من أدب المقاومة العراقية - يوميات امرأة عراقية تقاوم العنوسة
( ألا ليت الشبابَ يعود يوماً ما .. فأخبره ما فعلت العنوسة )

 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي - كاتبة وصحفية عراقية

محلان لا أستطيع اجتيازهما دون المرور فيهما: محل بيع الزهور، ومحل بيع التحفيات ومعدات المطبخ من الأواني والإكسسوارات.


استقبلنا أسامة في الباب أنا وسامية وقال إنه تسوقّ قبل يومين من سوريا، والمحل فيه سلع جديدة فأغرانا بالدخول.


قالت سامية سأستمتع بالنظر فقط، زجرني زوجي ومنعني من شراء أية سلعة جديدة خلال هذا الشهر كي لا تصاب الميزانية بالخلل، وقالت إن جزءا من راتبها وراتب خالد زوجها، أنفق على إجراء عملية جراحية لولدهما معتز ونفقات المستشفى والأدوية.


قلت لها أنا حرة، لا أحد يتحكم في كيفية إنفاق راتبي، وهذا من حسنات العنوسة. ضحكت سامية وابتسم أسامة وهو يدير وجهه نحو معرض التحفيات.


اقتنيت تحفة زجاجية وسلالا من الورد الاصطناعي، واستغنيت عن مرآة أعجبني شكلها الهندسي، كنت أنوي إضافة مرآة أخرى لصالة الجلوس إلا إني تراجعت عندما خطفت طيف أمي بشكل سريع أمامي، تذكرت طريقة استقبالها لي بسيل من الكلمات الجارحة التي تهزُّ بدني، ستعيد عليَّ الأسطوانة ذاتها: ماذا تفعلين بهذا الكم الهائل من المرايا؟ هل سنفتح محل للتجارة بالمرايا، انظري إلى ملامح وجهك في المرآة، لقد صرت عانساً فلن يطرق بابنا أحد. اتركي السياسة فلن تشعري بالعنوسة، الحياة يجب أن تستمر، فكري بالأمر قبل فوات الأوان. لا تضعي شروطا تعجيزية أمام الرجال، أنا أمك اسمعي مني.


سأجيبها بالكلام نفسه ومثل كل مرة: سأتزوج حين يرحل آخر جندي محتل، اطمئني، حينها سأعود صبية في عمر الورد.


تستدعيني جمانة إلى بيتها لمساعدتها في عزل أثاث المنزل استعداداً للانتقال إلى منزل آخر. جمانة تبكي. جمانة تضحك. جمانة تصرخُ بصوت عالٍ: انتبهوا هذا الكارتون يحوي الفارفوري، وهذا الكارتون عبأ بالزجاجيات والتحف النادرة التي سربلت سنوات من عمرها وهي تقتنيها من سوق هذه الدولة أو تلك، وكلما سنحت لها الإقامة في مدينة من مدن العالم حيث كان يتنقل زوجها مُضر - ضابط المخابرات.


للمرة الرابعة، منذ الغزو الأميركي للعراق، نهبُّ لنجدة جمانة ونشكل لها فريق (فزعة) لنقل أثاث منزلها إلى منزل آخر في حي آخر.


الإحساس بالخوف يدفع جمانة إلى تغيير المنزل والحي. تشعر إنها مطاردة وأبنائها مطاردون وهناك من يتعقب زوجها ويبحث عنه. هناك من يترصد تحركات أولادها.


عندما احتدم النزاع الطائفي في البلاد، وانتشرت فرق الموت تصول في شوارع بغداد وتلتقط الضباط العسكريين وأساتذة الجامعات والوجوه البارزة في المجتمع لتقتلهم بأعصاب باردة وتلقي بجثثهم في براميل القمامة والترع والمزارع، اضطرت جمانة أن تغادر منزلها وتؤجر منزلاً آخر في حي اليرموك بينما غادر مضر ليعيش في المنفى بعض الوقت لحين استتاب الأمن الذي أصبح حلماً بعيد المنال.


سكنت جمانة سنة في منزل ثم استأجرت منزلاً آخر في شارع فلسطين، لم تصمد فيها إلا سنة وبضعة أشهر ثم سكنت بجوار شقيقها عادل سنة أخرى وآخر المطاف كان اليرموك ايضاً. فقد أمَّن لها عاصي منزلاً قريباً من منزلنا فانتقلت فيه على الفور.


أصبحت جمانة حذرة من كلامها وسلوكها، متوترة، تخفي شخصيتها عن الجيران، تضغط على الأولاد: لا تتأخروا، عودوا إلى المنزل مبكرين، لا تعطوا عناوين البيت لأحد.


أقول لجمانة أن مضر إنسان طيب لم يتسبب في إيقاع الأذى بأحد في حياته فلمَا الخوف؟ (خليها على الله).


تردُ: مُضر رجل يصوم يومي الخميس والاثنين، يتصدق على الفقراء والمساكين وينصر المظلوم ولم يؤذِ نملة في حياته، لكن هؤلاء مجرمون، لن يدققوا في سلوك الإنسان ولا يبالون بأخلاقه وخلقه. إنهم يقتلون على الهوية يا سُرى. هذا كان ضابطا عسكريا فليقتل. وهذا أستاذ جامعي فليقتل. ويقتلون الطبيب الناجح والمهندس. ألم يقتلوا الأستاذ محسن في عقر داره. ألم يهددوا الدكتور ناصر وكتبوا له ) عاجلاً أم آجلاً، سيأخذ العزرائيل روحك( .


وعلى الرغم من عدم تصديق الدكتور ناصر للوعيد الذي تلقاه وتظاهر أمامنا بالقوة والبأس، إلا أنه غادر في فجر اليوم التالي، تاركاً الآلاف من مرضاه يترددون على العيادة بانتظار عودته من السفر المفاجئ.


اتصلت ميادة ثم هاتفني سامر ليقنعني بالعدول عن قراري والانضمام إلى المجموعة التي نظمت سفرة سياحية إلى مدينة السليمانية للاستمتاع بالربيع هناك إلا إني كررت اعتذاري بشدة، قلت لسامر لست مهيئة للسفر، أشعر بوعكة صحية، تقلبّ الطقس من بارد إلى حار يضرني كثيراً.


قال سامر: أنتِ مخطئة، تعالي معنا وستشعرينا بالتحسن، وقال إن خطيبته رنا سترافقه في السفرة. حاولت أن استجيب لإلحاح الزملاء إلا إني لم أتمكن. والحقيقة إني كنت أشعر بوعكة نفسية وليست صحية، كالعادة أشعر بالفراغ، لا شيء يفرحني، لا شيء يهمني، الإحباط يهيمن بظله، أرفع رأسي فلا أرى في الأفق شيئا جديدا. الأيام تشبه بعضها بل السنين أصبحت تشابه بعضها.


أبكي على الإطلال، أغني بصمت قصيدة أبوالعتاهية الشهيرة بعد إخضاعها لحالي:
ألا ليت الشباب يعود يوماً ** فأخبره بما فعلت العنوسة


اتصل زوج وئام، شقيقة هند زوجة عاصي، وقال إن وئام أنجبت صبية جميلة ليلة أمس، ولأن الوقت كان متاخراً، والسماء ممطرة، والتغطية في شبكة (الموبايل) كانت سيئة كالعادة، لم يتمكن من الاتصال بأحد، استعان بجارته (أم أحمد) التي أشارت عليه باستدعاء (الولادّة) سعدية إلى الشقة لإنقاذ الموقف فالساعة جاوزت الثانية بعد منتصف الليل، ومن الاستحالة نقل وئام إلى المستشفى لتلد هناك. من الصعوبة الوصول إلى المستشفى في هذا الوقت، والجو ممطر، ومن الاستحالة العثور على طبيبة في المستشفى في وقتٍ كهذا.


رافقت هند لزيارة وئام في شارع حيفا. قال عاصي، معظم طرق بغداد مغلقة بسبب الانتخابات، سأعود بكنّ إلى المنزل إذا صادفت طريقاً مقطوعة. اضطر أن يسلك طرق فرعية ويجتاز الأزقة والمحلات السكنية ليتخلص من الزحام المروري وكان الغضب قد استبد به وبدأ يلعن زوج وئام الذي اتصل بهند في هذه الساعة وورطهُ بالخروج من المنزل.


صرختُ في وجه عاصي عندما زجر امرأة عجوزا كانت تتسول من المارة وأصحاب السيارات، كانت تبدو متعبة، كبيرة في السن مثل شجرة هرمة تساقطت أوراقها الصفراء، ترتعش من التعب والبرد، حاولت أن أمد يدي وأعطيها نقوداً إلا أن عاصي انطلق مسرعاً، مستغلاً خلو الطريق من السيارات لتصادفنا عجوز أخرى في الشارع ذاته، وقبل أن يستدير عاصي ويغادر الطريق، صادفتنا عجوز أخرى. تساءلت: ماذا يحدث هنا، أربعة نسوة عجائز يتسولن في الطريق وفي البرد؟


قال عاصي: لسنا فقراء الحال، أكيد إنهن يعملن لصالح متعهدين، التسول صارت طريقة سهلة لكسب الفلوس. وقال، ما أن نجتاز هذا الشارع، ستجدين في الإمام، مجموعة من الأطفال – ذكور وإناث، يتسولون على طول الشارع، وهذا نتاج الديمقراطية والجنة التي وعدنا بها.


كلشان البياتي
كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة / العانس

.
Golshanalbayaty2005@yahoo.com
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ١٥ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٣١ / أذار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور