الديمقراطية وصلاة المنافقين

 
 
شبكة المنصور
ا.د. عبد الكاظم العبودي
عندما بدأ الاستعمار الفرنسي الاستيطاني في الجزائر يتهيأ للاحتفالات المئوية المخلدة لبقائه واستمراره في الجزائر عام 1930 ، شهدت الجزائر في فترة ما بين الحربين حقبة تاريخية تشبه الى حد ما يحدث الآن في العراق المحتل، باعلان فرنسا الدموية انتهاجها طريقا جديدا بمنحها فرصة الديمقراطية للجزائريين واسترجاعها لشعاراتها المنسية منذ الثورة الفرنسية حول ماقيل عن: الاخوة، المساواة، والديمقراطية... وهي بذلك ارادت انتهاج طريق جديد آخر لتطويع البقية من الجزائريين، من المقاومين للاحتلال لاحتوائهم وتضليل الرأي العام الوطني والعالمي بهذه اللعبة لابقاء الاحتلال وتكريسه.


لقد تصدت لمهزلة "الديمقراطية الفرنسية" تلك في الجزائر، ولتوابعها من الاحزاب والشخصيات الجزائرية التي انساقت وراء أوهام الاندماجيين، مقالات الشيخ المجاهد محمد البشير الابراهيمي، نشرها من خلال مجموعة قيمة مقاومة من المقالات السياسية.


عبر الابراهيمي من خلال اسلوبه الادبي الساخر عن تصديه الحازم والرافض لمثل ذلك المسار المغرق بالخيانة الوطنية بقبول البعض الانخراط في مخططات العدو الفرنسي وتزكية سياسات الاحتلال ومخططاته التدميرية للشعب الجزائري.


ففي مقالته الموسومة: "عادت لِعِترِها لميس"، استعرض الشيخ الابراهيمي في جريدة البصائر 2 الصادرة في 24/1/1949 جملة من القضايا والظواهر السياسية التي انساقت اليها بعض القوى الجزائرية اللاهثة وراء الاحتلال، بحجة الدفاع عن حقوق الشعب الجزائري من خلال الصندوق الانتخابي، لاسترجاع السلطات والحكم للجزائريين من ايدي الاحتلال والمستوطنين من خلال الانتخابات التي ينظمها الاحتلال نفسه. لقد قبلوا وقتها تقاسم السلطات والامتيازات لهم مع المستوطنين الاوربيين الغرباء بشروط من المحاصصة وتقاسم المصالح، تشبه محاصصات الكيانات السياسية في العراق، الناهبة لثروات العراق بالتواطؤ مع قادة الادارة العسكرية الامريكية الاحتلالية ومع النفوذ الاختراقي الواسع للمصالح الايرانية وادواتها العراقية المحلية.


وعلى مثل ذلك الوهم القاتل تم تشكيل الاحزاب والكيانات السياسية في الجزائر في "إطار القانون الاستعماري"، وفي ظل بقاء الاحتلال الفرنسي، وتم الانخراط في المسرحية الديمقراطية لقوات الاحتلال من خلال لعبة الانتخابات وشعارات الديمقراطية والمساواة بين الاهالي اصحاب البلاد الاصليين والمستوطنين الاوربيين الغزاة.
من هنا جاءت مقالة الابراهيمي ""عادت لِعِترِها لميس". و"لميس" هنا في مورد المثل الذي عنون به الابراهيمي مقالته، إمراة كانت لها "عوائد"، يعني، وعلى ما يردده الممثل الساخر عادل امام في مسرحيته الرائعة "شاهد ما شافش حاجة"، اي "متعودة".


هي نفسها "لميس" ذات العوائد، وذات الشرور التي تعتادها، وهي بأخلاق السوء التي قد تفارقها مرة، ولكنها سُرعان ما تلبث ان تقارفها، وتمارسها مرة أُخرى، لغلبة وطبع الفساد المستشري فيها.


والعِتر هنا هو " الاصل". وكما يقول العراقيون بمثل هذه الاحوال: " عادت حليمة لعادتها القديمة" و"ان الماء قد يروب"، لكن "حليمة وامثالها لا تتوب" . و"لميس" وأشباهها " حليمة" وغيرهما: يعني انهن" متعودات"، ولا يعرفن يوما التوبة، اعتدن العهر الاخلاقي، كما اعتاد قادة العملية السياسية الجارية في العراق العهر السياسي لخدمة الاحتلال الذي جاء بهم لحكم العراق بعد غزوه ودماره الشامل.


وفي مضرب المثل أعلاه، قصد الابراهيمي "الادارة الجزائرية للاستعمار" التي اراد الاحتلال الفرنسي تنصيبها ، وقد سماها " الحكومة"، كما وردت في مصطلحاته ومقالاته، ليجند بها من يريد ان يحكم الجزائر عن طريق الصندوق الانتخابي وفي ظل الاحتلال، رغم أن الجزائر ظلت محتلة بعد تلك الصحوة الديمقراطية الفرنسية واصحابها قرابة ثلاثين عاما اخرى، دفع خلالها الشعب الجزائري ملايين الشهداء والضحايا.


ويقيني ان تلك الحكومة في الجزائر المحتلة كانت جَدة حكومات الاحتلال الاربعة التي ظهرت في المنطقة الخضراء على ضفاف دجلة بعد الغزو الامريكي للعراق؛ فالحكومات، صنيعة الاحتلال هي من نفس الطينة والمبادئ، فهي تبنت أيضا شعار الديمقراطية للجزائريين يوما، عندما ساوت مع الاقدام السوداء واللفيف الاجنبي وقطعان المستوطنين الغزاة لتحكم الجزائريين باسم الاخوة والمساواة والديمقراطية من خلف أسماء الجزائريين العملاء الذين ارتضوا بالعملية السياسية الفرنسية الشوهاء. وعادت امريكا اليوم نسخها بنفس الفجاجة والحماقة في العراق، لتخدم بأحزابها وكياناتها ورموزها الاحتلال الامريكي اليانكي للعراق وتكريس بقائه من خلال الوهم والتضليل بقرب الانسحاب الامريكي ولكنها تكرس صيغة بقائه لحماية حكوماتها وامتيازاتها ضمن قيود الاتفاقيات الامنية والاقتصادية والعسكرية المتسلطة على رقاب العراقيين لعقود قادمة.


سأترك لبعض من فقرات مقالة الابراهيمي ان تقول كلمتها التاريخية هنا، إزاء ما يُطبخ اليوم في مطابخ ومعالف المنطقة الخضراء، رغم مرور اكثر من 60 سنة على تلك المقالة التاريخية الرائعة التي تُصنف ضمن النصوص المقاومة للإحتلال الفرنسي في الجزائر. يكتب الابراهيمي:


(... اما "حكومة الجزائر"، فانها تتعمد تلك المعنويات بالقتل الحي، عمداً على الإصرار، وجهراً ليس فيه سرار، وعناداً لا توبة فيه، ولا توبة منه، وغاية أمرها، أنها تُسِن القوانين القاتلة، وتتناسى تنفيذها الى حين، تغليطاً للمغفلين، وإيهاماً للمُنتقدين. فاذا عادت من جبروتها عيد، عمدت الى تلك القوانين فأخرجتها كما يُخرَج السلاح لوقت الحاجة، فإذا إقتضتها الظروف شيئاً من التعمية والإيهام، وضعت تلك الاسلحة التي أسمتها "القوانين"، في أيدي بشرية، ممن يلبس لباس هذه الامة المسكينة ويدعي بإسمها... وقالت له:


ـ (ارمِ بهذا، فإنما خلقتُك لهذا، ورزقتك لأجل هذا، ورفعت ذِكرك لمثل هذا، وإنتخبتكَ لتنفيذ هذا، وأوطأت الناس عقبك لتقويم هذا..).


ـ (إرمِ دينك باسم دينك ، واخدع أُمتك، وأكذب على تاريخك، بإسمِه، وعَف رسومَه بما بقي من رسمه...).


ـ (أجهزْ على البقية الباقية، ولك مني الجنة الواقية، والمنزلة الراقية، وفي خدمتك المذياع، وفي نُصرتك الأتباع والأشياع...).


ـ (... هذا ما يقوله لسان الحكومة لصنائِعها... حين تريدهم على تنفيذ رغائِبها الاستعمارية. وإن لها في كل ما ترمينا به هذين النوعين من الأسلحة: سلاح القانون، وهو تحت يدها، وهذا النوع المُسترذَل من السلاح البشري، وهو تحت رجلها... ولكنها تسكت ما تسكت، لحكمة استعمارية ثم تعود... كما عادت لِعِتْرِها لميس...).


ـ (... ان الديمقراطية عند حكومة الجزائر كصلاة المنافقين، لا تُزكي نفساً، ولا تَنهى عن فحشاءٍ، وتفضُلُها صلاة المنافق، بأن فيها من الصلاة، مظهر الصلاة... فإن الديمقراطية عند الأُمم التي تنتحلها وتزعمها لنفسها تتجلى في عدة مجال، أرفعُها الإنتخاب، فهو عندهم العنوان الواضح للحرية... والميزان العادل لاختيار الشعب.. اما في الجزائر، فالانتخابات، منذ سُنت، لعبة لاعب، وسُخرية ساخر، ورهينة استبداد، ولدت شوهاء ناقصة، وما زالت متراجعة، ناكصة...).


ـ (... وحسب الاستعمار "ديمقراطية" ان يحاكم معلمي العربية والإسلام، ويسجنهم على التعليم كما يحاكم المجرمين ويسجنهم على الاجرام، في محكمة واحدة، وسجن واحد، وظرف واحد،... أليست هذه هي الديمقراطية؟؟... فما لكم تكذبون؟؟؟).


وهكذا صار ( الانتخاب وبالاً على الامة، ووباء، وذهب بالبقية المُدخرة من الاخلاق الصالحة هباء).


وما نراه اليوم في ديمقراطية المنطقة الخضراء في العراق، الا نبوءةً محققة للإبراهيمي في: موسم النفاق في العراق، والتسابق على الكراسي لكل المعوقين سياسيا، والاصطراع على المناصب بين عوام الساسة من الجهلة والمنافقين والمتجاهلين لطبيعة وحقائق الصراع الحضاري مع الاحتلال الامريكي ونزواته..


ومع كل هذا السيرك المضحك المبكي الذي نشهده اليوم في بغداد، ونحن نرى ونسمع كيف يُطلبَ الى هذا أو ذاك الشخص المنبوذ في وطنه ان يعيد دور"عادت لِعِترِها لميس"، ويسمونه تملقا "المترشح لعضوية مجلس النواب العراقي"، ويحرضون له من سمي بـ [الناخب]، لمجرد ان ذلك "الناخب" مجرد ضحية مسجلة في سجل قوائم البطاقة التموينية التي فرضها الحصار الامريكي على بطون ابناء شعب العراق، او هناك من بشر القرن العشرين من وجد اسمه في سجلات الحالة المدنية العراقية منكودا مع بقية الجياع الآخرين من متشردي أبناء العراق في وطنهم وخارجه ليطلب منه المشاركة في الاصطباغ العبودي البنفسجي لابهامه، زفة الطرشان انتهت بحفلات وندوات للاعلام العميل صباح مساء، لازالت تتباهى في ذلك اليوم المنكود المشهود له كي يصبغ الفقراء إبهامهم بالحبر الازرق، وهم يختارون له شخصاً أو قائمة لا يعرفونها، أو ليُزكوا له برنامجا لا يفهم مئآربه..ويتيحون الفرصة للاشباح القادمة والمجاهيل التي ستحكم العراق، العراقيون جاهلين بالآتي ومن سيحكمهم، خلفهم وامامهم حراب الاحتلال وترسانته العسكرية وشركات نهبه المنظم لخيرات بقية البلد المستباح.


وكما "عادت لِعِترِها لميس" في الجزائر يوما حتى كنستها الى الابد ثورة نوفمبر 1954، ومثلها اليوم تلعب "مريم" في العراق، وهن لا يخجلن من اسمائهن وسيرتهن.... ومثيلاتهن القادمات فوق الدبابات الامريكية، من اشباه المسترجلات والمستخنثين، و هم لا يخجلون من مثليتهم السياسية، عندما يطلبون حكم العراق محتلا وهم تحت السرير الامريكي متنعمين بزواجات المتعة والمحاصصة في أحضان العملية السياسية.


.. انهم أحصنة طروادة الجددـ موظفون في رواق الديمقراطية الاحتلالية، في سباق ليس لنا فيه ناقة ولا جمل، سباق تجري في مضماره وتتسابق بغال الاحتلال الامريكية، سيأتي حصاده مرا في زمن النفاق والعهر السياسي.
وفي بلد حط به الرحال في غفلة من زمن كل شذاذ الافاق جاؤوا من كل حدب وصوب، في وطن كان لنا حرا كريما، وكان عنوانه العراق وسيبقى عندما يرحلون.

.
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين  / ٢٠ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٥نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور