من أدب المقاومة

(١٤)

 يوميات امرأة عراقية تقاوم العنوسة - حبل العنوسة يلتف حول عنقي

 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي - كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة / العانس
في الوقت الذي دوى فيه صوت انفجار هائل ارتجّت على هوله - نوافذ البيت وأبوابه، زخّ رقم مجهول (مسجات) إلى جواليّ ، هرعتُ نحو الجوال ّ لاتبين أمر الانفجار فربما أن احدهم نقل لي شيئا عنه ، أو أن شقيقاي عاصي أو عمر كانا قريبين وسمعا الدوي فأرادا أن يستفهما عن وضعنا في البيت ويزيلا عنا أثار الرعب والهلع الذي قد ينتج عن مثل هذه الحالات ، نشوب الانفجارات وارتجاج نوافذ البيت وأبوابه وتكسرّ أواني المطبخ من الزجاج والفرفوري وإغماء إحدى الصبايا من الهلع- رغم إنها ليست غريبة وتحدث منذ سبع سنوات في العراق وكانت تحصل كثيراً أيام الحرب إلا أن تأثيرها في كل مرة تختلف عن سابقاتها ..فالهلع لازال يصيب اغلب الموجودين في البيت والأدعية تخرج من كل الأفواه (سترك يارب) ..


فتحت المسج الأول ثم توالت إلى صندوق الواردات -مسجات أخرى تباعاً ، شدني إحدى المسجات كثيراً فاحتفظت بها وأهملتُ الأخريات .. منذ أيام ، وهذا الرقم الغريب يزخّ لي المسجات الغرامية ، اقرأ بعضها تارة واحذفها تارة أخرى حسب مزاجي .عندما كان مزاجي برتقالياً، أرسلت له مسجاً كتبت فيه« أرسل مسجاتك إلى رقم آخر ، صاحبة هذا الرقم فتاة عانس لا تهزُ مشاعرها المسجات والكلمات الغرامية ». بادلني مسجاً باللهجة العراقية الدارجة « صلفات العيون بس أجفاك يكسرهنّ وأنت الوحيد الذي ينباحلك سرهنّ ، هجرك وبعدك جمالك دوم يكسرهنّ ، يكتلني مرك واكو لن لك حلو منت مر علكم ، وأحسك شهد جنك صرت من تمر ، خايف علضلوع من هذا الكلب من تمر ، خافن دليلي بحد الدكات يكسرهنّ ».


قرأت المسج بشيء من النشوة والمرح وشعرت إني استعيد جزء من أنوثتي المسلوبة ، منذ سبع سنوات فارقني الإحساس بالحب والأنوثة وشعرت إني ازحف نحو حتفي إلا وهي هذه العنوسة القاتلة ، المدمرة .. .. (الله ) كم بشع هذا الإحساس وكم مقرف .. في القراءة الثانية والثالثة انتابتني رغبة جارفة في استعادة أيام الصبا والمراهقة ، أيام سرقة القصائد من الكتب والمجلات وتدوينها في دفاتر المدرسة .. كنت أدونّ مختارات من قصائد نزار القباني الغرامية في دفاتر المدرسة ، ونتداول نقل القصائد وخواطر الحب والغزل بين طالبات الصف الثاني المتوسط في مدرسة «أم المؤمنين للبنات » ، وعندما اكتشفت ٌمدرسّة مادة الرياضيات أمر هذه الأبيات من القصائد ، نقلت الأمر إلى مديرة المدرسة التي حضرت إلى الصف وبيدها مسطرة خشبية ونزلت بها على اكف كل طالبات الصف ..


وصلني مسج آخر يتضمن «إنا شاب وسيم ، عازب ، ابحث عن فتاة جميلة وقصدي شريف » ،أجبته ومزاجي البرتقالي أضحى غامقاً مثل لون الدماء التي تسيل في شوارع بغداد « ابحث في مكانٍ آخر ، إنا فتاة عانس لم اعد أصلح للتعارف ولا للزواج ولا لتبادل المسجات ولا للحب ولا .........والله يلعن الاحتلال والحكومة ».


دخل عمر وهو يحمل في جعبته سلة من إخبار الموت والدم والدمار في شوارع بغداد .. استهلها بالعبوة الناسفة التي انفجرت في حي اليرموك على دورية للشرطة الحكومية وأودت بحياة إفراد الدورية ثم قص على ُأمي إخبار اعتقال ثامر احد أولاد الحاج صالح – ابن عم والداتي – وقال أن القوات الأميركية ترافقها قوات عراقية داهمت المنزل في منتصف ليلة أمس واعتقلت ثامر واقتادته إلى جهة مجهولة .. وقال أن القوات العسكرية المدجج بالأسلحة حطمت محتويات المنزل ثم بعثرتها وأتلفت خزانة الملابس في غرف النوم وخزانة الصحون والأواني في المطبخ بحثاً عن الأسلحة ..


طلبت أمي احظار عباءتها من الخزانة لزيارة بيت الحاج صالح لمؤاساتهم في المصيبة التي حلت بهم فزوجته صديقة حميمة لها منذ نعومة إظفارها فضلا على علاقة القرابة التي تربط العائلتان ..


توالت المسجات إلى جوالي ّ فاضطررت إلى غلقه ، سمعت طرقاً على الباب وإنا في المطبخ ، كنا نجهزُ مأدبة عشاء وكان عاصي وعمر يلعبان ( الدومنة) مع شاكر ابن الحاج صالح الذي جاء مع أمي للمبيت والاختفاء بعض الوقت عندنا وعدم البقاء في البيت خشية عودة القوات الأميركية والعراقية لاعتقاله بعد أن كان غائباً عنه فلم يتمكنوا من اعتقاله مع شقيقه ثامر لكنههم ابلغوا الحاج صالح ضرورة قيام شاكر بتسليم نفسه لغرض التحقيق معه حسب الضابط الأميركي ، إلا أن أصدقاء الحاج صالح وإخوته وأقربائه نصحوه بعدم تسليم شاكر فهذه القوات ليست مصدر ثقة ولن تفي بوعدها وستلقي بشاكر إلى المعتقل ( والله يعلم متى يطلق سراحه)- أسرعت نحو الباب لاتبين الطارق ، كانت وسن ابنة جارتنا سعاد جاءت لتطلب أقراص الخبز فالطحين نفذ عندهم والتموينية تأخرت كعادتها ، وللشهر الثالث على التوالي لم تستلم الأهالي حصتها من الطحين فاستغل التجارّ غياب الطحين من البطالقة التموينية وقاموا برفع سعرها ثلاثة إضعاف ..


جاءت هند بأقداح الشاي إلى الصالة ، دخل عاصي وشاكر في نقاش طويل عن وضع العراق وكان أصواتهما ترتفع تارة وتهبط تارة أخرى ، يختلفان تارة ويتفقان تارة أخرى ، وفي جهة أخرى من الصالة ، كانت أمي تلاعب علي ابن عاصي ، جلست هند قربي لتتابع معي إحدى القنوات الفضائية التي كانت تعرض إعلانات عن برنامج عن الرشاقة وتخسيس الوزن ، صدر صوت نواح وعويل عن نساء في الخارج ، ركض عاصي وثامر ولحقتهم أمي ، غاب عاصي قليلاً وعاد ليبلغنا بمقتل الرائد فراس إمام منزله من قبل مسلحين أطلقوا عليه طلقات من مسدس يحوي( كاتم صوت) أردوه قليلاً هو وابنه ضياء .


قال عاصي أن فراس خرج مع ابنه ضياء لشراء صمون من الفرن الموجود في الشارع الرئيسي ، فقتل هو وابنه أمام منزله من قبل مسلحين كانوا يستقلون سيارة مدنيّة ..

.
Golshanalbayaty2005@yahoo.com
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة  / ٠٣ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٩ / أذار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور