من أدب المقاومة العراقية - (١٧) يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

في نيسان تزدهر عنوسة الصبايا

 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة / العانس

انتهى شهر مارس/آذار بالمطر واقبل أبريل/نيسان بالمطر. عندما تتساقط الإمطار في هذين الشهرين، تقول أمهاتنا إن الخير قادم. وللمرة الأولى، ومنذ سبع سنين، نشهد المطر ونداعب قطراته في آذار ونيسان.


لكن تأثير المطر بدأ يتلاشى فلم يعد يدخل البهجة. أجواء بغداد الكئيبة ومشاهد الدمار والخراب. وجوه الأمهات الحزينة وقلوبهنّ المجروحة على الولد والزوج، ألغى حفل القلب بالمطر. ومن فترة ليست باليسيرة، عندما استفيق من النوم وأنا مضطربة، متوترة أتشاجر مع ظلي في الأرض والحائط، أدركٌ أن نيسان صار على الأبواب، وأنّ أيامه ستمرّ بتثاقل.


تتساءل أمي ما الذي غيركِ، كان نيسان أحب الشهور إلى قلبك. أجيبها كان ذلك قبل الاحتلال. الاحتلال قلب الموازين وغيرّ أمورا كثيرة، لم أعد أعشق نيسان شهر الربيع والأمل والمطر.


حين كنت طالبة في المدرسة، كنت أعدّ الأيام والأسابيع لقدومه، كانت المدارس في هذا الشهر تتهيأ لامتحانات نهاية السنة، والجو يأخذ بالتغيير تدريجياً، نخلع ملابس الشتاء ونرتدي كسوة الربيع. نلعب (التوكي) على الأرصفة. تتفتح الورود في حدائق منازلنا، تبدأ موسم زراعة الزهور والأشجار، ونيسان شهر الاحتفالات، نقيم حفلا لكل يوم وطني في المدارس، نخرج للنزهة وننظم سفرات مدرسية إلى آثار سامراء، أو حديقة الزوراء، أو جزيرة بغداد السياحية، وأحياناً بحيرة الحبانية السياحية، أو مدينة الموصل، أو إلى المصايف في الشمال.


لكن احتلال بغداد، والعدوان عليه ألغى طقوسا كثيرة في حياتنا. آذار ونيسان سنة 2003 حمل إلينا البؤس بأنواعه والموت بإشكاله والأمراض والدمار. آذار ونيسان تلك السنة، انقضت أيامهما الثلاثون بالعواصف الترابية الغابرة، رمال حمراء بلون الدم تصبغ السماء. لم تسقط ولا حتى قطرة مطر كانّ السماء يحتج هو الآخر ويعبر عن غضبه بحبس المطر في جوفه.


جارتنا العجوز (شمسة)كانت تخبرنا أن الأوطان عندما تحتل، ينقطع الخير عن أهلها، تجف الأنهار والعيون وتنقطع الأمطار، فتهلك الزرع والحرث والنسل.


دخلت الصالة وكان جدال حامي قد نشب بين أمي ودنيا حول تاريخ هذا اليوم، وما أن وقعت عينا دنيا عليه، حتى هرعت نحوي واتخذتني حكماً.


قالت: سُرى، كم تاريخ اليوم؟ وقالت إن أمي تصر على أنه الرابع من نيسان وأنا أقول الخامس. قلت لهنّ: سهلة جدا، انظرا إلى التقاويم التي تملأ البيت وتنحل المشكلة. دققت التاريخ في جهاز الجوالّ، وقلت اليوم هو الخامس من نيسان، نطت دنيا من مكانها وقبلتني في وجنتي وقالت لأمي : كسبتُ الرهان، هاتِ الألف دينار لأشتري المرطبات.


تركتُ أمي ودنيا تتشاجران في الصالة وصعدت إلى غرفتي لتغيير ملابسي، انقطع صوت دنيا وأنا في الغرفة وظهر صوت آخر تصورته صوت عاصي لكني حين نزلت لمحت ناصر وعمتي مديحة، واقفان في الصالة على وشك الجلوس.


قال ناصر: هاتِ الشاي بسرعة، أنا مستعجل جدأ، لا يزال معي مائة بطاقة دعوة يجب أن تصل إلى أصحابها، ليس أمامي متسع من الوقت.


ناول أمي بطاقة دعوة وناولني أنا بطاقة وقال: لكِ مطلق الحرية في دعوة صديقاتك لحفل زواجي سأدخل القفص الذهبي يوم الخميس.


دخلت المطبخ وأحضرت أربعة أقداح من الشاي، تسمرت في البطاقة وجذب انتباهي أن الخميس هو التاسع من نيسان، وهو يوم شؤم.


قلت لناصر على سبيل المزحة: هل ستتزوج يوم الخميس يا زنديق؟
قال: نعم، وماذا هناك؟


قلت: هل تعرف كم يصادف الخميس، سبقتنا دنيا وقالت الخميس هو التاسع من نيسان. بهت ناصر وتسمر في وجهي كأنّ صاعقة كهربائية لمست أعضاء من جسمه، وضرب على جبينه بكف يديه: وهتف يا الهي كيف نسيت.
ارتبك ناصر وخرج مسرعاً تاركاً والداته عندنا. غمزت والداتي ورمقتني بحنق، ماذا فعلتِ يا مجنونة.


قلت لها: لم أفعل شيئاً، نبهته أن الخميس هو يوم احتلال بغداد، فهل سيتزوج في هذا اليوم المشؤوم. تدخلت عمتي وقالت: والله لم ننتبه، ظروف عائلة العروس ومرض والداها المفاجئ جعلنا نستعجل في إتمام مراسيم الزواج، نخشى أن يتوفى الرجل فيتأجل موعد الزفاف أشهرا. وقالت إن سمير شقيق العروس اختطف قبل ستة أشهر عندما كان يقود سيارته في الكرادة مريم وهو لا يزال مفقوداً لم يرد عنه خبر، فمرض والداه ونام أسابيع في المستشفى، ووالداته تبكي ليلاً نهاراً. سنقيم حفلا صغيرا على مستوى العائلة والأقرباء، لا طبل ولا زمر.
اعتذرت من عمتي، وقلت لم أكن أقصد لكني أتشاءم من يوم التاسع من نيسان، لم يعد نيسان شهر الخير والخصب والنماء، أصبح لا يجلب إلا المآسي والفواجع، نيسان تزدهر فيه عنوسة الصبايا.


ردت عليّ: حقج يمة، كلنا نتشاءم من هذا اليوم الأسود (ماشفنا الخير من جوا عدنا).
استمرت والداتي في لومي حتى بعد مغادرة عمتي مديحة، وأثناء فترة تناول العشاء، اتصل ناصر وأبلغ عاصي أنّ الحفل تأجل إلى الخامس عشر من نيسان. فنلت توبيخة أخرى من والداتي.


بعد أيام قليلة، يقبل الثالث عشر من نيسان، ذكرى استشهاد المقاوم البطل زيد على يد القوات الأميركية وذكرى اعتقال عمر ومثنى. أذكرُ أن السيدية برمتها كانت قد خرجت لتشييع زيد، وقصة بطولاته لا تزال تسرد في المجالس.


ثلاثة شباب انسلوا في ظهيرة أبريل/نيسان مسلحين، ودخلوا في اشتباك مع رتل أميركي كان قادماً نحو أحد الجسور، بعد اشتباك طويل استمر زهاء نصف ساعة، استشهد زيد ودمر همر محمل بالجنود، وأصيب مثنى وعمر بجروح خطيرة.


قال عاصي الذي حضر مراسيم التشييع إن القوة الأميركية اعتقلت المصابين ولا يزالان معتقلين في السجون الأميركية.

.
Golshanalbayaty2005@yahoo.com
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين  / ٢٧ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٢ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور