المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء التاسع ﴾

 
 
شبكة المنصور
حــديـد الـعـربي

الباب الثالث

أخطاء تاريخية عززت من وجود التشيع الفارسي

 

الفصل الأول

أدوار الأمويين والهاشميين في إنماء التشيع الفارسي

 

كان ثمن لجوء العباسيين والعلويين لغير العرب، وبخاصة الفرس في سعيهم لتغيير نظام الحكم الأموي للدولة العربية الإسلامية باهظا ومكلفاً، فقد زرعوا وما كانوا يعلمون، جراثيم المرض الفتاك في جسد أمتهم ونظام حكمها، والتي راحت تأكل خلاياها الحية رويداً رويدا، بفعل خبث هذه الجراثيم، حتى خرّ الجسد من هامته بعد أن عجزت الأقدام عن حمله.

 

ولقد سبقهم إلى ذلك الأمويون بفرعيهم السفياني والمرواني، فقد كان نظامهم قائم على توريث الملك، بغض النظر عن الاستحقاق من عدمه، وبذلك فقد طعنوا أمتهم في مقاتلها، وسلبوها جوهر نظام حكمها الذي أراده الله تعالى وأمرها به، بقوله: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }(1)، وسار بمقتضاه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، فالأمويين كانوا الأداة التي حقق بها المجوس واليهود والنصارى بعض غاياتهم من دعوة السبئية، بل فتحوا بهم باب الانحراف الذي أرادوا وتمنوا، فهذا المغيرة بن شعبة الذي تسابق مع زياد ابن سميه على تمزيق العرب المسلمين حينما غصبوا ألسنتهم على سبّ بعضهم وشتمهم وتكفيرهم واستباحة دمائهم، عندما أراد معاوية عزله عن إمرة الكوفة ينطلق مسرعاً ليزرع في نفس معاوية المزيد من رغبات الدنيا بأن أوحى له ببيعة ولده يزيد بالحكم من بعده، لا لشيء إلا ليبقى في موقعه أميراً على الكوفة، لا لكي يؤدي رسالة عقيدته في الحياة، بل لينعم بالسلطان وامتيازاته الباذخة، وحينما بحث معاوية عن السبيل إلى ذلك، بادره فورا بالجواب:" أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحدٌ يخالفك" وبها ضمن بقاءه في منصبه، وليذهب العرب والإسلام في جحيم يزيد، فهو القائل - المغيرة بن شعبة – بعد خروجه من معاوية: " لقد وضعت رجلَ معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد وفتقت عليهم فتقا لا تُرتق أبداً "(2)فالذي يفخر أنه فتق على أمته فتقاً لا يرتق لأجل مصالح دنياه لا يرتجى منه خير، ولا يمكن إلا أن يُظهر حقده على العقيدة بسلوكه ذاك، والمغيرة بن شعبة هذا كان موضع شك واتهام في مواقف عديدة كما رأينا في الفصول السابقة، فبالإضافة لما ذكرنا كان الفارسي أبو لؤلؤة الذي نفذ عملية اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب أحد غلمانه، كما إن علي بن أبي طالب كان قد أكذبه قبل حادثة المبايعة ليزيد بن معاوية بزمن بعيد، فعن عبدالله بن الحارث، قال:" اعتمرت مع علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في زمن عمر أو عثمان، فنزل على أخته أمّ هانيء بنت أبي طالب، فلما فرغ من عمرته رجع فسُكب له غسل، فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق، فقالوا: يا أبا حسن، جئنا نسألك عن أمرٍ نحبّ أن تخبرنا عنه؟ قال: أظنُّ المغيرة بن شعبة يحدّثكم أنه كان أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أجل عن ذلك جئنا نسألك؛ قال: كذب؛ قال: أحدث الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن عباس"(3)، فإن استبعدنا كل الاحتمالات، فلن يكون بمقدورنا أن نستبعد أن هذه الأفعال ومثيلاتها كانت تصب في مجرى الجرح الذي فتق في جسد الأمة قيحا وألما.

 

ولا يمكن أن يكون المغيرة بن شعبة إلا أداة حركتها قوى التآمر، ووظفتها بفاعلية لتحقق لها أغراضها ومآربها، بعلم منه أو باستغفاله، فهو لا يمكن أن يكون مدفوعاً من قبل أحد العرب المسلمين، لأن أفعاله لم تكن لتفيد أحداً منهم، لا لعثمان ولا لعلي ولا حتى لمعاوية، فقد غشهم جميعاً وسبب لهم ولأمتهم مشاكل جمّة. ولا يكفي لتزكيته أن كلفه الرسول صلى الله عليه وسلم بعمل، فالرسول لا يعلم إلا ما علمه الله، وقد كلف غيره فخان وغدر، من أمثال عبدالله بن سعد بن أبي سرح، فقد كان يكتب له الوحي قبل أن يرتد ويعاود الكفر. وذلك نابع من كون الإسلام يعتمد العمل كأساس للتقييم وليس الصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. ونعتقد أنه يمكن أن يكون أداة لأن أهدافه كانت تنحصر بالسلطة والمال، وذلك ما يمكن الاستحواذ عليه بالطرق المنحرفة.

 

وبهذا فقد فُتِح باب الاجتهاد غير المنضبط والصراع على السلطة بأساليب دموية، وشرعنوا التمرد على ولاة الأمور، وذلك ما أثلج صدور اليهود والنصارى والفرس، فالواقع الذي آلت إليه أحوال السلطة ينسجم كلياً مع ما كانوا يخططون له، ويأتي مكملا لأول فصول المخطط اليهودي الذي نهض بأدائه ابن السوداء عبدالله بن سبأ في الفتن والتي راح ضحيتها الخليفة الثالث عثمان بن عفان وفيما بعد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، بعد أن فتح الفرس المجوس باب هذه الفتن، بالسابقة الخطيرة التي اقترفوها، حينما فتحوا باب الجرأة على ولاة الأمر بقتلهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على يد الفارسي المجوسي فيروز أبو لؤلؤة.

 

وقد تتبع خطى المغيرة بن شعبة كثير من القادة والأمراء خلال العهدين الأموي والعباسي، وقد نجد في الحادثة التالية ما يصدق رأينا هذا، فإن عبد الملك بن مروان كان يسأل مستشاريه وجلساءه عن أشد الناس، بعد قتل مصعب بن الزبير ونصب رأسه في الشام، فاحتار هؤلاء بعد أن أعيتهم وأعجزتهم إجاباتهم حتى ردوا السؤال على سائله ليعرفوا مكنون نفسه، فأجابهم أنه "مصعب، كان عنده عقيلتا قريش، سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، ثم هو أكثر الناس مالاً، جعلتُ له الأمان وولاية العراق، وعلم أني سأفي له، للمودة التي كانت بيننا فحمى أنفاً وقاتل حتى قُتل"(4) والحقيقة أن الباعث لم يكن هذا، بل هو الشعور بمخاطر الانحراف الذي سارت عليه الأمة منذ أن حول معاوية نظام حكمها إلى حكم العوائل، واستعادته لمسالك الإرث الجاهلي بالتنافس العائلي على السلطة والإمارة بشكل من أشكالها، وهذا يؤكد أن ثورة ابن الزبير رضي الله عنهما كانت امتداداً حقيقياً وصادقاً لثورة الحسين عليه السلام، فالهدف منهما كان واحدا.

 

من جانب أخر فقد كان المهلب بن أبي صفرة قد ولاه ابن الزبير قتال الخوارج في أرض فارس، فبلغ مقتله – مصعب – للأزارقة قبل بلوغه جيش المهلب، فقالوا لهم" ما قولكم في مصعب؟ قالوا: أمير هدى، وهو ولينا في الدنيا والآخرة، ونحن أولياؤه، قالوا: فما قولكم في عبدالملك؟ قالوا: ذاك ابن اللعين نحن نبرأ إلى الله منه، وهو أحلُّ دماً منكم، قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعباً وستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب، فبايع المهلب الناس لعبدالملك بن مروان، فصاح بهم الخوارج، يا أعداء الله ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم... قالوا: وما قولكم في عبد الملك؟ قالوا خليفتنا... قالوا: يا أعداء الله أنتم بالأمس تبرؤن منه في الدنيا والآخرة، وهو اليوم إمامكم، وقد قتل أميركم الذي كنتم تولونه... قالوا: يا أعداء الله رضينا بذلك إذ كان يتولى أمرنا ونرتضي بهذا، قالوا: لا والله، ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا"(5) وهذا أيضاً ناتج من نواتج الإرث الذي كانت تخبوا ناره تحت الرماد، فالأطماع عادت تشكل بعض حوافز التولي وليس العدل والحق والقدرة والإيمان والاختيار كما أراد الإسلام، وهؤلاء ليسوا إلا تلاميذ المدرسة التي تخرج فيها المغيرة بن شعبة وغيره من قبل.

 

لقد أراد العباسيون والعلويون إصلاح أمر الخلافة، واستعادة نظام الحكم العربي الإسلامي إلى حيث كان، بشروطه وضوابطه العامة والأساسية، والذي كان نموذجه بيعة الخلفاء الراشدين الأربعة، لكنهم عالجوا الخطأ بخطأ أكبر منه، وأعظم أثراً على الأمة ومستقبلها، فمع إنهم لم يغيروا من اسلوب الحكم الملكي الذي اتخذه الأمويون، لكنهم أضافوا لهذا الوهن وهنا أخر، فقد كان اعتمادهم في كل مراحل عمليات الإعداد والتنفيذ لهذا التغيير على أدوات لا يمكن أن تصلح بأي حال من الأحوال للتغيير الإيجابي، بل ولا يمكن معها المحافظة على المتبقي من شكل نظام الدولة. فكان اعتمادهم على الفرس بالدرجة الأساس لتحقيق هذا التغيير، وإطماع الأقوام الأخرى فيما بعد بدولتهم كنتيجة لذلك، هو البداية الحقيقية للكارثة التي حلّت بالأمة ونظام حكمها بعد قرون

إن المتأمل للتاريخ السياسي للعصر العباسي يجد أن الصراع الداخلي المتمثل بالأمويين والهاشميين(العلويين والعباسيين) خلال العهد الأموي والذي كانت تقف خلف كل فصوله قوى خارجية معادية (يهود، نصارى، فرس) تغذيه وتمده بكل سبل الاستمرار و البقاء، دون ظهورها بشكل مباشر في ساحات الصراع، وتستثمر في مساره أعدادا من العرب الذين تغلبت أعرافهم الجاهلية على ما فيهم من عقيدة الإسلام، كما رأينا، قد تحول كلياً خلال الأعوام الأولى من عمر العهد العباسي، ليمارس الصراع مباشرة، ففي فترة الإعداد للثورة قبل عام 132ه كان هناك الكثير من الدعاة الفرس، يتخذون من العلويين والعباسيين ودعوتهم ستاراً للتعبير عن طموحاتهم ونواياهم بالسعي لاستعادة استقلال دولتهم وعودة نظامهم الكسروي مجدداً، متخذين من عمليات تشويه صورة العرب والطعن فيهم وفي عقيدتهم الإسلامية وسائل للوصول إلى غاياتهم، أما خلال العهد الأول من الحكم العباسي 132-218ه فقد بدأ الصراع يتخذ طابع المباشرة، حين تمكن الفرس بفضل العباسيين من التسلل إلى مواقع الدولة وقيادة الجيوش، ويتصاعد نفوذهم المباشر على شؤون الدولة حتى استحكم كلياً خلال عهد المأمون، رغم تصدي أبو جعفر المنصور لنوايا أبي مسلم الخراساني وقتله وتشتيت أتباعه، ثم نكبة هارون الرشيد للبرامكة وفتكه بهم في محاولة لإفشال نواياهم، لكنه لم يكن يعتقد أن للبرامكة أتباع وتنظيمات واسعة تغلغلت في صفوف الدولة وكمنوا لها حتى توفي الرشيد، فنهضوا بفتنتهم بين الأمين والمأمون فرسخوا أقدامهم وسيطروا كلياً على مقر الخلافة، وحققوا لبلاد فارس استقلالاً عنها، وفرضوا إرادتهم على الخليفة، رغم إجراءات العزل والتبديل التي مارسها المأمون، لكنه في الحقيقة كان لا يفعل سوى استبدال فارسي بفارسي آخر، أكثر تعصباً وأعلى همة من سابقه على تحقيق أهداف قومه.

 

الأمر الذي شجع الأقوام الأخرى لولوج هذا المسلك الخطير، فخلال الفترة 218-247ه كان الخليفة العباسي المعتصم بالله قد استشعر بأخطار النفوذ الفارسي حتى على مقر الخلافة، فاتجه لمواجهتها بعمل كان يعتقد فيه علاجاً للواقع المتدهور، عن طريق شراء عشرات الآلاف من الغلمان الخصيان الترك، وكون منهم جيشاً كبيراً، أراد الاحتماء به من تدخلات الفرس ومواجهة مؤامراتهم المستمرة، الأمر الذي أوجب أن يبرز بمرور الزمن من بينهم قادة وأمراء، تمتعوا بسلطات وقدرات واسعة مكنتهم من العبث بشؤون الدولة لاعتماد الخلفاء عليهم وتغليبهم على العرب.

 

ولكن حين اتسعت تدخلاتهم وزادت أخطارهم حدّة حاول الخليفة المتوكل إبعادهم وتحجيم أدوارهم، فذهب ضحية بطشهم واستهتارهم على يد باغر التركي، أحد أهم قادتهم، كان قد تدرج من عبد خصي حتى صار قائداً متنفذا، فقتله ونصب أحد أبنائه بدلا عنه، فتميزت الفترة بين الأعوام 247-295ه بسيطرة هؤلاء الأتراك على مقدرات الدولة، ثم تطورت أكثر خلال الفترة 295-334ه حيث سيطر الخدم والخصيان بشكل كامل على شؤون الدولة ومقر الخلافة، وكانت من نتائجها أن قام مؤنس بقتل الخليفة المقتدر بالله، وهو أحد خدمه الأتراك.

 

فكان من شأن هذا التكالب والاقتتال على السلطة وفقدان الخليفة لأي قدرة وتأثير، أن فسح المجال مجدداً للبويهيين الفرس كي يعبثوا في المناطق الشرقية للدولة كما يحلو لهم، ثم التوجه نحو بغداد بعد أن اجتاحوا الأقاليم والأمصار، الواحد تلو الآخر، حتى وصلوها عام 334ه، وتمكنوا من بسط سيطرتهم عليها مرة أخرى، ثم دار بينهم وبين الأتراك صراعات استمرت حتى عام 447ه، حيث تمكن الأتراك السلاجقة من السيطرة على بغداد وطرد البويهيين منها.

 

ولم يكن بمستطاع العباسيين استرجاع ملكهم حتى عام 530ه بخلافة المقتفي لأمر الله، وإن كانت دولتهم قد تقلصت كثيرا عما كانت عليه من قبل، ثم انتكست مرة أخرى عام 640ه بخلافة المستعصم بالله، لوقوعه مرة أخرى بنفس الأخطاء التي أوقع أسلافه من خلفاء بني العباس أنفسهم فيها، باعتماده على الأقوام الأخرى، فقد اختط نهاية الحكم العباسي بيده حين اختار لوزارته الفارسي ابن العلقمي، الذي تآمر مع المغول، وتحقق له ولقومه وللمغول ما أرادوه بسقوط الخلافة العباسية نهائياً عام 656ه على يد هولاكو، بعد أن نجح العلقمي والطوسي والفرس الآخرين من تمهيد الأرض لنجاح الغزو، فقد عمد العلقمي إلى تسريح الجيش الذي شكله المقتفي لأمر الله والبالغ تعداده مائة ألف مقاتل بحجة عدم وجود الأموال اللازمة لتمويله، ولم يبق منه سوى أربعة آلاف جندي، كان يمنع عنهم أعطياتهم، فعجزوا عن مواجهة الغزو أو حماية حتى الخليفة من بطش المغول وغدر المجوس.

 

هذا الدرس العظيم في التاريخ لم يستوعبه حكام العرب وساستهم، ولم يتخذوا منه عبرة منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، إلا ما كان من قادة ثورة العراق، الذين عملوا ما وسعهم الجهد على استبعاد أي أثر خارجي في سياسة العراق الداخلية والخارجية، لكن العقبات كانت أخطر وأكبر مما تصوروه، فكما جند الفرس عرباً لبلوغ غاياتهم من قبل، خلال العهدين الأموي والعباسي، فإنهم ومن تحالف معهم من صهاينة وصليبيين يستحوذون اليوم كما كانوا من قبل بمغريات المال والملذات على عقول وإرادة كثير من العرب، من بينهم حكام وساسة، يسخرونهم كيفما شاءوا، ومتى أرادوا، لمنع العرب من أن يستعيدوا دورهم مرة أخرى.

 

والمتتبع لأحداث التاريخ سيجد محطات عديدة كان يمكن للعرب أن يتوقفوا عندها ثم يعيدوا حساباتهم السياسية مجدداً في ضوء المعطيات التي أفرزتها الأخطاء القاتلة، التي ارتكبها الخلفاء العباسيون ومن قبلهم الأمويون، فقد كانت فيها من الدلائل والبراهين ما يثبت حقيقة التآمر:

 

قاد حملات التمهيد للتغيير أبو سلمة الخلال وأبو مسلم الخراساني، وكلاهما من الفرس، وهدف دعوتهما السرية كانت أرض الفرس وما جاورها، فكان الطعن بالعرب وتزوير المثالب عنهم واستعداء الفرس والأقوام الأخرى عليهم، هي الوسيلة التي نفذا بها إلى قلوبهم واستحوذا على مشاعرهم، خاصة وأنهما أردفا هذه الأعمال بمن لا يمكن لأحد أن يشكك فيهما أو بنواياهما، حيث ربطوا بين هذه الدعوات وبين بيتين شريفين يرتبطان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلكما آل علي بن أبي طالب وآل العباس بن عبد المطلب، وكان لا بد أن يحصل هذا، حتى لو كانت نوايا الفرس خالصة من النوازع الهادفة لاستعادة مجد إمبراطوريتهم التي ذهبت ريحها أمام زحف الإسلام وعدله، فالدولة العربية الإسلامية في زمن الأمويين، وهي المستهدفة بالتغيير، كانت جميع مفاصلها عربية خالصة، ولأجل هذا كان لابد من استعداء الأقوام على العرب، فبغير ذلك لا يمكن شحن عقولهم وعواطفهم بعداء العرب وتثويرهم ضد دولتهم، فهذا قحطبة بن شبيب أهم قواد أبو مسلم الخراساني يخاطب الفرس بقوله: " يا أهل خراسان هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم وحسن سيرتهم حتى بدلوا وظلموا فسخط الله عزّ وجل عليهم فانتزع سلطانهم وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم فغلبوهم على بلادهم وكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد وينصرون المظلوم ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلطكم عليهم لينتقم منهم بكم لتكونوا أشد عقوبة لأنكم طلبتموهم بالثأر" (6).

 

لم تكن الدعوة للرضا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا ستارا يُخفي خلفه نوايا الفرس في استعادة إمبراطوريتهم، ففي بداية دعوتهم العلنية بخراسان، وفي عام 129ه أمر أبو مسلم الخراساني أحد قادته وهو مالك بن الهيثم الخزاعي بقتل عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب(7)على الرغم من أنه كان ثائرا على عدوهما المشترك، بني أمية، وهو من آل بيت النبي أو قرابته.

 

والأخطر من هذا فإنهم زرعوا بين العرب عداءاً وهمياً وعصبية جاهلية، حينما حاولوا تقسيمهم إلى مضريين وربعيّن ويمنيين، واستعدوا القبائل اليمنية على مضر، بحجة أن بني أمية منهم، وأنسوا المغفلين أن النبي وآل بيته، المدعين الولاء لهم، من مضر أيضاً، وهم للأمويين أبناء عمٍّ، ولعل سبب ذلك ما صرّح به أبو مسلم الخراساني حينما استهجنت القبائل العربية هذا التأليب، بأن أفصح عن مكنون نفسه وحقيقة مسعاه، فقد قال: "... وأجمع إليّ العجم وأختصهم" (8)، وقد وصلت الأمور لدرجة أن الفرس كانوا يحلفون باسم أبي مسلم الخراساني ولا يحنثون.

 

بدت الدولة العباسية في بدايتها وكأنها قوية، أو هكذا تصورها خلفاء بني العباس وغيرهم، خاصة بعد أن تمكن أبو جعفر المنصور من التخلص من أبي مسلم الخراساني، لاعتقادهم أن التأثير الفارسي سينتهي بنهايته، لكن الحقيقة كانت غير هذا التصور تماماً، فالثقافة التي تسلحت بها العقول الفارسية على مدى عقود طويلة من الزمن، خلال عمليات الإعداد للانقضاض على الخلافة، صارت ثقافة عنصرية وشعوبية حاقدة على كل ما هو عربي، وهذا ما ألزمهم التمسك بالإسلام ظاهرياً، وتلفيق الأقوال الكاذبة على لسان قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وتصوير العرب، ابتداءً من صحابة رسول الله وأقربهم إليه ومنهم الخلفاء الراشدين وكل العرب على أنهم ناصبوا محمدا وآل بيته العداء وسلبوهم حقهم فكفروا، فما كان يمكنهم تداول هذه الثقافة التي تناصب العرب العداء إلا من خلال الإسلام، وما كان بإمكانهم تقويض الدولة العربية بكل مسمياتها إلا بالقاسم المشترك بينهم وبينها، وهو الإسلام، وذلك مردّ نشوء كل حركات الزندقة والشعوبية والتحريف في ربوع الفرس - وهي مهيأة لذلك - ونمت وترعرعت على أيديهم وأعينهم.

 

بعد أن جرّد أبو جعفر المنصور الفرس من الزعامات العسكرية أمن شرهم، فدخلوا له من باب أخر هو أكثر خطراً، ذلك هو باب الاستشارة والإدارة، فقد توصل البرامكة بعد سنين قليلة من السيطرة على مقاليد الأمور واحكموا قبضتهم على السلطة، فحرثوا في أرض الخلافة وأنبتوا كثيرا من دسائسهم ومكر حلفاءهم اليهود، وهذا ما اضطر هارون الرشيد القضاء على رؤوسهم وقياداتهم، التي خلفت بعدها الكثير ممن واصلوا مسيرتهم ومسيرة أسلافهم، فمن المفارقات أن المنصور كان يعلم حقيقة الفرس وخبث البرامكة لكنه لا يكبح جماحهم، فحينما أراد المنصور بناء بغداد استشار الفارسي خالد بن برمك في نقض المدائن وإيوان كسرى ونقل أنقاضها إلى بغداد فأجابه بأنه لا يرى ذلك لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر الدنيا وإنما هو على أمر دين ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب‏، فيردّ عليه المنصور‏ مشيرا إلى عنصريته الفارسية:‏ لا أبيت يا خالد إلا الميل إلى أصحابك العجم‏!‏ وأمر بنقض القصر الأبيض فنقضت ناحية منه وحمل نقضه فنظر فكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الجديد‏، فدعا خالد بن برمك فأعلمه ذلك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد كنت أرى أن لا تفعل فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم لئلا يقال إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك"، فمع أن المنصور كان خبيرا بهم، وله معهم سابقة كادت تذهب بروحه لولا نجدة القائد العربي الكبير معن بن زائدة الشيباني في عام 141ه، فبعد قضائه على أبي مسلم الخراساني حينما تكشفت نواياه المجوسية الفارسية، واتخاذه من آل بيت النبوة وحقهم ذريعة لتحقيق أطماعه في استعادة إمبراطوريتهم الكسروية، تفرق أتباعه، من الذين تسلحوا وعلى مدى عقود من الزمن، وتحديدا منذ معركة القادسية، بثقافة شعوبية عنصرية معادية للعرب المسلمين في الأمصار، واتخذوا من وسائل الدس في الإسلام عقيدة ورجالا سبيلا لها، وأعادوا فيما بعد محاولاتهم التي لم تتوقف من أجل استعادة هذه الإمبراطورية، فمنهم الراوندية، الذين قالوا بتناسخ الأرواح، وادعوا أن روح الله حلت في جسد الخراساني ثم انتقلت بعد مقتله في جسد المنصور، وتلك الفرية هي خزين إرث، فقد كانوا يتخذون أكاسرتهم آلهة وسجودهم إليهم، وهي أيضا ثمرة من ثمار التواصل بينهم وبين اليهود والنصارى، الذين رأوا رأيهم، وساروا سيرهم، فتأليههم للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قبلها، كان بفعل تمازج فكري بينهم وبين اليهود، فعبدالله بن سبأ اليهودي قال، والفرس تبنوا قوله وروجوا له، وقد قال فيهم الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (9)، فقد قبض المنصور على رؤوسهم وسجنهم، فثاروا به وكادوا يقتلونه لو لا الصدفة التي أتت بمعن بن زائدة وهو المطلوب رأسه من قبل المنصور بفعل دسائسهم، ليفتك بهم ويقتلهم جميعا وينجو الخليفة العباسي من مكيدتهم، ومع كل هذا تراه يجعل من خالد البرمكي الفارسي الماكر رجل الدولة الأول ومستشارها.

 

ولقد سبقتهم حركة المختار بن عبيد الثقفي بما احتوته من نسبة كبيرة من الموالي أغلبهم من الفرس، في عمليات الدس على الإسلام ليل نهار، منها أن المختار بن عبيد الثقفي اتخذ كرسيا باليا صنما، قيل له أن فيه أثر لعلي بن أبي طالب، واتخذ له سدنة، كما فعلت اليهود بالعجل ذي الخوار، بدعة السامري، الذي ورد ذكره بقول الله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}(10)، فلنستمع لهذه الحادثة التي ينقلها لنا الطفيل بن جعدة بن هبيرة يقول:‏ "أضقنا إضاقةً شديدة فخرجت يومًا فإذا جار لي زيات عنده كرسيٌّ ركبه الوسخ فقلت في نفسي‏:‏ لو قلت للمختار في هذا شيئًا فأخذته من الزيات وغسلته فخرج عود نضار قد شرب الدهن وهو يبص قال فقلت للمختار‏:‏ إني كنت أكتمك شيئًا وقد بدا لي أن أذكره لك إن أبي جعدة كان يجلس على كرسي عندنا ويروي أن فيه أثرًا من علي‏، قال‏:‏ سبحان الله أخرته إلى هذا الوقت‏!‏ ابعث به فأحضرته عنده وقد غشي فأمر لي باثني عشر ألفًا ثم دعا‏:‏ الصلاة جامعة فاجتمع الناس فقال المختار‏:‏ إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله وإنه كان في بني إسرائيل التابوت وإن هذا فينا مثل التابوت‏، ‏فكشفوا عنه وقامت السبئية فكبروا‏، ثم لم يلبثوا أن أرسل المختار الجند لقتال ابن زياد وخرج بالكرسي على بغل وقد غشي فقتل أهل الشام مقتلة عظيمة فزادهم ذلك فتنة فارتفعوا حتى تعاطوا الكفر فندمت على ما صنعت وتكلم الناس في ذلك تعيبه‏"(11)، فالمختار كان يدعي التشيع لآل علي واتخذ من كرسي، قيل له فيه أثر منه، صنما بدعوى حبهم وقاتل عبيدالله بن زياد قاتل الحسين الشهيد، فقتله، لكنه لم يجعل الولاية لأحد من آل علي بل اتخذها لنفسه، وأبعد من هذا فقد قتل أحد أولاد الإمام علي في حربه مصعب بن الزبير عام 67ه، ذلك هو عبيدالله بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

 

ثم أن مراجل أم المأمون كانت ابنة الفارسي استاذسيس الذي ادعى النبوة في زمن أبي جعفر المنصور، فكيف يستقيم هذا؟‏ وأي منابت سوء كان العرب يختارون لأبنائهم؟ وفي سنة 151ه قتل الفرس الخوارج القائد العربي معن بن زائدة الشيباني في بست، وكان أحد قاتليه يقول: " أنا الغلام الطاقي‏"‏ والطاق قرب زرنج ببلاد فارس، وفي عام 159ه ظهر الفارسي المقنع وادعى الإلوهية وكان يقول‏:‏ إن الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح وهكذا تتالت التحولات إلى أن حلّت روحه في أبي مسلم الخراساني ثم تحول إلى المقنع ويقول بالتناسخ وتابعه خلق من ضلال الناس وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا، وفي عام 160ه ثار الحرورية بقيادة يوسف البرم في بخارى بعد أن أفتى بتكفير الخليفة العباسي محمد المهدي ودعا الناس إلى دينه، واجتاحوا جيوش الخلافة الواحد تلو الأخر حتى أخطروها لولا شجاعة يزيد بن مزيد الشيباني فقضى عليهم، ومع ذلك زاد تمسك العباسيين بالفرس فقلدوهم كل مفاصل الدولة المهمة، وقد وصلوا إليها بالنفاق والتزلف وتقبيل حافة الثياب والتملق والغلو والإفراط في تمجيد الخلفاء وتقديس شخوصهم، وإدخالهم مجالس اللهو والمجون، فشوهوا قيم العرب وتمادوا على كرامتهم، فكان الطريق لهم ممهدا لبث سمومهم ومكرهم ووشاياتهم بالعرب، الذين كانوا يأنفون عن الدس والوشاية والنفاق، لينفردوا بالخليفة فيسهل عليهم تطويعه لغاياتهم، وقد نجحوا فكانت بغداد وكأنها نسيج عادات وتقاليد لا تمت للعرب المسلمين بأية صلة، فقد تهاون أهلها بفعل الفرس ودسائسهم ومغرياتهم بالخلق العربي الأصيل وإدخالهم الكثير من الثقافات والعادات الفارسية الغريبة عليه، وصارت الحياة الاجتماعية فيها وكأنها محاكاة لحواشي الأكاسرة في غابر دهورهم، وبخاصة بعد نجاح البرامكة الفرس في إبعاد القائد العربي يزيد بن مزيد الشيباني عام 172ه بفعل دسائسهم ومكرهم، والذي كان يُعدّ العقبة الكأداء أمام الفرس وكل الشعوبيين من أن ينالوا من العرب في تلك الفترة.

 

اعتمد الفرس في صراعهم مع العرب للاستحواذ على مصادر القرار واستعادة الإمبراطورية الفارسية على عناصر هي ذات العناصر التي استخدمها اليهود في مسيرة دسائسهم، فقد اعتمدوا النساء والأموال والدعاية كوسائل ناجعة، وأبدعوا وتفننوا في استخدامها لحرف الخلافة العباسية والاستحواذ عليها، واستمروا في اعتماد هذه الوسائل حتى يومنا هذا، فتحولت دار الخلافة إلى بلاط ملكي يموج بالجواري والغلمان والخصيان.

 

في خلافة هارون الرشيد توطدت سيطرة الفرس واحكموا خناقهم، فتحولوا من اسلوب خلق بؤر التهديد للخلافة هنا وهناك بما يجعل الخليفة العباسي أكثر تمسكا بالفرس ورأسهم في ذلك يحيى بن خالد البرمكي، إلى اسلوب الظهور العلني كقوة قادرة على سحق الخليفة والخلافة أو سلبها على يد ولديه جعفر والفضل البرمكي، ففي عام 178ه قام الفضل بن يحيى البرمكي بتكوين جيش فارسي في خراسان تجاوز تعداده نصف المليون جندي، وبدد في تكوينه أموالا طائلة، وأطلق عليه من باب الخداع والتمويه جيش العباسية، وبدعوى حماية الجبهة الشرقية لدولة الخلافة، ومما يستوقف المنقب بين صفحات التأريخ ويلفت نظره، أن الفترة التي استغرقها الفرس في تشكيل جيشهم المسمى جيش العباسية بقيادة الفضل بن يحيى البرمكي الفارسي خلال الأعوام 178-180ه كانت قد شهدت هدوءا في الجبهة الشرقية التي تضم بلاد الفرس وما جاورها، في حين شهدت المنطقة الغربية من دولة الخلافة وعلى غير المعهود بها، انتفاضات وثورات دامية، فكانت أرض مصر وبلاد الشام مسرحا لها، ناهيك عن موطن الخلافة ومركز الدولة، فقد ثار في العراق الخارجي الوليد بن طريف الشاري التغلبي بديار مضر وربيعة شمال العراق عام 178ه، بتوقيت لا يمكن أن يكون المخطط له والمحدد لانطلاقته غير الفرس، واكتسح أغلب مدنه وقراه سلبا ونهبا وقتلا وتنكيلا، وفتكا بجيوش الخلافة العباسية، فاحتل نصيبين وأخضع أرمينية واجتاح الموصل والرقة وبلد ووصل حتى مشارف بغداد فأخطرها بتخطيط فارسي، لتحقيق هدفين في آن معا، أولهما: إضعاف الدولة العباسية وخنقها واستنزاف مواردها وتمزيق جيشها، خاصة وأنهم مهدوا الطريق لذلك في عام 172ه حينما أرغموا بمكرهم ودسائسهم الخليفة هارون الرشيد على إبعاد القائد العربي المسلم يزيد بن مزيد الشيباني، الرجل الذي كان أشجع فرسان زمانه وأقدر قادته على تحقيق النصر تلو النصر، والمتمسك بعروبته وقيمها وأخلاقياتها أشدّ التمسك، وثانيهما: فسح المجال للفضل البرمكي حتى يستكمل بناء جيشه في خراسان بعيدا عن رقابة الخليفة وريبته. وتماديا في هذا المسلك الماكر فقد أشار يحيى البرمكي على الخليفة الرشيد أن يختار موسى بن حازم ليصد الوليد الشاري عن بغداد، باسلوب المنجمين، بدعوى أن فرعون مصر كان اسمه الوليد أيضا وقد أغرقه موسى عليه السلام، فتحقق للبرمكي ما أراد من تلك المشورة الماكرة، فكان موسى بن حازم ضحية مكيدته، فقد قتله الخوارج وأبادوا جيشه بالكامل، وكان ذلك لأجل الهدف الأهم، وهو إرهاب الخليفة الرشيد أكثر فأكثر لكي لا يكون أمامه إلا استدعاء الجيش الفارسي الذي أنشأه الفضل البرمكي للتوجه إلى بغداد، وحينها سيتحقق الحلم القديم في استعادة إمبراطوريتهم، لكن مشيئة الله عطلت تحقيق هذا الحلم الخبيث، فقد استدعى الخليفة الرشيد ذخر شدته القائد العربي يزيد بن مزيد بعد جفاء عنه دام زهاء العشر سنوات بفعل دسائس الفرس وأمره بالمهمة، فكان يزيد بن مزيد يتمزق بين أن ينتصر للإسلام والعرب وبين أن يكفّ يده عن قتال قبيلته، فإن الشاري وأغلب أتباعه من ربيعه، وهم قومه، فاختار قتال قبيلته، فبذهاب العرب ودولتهم ستذهب ربيعة معهم، لأنه كان أعلم الناس بنوايا الفرس وما يخططون له، فقتل قائد الخوارج الوليد بن طريف وشتت جمعه وعاد إلى بغداد منتصرا، ثم استدعى الخليفة بعدها الفضل بن يحيى منفردا إلى بغداد، فقدم إليها ومعه فرقة من جيشه الفارسي قوامها عشرون ألفا أطلق عليها الفرقة الكرمينية، وتحرك جعفر البرمكي سريعا ليستبدل حراسات الخليفة بهؤلاء الفرس، حتى صار في قبضتهم، وكان جعفر البرمكي يعيب على سلفه الفارسي أبي مسلم الخراساني أنه استبدل حكما عربيا بأخر عربي، مفتخرا أمام أتباعه الفرس أنه سينقله إلى حيث يريدون، إلى الفرس فيستعيدوا مجد كسرويتهم، لكن الرشيد انتقل إلى الرقة وترك الفرس في بغداد وتحصن هناك بالعرب، حتى تمكن من تفتيت جيش البرامكة الخراساني، ومن ثم نكبتهم والقضاء عليهم.

 

كان خلفاء بني العباس كما هم بني أمية يتقنون درس التاريخ، واستنباط العبر والدروس من بين سطوره، لكنهم كانوا للأسف الشديد سرعان ما يفرطون بثوابت درسهم في التحسب الشديد من نوايا المنافقين والمندسين، بفعل شغفهم بالسلطة لذاتها دون اعتبار لطبيعة رسالتها، والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، فكيف به وهو يلدغ عشرات المرات حتى يدبر قفاه! فمنذ وقت مبكر اكتشف العرب تآمر اليهود والفرس على دينهم الفتي وعلى حملة رايته العرب، بعدما تلاقت مصالحهما في عداء العرب المسلحين بقوة الإيمان، فاستعادا بها تحالفا قديماً متجددا على مرّ الدهور منذ حلفهما الذي أثمر سقوط بابل في قبضة الفرس عام 539ق. م، ففكرة تحريف القرآن الكريم من قبل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي قال بها الفرس المجوس منذ عهد بعيد وكررها المجوسي خميني، كانت استكمالا لقول اليهود بأن القرآن لم يكن كلام الله وإنما تقوله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(12)، لكنّ الفرق أن اليهود ردّ الله تعالى كيدهم بالوحي والقرآن، إنما الفرس باشروا التشويه بعد أن أمنوا تكذيب الوحي إثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذوا لها ذريعة يتقون بها التكفير أو افتضاح النوايا، تلك هي أحقية آل بيت النبوة في الخلافة، فيلصقون هذه الأكاذيب والتشويهات بهم، وقد أفادهم اليهود بدسيسة إبن سبأ في قوله بالنص والوصية، لينسف بهما القرآن والسنة، فلا نصّ في القرآن، وهذا يوحي بأن القرآن قد حُرِّف، ولا وصية في سنة رسوله، وهذا يجعل سنة رسول الله مثار شك وريبة، وهما أصل الشرع ومحتوى العقيدة، والشكّ فيهما ينسف كل ما بني عليهما، فلكم كانت هذه المكيدة كبيرة في أهدافها ونواياها وأثارها، خاصة وأنها تخفَّت خلف ستار يهابه ويجلّه العرب المسلمون، ذلك هو ستار آل بيت النبي وأقرب قرابته، وقد استمرت هذه المكيدة، التي تعد من أخطر المكائد على العرب المسلمين، يتصاعد تأثيرها يوما بعد يوم حتى أضعفت الإيمان في نفوس الكثير من العرب، بل وحولت بعضاً منهم إلى أدوات في هذا السياق، ومما ساعد الفرس ومن خلفهم اليهود على إنعاش هذه المكيدة وتقوية جذورها كلما تصدى لها العرب، أن الفرس كما هم اليهود لم يكونوا يوما مسلمين مؤمنين، إلا الذين تجردوا من عنصريتهم المقيتة، وهم قلة، ولأن الكافر والشاك بالشيء لا تخونه وساوس نفسه ومكر الشيطان أن يجد ما يبرر به فريته، فهو لا يفعل سوى البوح بمكنون نفسه، خاصة إذا كان يملك خزيناً هائلا من المكر والخداع والقدرة المتميزة على الدس الخفي، فكان مما سهل على الفرس واليهود المضي في دسيستهم أن خلفاء بني العباس أمدوهم بالجاه والسلطان من أجل حماية ملكهم، لكنهم بهذا منحوهم الفرص الذهبية للمضي في مسلكهم بتدمير الإسلام وتشتيت حملة رسالته العرب.

 

الفرس أجرأ الأقوام على الحقد والضغينة والدس والكذب والخداع، ودليلنا في ذلك حقائق تاريخية لا يمكن أن يتغافل عنها كل منصف، فهم لفقوا وحشروا في صفحات التاريخ أكاذيب ذم وتشويه لكل عربيّ اقتص منهم، فكان ولا زال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عدوا لهم، يتسابقون على شتمه، ويتبركون بضريح وهمي للمجوسي الذي اغتاله ويحتفون بذكراه، لأنه كان حريصا على تمزيق ملكهم، وتحقق له ذلك في معركة القادسية وما تلاها حتى معركة نهاوند، فاغتالته مجوسيتهم، ثم لفقوا الأكاذيب لينالوا منه، فقد افتروا فريتهم المشهورة أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسر ضلع ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وعاودوا يدسون الأكاذيب ضد الخليفة العباسي هارون الرشيد، لأنه أذهب جهدهم ودمر عدتهم حينما اكتملت فصول مؤامرتهم لسلب الخلافة واستعادة كسرويتهم، وفتك بقادة حملتهم البرامكة، فاتهموه بشرب الخمر ومجالس الطرب والمجون، ونسجوا من موروثهم الشعبي قصصا فاضحة وألصقوها باسمه، كما فعلوا في ألف ليلة وليلة.

 

كان المعتصم قد أراد التخلص من سيطرة الفرس وأطماعهم، فاعتمد على الغلمان الأتراك، حتى ملكوا أمور الدولة وتحكموا فيها، فاصطرعوا مع الفرس على أرض العرب، كلٌّ يريد مسخ شكل نظام الحكم العربي الإسلامي وجوهره، ليسهل عليه سلب الخلافة وتسييد قوميته عليها، فكان كمن يعالج الخطأ بخطأ أفدح منه، فبدل المطمع الفارسي تعددت الأطماع وتصارعت على أرض الخلافة، فكان ضحيتها العرب، حملة رايات الإسلام والإيمان، وحينما أراد الخليفة المتوكل تحجيم الأتراك والتخلص من نفوذهم وكبح جماحهم صار ضحية لهم فقد قتله باغر التركي وعبث بالدولة هو وقومه كما شاءوا، فزادوا على ضعفها ضعفا، وحُجّم العرب وخليفتهم حتى صاروا كالدمى تلعب بها أطماع الشعوبية والعنصرية، وهي أبعد ما تكون عن الإسلام والمسلمين، فقد صار الخروج على الخليفة، أو إرغامه على تبني مواقفهم رغم تقاطعها مع عقيدة الإسلام، أمراً مألوفا، وصار العبث في شخوص الخلفاء مثار سخرية واستهجان، فيُخلع هذا ويُبايع لذاك وفقا لأهوائهم، فما عادت لهم من هيبة على الإطلاق، ولم تعد لهم من قدرة على تسيير أمور الدولة وشؤونها.

 

وقد كان من نتائج أطماع الفرس وغيرهم في سلب الخلافة، والحملات التي قادوها في تشويه صورة العرب وتأليب بعضهم على بعض، وتعمدهم الاستمرار في دس أكاذيبهم على الإسلام وإلصاق الكثير من الأفكار الغريبة به، ودعمهم للتحزب والتناحر، أن أضعفوا الدولة العربية ومزقوا أوصالها تمهيدا لقبرها، وهذا ما تم للوزير ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي، باستجلابهم للمغول وإغرائهم بالعرب ودولتهم، فقد كانا من ثمار التشويهات الفارسية المجوسية ومن حملة راياتها، يتشيعان لها ويسعيان لتحقيق ما كان أسلافهم يحلمون ويعملون على تحقيقه، متخفين تحت ستار حبّ آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهم منهم براء، فما أذاهم أحد مثلهم، حينما اتخذوهم ستارا لتشويه الإسلام وطمس معالمه وتقويض نظام حكمه، وما زالوا حتى يومنا هذا ينشطون في ذات المسعى وبتلك الوسائل حرباً على العرب والإسلام، لكنّ كسرويتهم ما عادت ولن تعود بإذن الله.

 

وفي عصرنا الراهن كان أهل العراق ضحية حبهم لعقيدتهم ولأمتهم وسعيهم لتحقيق وحدتها، وفاتتهم عِبَر التاريخ، وهم من أحرص الناس على درسه، بسبب نقاء السريرة فيهم، فقد سمحوا للمجوسي الخميني أن يقبع في جوار مثوى خليفة المسلمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يمكر بدينه وبقومه وبشخصه وبذريته الطاهرة أكثر من أربعة عشر عاما، ويعمل متسترا برداء حبهم وتقيته الماكرة على استعادة الإمبراطورية الفارسية المجوسية الكافرة، يسنده اليهود بأحابيلهم وغذاء حقدهم على العرب والإسلام، وهو المتسلح بذات المفردات التي تضمنها منهج أسلافه القذر، الرامي لمسخ الإسلام وطمس معالمه، بالمزيد من عمليات التشكيك بالقرآن والسنة النبوية، وتشويه عصر الرسالة بأبشع التهم والدسائس، حينما يصف صحابة رسول الله بالمنافقين والمتخاذلين عن الجهاد والمحرفين لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في كتب كان يسطر حروفها على أرض العروبة وفي عُقر دارها، فكان كمن يقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عاجزاً عن كل شيء، حينما يدعي أن كل صحابته ارتدوا وكفروا إلا ثلاثة أو سبعة، فبمن كان الرسول صلى الله عليه وسلم نشر دين الله في أرجاء المعمورة، غربها وشرقها.

 

في عام 1979م عاود الخميني باسم الإسلام وكما أراد البرامكة الفرس بجيشهم الذي أسموه جيش العباسية من قبل، فجيش باسم الإسلام وحب آل بيت النبي يريد غزو بغداد، تحت شعار تصدير الثورة الإسلامية، تحقيقا لمطامعه ومطامع الصهيونية، التي جاءت به إلى سدة الحكم الصفوي أو أوحت لأتباعها بذلك، أو على أقل تقدير سُرّت أيما سرور بمجيئه، فقد كان الصهاينة يسعون للخلاص من ثورة العراق وقادتها، لأنها بدأت منذ يومها الأول متجاوزة كل خطوطهم الحمراء، وقد وجدوا في الخميني الساعي لتحقيق ما لم يستطع تحقيقه كل أسلافه بكل دسائسهم ومكائدهم، فيما وجد هو في دعم الصهاينة والصليبيين فرصة لا تعوض، ليجتاح العروبة انطلاقاً من بوابتها الشرقية، معتقداً أن تستره بحب آل بيت النبوة سيعصمه من شيعة العراق على أقل تقدير، لكن الله تعالى قيض لصد أطماعه عباداً له أشداء فتصدوا لهجمته الكافرة بثمانية أعوام مجيدة في أحداثها ومواقفها وشجاعة رجالها، كانوا لمن توهم أنهم عونه وسنده اليد الطولى في التصدي لأحلامه الشعوبية العنصرية المريضة، وبددوا أحلامه على ثغور العراق الشرقية، فأكلته أحقاده عليهم حتى هوى، لكن أتباعه ما لبثوا أن تسلحوا بكل أحقاده ومعها أحقاد أسلافه ليقذفوا بها عاصفة صفراء بوجه العراق وأهله.

 

وكما استنجد الفرس بأعداء الأمة للإطاحة بنظامها السياسي وسلب إرادتها، حينما أغرى العلقمي والطوسي المغول بغزو عاصمة الخلافة العباسية وإسقاطها عام 656ه 1258م، ومارسا هما وأتباعهما الدسائس وكل أساليب الغدر لاستئصال شأفة الخلافة نهائيا، فقد عاد خلفهم لذات الفعلة الشنيعة، حينما راحوا يغرون قوى الكفر والطاغوت الصليبيين الجدد بغزو العراق، وجندوا لأجل ذلك أقزامهم الشعوبيين وجلهم من غير العرب، وحلفاء أمسهم ويومهم المتسلطين على رقاب الكرد شمال العراق جواسيس الصهيونية ومعهم حفنات من السراق واللصوص والخونة المدنسين والمأجورين بلا ثمن كالشيوعيين وغيرهم ليصوروا العراق كما أراد الغزاة الطامعين بهدف التصدي لثورته ومشروعها الحضاري الكبير، على إنه الشاة الواهنة في مربضها بانتظار سكين الجزار لتحتشّ رقبتها، ووفروا لهم الأسباب والمبررات الكاذبة، عن طريق تلفيق الأكاذيب وتزوير الحقائق حول مظلومية الشيعة والأكراد، وحول أسلحة الدمار الشامل، التي أرعبوا بها الشعوب الغربية وأفزعوها، فراحت تنثر ما في جيوبها ضرائب لغزوه وتدميره، وقد تحقق لهم ذلك في عام 2003م وانهالت عليهم مكارم الغزاة سخية فجعلوهم وزراء ومستشارين، وإن كان أغلبهم لا يجيد إلا اللطم والتطبير أو التشبه بالحمير، كما كافأ التتار سلفهم من قبل فجعلوهم وزراء ومستشارين، وملئوا جيوبهم وبطونهم بالسحت الحرام من خيرات العراق، التي كانت مُسخَّرة لبناء العراق ومتطلبات الدفاع عن الأمة ومقدراتها وحقها في معاودة مسيرة النهوض الحضاري.

 

-----------------------------------------------------------------------------

سورة الشورى، الآية:38.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص 349-350، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1978.

ابن هشام، السيرة النبوية، ص819-820، دار الكتاب العربي، بيروت 2005م.

ابن الأثير، مصدر سابق، ج4، ص110.

نفس المصدر، ج4، ص111.

نفس المصدر، ج5، ص49.

نفس المصدر، ص38.

اخبار الدولة العباسية، ص 285.

سورة التوبة، الآية: 30.

سورة طه، الآية: 88.

ابن الأثير، مصدر سابق، ج4، ص58.

سورة الفرقان، الآية: 5.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الثلاثاء  / ٢٠ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٤ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور