المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء الثامن ﴾

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الــعـربي

الفصل الخامس

محبة آل البيت وأكاذيب المجوس

 

اتخذ التشيع الفارسي من آل بيت النبي أداة لتحقيق أهدافه البعيدة كل البعد عن الإسلام وأهله، فالتشيع الفارسي ما هو إلا ردة فعل قومية عنصرية صرفة لفتح العرب لأرضهم ونشر الإسلام فيها بعد تحطيم إمبراطوريتهم القومية، ولم يجن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من حب الفرس الزائف إلا السوء والأذى والتشويه، كما بينا في الفصول السابقة.

 

فليس آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبٌ محبتهم فحسب، كما يتصور البعض، أو يوهم الآخرين به، فقد جعل الله سبحانه وتعالى من المحبة وما تفرزه من ألفة ومودّة ورحمة وتآزر ولين طبعٍ وانسجام أساساً يرتكز عليه حال الدنيا، والقاعدة المتينة التي تُبنى عليها وحدة المجتمع، الذي لا يشتد ساعده وتتحقق مراميه ومساعيه إلا بوجودها، فكل مسلم آمن قلبه وجب عليه حب أخيه المسلم، انصياعا لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ليحوز إحدى شُعب الإيمان، ولهذا فقد أفاض الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من رحمته بما جعله ليناً رحيم القلب محبا لأتباعه، وقد أثنى جلّ جلاله عليه بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(1) ورحمة القلب أصدق وأعمق مخابئ الحب، والله تعالى يبين لرسوله الكريم فضله وحكمته فيما أودع قلبه من رحمة ورأفة ولين، كيف لا وهو القائل له:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2) والرسول محمد صلى الله عليه وسلم قدوة المسلمين ومعلمهم، وسلوكه في حياته بعض سنته المطهرة وجانب منها، وجب على كل مؤمن الاقتداء بها، وفي هذا السلوك تزكية من الله جلّت قدرته، فهو سنة زكاها الله بكتابه العزيز.

 

أشكال المحبة وأهدافها

 

أمر الله تعالى رسوله عبده المؤمن وعلمه وهداه لأدق جوانب المحبة وأصدقها، أن يبسط وجهه للناس، تعبيرا صريحا عن المحبة والحنو والألفة، يعلمه بما ورد على لسان لقمان، بقوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}(3).

 

ووازن جلّ في علاه للمؤمن بين السعي للآخرة كما يسعى للدنيا ومتطلباتها، واشترط لسعي الدنيا عدم الإفساد في الأرض، فالإفساد فيها من مظاهر البغض والأحقاد وليس من مظاهر المحبة بأي حال من الأحوال، ففي خلافة عمر بن الخطاب وٌليّ التابعي سلمان بن ربيعة الباهلى قضاء المدائن وهو أول من قضى بالعراق، قيل استقضاه عمر بن الخطاب أربعين يوما فما شوهد بين يديه رجلين يختصمان لا بالقليل ولا بالكثير، من انتصاف الناس فيما بينهم(4) وفي هذا يقول تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(5) فاشترط لشكر إحسانه أن يُحسن للناس، حيث جعل بعد استحقاقات الآخرة عمل الدنيا ونهى عن الإفساد فيها.

 

وقد جعل الله المحبة بينه وبين عباده رباطا مقدسا وامتيازا واختيارا، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(6) وهنا ترابط دقيق لوجهي المحبة المتبادلة بين الخالق وعبده من جهة وبين محبته للمؤمنين، فجعل تذلل بعضهم لبعض إحدى سمات اختياره لمن يحب من عباده، والتذلل لا يكون إلا من قلبٍ مفعم بالمحبة الخالصة الصادقة والرحمة الواسعة.

 

وقد خص تعالى – بعد وجوب توحيده وعبادته - الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين والجار بأنواعه والصاحب وابن السبيل وما ملكت اليمين بنوع مميز من المحبة والحنو، ذلك هو الإحسان، فقال: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}(7) والإحسان خلاصته أنه أفعال محبة تعبيراً عن الحقوق والاحتياجات، وفي مقابل ذلك فقد ذمّ الخيلاء والفخر وكرّهنا بهما، لأن المختال والفخور يتصف بحب ذاته أكثر من أي شيء أخر، بل ويطاوع نفسه وهوى الشيطان فيكره ما سواها، وبذلك لن يكون قادرا مهما تظاهر أن يحب من ذكرهم الله تعالى في هذه الآية الكريمة فيفيهم حقهم أو يتكفل بمحبته قضاء حاجاتهم المتحتمة بفعل الصفة اللازمة لكل منهم.

 

وقد وصف الله تعالى هذه المحبة التي يُريدها لنا كمسلمين مؤمنين بأروع صورها في حال المهاجرين، فقال: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }(8) وقد اختص منهم الفقراء الذين أخلصوا الحبّ فصدقوا ربهم ورسوله، على ما فيهم من حاجة وعسر، وفي سلوك الأنصار، أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين هاجر وأصحابه إليهم، فأوسعوا لهم القلوب وأجفان العيون قبل الدور، واسترخصوا لهم كلّ غالٍ وعزيز وثمين، تعبيرا عن حبهم العظيم، فحازوا به الإيمان والفلاح، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(9).

 

وقد جعل الله تعالى من موجبات محبته لعباده المجاهدين في سبيله، إن عظموا الحب بينهم وأفشوه، في السرّ والعلن، في القول والعمل، في الظاهر والباطن، فيقول جلت قدرته: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (10) فكيف يكون البنيان مرصوصاً إن كان بين لبناته أدنى نُفرة وأعوجاج، ومع إن الجهاد واجب فرضه الله تعالى على المسلم فإن أحبه إليه ما كان مبنيا على حب المجاهدين بعضهم لبعض وتوادهم وتراحمهم فيما بينهم، فبالمحبة تقوى الشكيمة وتتعاظم القوة وتسري الشجاعة ويتحقق النصر، ويتيسّر كل عسير، لأن المقاتلين حينها وبالمحبة والرحمة والألفة التي تتطلب نكرانَ ذاتٍ وكبحٍ لهوى النفس، يكونوا كالجسد الواحد يستجمع قواه من كل قواهم وخبراتهم وشجاعتهم وبذلهم وإخلاصهم، وكل ذلك لا يتحقق إلا بالمحبة الصادقة المجردة من الأهواء والأطماع والأنانيات الضيقة ؟

 

كما جعل التقوى والإحسان أعلى مراتب الإيمان في تدرجه، مقرونة بمحبته سبحانه وتعالى، ومن أحبه الله فقد فاز ونجا وُسعد في دنياه وآخرته، فقد قال وقوله الحق: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }(11).

 

وقد أخرج المتكبرين من الفوز بمحبته بقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(12) ومعلوم أن الكِبر لا يكون إلا نتيجة لغلظة القلب واعتمال الكره فيه، فلا يمكن لمن يمتلأ فؤاده بالحب أن يتكبر، فالمتكبر مهما أسرَّ وأخفى وخادع فنفاقه مكشوف، والمنافق لا يحبّ ولا يُخلص حباً، فهو يحمل في داخله المتناقضات، والكره يغلب الحبّ ويحاصره إذا خالطه.

 

كما وعد من يسيء أو تُسره الإساءة للمؤمنين بعذاب أليم في الدنيا والآخرة، ولا يعمد إلى الإساءة أو يتمناها للمؤمنين إلا من يخلو فؤاده من حبهم، فيقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(13) ولا يفعل ذلك إلا منافق، خالط إيمانه الريب والشكّ، وهما لا يستقران في فؤاد محب صادق، أما الكافر فمحذورٌ جانبه وإساءته يدحضها معلومُ كفرهِ وعدائه للمؤمنين.

 

وحتى عند اقتتال المؤمنين فيما بينهم فإن واجب إخوانهم الإصلاح ممزوجا بأرقى معالم المحبة، فلم يُخرج سبحانه وتعالى الطائفة التي تبغي من صف الإيمان مع إنه أوجب قتالها، فوجوب قتالها من أجل إعادتها إلى جادة الصواب بالانصياع لأمر الله وحكمه، وذلك أرقى صنوف المحبة، أن تحمل السيف بوجه أخيك لتحميه من الزلل والشطط، وتعيده بالقوة إلى جادة الصواب، فقال:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(14).

 

كما نهى تعالى المؤمنين عن الضنّ والتجسس والغِيبة، وصور لهم الإتيان بما نهوا عنه بأبشع الصور، فجعل من يأتي بهذه الخصال المبددات للمحبة والمجليات لها عن مواطنها، والجالبات للبغضاء والأحقاد، وكأنه أقذر الوحوش التي تأكل لحم الميتة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(15).

 

وقد نهانا الله تعالى عن العداوة والبغضاء التي تُذهب المحبة، وجعلهما من إرادة الشيطان، فقال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(16) فالمؤمن لا يفقد محبته للمؤمنين إلا استجابة لوساوس الشيطان، ومن يتول الشيطان فقد خاب وهوى، وذلك مما يدلل بما لا يقبل الشكّ على أنه قد باء بغضب من الله تعالى، فقد عاقب النصارى لكفرهم وشركهم وتحريفهم لعقيدتهم بأن جعل العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة، بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(17) و عاقب اليهود بهما أيضا، لكفرهم وتقولهم على الله وإفسادهم في الأرض بزرعهم الفتن وإشعال نيران الحروب بمكرهم، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(18).

 

وقد استجمع الله تعالى كل خصال الخير وصنوف المحبة في نبيه صلى الله عليه وسلم وفي أتباعه من الذين آمنوا فصدقوا، بقوله تعالى:{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(19).

 

وهذا ابلغ تمثيل لصورة المسلمين المؤمنين الصادقين، فقد وصفهم ربهم بأهم خصائص الإيمان، ألا وهي الوحدة، بينها من خلال وقوفهم بوجه الأعداء والكافرين متوحدين، فيما بينها من جانب أخر بالمحبة التي تخيم على حياتهم يتوحدون بفعلها. وبذلك فقد جعل منهم سبحانه النموذج المشع، الذي ترنو إليه الأبصار والأفئدة للاقتداء والاهتداء، فالزراع هم رواد البناء والتعمير، وهي صفة المؤمنين المتوحدين، لأنهم يبنون الحياة بالمحبة والرحمة والألفة التي ينتج عنها العمل الصالح المثمر، فيما هم يغيضون الكفار بعملهم ذاك، لأن المحبة تنتج الوحدة، والوحدة تنتج القوة التي يغاض بها الكفار، فالكفار لا يسعدهم إلا تفرق المؤمنين كي ينالوا منهم وينتصروا عليهم، لأنهم لا يجيدون إلا الهدم والتدمير، وبالوحدة والمحبة لا ينالون شيئا.

 

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد استجمع لنا كل عرى هذا الحب بسيرته النبوية، وفصل لنا خصائصها وسماتها في أحاديثه الشريفة، وجسدها بعلاقاته ونظم بموجبها علاقات أصحابه وآل بيته الأطهار وسلوكياتهم في حياته وبعد فقده صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(20) وهذا قانون قطعي لا لبس فيه، فلا إيمان لمن لا يقتل الأنانية في نفسه، أو يحتبسها في جحرها، حين يطلب لها ما لا يرجوه لغيره من المؤمنين، وهو ليس قانونا للعدل فحسب وإنما يُعدّ أحد أهم دعائم عمارة الأرض واستقامة الحياة الدنيا، والسير فيها بما يفضي إلى مرضات الله التي تُنجي صاحبها من عذابه والفوز بمحبته وجنان خلده، فقد قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(21) فهل تُحاك الدسائس إلا بفعل خُبث النفس، وهي إن خَبُثت فلن تُنبت حُبّّا؟ وهل يبغي أحدٌ على أحد إلا بفعل هوى النفس التي تدفع بصاحبها لسلب ما ليس من حقه، والاستحواذ على ما لا يحلّ له ؟ وهل تتفرق الصفوف إلا بفعل هوى النفوس ورغباتها ومطامعها ونهمها للاستحواذ إن لم تروض بالإيمان بالله وحبه وحب رسوله والمؤمنين فتتطهر الروح وتستجيب لفطرتها؟ وعلى هذا فلا إيمان لمن لا يفيض حبه على غيره سواء بسواء.

 

والمؤمن لبنة في بناء عظيم، إن لم تتآزر لبناته فتسند إحداها الأخرى فلن يستقيم البناء ولن يصمد بوجه الريح، أو هو كورقة بين أوراق الشجرة وأغصانها، إن لم تتعاون وتأتلف في عملها لصنع الغذاء فلن تُثمر هذه الشجرة، ولن تُعطينا ظلاً ظليلا أو منظرا جميلا، وسيكون مصيرها التيبس والفناء، وهذا التشبيه ما هو إلا تقريب لصور المحبة إلى أذهان السامعين المقتدين، فعَنْ أَبِى مُوسَى رضى الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا". وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ .

 

وفي تمثيل رائع آخر لصور المحبة يقول صلى الله عليه وسلم: " تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِى تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(22) وهذا الحديث الشريف تأكيد على الوحدة المتماسكة التي أرادها الله تعالى، بل وأمر بها عباده المؤمنين بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(23) كما إنه صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيف يتحقق هذا التوحد وعدم التفرق، فاشترط له التراحم والمودة والتعاطف، وكلها من موجبات المحبة، كما إنها أيضا من نتائجها.

 

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ"(24) وفي هذا الحديث تفصيل وتخصيص لنوع الحب الذي يريد الله لعباده ليبلغوا بمقتضاه لذة وحلاوة الإيمان، فلا يُشركوا في منزلة حبهم لخالقهم شيء ثم حبهم لرسول ربهم صلى الله عليه وسلم، وتلكما منزلتين يجب أن تحاط بسور محكمٍ لا يخالطهما هوى النفس وأطماع الدنيا، ثم يُخلصوا حبهم للناس على غير مطمعٍ ولا منفعة ولا سمعة ولا رياء، وحينها سيكون حبهم هذا انصياعا لأمر الله واستجابة له وتعبير عن فطرتهم الإنسانية.

 

وكما أوجب للوالدين وغيرهم أنواع من المحبة اختصت بهم الإضافة إلى عموم المحبة، فكذلك كانت للأنصار محبة خاصة بهم، جزاء من ربهم وإقرارا من نبيهم بما تميزوا به في نصرته صلى الله عليه وسلم، ولما بذلوا من الحبِّ الخالص لله ولرسوله ولإخوانهم المهاجرين، فعن عَدِىُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ"(25) فكيف لمؤمنٍ لا يحبهم وهم أخلصوا لله حبهم، وأعزوا نبيهم به، وأوسعوا إخوانهم المهاجرين حباً أنساهم الأهل والمال والولد والديار؟ وهل يبغضهم إلا من أسلم لسانه وكفر قلبه فنافق؟ فعلى أي جريرة يستبيح المؤمن بغضهم، وهم أخلصوا لله ولرسوله والمؤمنين وبذلوا لهم أعظم الحب وأصدقه خالصا لله لا منفعة ولا مصلحة فيه، بل فيه الشدّة والتضحيات العظيمة؟ وعلى هذا فإن محبتهم دليل إيمان، والإيمان يُوجب محبة الله تعالى، وبغضهم دليل نفاق، لأنه تقويض للبنيان المرصوص الذي أمر الله به، وبُغض لمن أحبه الله، وهذا يوجب غضب الله ومقته وعذابه.

 

ولهذا ألحق الرسول صلى الله عليه وسلم كلٌّ بمن أحبه، فعَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قِيلَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ "(26) فمن أحب الله تعالى فقد أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أحبهما فقد أحب المؤمنين، فلحق بهم، ذلك لأن هذا الحبّ يدفع بصاحبه إلى الاقتداء وعدم المخالفة وإلا لما كان حبا.

 

ومع كل ما أسلفنا فقد خص الله تعالى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار بمحبة إضافية، {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}(27) عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ) قَالَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلاَّ وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ (28).

 

وعَنْ عَدِىِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ قَالَ عَلِىٌّ: وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ صلى الله عليه وسلم إِلَىَّ أَنْ لاَ يُحِبَّنِى إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضَنِى إِلاَّ مُنَافِقٌ(29) وهذا القانون لا تسري أحكامه، كما بينّا سابقا، على الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وآل بيت النبي وقرابته فحسب - وإن اختصهم بنوع منها كما اختص غيرهم - بل يسر مفعولها على جميع الذين اتصفوا بالإيمان دونما استثناء، وكما ورد في حديثه صلى الله عليه وسلم بشأن الأنصار: "آيَةُ الْمُنَافِقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ وَآيَةُ الْمُؤْمِنِ حُبُّ الأَنْصَارِ"(30).

 

والمؤمنون هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }(31) وسمى الله تعالى من المؤمنين المهاجرين والأنصار وفتح الباب لمن يأتي بعدهم فيتتبع آثارهم بإحسان فيستدل بهديهم طريق الإيمان، ذلك لأن الله تعالى قد زكّاهم برضاه عنهم، وهو أعلم بما تُكنّ الصدور وتُعلن، بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(32).

 

ومن هذا فقد وجبت محبة هؤلاء جميعا، وكلٌّ حسب ما اختصه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بنوع محبته وأجر إتيانها، ونهانا سبحانه عن التراجع والنكوص عما أمرنا به فقال جلّ في علاه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(33).

 

وقد حذرنا ونبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطر هذا النقض الذي سيتيه في غزله من تستهويه الفرقة بعد الوحدة واجتماع الكلمة، وقد تقدم ذكر حديث عبدالله بن عمر بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه نهيٌ بالغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة، فقد جعل ثمنها ضياع الوحدة، التي أمر الله تعالى بها، ضرب عنق من تُفضي نتيجة منازعته على الإمامة إلى التفرق وتصديع البنيان المرصوص، الذي أراد الله تعالى وأمر به، وإن لم يكن هذا هدفه ومقصده، ومن هنا تتبين أهمية وحدة الأمة وضرورتها، بل ووجوبها. ومن هنا يتضح أن المحبة لاتُفرض بغير موجباتها، فحبّ آل بيت النبي الأطهار ومن أوجب الله ورسوله محبتهم لا يتعلق بأنسابهم أو مواقعهم في المجتمع والدولة، إنما هو استحقاق يقابل فضلهم وإيمانهم وأعمالهم، وإلا لكان لأبي لهب كما لهم، فهو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، فالصلة بالإسلام والنبي لا ترتبط إلا بجنس العمل، وقياس القرب أو البعد عن العقيدة ومبلّغها  لا يصح إلا بالعمل.

 

والفتن وإن لم تُحدث في جدار وحدة المسلمين شرخا ظاهرا، فإنها تكون قد نخرت في أساسه، و لا يستقيم الجدار مهما كان متينا إلا بسلامة أساسه ورصانته، وهذا قطعا أخطر وأعظم أثرا من تصدع الجدار، فالصدع الظاهري يستحث ذوي الإرادة على إصلاحه وترميمه، فيسهل علاجه، لكن صدع الأساس خفيّ لا تظهر أثاره إلا وقد انهار الجدار بأكمله، وصار محالا حينها لأعمال الترميم والترقيع أن تُجدي نفعا.

 

ووفقا لهذا فالفتنة لا تنقضي حتى تُمهد السبيل لفتنة تليها، تكمل فعلها، حتى تنقضّ وحدة الأمة وتذهب قوتها أدراج الرياح، وكل فتنة تخلف بعض إفرازاتها، لتتراكم حتى تفقد الأصالة مواقعها أمام الدسائس والتشويهات ومحدثات الأمور، وهذا ما يجعل الإسلام اليوم غريبا بين أهله، والعروبة مسفوحٌ دمها بسيوف بنيها.

 

فمن أين جاءت الفتن، ومن بذر بذرتها، وكيف حدثت، ومن تجند لإشعال نارها، وكيف تلقفتها نفوس المسلمين وعقولهم الواحدة تلو الأخرى، كلما تخبو نار واحدة يُنفخ في رماد أخرى لتستعر من جديد، حتى نُخر الأساس، يكاد ينقضّ بكل بناءه فيهوي بتضحيات من نضحوا الدم والعرق وأخلصوا لله ورسوله والأمة بذلهم ؟ وكيف تحولت عرى المحبة والألفة والتراحم والتواد إلى قيود تأسر المعاصم وتحطم القلوب، وكيف تحول نقاء السرائر إلى بغض وأحقاد توغر القلوب وتستحثها على كل ما يغضب الله ورسوله ومن صدق إيمانه ؟

 

بذور الفتن

 

لقد حذرنا الله تعالى من الفتن وسمى لنا الذين يسعون لزرعها بيننا، كما حذرنا من الذين لم يستقر الإيمان بعد في صدورهم فيسمعوا لهم ويطيعوا، فيكونوا التربة التي تُنبت هذا الزرع الخبيث، فقال تعالى شأنه: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }(34) وبين لنا استعدادهم وحماسهم لولوج الفتن وتسربلهم بها، فقال: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}(35)

 

ووصف النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم المنافقين بقوله: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"(36).

 

ومن هنا يتضح جلياً أن المنافقين هم الأدوات التي يحاول بها الكفار والمشركين، من يهود وصليبيين ومجوس تهديم وحدة المسلمين، عن طريق إلصاق التلفيقات والتشويهات وافتراء الأكاذيب وحبك السائس على الإسلام وأهل راياته العرب بما يجعل من شكلهما المشوه مصدرا للفرقة وليس للتوحد كما أراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكلٍ منهم أهدافه ومراميه وأغراضه.

 

بوفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تحول النفاق وأهله من حال إلى حال أخر، فقد انتقلوا من مرحلة النفاق الخفي المتستر إلى مرحلة النفاق المعلن المفضوح، وقد أشار إلى ذلك الصحابي الجليل حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ حَيْثُ قَالَ: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ"(37) والمنافق يُخشى على الإسلام والمسلمين منه أكثر مما يُخشى من الكافر والمشرك، ذلك لأنه يرتدي ثوب الإسلام ويخترق الصفوف به، على العكس من الكافر والمشرك فإنه محذور الجانب، يتحصن المسلم منه بكفره الواضح فيخالف إرادته، كما أمرنا الله ونبهنا رسوله صلى الله عليه وسلم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنِّي لا أخافُ عَلى أُمَتّي مؤمنَا ولا مشركا، أمَّا المؤمنُ فيمنعهُ اللهُ بإيمانهِ، وأّمّا المشرِكُ فيَقمعُهُ اللهُ بشِركهِ، ولكنِّي أخافُ عليكم كلَّ منافقِ الجنانِ عَالم اللِّسان، يقولُ ما تَعرفونَ ويفعلُ ما تُنكرون"(38) ولقد كان المانع للفتن أن تُنبت في جسد المسلمين خلال خلافتي الصديّق والفاروق رضي الله عنهما، أن الثغرات قد سُدّت بوجه المنافقين فما أنبتت لها بذرة، حتى كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتكالب بعض بني أمية وغيرهم على الدنيا، فمهدوا الأرض لتُنبت فتناً متواليات، فهذا اليهودي عبدالله بن سبأ - ابن السوداء- القادم من اليمن، إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مدعياً الإسلام، قد أوفده اليهود إليها بعد أن تمت عملية إعداده ليقود أخطر الفتن وأعظمها تأثيرا في الإسلام، وقد أحسنوا الاختيار، فكان بارعا في دسائسه ومبهرا في جدله لكل من لم يستقر الإيمان بعد في نفسه، فوجد لهمسه أذاناً تُصغي، وقلوبا ضعيفة تهفو، وعقولا موبؤة تمرض بكل علة، فبذر بذرته اللعينة وأنبتت، فكان هذا اليهودي الماكر يمهد الطريق بشحن صدور من يختارهم بعناية فائقة يلفت أنظارهم إلى أخطاء حدثت هنا وهناك في أمصار الدولة التي اتسعت وترامت أطرافها وأقبلت الدنيا بنعيمها على أهلها، يضخمها ويهولها، ثم ينحرف بعدها إلى مبتغاه الأساس، النيل من قادة المسلمين وحداة مسيرتهم، فقد تعلم اليهود أن الفتن التي أُثيرت خلال الفترة التي تلت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قد فشلت جميعها وقُبرت بفعل وحدة المسلمين وتلاحمهم مع قيادتهم المتمثلة بالخليفة وأهل الشورى وأمراء الجهاد والأمصار، ولأجل هذا فقد اقترن الطعن في خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه بدعوى أحقية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة، وابتدع لها فكرة مستوحاة من اليهودية في قولهم بيوشع بن نون بعد موسى عليه السلام، ليقول أن نصاً إلهياً نزل بهذه الأحقية ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم في غدير خم، وبهذا فقد أراد اليهود القضاء على خليفة المسلمين، ومعه أبرز قادتهم وأعلمهم وأصلبهم إيمانا وأحقهم بالخلافة بعد عثمان بن عفان، ذلك هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، والذي يتمعن بأحداث التاريخ ببصيرة فإنه سيجد كلامنا هذا حقيقة لا غبار عليها، وبخاصة عندما تُدرس الأحداث التي رافقت كل خلافة الإمام علي بن أبي طالب والعثرات التي وُضعت في طريقه بكل عناية وتخطيط، فلا يمكن لتلك الأحداث أن تكون عفوية على الإطلاق، إذا ما نظرنا إلى نتائجها ومدى انسجامها مع ما أراد اليهود والنصارى ومن تجنّد في صفهم من الفرس تحديداً، وهذه أيضا حقيقة، فالفرس منذ أن تمزقت إمبراطوريتهم وذهبت ريحها بنتائج معركة القادسية الأولى، تغلغلوا في أوساط الدولة العربية الإسلامية حتى كثرت أعدادهم في عاصمتها، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وباشروا بالكيد والمكر بالإسلام والمسلمين، وخيرُ شاهدٍ على ذلك هو قيام الفارسي المجوسي أبو لؤلؤة باغتيال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسبقوا اليهود في أخطر عملية استهدفت وحدة المسلمين وفتحت باب الفرقة على مصراعيه، إن لم يكونوا هم من أوحى لهم بها، فلم تكن فتنة اغتيال الخليفة عثمان بن عفان هي السابقة التي جرأت الناس على أحد أهم ركائز وحدة المسلمين وقوتهم، بل كانت فعلة المجوس، وما فتنة اغتيال الخليفة عثمان ثم الخليفة علي رضي الله عنهما إلا نتيجة تجرؤا الفرس قبلهما على الفاروق، وهذا ما ساعد اليهود في أن يجدوا الأداة الأقدر والأقذر على تنفيذ فتنهم ونشرها، خاصة وأن المجوسية واليهودية تتشابهان في الكثير من الخصائص، بل وتنفردان ببعضها دون سواهما، كما إن أهدافهم في هذا واحدة، ألا وهي القضاء على الدين الذي مزقت أوصالَهم دولتُه.

وبهذا فقد نجح اليهود والنصارى والمجوس في زرع أخطر الفتن وأشدها على العرب والمسلمين، تلك هي البغضاء والأحقاد التي حلَّت رويداً رويدا محل المحبة والألفة والمودة والرحمة التي تماسك الجسد الإسلامي بها وساد، لكنهم ضلوا يتعثرون في طريقهم حتى بداية القرن الرابع الهجري، وتحديدا بعد عام 260ه، تاريخ ما سمي بالغيبة لآخر أئمة الشيعة محمد بن الحسن العسكري (المهدي) فلقد كان الإمام علي وأولاده من بعده بالمرصاد يفندون كل دسائس اليهود والمجوس ويردون على أكاذيبهم وافتراءاتهم عليهم وينفون عن أنفسهم ما كانوا يلصقون بهم من أحاديث كاذبة يُراد بها تشويه الإسلام وتمزيق صفه وتقويض بنائه، ولم تكن الشيعة حتى ذلك العام سوى فرقة إسلامية تعتقد بأحقية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة، وما سواها فهي لا تمت بصلة للمتشيعين بأي حال من الأحوال بعد تلك الفترة إلا في تسترهم بحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نجحت دسائس اليهود وخبث المجوس في استغلال محبة الرسول وآل بيته الأطهار أبشع استغلال فأساءا باسمهم للقرآن وللرسول ولصحابته وأزواجه، وأساءا لآل بيت النبوة الطاهر أيما إساءة في خضم نواياهما وأهدافهما القذرة، فقد كانت الفترة التي تلت عام " الغيبة" قد شهدت البداية الجديدة لعهود الانحراف الكبير.

 

أهم مظاهر الإنحراف

 

بعد عام 260ه برزت مظاهر خطيرة للانحراف عن ما كان يعدُّ تشيعا بعد أن أخلوا الساحة من رادٍ عليهم يفند أكاذيبهم، فالإمام قد غيبوه وليس لغيره حقٌ في الرد عليهم، حتى صار ما اختلقوه من دسائس في تلك الفترة دستورا ومنهجاً للتشيع الذي أرادوا:

 

القول بالنص والوصية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما تبعها من إدعاءات بتحريف القرآن وتشكيك المسلمين في محكم التنزيل لإفقادهم دستور دينهم ودنياهم، بدعوى قرآن فاطمة وأنه يعدل ثلاثة أضعاف القرآن الذي بين أيدينا، ليس فيه حرف واحد منه، والصقوا هذه الافتراءات بالإمام جعفر الصادق، فاتهموا الإمام علي بمخالفة أمر الله ووصية رسوله كما لفقوا، ثم حاولوا إزالة التهمة ليقعوا في أسوأ منها حينما قالوا سكت عنها تقيةً فاتهموه بالجبن، حاشاه من الجبن أبا الحسن، فهو من أشجع العرب والمسلمين إن لم يكن أشجعهم على الإطلاق، وهو الصلب على الحق، وهو المفند لدسائسهم بقوله: " إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يَرُدّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسموه إماما كان ذلك لله رضىً، فإن خرج من أمرهم خارجٌ بطعنٍ أو بدعةٍ ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى"(39) وبهذا فهو لم يقل بنصّ ولا وصية، إنما هي الشورى، قانون ربّ السماء.

 

الإدعاء بمخالفة جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنص الإلهي ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم في حصر الخلافة بعلي بن أبي طالب، باستثناء اثنين أو ثلاثة منهم، ومن ثم تكفيرهم ونعتهم بما لا يليق بمسلم، والتعريض بهم وسبهم، مستهدفين منهم بالتخصيص من تولوا أمر المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبداية لعملية متواصلة في تقويض عرى الوحدة ومصادر قوتها ومنعتها، من خلال استهدافهم لأعزّ وأهم هذه العرى، قياداتهم ورموزهم، معرضين بذلك عن قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(40) والتجرؤ على أمهات المؤمنين اللاتي قال تعالى فيهن: { يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً*وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(41).

 

جعلهم الإمامة من أصول الدين فأضافوها إلى التوحيد والنبوة والمعاد، وبذلك فقد أساؤا للإمام علي قبل غيره في تخليه عن أصل من أصول الدين كما زعموا.

 

إظهار فكرة عصمة أئمة الشيعة، وتلك مناقضة صريحة للقرآن الكريم، كتاب الله تعالى، فلا عصمة إلا للأنبياء والرسل بحدود التكليف، وقد نبه ونهى وصحح لنبيه صلى الله عليه وسلم في آيات عديدة، فكيف يُعصم من هو دونه؟ لكنها كانت دسيسة أُريد بها تمرير الأكاذيب التي ذُكرت في الفقرات السابقة على أنها وردت في أحاديث الأئمة المعصومين وبخاصة محمد الباقر وولده جعفر الصادق عليهما السلام، ولكي لا تُناقش هذه الأقوال أو تُعرض على الكتاب والسنة فتُرفض أحاطوها بمفهوم عصمة الإمام.

 

إظهار فكرة الغيبة، وهي التي أرادوا من خلالها منع كل من ينتسب لآل بيت النبوة من تفنيد أكاذيبهم وفضح دسائسهم كما كانوا يفعلون قبل ذلك، فقد قالوا إن جعفر الصادق يوجب سبّ خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فردهم بقوله كيف أسبه – يعني أبا بكر – وقد ولدني مرتين؟ فقد جعلوا من خلال مفهوم الغيبة وما ترتب عليه من لجم أفواه آل البيت حاميا لهم من تكذيب دسائسهم فألفوا خلال القرنين الرابع والخامس كما هائلا من التلفيقات والأكاذيب تقولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المزورة، واستهدفوا كتاب الله بالتحريفات المنكرة، كلها تهدم في جدار وحدة المسلمين وتقوض من دعائم دولتهم وتشوه في دينهم فاختلفوا فيه حتى استشرت الفتن فاقتتلوا فتفرقت كلمتهم وضعُفت شأفتهم فأسندوا ظهورهم لكل طامع وصاحب غرض، وتآكلت أطراف دولتهم وطمع بهم من كان يخطب ودهم ورضاهم.

 

إظهار فكرة التقية، هذا المفهوم الذي يتناقض كليا مع مبادئ الإسلام، ويتقاطع مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، ويتنافى مع سلوك وسيرة أصحابه وآل بيته الأخيار، ويسيء أعظم إساءة للإمام علي، الثابت على الحقّ، الرجل الذي ما خالفت سريرته علانيته مرة على الإطلاق، هذا المفهوم الذي يُعدّ وجها أنيقاً للنفاق والكذب والخداع الذي جعلوا من ظاهره التملص والتخلص من العقاب والبطش، لكنه في حقيقته هو استجابة لنوازع الشرّ التي تُخفيها مكائدهم ضد الإسلام والمسلمين وبخاصة حملة راياته العرب، فيضيع تابعهم بين حقيقتهم وتقيتهم كي لا يكتشف جوهر أهدافهم.

 

ألصقوا طقوساً غريبة على الإسلام في مذهب الشيعة الذي حرفوه عن مساره وانحدروا به إلى مهاوي اليهودية والمجوسية، فاكتملت مراحله بالصفوية وطقوسها وتقاليدها، مثل شدّ الرحال لمراقد الأمة طوافا وإشراك بالله في وُضح النهار، بأكاذيب ألصقت بآل بيت النبوة مفادها أن زيارة قبر الحسين الشهيد رضي الله عنه تعدل خمسين حجة تامة، والطلب منهم ماهو من اختصاص الله وحده، وتمييز الأذان للصلاة بإضافة عبارات دخيلة لا تمت بصلة إليه لم يُقرّ بها أحد من آل بيت النبوة، إنما هي وسائل للتخفي تحت شعار محبة آل البيت تشويها لهم ولدينهم وتمزيقا لمجتمعهم ليس إلا، وفرية المتعة، ستار الزنى الذي نهى الله عنه بصريح آياته، والتهاون في أهم شعائر المسلمين وعباداتهم، الصلاة التي خالفوا الإمام علي رضي الله عنه فجمعوا أوقاتها ليضيع فضلها، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهم يريدون للشيعة أن تشيع فيهم الفاحشة أكثر فأكثر، فليسمعوا قول الإمام الذي يدعون محبته وتقليده يقول في مواقيت الصلاة في كتاب له إلى أمراء البلاد:" أمَّا بعد فصلُّوا بالناس الظُّهرَ حتى تفئَ الشمسُ من مربضِ العنزِ، وصلّوا بهم العصر والشمس بيضاء حيَّةٌ في عِضوٍ من النهارِ حينَ يُسارُ فيها فرسخان، وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم ويدفع الحاج، وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل، وصلوا بهم الغَداة والرجل يعرف وجه صاحبه" (42) ولم يقل اجمعوا الظهر والعصر أو اجمعوا المغرب مع العشاء، كما يفعلون ويصرّون على فعلهم.

 

لقد كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أول ضحايا أدعياء التشيع، فبدل أن يواصل مسيرة الخلفاء الراشدين الذين سبقوه في إرساء أسس الدولة العربية الإسلامية التي ترامت أطرافها، ويواصل الفتوحات، كانت فترة خلافته قد أشغلتها حروب طاحنة مع أطراف من المتشيعين له دون سواهم، فبني أمية كانوا بالأمس يشايعونه ويحرضونه على الدماء بدعوى زعامة قريش وأحقيتهم بها من التيمي والعدوي، والمتشيعين الجدد من أتباع ابن سبأ الملطخة أيديهم بدماء الخليفة عثمان بن عفان قد افسدوا عليه الصلح الذي ابرمه القعقاع بن عمرو التميمي مع أصحاب الجمل فأكثروا أعداءه واوهنوا قوة جيشه، ثم جاء دور قسم أخر من المتشيعين له وهم ما سموا بالخوارج ليشهروا سيوفهم ويفتكوا بالمسلمين في كل ارض وطئتها أقدامهم بعد أن كفروا الخليفة المتشيعين له بالأمس وأخرجوه من ربقة الإسلام، ثم جاء دور من تبقى منهم ليزيدوا الوهن وهنا، حتى دعى ربه تعالى قائلا: أبدلني خيرا منهم وأبدلهم شرٌّ مني، فلم تحفل فترة خلافته رضي الله عنه بما حفلت به خلافة من سبقه من منجزات إلا الدماء التي أراقها وتسبب بها مدعي التشيع له، ثم جاء ولده الحسن فأذاقوه المرَّ الذي أذاقوا والده من قبل حتى اضطروه للتخلي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، ومن بعدها كانت جريمتهم النكراء في استدراج الحسين بن علي رضي الله عنه إلى الكوفة حيث معقل المتشيعين ثم نكثوا وغدروا به فقتلوه وأهله أبشع قتله، وتوالت دعوى التشيع التي استغلها الفرس أبشع استغلال حتى يومنا هذا تشوه صورة آل بيت النبوة قولا وفعلا، وتحرف إرثهم وتحوله إلى أكاذيب ودسائس وافتراءات، تتقول عليهم ما تأبى نفوسهم الزكية الطاهرة قبوله، وتمارس كل فعلٍ يناقض أفعالهم ويقاطع نهجهم وصدق إيمانهم.

 

وبهذه المكائد والدسائس فقد تمكنوا من تشويه صورة المذهب الشيعي الذي كان كسائر المذاهب الأخرى، يتفق معها على سائر الثوابت، ويجتهد، حاله كحالها فيما يسمح الاجتهاد به، فحولوه إلى حالة مناقضة ومتقاطعة تماما مع كل مذاهب المسلمين واجتهاداتهم، وجعلوا منه حالة تعويق وتمزيق لوحدة المسلمين، وتوظيفه كأداة بيد أتباعهم، يضربون به الإسلام بكل دسيسة، والطعن في أهم وأعز وأرقى مراحل تكوينه التشريعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمزيق النسيج القيمي لهذه الأمة، وتشكيكها في كل ثوابت دينها ومناهج حياتها، ففرقوا شملها وبددوا أسباب قوتها وأطمعوا الأعداء فيها، كيف لا وقد سلبوها المحبة الصادقة بين أفرادها، أساس إيمانها وقاعدة قوتها ومنعتها، وزرعوا بدلاً عنها الجدل والشحناء والتناحر وفتاوى التكفير التي جرّت إلى التباغض والأحقاد.

 

ولقد منَّ الله تعالى على هذه الأمة ففضح كل هذه الدسائس والأكاذيب التي تعاونت على زرعها الصهيونية اليهودية والصليبية والمجوسية الفارسية على أرض العراق بعد احتلاله من قبل حلف الأشرار عام 2003م، وكشف كل مستورها والمتخفي بقناع تقيتها، فهل يصحوا العرب مما هم فيه؟ وهل يتوقف الشيعة العرب عند كل هذه المكائد فيعودوا لحقيقة تشيعهم بعد أن يطهروه من هذه الأحابيل اليهودية والمجوسية التي جعلت منه جسدا لا يملك من الإسلام إلا ثوبه؟

 

فما عاد لأحد عذرا، بعد أن تكشفت كل الحقائق وظهر الأدعياء على حقيقتهم بلا تقية، فقد أمنوا بسطوة علوج الكفر والنفاق، فليس عسيراً على أحد، وقد لا يحتاج مزيدَ فَهمٍ وعلمٍ أن يُقارن بين سيرة الإمام علي رضي الله عنه وسيرة أولاده من بعده وبين سلوك هؤلاء الأدعياء الذين خالفوا سيرة من يدّعون زورا وبهتانا حبهم وموالاتهم في كلِ تفاصيلها، فقد ناقضوهم من ألفهم إلى يائهم، فهل بعد هذا يتردد الحائر ولا يكفر بكل افتراءاتهم وأكاذيبهم ودسائسهم، ويشمّر للجهاد في سبيل الله ساعدا؟ الجهاد الذي أفتى دهاقنتهم ومعممي شياطينهم بحرمته وشرّعوا لذبح المجاهدين والمدافعين عن أرضهم وعرضهم ودينهم وشرف حرائرهم قوانين لم يستحوا من الله أن استهلوها باسمه زورا وبهتانا، كما أحلوا اغتصاب أرضنا وقتل شبابنا واغتصاب حرائرنا ونهب خيراتنا من كافر لا يكتم كفره بل ويجاهر بحربه على الله ويسخر برسوله، وكما حاربوا الله بتولي الكافرين الذين نهى عن توليهم فجاءوا خلف دباباتهم.

 

وهل يعود عباد الله كما كانوا، وكما أراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار إخوانا متحابين متراحمين يشدُّ بعضهم بعضا؟

 

----------------------------------

سورة آل عمران، الآية: 159.

سورة القلم، الآية: 4.

سورة لقمان، الآية: 18.

الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج9.

سورة لقمان، الآية: 18.

سورة المائدة، الآية: 54.

سورة النساء، الآية: 36.

الحشر، الآية: 8.

سورة الحشر، الآية:9.

سورة الصف، الآية:4.

سورة المائدة، الآية: 93.

سورة النحل، الآية:23.

سورة النور، الآية:19.

سورة الحجرات، الآية:9.

سورة الحجرات، الآية:12.

سورة المائدة، الآية:91.

سورة المائدة، الآية:14.

سورة المائدة، الآية:64.

سورة الفتح، الآية: 29.

متفق عليه.

سورة التوبة،الآية: 100.

متفق عليه.

سورة آل عمران، الآية:103.

صحيح البخاري.

متفق عليه.

متفق عليه.

سورة الشورى، الآية:23.

رواه مسلم في صحيحة- المناقب.

رواه مسلم في صحيحه- الايمان.

صحيح مسلم-الايمان.

سورة الحجرات، الآية: 15.

سورة التوبة، الآية:100.

سورة التوبة، الآية:100.

سورة التوبة، الآية:100.

سورة الأحزاب، الآية: 14.

متفق عليه.

صحيح البخاري- الفتن.

نهج البلاغة، محمد عبده، ج3، ص29، مطبعة بابل 1984، بغداد.

المصدر نفسه، ج3، ص7.

سورة التوبة، الآية:100.

سورة الأحزاب، الآية: 32، 33.

المصدر نفسه، ج3،ص82.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين  / ١٩ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٣ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور