المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء السابع

 
 
شبكة المنصور
حــديـد الـعـربي

الفصل الرابع

ثورة الحسين وحقيقة التشيع

 

لقد كانت ثورة الحسين بن علي عليهما السلام والتي انتهت بفاجعة كربلاء في 10 محرم 61ه - 680م واقعة تاريخية تدحض كل الزيف الذي انطوى عليه التشيع الفارسي وعقائده جملة وتفصيلا، فالحسين لم يكن بثورته يطلب ثأراً أو إرثاً أو حقاً مغتصبا، كما يدعون، بل كان يتصدى للانحراف الذي تشكلت من خلاله خلافة يزيد بن معاوية، فالخلافة قد انحرفت عن الشورى إلى وراثة العائلة الملكية، وهذا لم يكن في منهج الإسلام، ويزيد بذاته لم يكن الأصلح لهذا التكليف، إن لم يكن غير صالح له بكل المقاييس والاعتبارات، إلا بالعرف الروماني والساساني الملكي التسلطي، خاصة وانه كان يسعى بكل ما يملك من قوة على إرغام الآخرين لقبول بيعته وملكه والتسليم له وليا للأمر، رغم عدم شرعيته وانسجامه مع مبادئ الشورى العامة.

 

ولم يكن الحسين بن علي هو الرافض الوحيد لذلك الواقع المنحرف، فقد شاركه في ذلك الرفض خيرة أبناء الصحابة المتصدرين في ذلك الحين لمجتمع المدينة المنورة؛ إيماناً وعلماً وعدلاً وقدرة على القيادة، وهذا الأمر لم يكن باجتهاد منهم، إنما هو استجابة لأمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كانت وسائلهم تختلف من واحد إلى آخر.

 

ولو كان الحسين طالباً للسلطة وطامعاً بها لمجرد كونها حق ورثه عن أخيه الحسن لكان تصرفه يختلف كثيراً عن السلوك الذي اتبعه في رفضه لبيعة يزيد القسرية، وفي مسيره إلى العراق، فكان عليه الاقتداء بسنة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيستدعي رؤساء القوم إليه ويعقد بيعتهم له، ويأخذ منهم المواثيق على منعه ونصرته، كما فعل جده في بيعتي العقبة الأولى والثانية قبل أن يهاجر إليهم، ولكان قد استصحب معه أهل النجدة والحرب ممن كانوا ينقطعون إليه من أهل الحجاز، ولاستبعد من مسيره النساء والصبيان حتى تستقر الأحوال وتضع الحرب أوزارها، وكما فعل جده في هجرته المباركة أيضا، ولكان لم يقصر دعوته على أهل الكوفة، فله أنصار ومريدين في كل الأمصار الأخرى؛ في البصرة ومصر واليمن والجزيرة العربية، لكنه في الحقيقة لم يفعل كل هذا، بل استنفر أغلب أهله ورافقه بضع أنفار من غيرهم.

 

إن التشيع الفارسي بُني على أسس، كان على رأسها، حصر ولاية أمر المسلمين بالإمام علي بن أبي طالب وذريته من بعده دون غيرهم من المسلمين، فزعموا لذلك نصاً ووصية، ثم ادعوا أن الإمام علي والأئمة الذين سموهم من بعده ورثوا علم ما كان وماهو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، اختصهم به دون سواهم، يرثه كل إمام عن الإمام الذي يسبقه، وهم معصومين من الخطأ.

 

وهذه الأسس جميعها تنهار بحادثة استشهاد الحسين بن علي عليه السلام في فاجعة كربلاء الشهيرة، فهو ثالث هؤلاء الأئمة المعصومين، والإمامة من بعده محصورة في ذريته دون ذرية أخيه الأكبر الحسن، فهو في منهجهم معصوم من الخطأ والزلل، ويعلم ما هو كائن وما سيكون، قبل مسيره إلى الكوفة بناءً على دعوات شيعته له، وهو على ذلك لا يحتاج لمسلم بن عقيل كي يبعث به إلى الكوفة قبل مقدمه عليها، كي يتحقق من صدق دعوتهم، ولا يحتاج لمن يسأله في الطريق، كما فعل مع الشاعر الفرزدق حين لقيه في الطريق وسأله أن يبين له حال أهل الكوفة، فيجيبه: من خبير سألت، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.

 

ولو كان يعلم ما سيكون فلا يحلُّ له جمع عياله وأهله؛ كبيرهم وصغيرهم مع النساء ليلقي بهم في أتون أبشع مجزرة نفذتها شيعته ضدهم في واقعة كربلاء، فيكون قد أسلمهم لحال لا يمكن لمثله أن يرتضيه مهما كانت المبررات والتفسيرات، وإن كان لا يملك قدرة تعطيل قضاء الله وقدره مع علمه به، فما كان عليه استصحاب النساء والصبيان الذين روعوا وانتهكت حرمتهم وأُذِلوا أيما إذلال وأُهينوا أيما إهانة من عبيدالله بن زياد وجنده، وممن اشرأبت أعناقهم في الشام يريدون سبي نسائه، ناهيك عن مشاهد القتل والتمثيل بجثث الشهداء، وهم آباؤهم وإخوانهم. ولا أحد يمكنه القول أن الحسين عليه السلام كان يتخذ من عياله ستراً من الموت، فهو رضي الله عنه أجلُّ من أن يُتهم بهذا، وهو الشجاع المقدام الثابت على الحق كجده وأبيه وأخيه.

 

لذا فهو لم يكن معصوماً عصمة الأنبياء في تبليغهم لرسالات ربهم تعالى، ولم يكن يعلم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله، أما علم الأنبياء بالحوادث والأحوال، فهو مما يوحي به الله تعالى لهم عن طريق الوحي تثبيتاً لهم، ولأهداف تستوجب التبليغ والإذاعة لأن فيها مقاصد ربانية محددة، وفيها بشارات للمؤمنين وتحذيرات من الانحراف، كجزء من معجزات النبوة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدخر شيئاً منها ليجعله سراً يختص به آل بيته دون سائر المسلمين، ففي ذلك مخالفة صريحة لمهام التبليغ، ورسالته للناس كافة وليست محصورة بقوم أو قبيلة أو عائلة.

 

وهي لم تكن كذلك طلباً لحقٍّ مقدس مغتصب، كما يصفها الفرس، إنما هي استجابة لنداء استغاثة ممن تصورهم أوفياء وصادقين ويملكون العزيمة والهمة على النهوض بأعباء التصدي لواقع الانحراف وتصحيح مساره، فلو كان كذلك لكان الحسين، وهو الناشئ في مدرسة النبوة والخلافة، نهل من تجاربها وخبراتها ما يجعله يتصدى بطريقة تختلف كلياً عن الطريقة التي تصرف بها خلال توجهه صوب الكوفة.

 

فكان سيقوم على أقل التقديرات بتشكيل هياكل تنظيمية لإدارة المواجهة، وإن كان تشكيلاً أوليا، وكان سيقوم بتهيئة شكل من أشكال الحكومة لتمارس تصريف الأمور وقيادة الرعية باختصاصاتها المختلفة، وذلك كان يتطلب، كما أسلفنا، استدعاء وجوه الثائرين وأصحاب الرأي فيهم وأخذ بيعتهم قبل المسير إليهم، خاصة وأنه يملك خبرة كاملة عن طبيعة سلوكهم خلال فترة خلافتي أبيه وأخيه من قبل، وكان سيقوم بتسمية من يكلفه بمهمات التعبئة والقيادة وإدارة صفحات الصراع، وكل هذا لم يحصل، مع إن الحسين عليه السلام لم يكن بدوياً قادما للتو من الصحراء، إنما كان يملك خزين خبرات هائلة، حيث تشكلت الدولة العربية الإسلامية أمام ناظريه وعن قرب شديد، فقد كان قريباً من جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونشأ في خضم تكوين الخلافة الراشدة بكل مفرداتها، لم يفترق عنها يوما واحداً، وقد كان أخرها خلافة أبيه التي قضى معظمها في الكوفة، وله معرفة مستفيضة بخذلانهم لأبيه وعنادهم وخلافهم له حتى ملهم وملوه، ثم طالته من بين صفوفهم يد الغدر والإجرام، ثم عايش خلافة أخيه الحسن ستة أشهر، وشاهد كيف ثارت هذه الشيعة به في المدائن يوم أراد التصدي لمعاوية، فنهبوا متاعه ونازعوه بساطاً كان تحته، ثم غدر به الجراح بن الأسد وهو يسير معه حين طعنه بخنجر في فخذه بقصد قتله، وهو أيضاً من شيعتهم.

 

وفوق هذا فقد نبهه إلى ذلك المشهد الذي كان ينتظره في مسيره إلى الكوفة أكثر من واحد، منهم أخيه محمد بن الحنفية وعبدالله بن عباس، الذي اقترح عليه أن يكتب إلى أهل الكوفة قبل مسيره أن ينفوا عنهم أميرهم الأموي إن كانوا صادقين وجادين، ولحق به عبدالله بن جعفر الطيار بأمان الأمير الأموي، وقد سبقهم إلى ذلك الأمر عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي بقوله: قد بلغني انك تريد المسير إلى العراق، وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلداً فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك بالنصر ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه، وعاد عليه ابن عباس بالقول: إن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك؛ فو الله إني لخائف أن تُقتل كما قُتِل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه.

 

فكيف كان سيقتحم على أمير الكوفة عبيدالله بن زياد سلطانه إن لم ينهض أهلها فيعزلوه أو يجردوا له السيف فيطردوه أو يقتلوه؟

 

والغريب في حادثة استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما ليس الوحشية التي اتسمت بها سلوكيات عبيدالله بن زياد وجنده ومن خلفهم يزيد بن معاوية، فهم ورثوا العداوة وانتهاك الحرمات والتجاوز على ما هو ليس بحق لهم، فقد شبوا على ثقافة غاية في السوء والانحطاط، فعلي بن أبي طالب مع كل الذي فعله سعياً للم شمل الأمة ومنع فرقتها، فقد كان يسبُّ ويشتم وتشوه صورته طيلة عشرين عاما على المنابر، وممارسة ذلك العمل كان سبباً كافياً كي يحتفظ العامل بعمله، وكذلك فعلوا مع الحسن بن علي مع إنه تسامى على الجراح والآلام فتنازل لمعاوية بالخلافة حقناً لدماء المسلمين، وأملاً بوحدتهم واجتماع كلمتهم، لكنهم جازوه بالمزيد من السب والشتم والتكفير والتشويه، لكن العجب من الذين تسببوا بمجيء الحسين بن علي إلى العراق ثم كانوا السبب والأداة التي فتكت به وبأهله، فالذين بايعوا مسلم بن عقيل مبعوث الحسين إليهم كانت أعدادهم قد تجاوزت الثمانية عشر ألف مقاتل، وحين نهضوا مع مسلم بن عقيل فثاروا بالكوفة كانوا يحاصرون عبيدالله بن زياد في قصر الإمارة ليس فيه سوى بضع عشرات من المقاتلين، وإن كانوا مئات فهم لا يشكلون قوة ذات قيمة تذكر أمام الأعداد الكبيرة التي أحاطت بالقصر وأميره، ثم تحولوا إلى عبيدالله بن يزيد خلال ساعات دون أي تهديد أو خطر جدي يحيق بهم، لكنها الأموال التي فعلت فعلها وأجهضت الثورة في نفوس الثائرين وحولتهم إلى عبيد خانعين خاضعين لإرادة ابن زياد على جرمه وفجوره واستهتاره بهم، فكانوا الجيش الذي وئد ثورته بسيفه، فغدروا بالحسين وأهله بأنفسهم، حيث لم يأت من الشام أو غيرها مدد لعبيدالله بن زياد خلال تلك الفترة، ولم يقف من الثمانية عشر ألف مع الحسين سوى الحر بن يزيد، أُرسِل إليه لمرافقته إلى حيث يريدون فانحاز إليه، وأبو الشعثاء يزيد بن زياد بن المهاجر الكندي وعبدالله بن عمير الكلبي وامرأته، وحبيب بن مظاهر، ومن البصرة يزيد بن نبيط خرج إليه من البصرة وولديه عبدالله وعبيدالله. وسبب ذلك أن هؤلاء الذين ثاروا، لم تكن دوافعهم إحقاق لحق بتفضيلهم للحسين على يزيد، إنما كانت الأموال، فيها فرقهم ابن زياد خلال ساعات، فلم تكن هناك قوة عسكرية تهددهم، الدنيا كانت هي الغاية، والحسين ودعوة التشيع له لم يكونا سوى الوسيلة للوصول إلى ملذاتها، وذلك الذي حصل، فحين لم يكن هناك ما يخيفهم ولم يتحقق من دعوتهم شيء ما الذي فرقهم بتلك السرعة الخاطفة غير دنانير عبيد الله ابن زياد؟

 

والعجب أن هؤلاء الذين غدروا بالحسين وأسلموه وأهله للقتل والنهب والسلب والسبي قد افترقوا حينها إلى قسمين؛ قسم جردوا سيوفهم لقتال من بايعوه بالأمس وأعطوه العهود والمواثيق وألحوا عليه بالقدوم عليهم، وقسم آخر هاله العار الذي لحق به حين وعد فأخلف وعاهد فغدر فانكبّ على وجهه وتخاذل عن الوفاء بعهده ووعده، ولم يكن وعيد ابن زياد أشدّ عليهم مما كان في عام 65ه لكنهم صبروا وقاتلوا طلباً للثأر بدم الحسين بعد أكثر من أربع سنوات من خذلانهم له، ففي عام 65ه نهض الذين نكثوا بوعدهم بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، الذي كان على رأس الذين كاتبوا الحسين يرجونه شدّ الرحال إليهم ثم خذلوه عند مقدمه لطلب الثأر بدمه ومعه كل الذين كاتبوا من قبل، منهم المسيب بن نَجَبَه وعبدالله بن سعد بن نفيل و عبدالله بن وأل ورفاعة بن شداد في جيش تعداده ربع الجيش الذي كان حينما بايعوا مسلم بن عقيل ثم تفرقوا عنه بعد ساعات، فقد كان عددهم لا يتجاوز الخمسة ألاف مقاتل، وذهبوا إلى كربلاء وجلسوا عند قبر الحسين يوما يبكون ويقولون:"اللهم إنّا خذلنا ابن بنت نبينا صلى الله عليه وسلم فأغفر لنا ما مضى منا وتب علينا"(1)ثم انطلقوا لمواجهة الجيوش الأموية بقيادة خمسة أمراء؛ هم الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع وأدهم بن محرز وجبلة بن عبدالله وعبيدالله بن زياد في موقع قرب الرقة غرب الفرات عام 65ه، في مكان بعيد عن مواطنهم، لمواجهة جيوش يفوق تعدادها الجيش الذي كان مع عبيدالله بن زياد حين قدم الحسين إلى الكوفة أضعاف مضاعفة، فقد كان كل جيش ابن زياد عام 61ه اثنا عشر ألف جله من أتباعهم الذين شايعوا الحسين ثم غدروا به، في حين تطلب الثأر مواجهة جيوش تفوقهم أضعافاً مضاعفة، فقد كان مع الحصين بن نمير اثني عشر ألف مقاتل وثمانية ألاف مع شرحبيل بن ذي الكلاع وعشرة ألاف مع أدهم بن محرز الباهلي، من غير من كان مع جبلة وعبيدالله، ولقي سليمان بن صرد وأتباعه الموت الذي فروا منه من قبل، مع إنهم هذه المرة كانوا مختارين يملكون كامل إرادتهم ولم يكونوا في خطر اضطرهم للقتال، بل سعوا بأنفسهم إليه، فما الذي تغير؟ وقد يكون الشح في بذل الأموال هو الذي دفعهم لذلك.

 

من هذا يتبين أن غدر هؤلاء المتشيعين للحسين لم يكن بدوافع الخوف من الأمويين وعبيدالله بن زياد، فها هم يواجهون كل الجيوش الأموية بعد أربع سنوات، فهم إذن لا تنقصهم الشجاعة للدفاع عن الحسين ومبادئ الثورة التي افتعلوها، لأنهم سعوا إلى الموت بأقدامهم فأبلوا البلاء الحسن وكبدوا الجيوش الأموية على قلتهم خسائر فادحة، وانتصروا عليهم في أغلب صفحات المعركة وكادوا يحسمونها لصالحهم ويلحقون الهزيمة المنكرة بالجيش الأموي لولا التفوق العددي الكبير.

 

وليست هذه مما تسمى بصحوة الضمائر على أنهم ندموا على فعلتهم بخذلان الحسين والغدر به، كما يتوهم رواة التاريخ، فإن لهم سوابق عديدة مع أبيه علي بن أبي طالب حين استخلافه، فقد خذلوه مرات ومرات، حتى ملهم وملوه، بعد أن عطلوا كل ما كان يسعى لتحقيقه، وفي تلك المصائب التي امتد زمنها زهاء خمس سنوات ما يوجب صحوة الضمائر ويوقظها من سباتها إن كانت كذلك، فقد غُدر الخليفة علي بين أيديهم، ثم فعلوا مثل ذلك مع الحسن بن علي بعدما بايعوه بالخلافة حتى اضطروه للتخلي عنها لصالح معاوية بن أبي سفيان عام 41ه، وكانت أيضاً تكفيهم لصحوة ضمائرهم.

 

فنحن نعتقد أن هؤلاء قد طُوِعوا في مسار المؤامرة التي استهدفت الأمة وعقيدتها، باغتيال كل رموزها الثورية القادرة على قيادة الأمة بنجاح، ولعل مما يرجح اعتقادنا أنهم بعد القضاء على الحسين باعتباره كان الأبرز بين الثائرين الرافضين لمسارات الانحراف، والذين يملكون القدرة على التصدي لها و مواجهتها، قد تحولوا نحو عبدالله بن الزبير، وهو السائر على ذات النهج الذي اختطه الحسين بن علي في مواجهة الانحراف، فهما كانا معاً يرفضانه ويسعيان بالطرق الثورية لتصحيح مساره، وليس من منهجهما أحقية مقدسة لولاية الأمر كما أوهم التشيع الفارسي كثيراً من العقول بها، فعبدالله بن الزبير لم يكن من آل بيت النبي لكنه واصل ثورة الحسين بعد عامين وبنفس أهدافها وغاياتها، فالحسين كان يجد نفسه مسؤولا أمام الله عن مواجهة أخطار الانحراف، وقد بينها في خطبته عند لقائه شيعته وهم يشهرون سيوف الغدر بوجهه بدل بذلهم للطاعة له، فقد قال:" أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان  فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإنّ تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة، فإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث، فإنما نكث على نفسه، وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"(2).

 

وهنا لابد من الإشارة إلى أن من فقه المؤامرة على الأمة تم نسج فرية الصقوها بحوادث التاريخ مفادها أن عبدالله بن الزبير كان يدفع بالحسين بن علي نحو الكوفة غشاً له وتحريضا منه من أجل أن تخلو الساحة له كي يثب بالجزيرة العربية، لأنه لم يكن بمقدوره فعل ذلك والحسين موجود، لأن الناس تنحاز له ولا تعدل به أحداً، وتفضله على غيره لموقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أساليب الدس في التاريخ، فهؤلاء النفر الذين يُتهمون بالخداع والتحاسد وإيهام بعضهم بعضا كانوا أجل وأنبل من أن يكونوا كذلك، وهم أعلام الأمة، الذين وقفوا وقفتهم المشهودة ضد الانحراف الذي اختطه معاوية في انعطافته الخطيرة بالدولة العربية الإسلامية نحو المهاوي، في وقت لم يُسمع لغيرهم صوتا ولا اعتراضا. والدليل أن عبدالله بن الزبير لم يدع أحدا لبيعته إلا بعد استشهاد الحسين بعامين وفراغ الساحة من رجل يتصدى لطغيان يزيد ووثوبه بحق ليس له ولا هو أهل له، ولا تحل إمرته على مسلم، وفيها من الصالحين غيره. وهم يستغفلون الناس أن عبدالله بن الزبير كان يدفع بالحسين إلى التهلكة، بحجة أنه كان يعلم ما عليه أمر شيعة العراق من نفاقهم وعدم ثباتهم على رأي وتأكده من خذلانهم للحسين، ويتغاضون عن حقيقة أن الحسين أعلم بشيعة أبيه في العراق من ابن الزبير وغيره، فقد عايشهم وعاش بين صفوفهم خلال خلافتي أبيه علي وأخيه الحسن، ولا يحتاج من عبدالله ابن الزبير ليدفع به نحوهم، وذلك احد المطبات التي سقط فيها أدعياء المعصومية، فإنهم في قولهم هذا يجعلون من عصمة ابن الزبير أعلى درجة من عصمة الحسين، حين يكون عاماً بحال شيعة الحسين من نية للغدر فيدفع به نحوهم ليتخلص من منافسته وهو لا يدري، فأين العصمة إذن؟.

 

والحقيقة أن عبدالله بن الزبير مع الحسين بن علي كانا مصدراً للقلق الأموي منذ عهد معاوية، لأنهما كانا يحملان فكرا ومنهجا ثوريا دون غيرهما ممن اعترض على سلوك ومنهج الأمويين وسعى لتغييره، وهو في تشجيعه للحسين بالثورة لم يكن يبعده عن الخلافة، بل كان يقربه منها، فكل المعطيات التي كانت أمام الحسين توحي بإمكانية عالية على نجاح التغيير، والحسين بذاته كان مقتنعاً بها وواثقا كل الثقة من صحتها وصدقها، بدليل أنه لم يستجب لكل دعوات أقاربه وإلحاحهم على التريث وعدم التسرع في تصديق أهل الكوفة والتوجه نحوهم، كما اتضح من توسلات أخيه محمد وابن عمه عبدالله وابن عم أبيه ابن عباس وهو على ما يملك من قدرة ودراية، ولم يلتفت حتى للرجاء بترك النساء والصبيان بعد عزمه على المسير، فهل يعقل أن كل هؤلاء لم يكونوا قادرين على التأثير في قرار الحسين، ثم يأتي عبدالله بن الزبير فيفرض عليه ما ذهب إليه، وهو أبعدهم عنه قرابة، وممن يشك في نصحه لو كان الأمر شخصياً ولا يتعلق بمصلحة عامة وواجب فرضه الله تعالى على المؤمنين الصادقين في الحفاظ على بيضة الإسلام، فهو على العكس ممن أرادوا ثنيه عن عزيمته يختزن في وعيه واقعة الجمل بين أبويهما، فالحقيقة أن الحسين بن علي كان يعي أن عبدالله بن الزبير يشاطره القناعة بأن التغيير المطلوب، والذي يتفق عليه الجميع لن يتم إلا بالقوة، كما كان يرى ابن الزبير، على غير رؤية الناصحين في انتهاج السبل السلمية بقصد الإصلاح، فلابن الزبير كما للحسين مبررات تدعوه لتأييد الثورة، فالذين بايعوا للحسين كانوا ثمانية عشر ألف مقاتل، وهو عدد كاف، كان يمكن له أن يُخضِع الأرض العربية بكاملها لإرادة التغيير، مع ما في العراق من موارد مالية كبيرة، وكتب الدعوة التي وردت الحسين كانت من قادة الكوفة والعراق، وهم كلهم من الشجعان المشهود لهم، وممن تُسمع كلمتهم ويُعْتدُّ برأيهم، والأمر كما يستوجب الثورة فإن الأرضية ممهدة لاحتضان ثورة كهذه، فالخلل الذي حصل بتوريث معاوية لابنه يزيد خلافة أصلها شوري فحولها إلى ملك عضود لقي معارضة في كل أمصار الأمة وليس العراق فحسب، فحتى الجزيرة العربية كانت تجابه الجهود الأموية بفرض إرادتها المنحرفة بالرفض والتشكيك، وأقلها كان انعدام القبول والحماس. فكل المؤشرات كانت تشير إلى ضرورة قيام ثورة، وإلى إمكانية نجاحها، ناهيك عن إن عبدالله بن الزبير لم يعلن ثورته إلا بعد استشهاد الحسين بأكثر من عامين.

 

إن من مؤشرات وجود مؤامرة خفية أن أمير الكوفة حين بدأت الاستعدادات للثورة كان النعمان بن بشير، وحين علم بتلك التحركات كان يعلن أنه لا يبدأ أحد بقتال إلا أن يقاتله، الأمر الذي دعى عبدالله بن مسلم الحضرمي لأن يكاتب يزيد بن معاوية يستحثه على استبدال هذا الأمير، وحين أراد يزيد استبدال هذا الأمير لجأ كالعادة إلى (سرجون الرومي) مستشاره وكاتب أبيه وصاحب أمره من قبل، وهو وإن كان مخلصاً لملك بني أمية لأنه يلبي أهداف أطراف التآمر بصيغته التي أرادوها، فإنه كان يسعى من وراء ذلك الإطاحة بالأمة وعقيدتها انسجاماً مع إرثه وانتمائه، وذلك ما يتضح من مشورة الاختيار، فقد أشار عليه أن لا يولي إلا من لم يجد أكثر منه إجراماً وجفاء للأمة وعقيدتها، ذلك عبيدالله بن زياد فجمع له الكوفة مع البصرة، ورغم أن يزيد كان على خلاف مع ابن زياد وكان عازما على عزله عن إمارة البصرة، فقد أقرَّ بالمشورة وعمل بها، فالرومي يعلم جيدا أن ابن زياد ممتلئ حتى أذنيه بعقد نفسية معروفة تاريخياً، أساسها غياب أصل أبيه ونسبه خلف رذيلة الزنى، والذي اشترى هو وأبيه من قبله نسباً بأبي سفيان من معاوية مقابل الخدمات التي قدموها لتثبيت ملكهم.

 

من جانب آخر فإن عبيدالله بن زياد نفسه لم يكن بعيداً هو الآخر عن تأثير أطراف التآمر على الأمة وقبضة مخالبهم، قد تتضح بعض المعالم من الآتي: فالذي أمره ابن زياد بقتل هانئ بن عروة الذي آوى مسلم بن عقيل بعد أن انفضَّ عنه الشيعة وتركوه وحيداً تتقاذفه أزقة الكوفة، كان غلاماً تركيا لابن زياد، وقبل ذلك فإن الذي كان يمسك بضفيرتيه لسيده ابن زياد وهو يمارس عليه صنوف العذاب الهمجي غلام فارسي يدعى مهران.

 

كما ان الحيرة والكوفة كانا قد صارا معقلين لليهود الناقمين على الأمة وعقيدتها، ففي رواية عن أن يهود نجران قد تم إجلاؤهم إلى الكوفة سنة 20ه،" وعلى كل حال لم يطل الأمد على إنشاء الكوفة حتى نزلها اليهود وازدهرت جماعتهم فيها"(3)

لقد كانت حادثة كربلاء تتويجاً لفصل من فصول المؤامرة، حيث أرادوا من خلالها اجتثاث بيت من أشرف بيوتات العرب وأقربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً وأقتداء، فلم يكن الحسين بن علي هو الهدف بمفرده، لكنهم حرصوا على استهداف حتى الأطفال الرضع، فقد استشهد معه إخوة له؛ هم: العباس وجعفر وعبدالله ومحمد الأصغر وأبو بكر وعثمان، ومن أبنائه علي الأكبر وعلي الأصغر وعبدالله، فيما نجا علي الأوسط وأمه فارسية، ومن أبناء أخيه الحسن استشهد خمسة هم: أبو بكر وزيد والحسن المثنى والقاسم وعبدالله، ومن أبناء عبدالله بن جعفر الطيار عون ومحمد، ومن أولاد عمه عقيل؛ جعفر وعبدالرحمن، وعبدالله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، وقد سبقهم إلى الاستشهاد مسلم بن عقيل.

 

ولا غرابة في هذا فإن كل الأحداث المؤلمة التي حدثت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من نتائج التآمر بشقيه الداخلي والخارجي، فلم تكن مصادفة أن ينقض أهل خراسان ويغدروا بالعرب المسلمين حال اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما لم تكن الفتنة التي نشبت في الكوفة في زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا من نتائجها، فقد كانت تتلون حسب الظرف والحال؛ فمرة بدوافع سياسية وأخرى عقائدية ومرات بدوافع اقتصادية، مع إن الهدف كان في كل مرة على اختلاف الأسباب الظاهرية هو تمزيق شمل الأمة وإضعافها، فالذين شغبوا ضد الخليفة عثمان بن عفان ثم تجمعوا من الأمصار وقتلوه، مارسوا نفس الأساليب مع الخليفة علي بن أبي طالب عليه السلام من بعده، بل زادوا من شغبهم وتطوروا في أساليبهم الهادفة لتقويض كيان الأمة السياسي، ولم يكن وثوب بني أمية على الخلافة إلا عاملاً مساعداً لتمرير مؤامراتهم، إن لم يكونوا طرفاً فيها، انسجمت أهدافهم الدنيوية مع ما وفره الأعداء المتربصين من أرضية مناسبة لتحقيق مآربهم، وإلا فمن يستطيع أن يوجد لنا أسباباً مقنعة لحملات الاستعداء على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والجرائم والفضاعات التي ارتُكِبت بحقهم غير التبريرات المتناقضة والواهية التي سطرها المؤرخون؟ مع إن معاوية كان يتوسل بكونه كاتب وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم شرعية لخلافته ووثوبه عليها، في ذات الوقت الذي يكيل لذويه وأقرب الناس إليه ومن سبقه لمؤازته ونصرته تهم الكفر وارتكاب المعاصي ويلفق ضدهم دعاوى باطلة في قتلهم لعثمان بن عفان رضي الله عنه، مع إنهم كانوا يذودون عنه حتى قُتل، فيما خذله هو ولم ينجده رغم أن زمن الفتنة امتد حولاً كاملا.

 

أليس مما يثير العجب أن الحسن بن علي رضي الله عنه قد حقق للأمويين ما يستوجب شكرهم وثنائهم عليه، حين حقن دماء المسلمين وضحى بحقه المكتسب بالخلافة من بيعة شرعية ودفع بها إلى معاوية بن أبي سفيان؟ وبفضله استتبت أحوال الدولة العربية الإسلامية وانحسر النزاع عليها، لكن الذي حدث كان خلافاً لكل منطق واعتبار، فقد استمروا وبإصرار وعناد على منهجهم في تكفير آل بيت النبي وسبهم وشتمهم والنيل منهم من على منابر المساجد، التي وجدت ليذكر فيها اسم الله، تعميقاً للفرقة التي أراد الحسن بن علي وئدها بتخليه عن الخلافة لمن لا يحق له منافسته عليها بكل المقاييس، كما أوغلوا في تأجيج الفتن وفقه الاختلاف، مع أصناف من العذاب والتنكيل والإجرام بحق من يعترض على هذه الأساليب الدخيلة على الإسلام، مع إن هذه الوسائل العدائية لم تكن تصب في مصلحة الأمويين مطلقاً، بل كانت من أهم الأسباب التي خلقت لهم الكثير من المتاعب والصعاب خلال فترة حكمهم، فهم كما نعتقد كانوا مرغمين عليها من قبل أطراف خفية تسعى لتحقيق ما هو أبعد من تشويه صورة آل بيت النبي وكل المعترضين على تجاوزات بني أمية بقصد تنفير الناس عنهم، كما توهم المؤرخون.

 

ولم يكن آل البيت وحدهم هدفاً للتآمر والاغتيالات، بل لقد شمل ذلك المنهج كل الذين يملكون القدرة على مواصلة المسيرة بنجاح، فقبلهم استهدفوا عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب ثم الحسن بن علي رضي الله عنهم، كما نال بعضهم النفي والحصار والمضايقات.

 

ولسنا ننسى في هذا الصدد جرائم الحجاج بن يوسف الثقفي فيما بعد، فكلها كانت مبنية على تزييف وعي وقناعات الناس، ومن يعترض أو يمتعض فجزاؤه أشدّ العذاب وأبشع الإجرام وأختام الرصاص في أعناق الصحابة، ولم تتوقف الحملات هذه إلا بخلافة عمر بن عبد العزيز بعد مرور ستين سنة من التشويه والتضليل، أليس هذا مما يؤكد أن السلوك الأموي كان مستغلاً بشكلٍ أو أخر في مسار التآمر على الأمة وعقيدتها، حتى أنضج ثماره بعد خمسة قرون من الدس والخداع.

 

فلم يكن الذين ادعوا ويدعون الثأر للحسين بن علي رضي الله عنهما ليختلفوا بشيء عن الذين ادعوا الثأر لغيره، فأوجه الشبه كثيرة وعديدة، وفي أحيان متطابقة، لا تميزها إلا المسميات، والأهداف الكامنة خلف كل دعوة من هذا النوع واحدة، تكاد لا تتغير في شيء من مفرداتها إلا ما تتطلبه ظروف استخدام المفردات والأفواه التي تنطق بها، كما إن كل دعوة من هذا النوع كان خلفها دافع واحد، ومخطط واحد يكاد يكون خفيا مبهما للكثيرين، والذي يقرأ سطور التاريخ ببصيرة سيجد أن الكثير من أحداثه وقفت خلفها دوافع ومسببات خفية غير التي أقرها شهود التاريخ وكتابه، رغم منطقية هذه الأخيرة وانسجامها مع الواقع المزيف، متناسين أو غافلين عن الذي كان يخطط بخفاء لا تُلتمس خيوط نسجه بيسر وسهولة، فلقد كان خلف أغلب الأحداث التي نخرت في جسد الأمة العربية بعد أن صار الإسلام روحها ومنطلق فعلها، اليهود والفرس والنصارى، يكمل أحدهم الأخر بخصائصهم التي رسخها الشيطان فيهم، وذلك هو المكر الذي مكروه ولا زالوا، والله تعالى يقول: { وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}(4) فالذي يُزيل الجبال الرواسي بمكره لولا رحمة الله ومنعه، لقادر على أن يمكر بهذه الأمة وينسج لأفعالها ما يريد لا ما تريد هي، والمكر والخديعة صفتان تنافس عليهما اليهود والفرس على مرّ حقب التاريخ، حتى صارا مرجعيهما وموطنيهما، وقد شهدت بذلك أحداثه، لكن دون معرفة الأهداف الكامنة خلفها في أغلب الأحيان، فهما الخاصة من جند الشيطان، رجله وخيله، ومنهما الحناجر التي يصرخ بها، يستفزز بها من استطاع واستطاعا، في سبيل الفتن، فكان اليهود والفرس ومعهم النصارى أوعية لفتن الشيطان ومكره، يتجرعها قساة القلوب ومرضاها، فقد قال تعالى جلَّ شأنه: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}(5).

 

ولم ينج من مكر الشيطان حتى الرعيل الأول، فقد استزلَّ بعض أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، مع إنهم الجيل الذي لا يدانيه جيل أخر في الفضل والسابقة وقوة الإيمان وصلابة الدفاع عن المعتقد، فقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(6) فما بالك بالذين لم يؤمنوا ساعة، فريق كانوا قتلوا الأنبياء وحرفوا شرائع ربهم، وآخر عبدوا النار حتى عشقوا جهنم من فرط إدمانهم على حبها، وجعلوا من أكاسرتهم آلهة تعبد ويسجد لها، وثالث جعلوا لله أنداداً مما خلق سبحانه.

 

ولقد استحوذ الشيطان بمكر جنده من الذين ذكرنا على عشاق الدنيا ومريديها من العرب، وهم في عداد المسلمين بظاهر أحوالهم، لكنهم لم يلتفتوا لنهي الله تعالى وتحذيره بقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(7) فباستشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استحوذت الأحقاد والبغضاء على الذين سقطوا في حبائل شياطين الفرس واليهود والنصارى دون أن يعلموا، شغلوهم بالدنيا ونعيمها فأنسوهم ذكر الله وأضاعوا عليهم الصلاة رغم الركوع والسجود، فما جدوى الصلاة مع الفحشاء والمنكر، وهي تنهى عنهما قبل الركوع والسجود.

 

هذه هي الأرضية التي استند عليها الفرس في اغتيال أمير المؤمنين وقائدهم عام 23ه على يد المجوسي أبو لؤلؤة بتحريض ودفع من اليهود والنصارى، لأنه أجلى يهود خيبر ونجران، كما أنهى إمبراطورية المجوس إلى الأبد في معارك تحرير العراق التي توجتها القادسية وختمتها نهاوند ( فتح الفتوح) المعارك التي أبكت الفارسي أبو لؤلؤة كثيرا، وقبلها كان قد قطع يد الروم العابثة في أرض الشام العربية بمعركة اليرموك وما أعقبها.

ولعلنا نستخلص بعض الحقيقة الغائبة من قول الفارسي دينار – وهو أحد ملوك الفرس استأمن لأهل الماهين من بلاد فارس لدى قائد الجيش العربي الإسلامي الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان بعد انتصار المسلمين في معركة نهاوند – حينما زار الكوفة خلال فترة حكم معاوية بن أبي سفيان، فقال: " يا أهل الكوفة إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس فبقيتم كذلك زمن عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل، وخَبّ، وغدر، وضيق ولم يكن فيكم واحدة منهن، وقد ومقتكم فرأيت ذلك في مولديكم فعلمت من أين أُتيتم، فإذا الخب من قِبَل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز"(8)ولعل ذلك كان صحيحاً إلى حدّ ما، فقد كانت إحدى وسائل التفاعل الحضاري غير المحسوب بين العرب المسلمين والأقوام الأخرى المتمثلة بتهالك المقاتلين العرب على الزواج من الموالي والسب، قد تركت بصماتها واضحة في انحرافات سلوكية واسعة، بعد عقود قليلة من الزمن، فكيف يعقل لسبيَّة أن تخلص لمن سباها، وتزوج منها دون إرادتها ورغبتها، وهل يفارقها الشعور بالذل وحبّ الانتقام لأهلها وقومها؟ ذلك ما لم يكن في حساب العرب وهم يستولدون إمائهم الذكور والإناث. وهذا الإسلوب في التوغل اعتمده الفرس، كما هم اليهود، بنجاح منذ القدم، فكما كانت وسيلتهم في نقل ما أرادوه داخل كيان الدولة العربية الإسلامية؛ الأموية والعباسية، فهي اليوم وسيلتهم الناجحة في الكسب والتطويع.

 

فخلال القرون القليلة الماضية كانت الحسناوات الإيرانيات أنجح الوسائل التي حقق بها الفرس والصهاينة مواطئ أقدام لهما في المجتمعات العربية عموما، والمجتمع العراقي خصوصاً، بما فيها شبكات التجسس. كما أنتجت لهم الزيجات العربية من الفارسيات آلاف من أمثال المأمون، بل وأطوع منه لهم. وقد يسرت مساعيهم المتعة التي يحللون بها فعل الزنى، فكثير من تلك المتع تحولت إلى صلات حميمة وعميقة، ثم انتقلت إلى عمليات تطويع ناجحة.

 

لذلك كان قرار العراق في سبعينات القرن الماضي بتسفير العوائل الفارسية المتغلغلة في النسيج العربي خارج البلد قد أشعل في نفوس الفرس أحقاداً وأجج فيها نيراناً ملتهبة.

 

وقد نجح الفرس في تنفيذ اخطر مؤامراتهم الأنثوية، خلال الأعوام التي تلت المواجهة مع العراق عام 1980م باستغلالهم للنساء الإيرانيات كأداة رخيصة سلطتها العمائم المجوسية على الأسرى العراقيين من أجل سلب وطنيتهم وانتماءهم، وقد عاد كل هؤلاء الضحايا المغرر بهم بعد احتلال العراق عام 2003م محملين بزوجات وأولاد أخوالهم المجوس، مسختهم تلك النساء فحولتهم إلى أدوات طيعة بيد الفرس، يذودون عن مجوسيتهم المتسترة خلف التشيع بكل ما أوتوا من قوة، وهم يشكلون اليوم ذراعاً طويلة للطموحات القومية الفارسية تنفذ سياساتها بإخلاص كبير بفعل تلك النساء.

 

 

أما أوجه الشبه بين أدعياء الثورة بدماء الحسين الشهيد وغيرهم فهي:

كلهم خذل من يدعي ولايته والثأر لدمه، فمعاوية كان يملك من الجند والأموال ما لا يملكه غيره وهو أمير الشام، جُمعت له بكل أركانها في ذلك الوقت، والفتنة التي راح ضحيتها عثمان بن عفان رضي الله عنه طالت أيامها كما طالت أيام الإعداد لها، و لو أراد حقا نُصرة خليفة المسلمين بالإصلاح أو بالجيوش، لتمكن من ذلك، لكنه لم يفعل، وكذا فعل الثائرون بدم الحسين، فهو قَدِم إليهم ببيعتهم وعهدهم ووعدهم ورسائلهم، وكانوا قادرين - لو أرادوا - منعه من جيش يزيد بن معاوية، وإن لم يكن لعامله عبيدالله بن زياد إلاهم جيشا، لكنهم غدروا بعدما دعاهم الشيطان للدنيا، فكانوا هم قاتليه، وحوشاً قساة غادرين متنكرين تحت راية عبيدالله بن زياد، وقد شهد بهذا أحدهم بعد أن تحول في ساعة الحسم إلى صف الحسين، وقالها في وجوههم، وهو أخبر من غيره بهم لأنه منهم "ياأهل الكوفة لأمِّكُم الهبل والعُبْر، أدعوتموه حتى أتاكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه"(9) فكما اتخذ الأمويون من حادثة مقتل عثمان بن عفان وسيلة للوصول إلى أهداف ليس فيها للخليفة الشهيد مكسب ولا مغنم، فإن الذين خدعوا الحسين بن علي ثم غدروا به وأسلموه للقتل كذلك اتخذوا من حادثة استشهاده وسيلة للوصول إلى أهدافهم التي ليس للحسين فيها ناقة ولا جمل.

 

كل الثائرين بالدماء أراقوا دماء كثيرة وغزيرة، لم يكن من أهدافها الثأر للمقتول إلا إدعاءً وتغطية لأطماعٍ دنيوية ليس لصاحب الدم فيها من مصلحة، فكلهم انتهى به الحال وثوباً على السلطة ومغانمها غير المشروعة، مع إن الذين بذلوا أرواحهم كان دافعهم منع أصحاب المصالح غير المشروعة من استغلال السلطة لتحقيقها.

 

ابن العلقمي والطوسي ادعيا الثورة بدم الحسين ونصر الشيعة فجاءا بالمغول ليستبيحوا بغداد والعروبة والإسلام معا، ففتكوا بالمسلمين جميعا، لم يفرقوا بين سني وشيعي مطلقاً، فأما ابن العلقمي فقد قبض الثمن وزيرا لهولاكو، وأما صاحبه الطوسي فقد كان مستشارا له، وأما جثث الشيعة فقد ظلت تنهش بها الكلاب أياما طويلة حالهم حال غيرهم من المسلمين.

 

الخميني كان ثائرا بدم الحسين الشهيد، لكنه في حقيقة الأمر كان متسترا بدم الحسين وصولاً إلى كرسي الشاه محمد رضا بهلوي، ومغانم سلطانه، ولا أكثر من هذا، فما زاد شيعة إيران في عهده إلا مزيدا من الموت والجوع والإذلال.

 

جواسيس الأمريكان والفرس واليهود من الذين انتعلوا وجوههم في غزوهم للعراق، كانوا يلهجون ليل نهار بدم الحسين عليه السلام متسترين خلف قميص الثأر عن نواياهم القبيحة القذرة، وما أن وضعوا أقدامهم على ثرى العراق حتى أفصحوا عن حقيقتهم الفارسية المجوسية المعادية للعروبة والإسلام والحسين، فعادوا ليغدروا به مرة أخرى.

 

جند الثائرون بدم الحسين الرعاع والسفلة لتخريب العراق ونهب ما يأنف الغزاة سرقته وأتخموا به بطون أسيادهم الفرس مما سرقوه واقتطعوه من العراق، أرضاً وممتلكات.

 

ثاروا بدم الحسين فقتلوا فريقا من المقتفين أثره والسائرين بدربه والمخلصين حبهم له، من الذين انتفضوا بوجه الغزاة الكافرين المغتصبين لأرضهم وخيرات بلدهم، وغيبوا فريقاً آخر في غياهب المعتقلات، ومارسوا عليهم كل أساليب الغدر، فكشروا عن أنياب الحقد والصلف المجوسي والمكر اليهودي، صفاً واحداً مع أطماع الصليبيين وتحقيقا لأهدافهم.

 

---------------------------------------------------------------------------

ابن الأثير، الكامل في التاريخ،م4،ص5،ط1،دار الكتب العلمية 1987 بيروت.

المصدر السابق، م3،ص408.

يوسف رزق الله غنيمه، نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق، ص103، مطبعة الفرات، ط 1،بغداد 1924م.

سورة ابراهيم، الآية:46.

سورة الحج، الآية:53.

سورة آل عمران، الآية:155.

سورة المائدة، الآية:91.

ابن الأثير، مصدر سابق، ج2، ص 421.

المصدر السابق،م3،ص421.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد  / ١٨ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٢ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور