافة ووسيلة لتمرير غاية معروفة، ثم كيف يمكن نبذ إبنة ملك إلى خارج الحصن وإن مرضت، وهي كانت في موقع من أبيها ما لا يمكن تخيل إمكانية تخليه عنها لأي سبب مهما كان، ناهيك عن المرض، فهو مدعاة لكي يقربها منه أكثر من حالها وهي معافاة، فنوعية الغذاء الذي كان أبيها الملك يختصها به كما أوردته الرواية يؤكد بما لا يقبل الشك أن الضيزن لا يمكن أن يسمح بطرح مدللته هذه خارج الحصن وهو محاصر من قبل جيوش الأعداء، ثم كيف لقصة حب متوحشة كالتي سطرتها وثائق التاريخ هذه أن تنشأ في ظل الخوف والرعب والتهديد؟ وهل يمكن لجمال مصدر الخوف والرعب أن يكون دافعاً كافياً لحبٍ كهذا، تضحي فيه إبنة الملك بأبيها وتدليله المفرط لها وملكه وكل ما يحيط بها؟ وهي لا تملك من أسباب الانتقام شيئاً، لأنها ليست مضطهدة أو معذبة أو تبحث عن تحقيق طموحات، فالغذاء الذي يطعمها أبيها الملك إياه – كما تقول الرواية نفسها - دليل قاطع على مكانتها المميزة في قلب أبيها الملك نفسه، فما بالك بالآخرين. وقد كان القول بأنّ مخها يُرى من خلف بشرتها فيه الكفاية لكي يدحض الرواية من أساسها، لأن المخ، كما هو معلوم حتى في ذلك الوقت، لا يقع خلف جلد كي يُرى عند رقّته، بل هو محاط بجمجمة عظمية، والعظم لا يمكن أن يكون شفافاً لينفذ البصر فيشاهَد ما هو خلفه، وإن كان القصد أن تُرى الأنسجة اللحمية من خلال الجلد، فهي ليست دليلاَ على الجمال بل هي تشوه يمسخ شكل صاحبة، وإن كان هو الآخر غير قابل للتحقق، فللجلد طبقات خلقها الله تعالى بإبداعٍ عظيم.

لكن الهدف كان واضحاً من كل تفاصيل القصة الملفقة، أنه السعي الشعوبي لتشويه صورة العربي ومسخها، من خلال وصمه بالغدر وبأقرب الناس إليه ونكران الجميل مهما كان حجمه ونوعه، ومحاولة إفراغه من كل قيمه الأصيلة التي كانت ولا زالت تشكل جوهر كيانه الاجتماعي وخصائصه، وهذا الاستهداف واضحٌ وجليّ، عززه رواة الدسّ والتشويه في روايات أخرى كثيرة، تحاول في كل مرة الحط من العربي، فيما ترسم مقابلها صورة أخرى مختلفة كلياً للفرس المجوس، فسابور بن أردشير الملك الفارسي هو الذي ينتقم لعدوه الضَّيزن من غدر ابنته وإنكارها لفضله عليها، للإيهام أن الفرس ليسوا كالعرب، والحق عندهم يعلو على كلّ اعتبار.

 

وهذه رواية عن حادثة أخرى تنهج ذات النهج الشعوبي في الرواية السابقة وتعززها، على أمل ترسيخها في الوعي العربي وجعلها وكأنها حقائق ثابتة، فقد أورد رواة التاريخ زيفاً واضحاً لا يحتاج إلى كثير عناء كي تدرك غاياته، حين نقلوا أن تُبَّع ملك اليمن العربي وجَّه ابن أخيه شَمِر ذا الجناح إلى سمرقند فحاصر حصنها ولم يتمكن من فتحها، فاستقصى الأخبار من رجل أخذه من أهلها،فأعلمه أن ابنة الملك هي التي تقوم بأمر المملكة وتدبر شؤونها " فبعث معه بهديّة إليها، فقال له: أخبرها أنّي إنما جئتُ من أرض العرب للذي بلغني من عقلها لتُنْكِحَني نفسها؛ فأصيب منها غلاماً يملك العجم والعرب، واني لم أجئ ألتمس المال، وأنّ معي أربعة آلاف تابوت من ذهب وفضة ها هنا، فأنا أدفعها إليها، وأمضي إلى الصين، فإن كانت الأرض لي كانت امرأتي، وإن هلكت كان ذلك المال لها، فلما أنهيت إليها رسالته قالت: قد أجبته فليبعث بما ذكر، فأرسل إليها أربعة آلاف تابوت، في كلّ تابوت رجلان، فكان لسمرقند أربعة أبواب على كل بابٍ منها أربعة آلاف رجل، وجعل العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجُلجُل. وتقدَّم في ذلك إلى رُسُله الذين وَجَّه معهم، فلما صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا، فأخذوا بالأبواب، ونهِد شمِر في الناس؛ فدخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها" (3) وهكذا تعززت الصورة المشوهة السابقة، وتعمقت معانيها، فالعرب غادرون لا يؤتمن جانبهم، على العكس تماماً من الفرس، مع إن الثابت عن العرب حتى في جاهليتهم وشركهم كانوا يمتازون عن كل الأقوام والأمم باعتدادهم بالفروسية وتمسكهم بخلقها وأعرافها، ولم يتمكن كثير منهم من تجاوزها بعد إسلامه بصيغتها العصبية، والفروسية هذه كانت تتقاطع كلياً مع كل أساليب الغدر حتى في المعارك.

 

ثم يأتي المؤرخ الكبير ابن خلدون 1332-1406م، وهو ممن اكتوى بنار الدسائس التي حشرها أصحاب الأغراض في وثائق التاريخ ليشوهوا الكثير من حقائقه، محاولا النهوض بمهمة تنقية أصوله، بعد أن أشار إلى أسباب تشوهها، فيقول: "وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها، وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل"(4)

 

مع كل هذا تجده يكيل المديح الطويل المبالغ فيه حد التقديس لولي الأمر الذي أودعه مؤلفه ذاك، فكيف له مع هذا الحال أن يتسقط الأخطاء وهو يكيل كل هذا المديح، وولي الأمر هذا ليس معصوماً من الأخطاء، ولا يمكن للعمل أن يسلم من الأخطاء، فالكمال لله تعالى وحده، فهو يختم مديحه الطويل بالقول"...أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان المعظم الشهير الشهيد أبي سالم إبراهيم ابن مولانا السلطان المقدس أمير المؤمنين، أبي الحسن ابن السادة الأعلام من ملوك بني مُرَيْن"(5)

 

ثم يبين لنا حاجة التاريخ إلى علاجٍ لما يعتريه من وهن في القدرة على تجسيد الحقائق التاريخية كاملة، فيقول: "فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا أعتمد فيها على مجرد النقل ولم تُحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها"(6)

 

فيصحح معلومات أوردها المؤرخ المسعودي حين ادعى إن جيش موسى عليه السلام عندما عبر البحر ببني إسرائيل كانوا ستمائة ألف مقاتل، على أنه رقم مبالغ فيه كثيراً، ولا تقره وقائع التاريخ لتلك الحقبة الزمنية كما لا يقره المنطق السليم، وهذه قراءة مبصرة لوثائق التاريخ، ومحاولة لتصحيحها، لكنه في ذات الوقت يوهم التاريخ برأي هو أبعد أثراً في تشويه حقائق التاريخ حين يعتقد أن نبوخذنصر الملك البابلي كان مرزباناً يعمل تحت إمرة الدولة الفارسية الإخمينية، فيقول: "ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم وهو من بعض عمال مملكة فارس يقال إنه كان مرزبان المغرب من تخومها وكانت ممالكهم بالعراقيين وخراسان وما وراء النهر والأبواب"(7)

 

مع إن المملكة الأشورية التي قادها 117 ملك خلال الفترة بين عامي 1245-606 ق.م لم تكن تابعة في يوم من أيامها لدولة الفرس بل كانت تحكم الشرق بأكمله، فقد كانت أشور " مهد عنصر عظيم خلف علامة لا تمحى في التاريخ، ونجح بوسائل ذات عنف هائل في أن يوطد الحكم الأشوري في الشرق الأوسط كله...لقد تم تأشير حدودها النائية في اتجاهات مختلفة بالخليج العربي وعيلام في الشرق، وبجبال أرمينيا في الشمال، وبالبحر الأبيض المتوسط وقبرص، في الغرب، وبالجزيرة العربية ومصر حتى طيبة في الجنوب"(8) والسبي الأول كان عام 722 ق.م خلال حكم هذه المملكة، فيما كان السبي الثاني عام 586 ق.م من قبل الملك البابلي نبوخذنصر، وهو لم يكن تابعا لمملكة فارس ومرزبانا لهم كما توهم ابن خلدون، فنظام المرزبانيات قد أوجده الملك الاخميني دارا الذي حكم بين 531-485 ق.م بعد وفاة نبوخذنصر بحوالي نصف القرن من الزمن، كما إن نبوخذنصر كان قد تحالف مع حلف قبلي قادم من الشرق" الماذيين" ولم يكن تابعا لهم على الإطلاق، بل كان حلفا سياسياً، ولغرض" تعزيز تحالفه مع الماذيين تزوج هذا الملك من اميتيس ابنة استياكيس"(9) ولقد كان سقوط بابل وملكها يومئذ نبونيد في 29/10/539 ق.م على يد كورش الاخميني الفارسي بمعونة يهود السبي البابلي والكوتيين بقيادة غوبرياس، ولولا هذه الخيانة والتآمر من الداخل بسبب هؤلاء الأغراب لما تمكن كورش من اجتياح بابل، فقد كانت محاطة بسورين؛ الخارجي يبلغ طوله زهاء اثني عشر ميلاً، يستخدم لإيواء سكان القرى المحيطة ببابل حين التعرض لعدوان، فيما كان السور الداخلي يحيط بالمدينة.

 

ثم إنه سلك طرقاً وعرة لإثبات أن عدد أتباع موسى عليه السلام كان مبالغاً فيه، مع إن الاسكندر المقدوني الذي اجتاح الشرق بأكمله وبسط سيطرته عليه خلال عشر سنوات بجيش لا يتجاوز تعداده 35 ألف رجل، مع إن زمنه متأخر كثيراً عن زمن موسى عليه السلام، وتزايدت أعداد السكان وتضاعفت عما كانت عليه.

 

ولعلنا نشير هنا إلى جهودٍ معاصرة نهض بها العديد من علماء التاريخ لكشف الزيف الذي أُلْصِقَ بحقائق تاريخية كثيرة، والتي لم تكن كافية حتى يومنا هذا ليتحقق من درس التاريخ ما هو أَهلٌ له، ليسهم بمعالجة أمراض الأمة وامتلاكها لأسباب نهضتها مجدداً، وإن كان بعضهم قد وضع قراء التاريخ في محاولاتهم لتنقية أصوله في متاهات جديدة دون قصد منهم، فهذا احمد أمين الأديب الذي حشر نفسه في شأن التاريخ الشائك، ليخرج لنا بآراء أضافت للتاريخ متاعب فوق متاعبه، حين سطر بكتابيه "ضحى الإسلام" و"هارون الرشيد" أن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان مصابا بازدواجية الشخصية، لأن التزوير الشعوبي قد انطلى عليه، فقال: انه وإن كان يحج عاما ويغزي عاما، وان كان عابدا ناسكا يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة، وان كان قد وطد أركان الدولة العربية الإسلامية، وأوصلها إلى ذروة سنام مجدها وعزها، فانه كان يهيم بالجمال ومجالس الطرب وشرب الخمور.

 

مع انه ليس بمؤرخ، وهو نفسه مصاب بازدواجية في شخصيته وفكره، نتيجة الخلفية الثقافية المتناقضة، والتي تشكل منها وعيه، فهو كان يختزن أساسه الديني الذي تلقاه في أروقة الأزهر في القاهرة، في الوقت الذي صاغ له الغرب وعياً استشراقياً يلبي الغايات الصليبية بأساليب تتخذ من الحضارة والتحرر والتقدم العلمي ستاراً وقناعا.

 

فإنه يجهل أو يتجاهل حقائق تاريخية لا غبار عليها، ومنها الهجوم الشعوبي الفارسي على الأمة العربية منذ سقوط ملكهم على أيديهم وحتى يومنا هذا، تجرؤوا خلالها على العقيدة الإسلامية بالتزوير والتشويه، حتى قالوا بتحريف القرآن الكريم، وهو مصدر العقيدة الأول. فهل يعتقد احمد أمين أن هارون الرشيد أجلّ من العقيدة الإسلامية، التي بفضلها انطوت صفحة الأكاسرة وذهب ملك الفرس، ودانت رقابهم للحكم العربي الإسلامي، كي يستبعد أن يكون الفرس الشعوبيين قد استهدفوه ولم يتورعوا عن الكذب عليه وتلفيق الأحداث المزورة عنه، من أجل تشويه صورته؟

 

ألم يقرأ احمد أمين وهو الأديب العارف بمعاني الشعر والمختص به، بيت شعر أبي نؤاس القائل:

قد كنتُ خِفتُكَ ثمَ أمنتني        مما ان أخافك خوفك الله

وهو البيت الذي تمنى أبو العتاهية لو كان هو قائله أمام الخليفة هارون الرشيد، ففيه النفي لما صدَّق هو وغيره من أكاذيب الفرس ودسهم على تاريخنا العربي الإسلامي.

 

وهذا القصور في الوعي والبصيرة هو الذي دعاه لأن يقول أن نكبة البرامكة كانت نقطة سوداء في تاريخ الرشيد فقد زلزلت الشرق والغرب، لأنه غدر بهم بلا ذنب أو سبب، ولأنهم كانوا يحسنون معاملة الرعية ويتولون كل شؤونهم. فهو لا يستوعب قدرة الفرس على المكر والخداع والتضليل، كي يكتشف بيسر الكم الهائل من التزوير والافتراءات التي أقحموها في صفحات التاريخ، وتلقفها المغفلون من العرب فدونوها ونشروها وأذاعوها على أساس أنها حقائق تاريخية، ولم يعرضها أحد منهم على العقل والمنطق ليكتشف زيفها وبطلانها.

إن مما يؤكد حقيقة أهداف التزوير لحقائق التاريخ، أن الصليبيين كانوا سباقين لترجمة هذه الأكاذيب دون غيرها والترويج لها بكل الوسائل والسبل، فقد شهد القرن الثامن عشر بدايات محمومة في الدول الأوربية لترجمة ونشر كل ما يسيء للعرب وعقيدتهم الإسلامية، فنشروا أكاذيب الفرس التي أسموها "ألف ليلة وليلة" وألصقوا بها اسم الخليفة العباسي هارون الرشيد كأحد أهم أبطال قصصها الخيالية الكاذبة بفجورها ومجونها مرات عديدة، وحتى يومنا هذا يعاد طبعها، مع إنها قصص مترجمة للعربية عن أصل فارسي اسمها"الهزار افسان" ومعناه الألف خرافة، وهي مزيج من الخرافات والأساطير الفارسية والهندية، ولغتها ركيكة لا تنتمي للغة العربية في أشد عصورها تراجعاً، إنما هي إحدى وسائل الانتقام من العرب وهارون الرشيد لأنه أفشل مؤامرة البرامكة الفرس في سعيهم لاستعادة إمبراطوريتهم الساسانية، المرتبطة بالمانوية والمزدكية والزرادشتية، كما فعلوا مع غيرها من المؤلفات التي تنال من العرب وعقيدتهم، مثل فرية "العباسة أخت الرشيد" والقصص الفاضحة والأشعار الماجنة المنسوبة لأبي نؤاس.

 

فهل يعقل من رجل ترك الأدب وحشر أنفه في وثائق التاريخ أن يعجز عن إيراد سبب لنكبة الرشيد للفرس البرامكة. أما كان في شعر الأصمعي ملمس دليل لسبب واحد لنكبتهم، حين يقول:

إذا ذُكر الشرك في مجلسٍ      أنارت وجـــــوه بني برمك

وإن تليت عنـــــــدهم آية     أتو بالأحاديث عن مزدك

 

ألم يكن المجوسي الفضل بن سهل، الذي قوض كيان الدولة العربية الإسلامية وكاد يقضي عليها في قيادته وإدارته لفتنة المأمون والأمين حال وفاة هارون الرشيد، وضمن بعد ذلك استقلال بلاد فارس عن الدولة العربية بما يسره للطاهر بن الحسين، وهو من صنائع البرامكة، فجعفر البرمكي هو الذي انتخبه واختاره وعينه ليكون كاتباً ومساعداً للمأمون قبل أن ينكبه الرشيد؟

 

ولا يُفهم من قولنا أنّا ندعي العصمة للخليفة هارون الرشيد من الأخطاء، لكن الأخطاء التي ارتكبها لم تكن هي التي زورها رواد الشعوبية، ثم حشروها في وعي العرب وغيرهم على أنها حقائق، فالخطأ الأكبر الذي ارتكبه الرشيد وسائر خلفاء بني العباس ارتكز أصلاً على موقفهم غير الصائب في اعتمادهم على الفرس ومن بعدهم على الأتراك والخصيان والغلمان في إدارة شؤون دولتهم، فسهلوا عليهم العبث فيها وحرفها عن مساراتها الصائبة، وتحويلها من خلافة إسلامية تستند إلى عقيدة التوحيد والعدل والإحسان إلى ملك عضود، تتخذ كل الأشياء شرعيتها من متطلبات هذا الملك وضروراته، لا من العقيدة - التي كانت السبب في وجوده - ومنهجها، فالله تعالى لم يختر الفرس ولا غيرهم لحمل راية الرسالة وتبليغها، بل اختص بها العرب، بعد أن تأهلوا لحملها.

لكن لم يكن مطلوباً من العرب حكم الأقوام الأخرى وإخضاعها لإرادتهم السياسية، إنما كان مفروضاً عليهم تبليغ الرسالة وإيصالها إلى الشعوب ودعوتها إليها، فالهدف لم يكن الاستحواذ على ممالك الفرس وغيرهم، إنما كان نشر الإسلام كعقيدة وتطبيق شريعته عليها، لكن أطماع الدنيا هي التي دعت العباسيين كما دعت من قبلهم الأمويين إلى التمسك بحكم تلك البلدان بعد التبليغ وإيصال الرسالة إلى شعوبها، وإشعارها بأن ملكها قد سُلب منها، فزعزعوا فضلهم بالنور والعدل الذي نقلوه إليهم بأطماع الحكم ومغانمه، وجعلوا من ذلك سبباً كافياً لأن تتصارع في دواخلهم الإرادة بالاستقلال وعدم الرضوخ لقومٍ آخرين، أياً كان شكلهم، مع العدل والتوحيد وطوق النجاة الذي جلبوه عليهم.

 

ثم جاء بعده بردح من الزمن الدكتور حسين مؤنس ببحوثٍ جدية وجريئة تضمنها كتابه "تنقية أصول التاريخ الإسلامي" كانت هناك العديد من القراءات المبصرة لحقائق تاريخية شوهها وزوَّر وقائعها أعداء الأمة تحقيقاً لأهدافهم، لكنها في ذات الوقت تضمنت عدداً من الهنات التي زادت على ضبابية بعض الحقائق التاريخية ضباباً كثيفا، وأخرجتها من متاهة ونقلتها إلى متاهة أخرى استحكمت ألغازها، ففي بحثه للعصر العباسي الأول يرى أن فتنة الأمين والمأمون هي التي عززت مواقع الفرس وسطوتهم على الدولة العربية الإسلامية، وذلك حق لكنه أوهم الحقيقة هذه حينما اعتقد أن سببها هو نكبة هارون الرشيد للبرامكة ففتح الطريق للمتعصبين لقوميتهم من الفرس الآخرين، غافلاً أو متناسياً حقيقة تاريخية جلية تؤكد بما لا يقبل الشكَّ أن البرامكة كانوا أخطر من الذين تتبعوا آثارهم من الفرس، لأنهم أرسوا الأسس الصلبة للتآمر الفارسي وأحيوا في قومهم الأمل بقوة، يقول: "في ذلك الصراع العنيف في سبيل السلطان في دولة الإسلام كان المأمون هو الذي انتصر على أخيه الأمين وأصبح أمير المؤمنين. لكنه بعد النصر تبين أنه هو ليس المنتصر الحقيقي؛ لأن الذي انتصر بالفعل هو الفضل بن سهل، وأنه إذا كان قد أَصبح أمير المؤمنين، فهناك من يمكن أن يسمى أمير أمير المؤمنين، وهو الفضل بن سهل، وقد كان فارسياً متعصباً ورجلاً شريراً خبيثاً لا يخفى شره أو خبثه – كما رأينا – وكان فيما بينه وبين نفسه يرى أن الفرس أفضل وأحق بالخلافة من العرب"(10)

 

وهذا وإن كان جانبا من الحقيقة التاريخية لكنه يخفي خلفه جوانب أخرى أهم وأجدر بالاستيعاب من قبل قراء التاريخ، فالمأمون لم تكن علاقته بالفرس حديثة عهد أو وليدة التنافس على الخلافة بينه وبين أخيه محمد الأمين، بل نسيج حاكه الفرس بدقة وعناية من قبل أن يولد المأمون نفسه، وهو ليس إلا وليد أهدافٍ توخاها الفرس حينما راحوا يعرضون الحسان الفاتنات من بنات الفرس على غرائز هارون الرشيد كي تحض به إحداهن، وقد حضت مراجل بما أرادوا فكان المأمون، أما الفضل بن سهل فلم يكن يرى أحقية الفرس بسيادة العرب خفية، بينه وبين نفسه، كما يتصور الباحث في تنقية الأصول، بل كان يعمل واضح الأهداف وسط قومه، وقد سبقه إلى ذلك أغلب دعاة العباسيين من الفرس خلال العهد الأموي وبداية العهد العباسي، كما سيتبين في الفصول اللاحقة، فكان سلوكه حلقة من ضمن سلسلة متصلة الحلقات منذ عام 16هـ وحتى ذلك الحين وإلى يومنا هذا، تنظيمات مختلفة الأشكال والألوان، اتخذت التشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من بين ما اتخذت من أستار، ولم يكن الفضل وطاهر إلا بعض أدوات ذلك التنظيم الواسع الكبير، ولم تكن الإنجازات التي تحققت على يديهما إلا بفضل ما سبقها، وعلى الأخص الجهود التي بذلها البرامكة قبل نكبتهم من قبل هارون الرشيد، فقد أسس البرامكة لمن تبعهم قاعدة متكاملة لانطلاق الدولة القومية الفارسية بكل قيمها ونهجها السابق للإسلام، بما فيها القوة العسكرية المعدة إعداداً يتناسب مع مهمة كهذه، مسلحة بفكر قومي تعصبي واضح.

 

فكيف كان علاج المأمون الناجع كما توهمه الباحث؟ استبدل الفضل بن سهل بالحسن بن سهل وتزوج من ابنته بوران وأمهرها ألف درَّة في صينية من ذهب، والأستاذ المتصدي للتنقية كان يرى في اختيار المأمون للحسن بن سهل بدلاً من ابن عمه الفضل خياراً صائباً لأنه كان أعقل وأذكى وأكثر إنسانية، لكن فاته أن هذا الحسن بن سهل الفارسي حقق ما لم يستطع الفضل تحقيقه حينما أمكن الفرس من استعادة إمبراطوريتهم بشكل من أشكالها واستقلالها عن دولة الخلافة من خلال تعيينه لطاهر بن الحسين أميرا على بلاد فارس والعراق الذي أعلن بدوره استقلال بلاد فارس وقطع الخطبة للخليفة المأمون نفسه فيما بعد.

 

ولعل الأغرب في هذه التنقية أن الاستاذ الباحث في التنقية كما لو أنه يخلط السكر بالملح، ولا ضير فكلاهما أبيض بلوري، يعتقد أن فتنة المأمون والأمين كان سببها والدهما هارون الرشيد بنكبته للبرامكة، ويعتبرها خطأً فاحشاً، معتقداً خلافاً لكل الحقائق التاريخية أن البرامكة استعربوا واستبدلوا ولاءهم للفرس بتولي العروبة والإسلام، فيقول: "وبعد سنوات قلائل في الخلافة أحس المأمون أن هزيمة أخيه الأمين بدأت من أيام أبيهما هارون الرشيد، فإن الرشيد أخطأ خطأ فاحشاً في حق الدولة العباسية عندما قضى على البرامكة؛ لأن البرامكة كانوا فرساً في الأصل، ولكنهم استعربوا فعلاً، وأصبحوا يتصرفون تصرف عرب، ومهما بلغ من أمر يحيى البرمكي فما كان ليخطر بباله أن يضع نفسه فوق الرشيد، أما الفضل بن سهل فكان يرى أنه أفضل من المأمون"(11)

 

فهل كان هذا الباحث المختص غافلا عن أحداث الأعوام 178 - 180هـ والجيش الذي شكله الفضل بن يحيى البرمكي في خراسان من الفرس تعدى حجمه النصف مليون مقاتل، والأموال المهولة التي أنفقها على إعداده وتجهيزه، الجيش الذي سقطت بغداد تحت أقدام حرس قائده الفضل البرمكي "الفرقة الكرمينية"حين عودته إلى بغداد والذي لم ينج الخليفة العباسي من شره إلا بهروبه إلى الرقة، ثم كيف غاب عن وعي الباحث تزامن الانتفاضات التي دُبِّرت في الجهة الغربية من دولة الخلافة على غير عادتها خلال تلك الفترة على أمل أن يكتمل تشكيل ذلك الجيش بعيداً عن رقابة الخليفة ومن ثم اضطراره للاستنجاد بهذا الجيش الفارسي بذريعة إخماد الفتن في المناطق الغربية كي يتحرك نحو بغداد وينقضّ على الخلافة نهائياً، والتي كانت أولى فصول تلك المؤامرة استعداء الخليفة على القائد العربي الكبير يزيد بن مزيد الشيباني ومن ثم النجاح في إبعاده، لأنه كان عربياً متمسكاً بخلقه، يستشعر خيوط المؤامرة الفارسية فيتصدى لها بشجاعته الفريدة؟

 

رجل يطالب بتنقية أصول التاريخ ولا يدقق في معلوماته حتى أنه ليخلط بين الأحداث ويُخطئ في حقائق تاريخية مشهورة ومعروفة جداً، يتهم السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو لا يدري أكان الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو أحد أهل الشورى وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عشرة رجال لا أكثر، أهو أبن أختها أم زوج أختها، وأختها أسماء ذات النطاقين لا تُجهل مثلها لسابقتها ودورها المعروف، فأنظر ما يقول: "وقد أصبحت الحيرة فتنة عندما لحقت السيدة عائشة بطلحة والزبير، وقالت: إنها تطالب بدم عثمان، مع أنها لو قابلت عليا وطالبته بدم عثمان لكان أوقع، ولكنها لم تكن تحب عليا منذ وقف منها الموقف المعروف في حادث الإفك، وهي في غضبها على عليّ كانت ترى أن الزبير بن العوام ابن أختها كان أحق بالخلافة من عليّ" (12) ومع هذا اللبس والخلط تراه يسلِّم بما زُوِّر عن حادثة الإفك بقصد إيجاد سبب لما أسموه بالعداء بين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه وصهره، لا يجيد هو وغيره الربط بين الفتنة التي نهض بها رأس النفاق عبدالله بن أُبي ابن سلول حين قال "لأن رجعنا إلى المدينة سيخرجن الأعزّ منها الأذّل" وبين افترائه هو ومن تابعه وانخدع به لقصة الإفك، حين عادوا للمدينة، والتي أرادوا من خلالها الطعن بشرف النبي صلى الله عليه وسلم بقصد حرف الأنظار عن الفتنة التي فضحها الله تعالى بالآيات تصديقاً لأذن ابن أبي الأرقم، فكليهما حدث في وقت واحد، خلال العودة من غزوة بني المصطلق عام 6هـ. وهل يصح القول أن علي يؤذي رسول الله في زوجه، وهو أقرب الناس إليه ويعلم بحبه لها، ولا يصح القول أن حادثة الإفك فرية أراد بها المنافقون وعلى رأسهم ابن سلول التغطية على فعلتهم الشنيعة! والإمام علي أجلُّ من أن تنطلي عليه ألاعيب المنافقين لكي يون من الشاكين بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس إليها، ويعلم عنها ما لا يعلمه غيره، ولو كان يُنكر عليها سلوكاً لما تأخر حتى يدلّه المنافقين. وذلك الذي لم يقل به أحد، حسب علمنا.

 

كما يحيد المؤرخ عن المشهور المعلن والدافع المصرح به لخروج أصحاب الجمل الذي كان يستهدف أصلا رواد الفتنة وقادتها وليس خليفة المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام، والأدوار التي لعبها أتباع ابن سبأ اليهودي القائد العام لتلك الفتنة في إفشال كل صيغ التفاهم التي كادت تنهي المواجهة وتصحح المسار وتوحد جهود الأمة بسفارة القعقاع بن عمرو التميمي، فيصور الأمر على أساس أنه رفض لخلافته بدعوى رؤية أم المؤمنين بأن (ابن أختها) أحق بالخلافة من عليّ، فأي تنقية هذه؟

 

وهي لم تكن كذلك على الإطلاق، أو كما وصفها ساسة التشيع الفارسي وابتدعوا لها الأكاذيب وحشروها في بطون كتب السير والتاريخ على أنها حقائق، فاغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن مجرد اغتيال أو انتقام أو تمرد على رأس القرار والسلطة، بل كانت مؤامرة؛ كبيرة في حجمها، واسعة في أطرافها، خطيرة في أهدافها، أُريد من خلالها الإطاحة بالدولة العربية الإسلامية كلياً، فرواد الفتنة لو كانت أهدافهم تتوقف عند اغتيال الخليفة لما احتلوا عاصمة الخلافة وفرضوا عليها وعلى أهلها إرادتهم، وصادروا قرارهم، بل لعادوا إلى ديارهم فقد حققوا مبتغاهم، لكنهم في الحقيقة كانوا أداة مؤامرة واسعة ومتعددة الأطراف، أفشلتها إرادة الإيمان في نفوس أهل المدينة، لأنهم كانوا في الأساس يخططون لإشعال هرب أهلية بين أهل المدينة، حينما وزع ابن سبأ الولاءات بين الأمصار بطريقة لا تُفضي إلاّ للحرب الأهلية، فليس من شك أن مكونات التمرد كانت تنقسم بين أهل الكوفة والبصرة ومصر، وليس من شك أنهم جميعاً تنظيمات أوجدها عبدالله بن سبأ، بدأها بالبصرة ثم الكوفة وختمها بمصر لأن مساعيه في الشام أفشلها التحسب المستمد من الخلفية السياسية التي تركها الروم وحكمهم الملكي المباشر على سلوك أهل الشام - على خلاف العراق الذي لم يكن الحكم الفارسي مباشراً كليا - والتي انتقلت مخلفاتها لتحيط بإمارة الشام وتشكل جوانب مهمة من نظامها السياسي. والمنهج الذي مارسه هذا اليهودي في الكسب في كل هذه الأمصار كان منهجاً واحداً لم يتغير فيه شيء، لكنه تعمد أن يزرع في نفوس أتباعه في كل مصر من الأمصار هدف مختلف عن غيره من الأمصار، في جانب واحد فقط، وهو تسمية ولي الأمر البديل للخليفة المراد تصفيته جسدياً، فزرع في أهل البصرة الانحياز لطلحة بن عبيدالله، وزرع في الكوفة انحياز أهلها للزبير بن العوام، فيما زرع في مصر الانحياز لعلي بن أبي طالب، وهذا كان الأساس الذي علَّقت عليه المؤامرة بكل أطرافها الخفية آمالها في القضاء على أصحاب رسول الله برمتهم من خلال هذا التقسيم الخبيث، فكان من المفروض أن تشتعل شرارة المعارك بين علي ومن سيتبعه وطلحة ومن سيتبعه والزبير ومن سيتبعه في المدينة المنورة وبعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان مباشرة وفقاً لذلك المخطط الرهيب، لكن أهل المدينة خيبوا آمالهم بوعيهم وإيمانهم، فكانت الجمل وصفين والنهروان بدائل لا بدَّ منها، كي لا تتوحد جهود المسلمين خلف رجلٍ واحد فيقتص من رواد الفتنة وعدتها، ولو كانت المتاعب التي وضعها رواد الفتنة في طريق الإمام علي بن أبي طالب خلال فترة خلافته، والتي أفقدته قدرة التأثير والانجاز واستعادة وحدة الأمة ومواصلة المسيرة، بمفردها دليلاً على ما قلناه آنفاً لكفت ووفت، لكن الأدلة كثيرة، وسنأتي عليها لاحقاً.

 

إن المنهج السليم الذي يقودنا إلى حقائق الأحداث التاريخية وينفي عنها التزوير والتضليل هو العودة إلى الأساس الذي ما كانت الجمل وصفين وقبلهما فتنة اغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا لبنات رُصِفت فوقه بخبرة بناءٍ ماهرٍ حتى تكامل بناء هذه القلعة الحصينة بعد قرون طويلة من الزمن، يتعهدها بُنَاتها بالرعاية والصبر الطويل، إنها القلعة التي أراد لها الشيطان أن يتحصن بها جنده داخل أسوار العرب المسلمين وليس خارجا عنها.

 

فكم من كلمة حقٍّ أُريد بها باطل؟ وكم من موقف اتخذه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرة تلاميذه بقصد منع الانحراف والمحافظة على سلامة المسيرة اتخذته رؤوس الأفعى سبَّة وحرفته عن مقاصده إلى حيث تبغي وتريد؟

 

كان الصحابي الجليل الشديد في الحقِّ أبو ذرٍّ الغفاري قد وطئ أرض الشام عام 30 هـ فهاله الواقع المختلف كلياً عن حياة الصحراء والأعراب، والذي لم يكن يرى سواه من قبل، يختزن في ذاكرته ووعيه شيئاً لم يألفه في الإسلام من قبل وكأنه غريب عنه، فالشام بلد الخيرات والطبيعة الجميلة والمياه الوفيرة العذبة والمجتمع المتأثر قسراً بثقافة الروم الغزاة وسلوكهم، وإلا لما تمسك بها ولاتها كثيراً، ولما تمسك أهلها بهم أكثر وصاغوا معهم مفرداتٍ للانحراف دون أن يعلموا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ العراق والشام ومصر كانت مواطن مهمة للمؤامرة في مراحلها الأولى لوفرة مواردها بما يجعل أهلها أكثر التصاقاً بالدنيا من غيرهم، وكلُّ هذا كان غير متيسر في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت مواقفه تجاه الإسلام والمسلمين في الشام منسجمة تماماً مع هذه الرؤية ولا تخرج عن سياقاتها، لكن الذي أزَّمها وحولها إلى معارضة هدامة شرسة لا تبغي معالجة المشكلة إنما تُفاقمها وتوسع أثارها هو الاستغلال البشع لليهود بشخص ابن سبأ ومن وقف خلفه متستراً بخلائف الروم النصارى واليهود ومن التحق بهم من مجوس الفرس يردفهم ويسندهم أهل الردَّة من العرب أنفسهم. فيما كان الأسلوب الذي مارسه الصحابي أبو ذر الغفاري هو الأخر عاملاً مساعداً لجحافل التآمر كي تحقق أغراضها، فهو رضي الله عنه لم يكن يملك من خبرات السياسة ما يؤهله للنجاح في أداء واجبه ودوره ذاك، حيث توجه بدعواته للإصلاح نحو الشعب مباشرة بما يحمل على كاهله من أمراض متفشية بين صفوفه من رعاع وأهل أهواء وردة جاهلية وممن لم تتطهر أرواحهم بعد لتأخذ موقعها بين العقل والغرائز فيقر الإيمان في أعماق نفوسها، الأمر الذي حول دعوته إلى بؤرة للتحريض قابلة للاستغلال المعاكس تماماً، فيما كان يُفترض به أن يتوجه بدعوته إلى الأمراء والقادة وأصحاب الرأي، فاستغلت نواياه الصادقة بالإصلاح وحرصه الشديد على الإسلام وشريعته خشية التشويه كأساس لفتنة دبَّت بين صفوف الرعية وانتشرت كالنار في الهشيم، مما أوجب على معاوية بن أبي سفيان وغيره التصدي لها بشخص أبي ذر الغفاري على أنه هو الذي أرادها لتكون هكذا، ولم يكن كذلك، ولم يستوعبوا أن سكوته أو إسكاته لن ينهي أو يخفي آثارها، كما لم يستوعبوا من قبل أسباب ودوافع شدة وصرامة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تصديه لمثل هذه التجاوزات واجتثاث أسبابها، ذلك لأن الحاشية التي تشكلت سريعاً حول إمارة الشام كانت تنقل إليها دون وعي منها آثار الثقافة السلوكية التي رسخها الاحتلال الروماني في وعيهم وسلوكهم، والتي كانت ترتكز أساساً على الأوضاع المميزة للملوك وأمراء جيوشهم وامتيازاتهم التي تُبيح لهم امتلاك كل شيء وفعل أي شيء دون مسائلة أو حساب، ولعدم رسوخ المنهج السلوكي الجديد في وعيهم، ولأن وعيهم السياسي لم يكن ذلك الحين كافياً ليستوعبوا حقيقة أن أخطر أعداء الإسلام ليس الذين يجردون السيوف على حدود الدولة وثغورها أو الذين ينتهزون فرصاً ليشغبوا في أطرافها، إنما هم الذين يتخفون بين صفوف الأمة فينفثون بسمومهم مستهدفين كلَّ ضعيف قابل لأن يلتوي وينحرف، وكل صاحب غرض سيء أرغمه السيف والخوف فارتدى ثوب الإسلام، ونيران الحقد عليه تُضرم في داخله ويتأجج أُوارها يوماً بعد يوم، كما تصوروا أن النصر العسكري يقتل الطموح في المهزوم ويسحق فكره ويطمس وعيه، فيما هو في الحقيقة لا تزيده الهزيمة التي يمنى بها إلا مزيداً من الحقد والعداء والعزيمة على محو آثارها بالمزيد من الالتصاق بفكره الذي أوجب عليه العداء والهزيمة معاً، ولم يتغير من شأنه إلا تحوله من المواجهة الصريحة إلى التخفي والسرية وما تفرضه لوعة الهزيمة وآلامها من تحسّب شديد وإشغال للفكر في ابتكار كل ما من شأنه أن يبعده عن الأذى مرة أخرى حتى يحقق أهدافه، وهكذا فعل عشاق الجاهلية الأعراب واليهود والنصارى والمجوس. والواقع الذي تعيشه الأمة اليوم مصداق لكل ما سبق قوله، لكن الغالبية من أبناء الأمة لا تستوعب هذه الحقيقة لأنها لا تجيد الربط بين واقعها وبين أحداث أساسها كان قد صُفَّت لبناته قبل أكثر من 1400 سنة. فما الذي فعله الصحابي أبو ذرٍّ الغفاري، وهو القادم من المدينة المنورة، الرابضة وسط الصحراء القاحلة، والمحمل بثقافة اقتصادها، وينوء ذهنه بمشاهد البؤس والجوع فيها؟ انه يعتقد أن المسلم لا ينبغي له تملك أكثر من قوت يومه وما ينفقه في سبيل الله، فكان مما يقوله لأهل الشام: "يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء بَشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء وشكا الأغنياء ما يلقون منهم"(13) وحين علم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بما وصله من قادة الشام وفقاً لما تصوروه من أن أبا ذرّ قد حرَّض الرعية على ولاة أمورها أمر بعودته إلى المدينة معتقداً هو الآخر بما اعتقدوه فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان: " إنَّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلا أنْ تَثِب، فلا تنكأ القرح، وجَهِّز أبا ذر إليَّ وابعث معه دليلاً، وزوده، وأرفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت"(14)

 

فلم يكن إخراج أبا ذرَ من الشام ليحلَّ المشكلة، لأنه لم يكن سببها، إنما كان شاهداً عليها، لفت الأنظار إليها، ولم يكن هو الآخر ليعلم أسبابها الحقيقية أو يضع يده على أسباب مثيريها ومنفذيها، ولهذا لم تُعالج بل تفاقمت عما كانت عليه عند خروج الصحابي منها، والخليفة كان قد لفت نظره أمير الكوفة الجديد سعيد بن العاص بن أُميَّة قبل ذلك بقليل حينما كتب إليه قائلاً: "أَنَّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرُهُم وغُلِبَ أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمتْ، وأعراب لحقت، حتى لا يُنظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها"(15) لكن الخليفة لم يكن بشدَّة وحرص الفاروق لكي يردعها ويقمعها، وقد نبهه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ذلك خلال حوارٍ دار بينهما في خضمّ تلك الفتنة: "أنشدك الله يا عليّ: هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنَّ عمر ولاّه؟ قال: نعم. قال: فَلِمَ تلومني أنْ وَلَّيْتُ ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: إنّ عمر كان يطأ على صماخ مَنْ وَلَّى إنْ بلغه عنه حرفٌ جلبه ثم بلغ به أقصى العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفتَ ورققتَ على أقربائك"(16)

 

كما لم يكن ممن يملك وعياً سياسياً يكفيه ليسترشد لأسباب الفتن ومسببيها وطبيعة أهدافهم ونواياهم، ليتمكن من عزلهم عن أدواتها، فلم يكن الحل في تعيين سعيد بن العاص أميرا على الكوفة بدلاً من الوليد بن عقبة الذي مكث فيها أكثر من خمس سنين، لم يكن لداره فيها باب، حتى صيره تنظيم المؤامرة معاقراً للخمر، فأخلى لهم ساحة الكوفة يمهدون أرضها لمتطلبات مؤامرتهم، وإن كنا نرى في أبي زبيد الشاعر النصراني الذي قيل أنه أسلم على يد الوليد نفسه، ملمس خيط النسيج الذي حاكه أرباب المؤامرة كما نجد في سرجون الرومي كاتب أمير الشام وصاحب أعماله، وإلا فما حاجة الأمويين للنصارى مع وجود الدهاة والمتعلمين وأصحاب الرأي من العرب المسلمين الذين يضرب بهم المثل! فقد كان هذا النصراني نديم وجليس الوليد يوم اتُهِم بشرب الخمر. ولم يكن الحل إشغالهم بالفتوح كما فعل حين سيَّر سعيد بن العاص إلى طبرستان لغزوها، كما انه لم يذهب بعيداً في تفكيره حتى كان يرى أن واجبه دعوة الرعية للاجتهاد والاقتصاد ولا يملك إجبارهم على الزهد، فالأمر لم يكن قلة وشحٍّ في الزهد إنما كان أبعد من ذلك بكثير. وجدير بالذكر أن أبا ذرّ حين عودته من الشام وجد الانحراف قد سبقه إلى المدينة نفسها، فقد رأى الناس يرتقون بمجالسهم في أصل جبل سلع فقال: "بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار"(17)

 

على إنَّ صراحة وصرامة أبي ذرٍّ رضي الله عنه في الحقِّ وهو يُلْفِت أنظار المسلمين لِما يحيق بهم لم تكن لأغراضٍ تنتقصُ من شأنها، فلم يكن فيها من دوافع الدنيا ولم يكن به كِبَر،لكنه العابد الزاهد في كلِّ شيء إلا الإيمان، فحين نزل الربذة كان فيها رجلاً من الرقيق يلي صدقتها ويتقدم الناس في الصلاة، فقال له: "تقدَّم يا أبا ذر فقال: لا تقدم أنت فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال لي: اسمع وأطع وإنْ كان عليك عبدٌ مجدّع فأنت عبدٌ ولستَ بأجدع"(18) فهل في رجلٍ كهذا رجعة للدنيا؟

 

ولعلنا نتبين من تصريح للصحابي حذيفة بن اليمان حين جاءته أخبار الفاجعة بمقتل خلفية المسلمين وهو من المعترضين على إسلوب إدارته، الفرق الشاسع بين إرادة الصحابة في اعتراضهم على السلبيات التي حدثت في خلافة ابن عفان استجابة لأمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمانة النصح للمسلم، وخصائص الشورى ولوازمها، وبين نوايا جيوش الظلام والضلال التي تغلغلت بين الجلد واللحم، لتستغلها وتذهب بها بعيداً عن أهدافها حينما يقول رضي الله عنه: "اللهم العن قَتَلَته وشُتَّامَه اللهم إنَّا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلَّماً إلى الفتنة"(19) ففي عام 34هـ خرج من الكوفة أحد المسخرين في سياق المؤامرة وهو يزيد بن قيس " يريد خلع عثمان ومعه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم فأخذه القعقاع بن عمرو فقال: إنما نستعفي من سعيد.

 

فقال: أما هذا فَنَعم، فتركه. وكاتب يزيد المسيرين (الذين أبعدهم سعيد بن العاص إلى الشام بأمر الخليفة وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حمص) في القدوم عليه فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن ابن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس يوم الجمعة إلاَّ والأشتر على باب المسجد يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركتُ سعيداً يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم، وردّ أولي البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أنَّ فيئكم بستان قريش"(20) والملاحظ هنا أن المفاهيم التي اتخذ منها ابن سبأ اليهودي وسيلة للكسب كانت ترتكز على أساس الحق الإلهي للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الخلافة، وأن غيره مغتصب لحق ليس له، وأبتدع لها من إرثه اليهودي نصاً ووصية، وأضفى على عليّ صفات الإلوهية من إرثهم وإرث النصارى، لكن عمليات التحريض على الخليفة والدولة وكيانها كانت ترتكز على أمرٍ مختلف تماماً، فقد كانت تعتمد مصالح دنيوية خالصة، تتعلق بالمال فحسب، كما حدث في مصر مع ابن أبي سرح، وفي الشام مع معاوية، وفي الكوفة مع سعيد بن العاص، وليس لها أية علاقة بأحقيات الاستخلاف، إنما كانت عمليات اغتنام للهفوات والأخطاء في العمل لاستغلالها كوسائل في تقويض وحدة الأمة وتمزيق شملها بعد تشتيت رأيها.

 

جدير بالذكر أن الكثير ممن لا تستوعب عقولهم ولا تمتد مديات وعيهم لتكتشف حقائق المؤامرة التي حيكت ضد العروبة والإسلام، أو الذين يسعون لحرف الحقائق نحو قناعاتهم وما يخدم نواياهم، يطرحون الشكوك حول حقيقة وجود عبدالله ابن سبأ اليهودي، رغم أن أخباره وردت من طرق كثيرة غير الطريق الذي يُطعن في رواته، مع إن مؤامرات اليهود وطبيعة تحالفاتهم أقدم وأسبق من ابن السوداء هذا، والشكوك التي تثار حول حقيقة وجوده لا تغير من حقائق التاريخ شيئاً، فمؤامرات اليهود على الإسلام والمسلمين وعلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت قد رافقت الدعوة منذ بداياتها ولم تتوقف حتى يومنا هذا، وصفحات التاريخ والسير تطفح بحقائقها الكثيرة، لا تشوبها شائبة، ولا ينالها التشكيك أبدا، والله تعالى حذَّرنا من دسائسهم بقوله:{ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}(21) وهذه واحدة من مساعيهم، كادت تطيح بوحدة الطلائع من الأنصار فيما بينهم، فالوحدة الرصينة التي تكونت بين الأوس والخزرج بفعل العقيدة الإسلامية وثقافتها السلوكية والإيمان الكبير الذي طهر أرواحهم من أدران الجاهلية، والتي محت عداء وأحقاد بين القبيلتين دام أمدها مائة وعشرين عاماً من الحروب الدامية، كانت هدفاً لليهود ليل نهار للنيل منها، كما كانت وحدة الأنصار مع المهاجرين هدفاً أيضا، وكما كان التأليب للقبائل العربية في كل مكان لمؤازرة كفار قريش في حروبهم ضد العرب المسلمين جميعاً، فقد ورد في تفسير الطبري للآية 100 من سورة آل عمران: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} عن مجاهد قوله:" كَانَ جِمَاع قَبَائِل الْأَنْصَار بَطْنَيْنِ الْأَوْس وَالْخَزْرَج، وَكَانَ بَيْنهمَا فِي الْجَاهِلِيَّة حَرْب. وَدِمَاء وَشَنَآن، حَتَّى مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْفَأَ اللَّه الْحَرْب الَّتِي كَانَتْ بَيْنهمْ، وَأَلَّفَ بَيْنهمْ بِالْإِسْلَامِ قَالَ: فَبَيْنَا رَجُل مِنْ الْأَوْس وَرَجُل مِنْ الْخَزْرَج قَاعِدَانِ يَتَحَدَّثَانِ، وَمَعَهُمَا يَهُودِيّ جَالِس، فَلَمْ يَزَلْ يُذَكِّرهُمَا أَيَّامهمَا وَالْعَدَاوَة الَّتِي كَانَتْ بَيْنهمْ، حَتَّى اِسْتَبَّا، ثُمَّ اِقْتَتَلَا. قَالَ: فَنَادَى هَذَا قَوْمه، وَهَذَا قَوْمه، فَخَرَجُوا بِالسِّلَاحِ، وَصَفَّ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ. قَالَ: وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِد يَوْمئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ يَمْشِي بَيْنهمْ إِلَى هَؤُلَاءِ وَإِلَى هَؤُلَاءِ لِيُسَكِّنهُمْ، حَتَّى رَجَعُوا وَوَضَعُوا السِّلَاح ، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآن فِي ذَلِكَ: { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب } إِلَى قَوْله: { عَذَاب عَظِيم } فَتَأْوِيل الْآيَة: يَا أَيّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّه وَرَسُوله وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْد اللَّه، إِنْ تُطِيعُوا جَمَاعَة مِمَّنْ يَنْتَحِل الْكِتَاب مِنْ أَهْل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، فَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ مَا يَأْمُرُونَكُمْ بِهِ، يُضِلُّوكُمْ فَيَرُدُّوكُمْ بَعْد تَصْدِيقكُمْ رَسُول رَبّكُمْ وَبَعْد إِقْرَاركُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّكُمْ كَافِرِينَ; يَقُول: جَاحِدِينَ لِمَا قَدْ آمَنْتُمْ بِهِ وَصَدَّقْتُمُوهُ مِنْ الْحَقّ الَّذِي جَاءَكُمْ مِنْ عِنْد رَبّكُمْ. فَنَهَاهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَنْتَصِحُوهُمْ، وَيَقْبَلُوا مِنْهُمْ رَأْيًا أَوْ مَشُورَة، وَيُعَلِّمهُمْ تَعَالَى ذِكْره أَنَّهُمْ لَهُمْ مُنْطَوُونَ عَلَى غِلّ وَغِشّ وَحَسَد وَبُغْض"(22) وورد في أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير: "مر شاس بن قيس، وكان شيخاً قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة -يعني الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار؛ فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، قال: فاعمد فاجلس إليهم، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان فيهم، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج؛ ففعل. فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب: أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث بن أوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، وموعدكم الظاهرة، والظاهرة: الحرة فخرجوا إليها، وتجاور الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض على دعوتهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

 

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليه فيمن معه من المهاجرين من أصحابه، حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أَبِدَعوى الجَاهليَّة وأنا بَين أَظْهُركم بعْدَ أن هَداكم الله تعالى إلى الإسلام، وأَكْرَمَكم به، وقَطَعَ عنكم أمرَ الجاهلية، واسْتَنقَذكم به من الكُفر، وألَّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً"? فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، وأطفأ الله عنهم كيد عدوهم وعدو الله: شاس بن قيس(23) وشاس بن قيس هذا من يهود المدينة.

 

وورد في السيرة النبوية لابن هشام: " قال ابن إسحاق: ومر شاس بن قيس، وكان شيخا قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم، يتحدَّثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعَ ملؤهم بها من قرار. فأمر فتى شابا من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار... ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيَّين على الرُّكب، أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوس، وجبَّار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذَعة، فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرَّة - السِّلاح السِّلاح. فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهليَّة وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بين قلوبكم؛ فعرف القوم أنها نَزْغة من الشيطان، وكيد من عدوِّهم، فَبَكوا وعَانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرَفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس. فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(24) والأبعد من هذا أن الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج قبل الإسلام والتي تجاوزت القرن بعشرين عاما، كان اليهود هم من يشعلون نارها، فيهود بنو قينقاع كانوا حلفاء للخزرج، يحرضونهم على القتال ويؤججون فيهم روح العداء، فيما كان يهود النضير وقُرَيضة حلفاء للاوس، ويفعلون فعل بني قينقاع، والهدف كان إضعاف القبيلتين، لكيلا تقوى شوكتهم فيفسدوا عليهم حياتهم المليئة بالخطايا والجشع.

 

فالتاريخ إذن بحاجة إلى بصيرة ثاقبة تسبر أغواره لتفرز عن وقائعه الصادقة كل الدس والتشويه المتواصل حتى يومنا هذا، وقد كانت عصور الانحطاط أكثرها سوءا لأنها حولت أرض العرب إلى بيئة صالحة لإنبات المزيد من التشويهات أفقدت كل أصيل فيها قيمته وتأثيره، ففي عام 1831م كان عدد سكان بغداد يقدر بمائة وعشرين ألف نسمة، لا يشكل العرب فيهم أكثر من الثلث، فيما اقتسم الفرس والأتراك والمماليك والأرمن واليهود العدد المتبقي، اليهود بمفردهم كانوا أكثر من سبعة آلاف نسمة، ساحة للصراعات الدينية والمذهبية والعرقية والثقافات السلوكية الوافدة، ليس للإسلام فيها إلا الشكلي من طقوسه، في ذلك العام تسبب هؤلاء اليهود بجانب من الكارثة الكبرى التي حلت بمدينة بغداد، فقد اجتاحها وباء الطاعون انطلاقا من الحي اليهودي، والذي نقلوه من منطقة البحر الأسود بتجارتهم للملابس المستعملة، فانقضَّ عليها كالوحش الكاسر يملأ الدور والشوارع بجثث صرعاه، ثم جاء الفيضان معاضدا ليجهز على من أفلته الطاعون فيجرفهم مع جثث الموتى إلى الخنادق المحيطة بالمدينة، الأمر الذي أثار انتباه الجيران كالعادة يتسقطون أخبارها، لينقضوا عليها كلما وجدوا فيها ضعفا ووهنا، فاجتاحتها جيوش العثمانيين وأعادت احتلالها مرة أخرى، بعد القضاء على المماليك وحكمهم الذي بدأ منذ عام 1748م واستمر حتى ذلك العام.

 

خلال تلك الأحداث كان الرحالة البريطاني جيمس ريموند ولستيد متواجداً في بغداد، يدون ملاحظاته التي حولها فيما بعد إلى كتاب طبع في لندن عام 1840م بمجلدين تحت عنوان "رحلات إلى مدينة الخلفاء" يصور بعضاً من ملامح ذلك الواقع المتناقض، ويحشر معها التشويهات التي لا يسهل على كل قارئ ملاحظتها واكتشاف أهدافها، فيقول: " ولقد حاولت هيئاتنا الدبلوماسية عبثاً حمل الباشا على إنشاء محجر صحي، أو اتخاذ الإجراءات الاحتياطية الأخرى، ولكن الباشا كان يقنع نفسه بجواب مخالف لرسائلنا"(25)ولا يكتفي هذا الرحالة الانكليزي بسلبية الحاكم بل يجدها مناسبة لعقد المقارنات بين العربي المسلم بصورته المشوهة وبين البريطاني الحازم المتنور، فيقول: " لقد مكث الورعون والمتعصبون في المدينة، وذلك إطاعة لإيمانهم بقوانين القضاء والقدر التي لا تتغير، ومعهم غيرهم من المسلمين ذوي الإحساس المتبلد، وهم ينتظرون وقوع ما هو أسوأ وأمر، غير إن المقيم البريطاني (المستر روبرت تايلر) والأرمن، وغيرهم من المسيحيين لم يكونوا على هذه الشاكلة، فعلى النقيض من ذلك اتخذ هؤلاء كل إجراء ممكن لوقف تقدم الوباء، فقد حول كل بيت إلى مخزن لمواد المعيشة، وسدت أبواب المنازل، واحكم إغلاق النوافذ وتحصينها"(26)وهكذا رسم الصورة المطلوبة لقومه وأهل دينه، فيما ذهب يمسخ المسلمين من أهل بغداد مسخا شاذا ومفضوحا، بقوله: " ظهر عدد من الأوباش، الذين تشجعوا رغم الأوضاع المحيطة بهم إلى تشكيل عصابات تحت إمرة زعماء منهم أكثر سيطرة، فراحت هذه العصابات تكتسح الشوارع، لقد مررت في إحدى المناسبات بفئة من هؤلاء الأوباش كانت قد تجمعت في إحدى الشقق الواطئة، فوجدتها تتحرك مهتاجة مستوفزة وكأنها تتهيأ للإقدام على ارتكاب أعمالها الجرمية، كان هنالك عجوز شمطاء قد انحنى قوامها فأصبح بمقدار الضعف، وهي تجهز أولئك الأوباش في روحية شريرة بقطع من لحم نصف مشوي...كانت هذه العصابات تتجول من بيت إلى آخر، تنهب ما فيه، وتقتل الأحياء إن كان ذلك ضرورياً، فعملية الموت التي تعهد الطاعون بتنفيذ النصف منها، قد كملت الآن بأفعال هؤلاء الأشرار"(27)وهذه الفرية المقصود منها تشويه صورة العربي المسلم وتحويله في نظر الغرب كأنه الشيطان بعينه يفندها بنفسه، كما سنرى، بل كان يغطي على السلوك المنحرف والشاذ الذي أسس له مقيمه البريطاني ونفذه النصارى، فهو ومن تطوع للعمل معه من المسيحيين ألزموا الناس فعل هذا، إن كان حقاً قد حصل، فقد استوعبوا في مخازنهم المنزلية كل المعروض السلعي من المواد الغذائية احتكارا، وتركوا السكان في حيرة بين الحاجة وأخطار الطاعون، وقد تقطعت بهم السبل، فلا احد من التجار كان يجرؤ على دخول مدينتهم ليعوض أسواقهم بعض ما احتكره الانكليز، وقد يكون هذا الدرس في الوعي السياسي البريطاني هو الحافز على اعتماد صيغة الحصار الذي فرضوه مع حلفائهم من القوى الصليبية على بغداد مرة أخرى عام 1990م، والذي دام ثلاثة عشر عاما، تعرض شعب العراق خلالها إلى صنوفٍ من المعاناة، مما اضطر بعض الذين لا يرتبطون بوطنهم بجذورٍ عميقة إلى الهجرة، متسولين هنا وهناك، ملتمسين بأعداء الأمة فتاتهم من خلال الأكاذيب والادعاءات الملفقة المنصبَّة كلياً على تشويه سمعة بلدهم المحاصر، فيما انتظر آخرون فرصتهم المؤاتية التي حققتها عساكر الغزو لينهبوا ممتلكات لشعب ويتاجروا بمقدراته.

 

هذه الصورة التي سعت كل أطراف العداء لترسيخها في الوعي الإنساني عن العرب مجدداً كما فعل ذلك الرحالة البريطاني من قبل تماماً، بهدف تشويه صورة الأمة المكلفة بحمل راية التوحيد بعقيدة الإسلام، فالرحالة هذا هو من أكذب نفسه وكشف زيف دعواه، بوصفه لأهل بغداد الذين صورهم لصوصاً قتلة متوحشين، فيقول: " فعندما يسمع صوت المؤذن، يكون المنظر الوحيد المألوف آنذاك، هو رؤية الناس الذين طرق الآذان أسماعهم، وقد تخلوا في الحال عن أعمالهم السابقة مهما كان نوعها، وأسرعوا من كل صوب لأداء صلاتهم بالتوجه إلى الله الخالق، وحينذاك لا يوجد أي خوف من اللصوص، لأن التاجر، وبقصد إبعاد الذباب، ينشر شبكة خفيفة من القماش على سلعته دون خوف إلى أن يعود إليها بعد انتهاء الصلاة"(28) فأين كانت إذن تلك العصابات من المجرمين الذين تآزروا مع الطاعون والفيضان على قتل الناس بهدف تجريدهم من ممتلكاتهم، رغم ما تنطوي عليه من مخاطر العدوى بالوباء الفتاك، وها هي بضائع التجار وممتلكاتهم معروضة أمامهم لا تحتاج إلى قتال ولا قتل أو حتى مخاطر الطاعون، وليس هذا فحسب بل عاد مرة أخرى ليقول قولا ثم ينقضه، بنموذجين من السلوك لا ينسجمان معاً على الإطلاق، فيصف أهل بغداد بقوله " ولكل فرد حرفته المخصصة له، فأما أن يكون من البقالين أو التجار، أو موظفاً لدى الحكومة، ولا يتمتع الفرد بأي احترام إن لم يكن لديه عمل يمارسه"(29) ثم يعود لينقض قوله في نفس الصفحة حين يقول، بعد أن يصف أحوالهم في مساكنهم ومع عوائلهم " وفي الخارج يصبح أهل بغداد كسالى فاتري الهمة، فلا تجد أحداً منهم ينهد إلى ممارسة عمل ما، وإنما تراهم يخلدون إلى الكسل، وقد أمسك كل واحد منهم بغليونه في يد، وبمسبحته في اليد الأخرى"(30) ونسي هذا الرحالة أن الغليون دخيل على العرب نقله إليهم الأغراب بموجب أغراضهم، وتناقض آخر، يقول" ويتصف أهل بغداد أثناء الحديث معهم بالحيوية والإمتاع، فلا تجد واحداً فيما بينهم مغرماً بالتهريج...وهم في تصرفهم كرماء أسخياء، متحررون من روح التعصب، ويكشفون عن كل الفضائل السلبية لغيرهم من الشرقيين"(31) ينقضه بفرية أخرى وإن كان يلمح فيها إلى الأدوار الخبيثة التي مارستها كل القوى المعادية في احتلالها على السلوك الاجتماعي ومحاولاتها لمسخه " في الوقت الذي أسجل فيه شهادتي عن أمثال هذه الصفات الطيبة، فإنني لا استطيع أن أعفي البغداديين من بعض العادات غير المستحبة، وتلك صفات قيل عنها بأنها ناجمة بصفة كلية عن فعل الحكومة الغريبة عن البلاد، ولا يمكن فصلها عنها، ذلك لأنه حيثما أمكن الحصول على الثروة، فإن الغش يكون أمراً ضرورياً على الإطلاق"(32) وقد قال هذا لأنه يعلم جيداً أن هذه المفردات السلوكية السيئة والمنافية للخلق العربي والعقيدة الإسلامية إنما جاءت من أقوام اعتنقوا الإسلام بظاهره في أغلب الأحيان، فقد نقلتها الجيوش الفارسية خلال العصر العباسي، من خلال تعاملها مع التجار العرب، حيث كانوا يفرضون عليهم بيع بضائعهم لهم بأسعار دون قيمتها، مما اضطرهم لوضع هوامش سعرية عالية عن قيمتها الحقيقية لتغطية منهج المساومات والتنازلات تحاشياً للخسارة، فكان الغش سبيلا لذلك، ثم أعقبهم الأتراك ليمارسوا نفس السلوك الدخيل معهم، فأساليب الغش والاحتيال والمساومات السعرية خصائص فارسية قديمة لا زالت راسخة في مجتمعاتهم.

 

وبعد كل ما احتوته صفحات المجلدين من دسائس مبطنة بحقائق من واقع بغداد آنذاك، يضع الرحالة البريطاني أهم أهداف الرحلة والترحال، بضعة سطور يلخص فيها مكنونات نفسه وأهداف قومه ونواياهم فيحشرها بين هذا الكم المتلاطم من الكسر والجبر، ذمٌّ يمرره بمدائح تكافئها بأساليب ماكرة، هذه السطور كانت تكفي لأن تترك أثرا مشوهاً في وعي المواطن العربي، يقول في هذه السطور الموجزة" لقد شهدت أثناء النكبة أمثلة عديدة من السخاء والتضحية بالنفس في سبيل الآخرين، وقد روى لي كثير من هؤلاء المزيد من هذه القصص فيما بعد، لقد سمع أحد الايطاليين أن صديقا له من أبناء وطنه قد أُلقي به وهو مصاب بذات الوباء(الطاعون) عند أحد بوابات المدينة، فما كان من صديقه هذا إلا أن سارع بالبحث عنه، ولقد عثر عليه فوجده غير قادر على الحركة وهو في حالة تدعو إلى الرثاء، وإذ ذاك أسرع بحمله على ظهره، ونقله إلى منزله الخاص به، والذي كانت تقيم فيه زوجته وأطفاله أيضاً، فأقام له محجراً صحياً هناك، وعاش هو وصديقه المريض إلى أن شفي من مرضه تماماً، دون أن يصاب أحد من أفراد البيت بأذى، نتيجة الرأفة التي أظهرها سيدهم تجاه ذلك المريض، وهناك حادثة مماثلة وقعت أيضاً، عندما هاجم الوباء زوجة أحد المبشرين الانكليز الذي كان يقيم هنا منذ بضعة أشهر، لم يهدأ للزوج بال ولكن كل ما فعله لإنقاذها من المرض، أنه هرب بها من المدينة، لكن صحتها ما لبثت أن تدنت بالتدريج، ومن ثم لفظت أنفاسها بين يديه، لقد امتدت الوقاية لتبسط حمايتها على أمثلة من الإخلاص والوفاء. لقد استطاع ذلك الزوج الثاكل، الذي لم يأبه للحياة وهو في غمرة أحزانه، أن يعيش لفترة مقبلة، وحين عاش بعد عائلته الذي اختطفها الموت، كان يشكر اليد التي غذيته ومن ثم أنقذته من الموت، إنها يد الله"(33) بهذه السطور حشر الصورة الصليبية التي أرادها نقيضاً للصورة المشوهة الممسوخة والتي رسمها عن العرب والمسلمين، من خلال بغداد، مع انه شاهد وعايش آلاف الحالات المشابهة لحالتي الايطالي والانكليزي من العرب أهل بغداد، قد تفوقها في إنسانيتها وعظم تضحياتها، لكنه لم يفعل، رغم انه مكث فيها أشهراً عديدة وتكررت إليها الرحلات، بل اكتفى بذكر الشيخ البدوي الذي رافقه إلى دمشق تجميلاً لصورة من يقدم لهم العون بما يخدم أغراضهم وإن كانت مبهمة غير معلومة.

 

وبعد كل هذا فإن القسم الخاص ببغداد من الكتاب نشر مترجماً من قبل الاستاذ سليم طه التكريتي في زمن كان العراق ينهض فيه بإعادة قراءة التاريخ، فكان لزاماً عليه أن يتنبه إلى كل هذه الدسائس لينبه القارئ ويُلفت نظره إليها لكي لا يقع في فخاخها، لكنه لم يفعل هو الأخر.

فهذا هو حال التاريخ، الذي ملأه الأعداء وأهل الأهواء تشويها وتحريفاً ومسخاً للعرب والإسلام بأغلفة جميلة وتحت عناوين مثيرة.

 

------------------------------------------------------------------

سورة الرعد، الآية:11.

الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج2، ص47- 51، ط2، دار المعارف مصر.

المصدر السابق، ص97.

ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص6، دار الفكر 2001م بيروت.

المصدر السابق، ص12.

المصدر السابق، ص13.

المصدر السابق، ص14.

اندري بارو، بلاد أشور نينوى وبابل، ت د. عيسى سلمان و سليم طه، ص10، ص19، دار الرشيد 1980 بغداد.

المصدر السابق، ص192.

سورة البقرة، الآية:105.

د. حسين مؤنس، تنقية أصول التاريخ الإسلامي، ص195، دار الرشاد، ط1،القاهرة، 1997م.

المصدر السابق، ص195-196.

المصدر السابق، ص69.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص10، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت 1987م.

المصدر السابق، ص11.

المصدر السابق، ص 5.

المصدر السابق، ص44.

المصدر السابق، ص 11.

المصدر السابق، ص11.

المصدر السابق، ص28.

سورة المائدة، من الآية: 64.

الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الأول، 5951، دار الفكر 1995، بيروت.

ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة.

ابن هشام، السيرة النبوية،ص320، دار الكتاب العربي، بيروت 2005م.

جيمس ريموند ولستيد، رحلتي إلى بغداد، ترجمة سليم طه التكريتي، ص102، مكتبة النهضة العربية 1984 بغداد.

المصدر السابق، ص103-104.

المصدر السابق، ص104.

المصدر السابق، ص80.

المصدر السابق، ص91.

المصدر السابق.

المصدر السابق.

المصدر السابق.

المصدر السابق، ص108.

.
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد  / ٢٦ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١١ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور