ذكرنا في معرض الحديث عن رؤوف البحراني أن الحكومة التركية نفت “الشاعر المعروف عبد الحسين الازري والأديب إبراهيم صالح شكر الى مدينة (قيصري) في قلب الأناضول كما أبعدت المثقفين من أبناء العرب والجنود المدربين الى أماكن متفرقة وشتت شملهم”.

 

ووردتني رسالة الدكتور مليح إبراهيم صالح شكر، يوثق فيها ما تعرض له والده نتيجة ذلك النفي.

 

وإبراهيم صالح شكر هو الصحافي والكاتب المشهور المولود في محلة قهوة شكر في بغداد سنة 1893، صاحب جرائد، الزمان والناشئة، والناشئة الجديدة والوميض، والأماني، والربيع، واليقظة، والتجدد، الخ... وكانت هذه الصحف تغلق الواحدة تلو الأخرى بجرة قلم بسبب موقفه الوطني الجريء.

 

يقول الدكتور مليح المقيم لاجئاً في إحدى دول الغرب الآن: “وفي عام 1915 تعرض ـ يقصد والده ـ لتعسف العثمانيين بسبب حماسته وكفاحه من اجل الاستقلال العربي، مما أثار ضغينة شفيق بك والي بغداد الذي اقنع قائد الجيش العثماني بالقبض على ستين ناشطاً في ليلة 3 نوفمبر 1915، وتقرر نفيهم إلى الأناضول في تركيا، ونقلوهم بالقطار تحت الحراسة إلى سامراء، ومنها الى الموصل على ظهر الدواب. لكن المجلس العرفي العثماني استبدل القرار لعدد من المنفيين، الى النفي في الموصل، وقضى فيها أربعة أشهر، كان خلالها يكتب لأقربائه ببغداد يطلب مالاً لسد احتياجاته، ووثق إبراهيم صالح شكر فترة النفي هذه في سلسلة مقالاته بعنوان (حتروش).

 

لا بد أن أذكر أن المؤرخ العراقي البارز عباس العزاوي أورد في الجزء الثامن من كتابه المهم (تاريخ العراق بين احتلالين) أسماء عدد من المنفيين بقرار القائد العام للجيش العثماني، ومن أصل 63 منفياً، أورد العزاوي أسماء (عبد الجبار غلام، وإبراهيم أحمد صالح شكر، وإبراهيم حلمي العمر، وشلال بن حاجي حبيب الأفغاني، وميخائيل ياغجي، وأخوه يوسف، عبد الأحد صاحب الأوتيل، حسقيل طويق، وإبراهيم حييم، وسلمان عنبر، وعزرا سحيق فقط).

 

وفي رسالة أخرى وجهها إليّ تحت عنوان “كي لا يغشك تاريخ مزاحم الباجه جي” عقب على ما ذكرته أنه في “سنة 1913 افتتح النادي في بغداد وكان قد أسسه مزاحم الباجه جي مع عدد من أفاضل بغداد وقد كان هذا أشبه بمدرسة قومية ومكاناً لالتقاء الطلاب ومناقشة أوضاع بلدهم”... قال الدكتور شكر: “إن لمزاحم الباجه جي حكاية لا بد من أن تروى وفقاً للمصادر التاريخية التي تحدثت عنه وعن أسلوبه في الإدارة الحكومية. وهي أنه كان أصلاً من أعضاء الحزب الوطني العراقي الذي يقوده جعفر أبو التمن، لكن الملك فيصل الأول أوعز لنوري السعيد باستمالته بعد أن كان غاضباً منه بسبب رسائل مغفلة التوقيع تتضمن تشهيراً بالملك، وقد ارتاح الباجه جي لهذه الالتفاتة، التي تعني أن فيصلاً قد عفا عنه، فانضم وزيراً للأشغال في حكومة نوري السعيد الأولى، وبعد حين، حوله السعيد إلى وزارة الداخلية، حين كان إضراب البلدية قد اندلع، فتطرف الوزير في قمع المعارضة اعتقاداً منه أن ذلك يرضي الملك فيصل، ولجأ الى تقييد الحريات والاعتقالات والمطاردة والرقابة، وعطل الأحزاب، وأغلق جمعية أصحاب الصنائع، أول نقابة في تاريخ العراق، واعتقل رجالها، حتى ضاق حلفاء السعيد ذرعاً منه، فاضطر نوري السعيد إلى تقديم استقالة حكومته ليشكلها فوراً باستثناء واحد هو استبعاد الباجه جي من الوزارة، وغادر الباجه جي بعدها العراق، ولم يعد إليه إلا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، ليصبح بعد قليل من عودته رئيساً للحكومة”.

 

وبين الدكتور شكر أن والده كان وقتها رئيساً لتحرير صحيفة (الأماني القومية) فنشر مقالاً عنيفاً ضد الباجه جي، في 30 أكتوبر 1931، تحت عنوان “حفنة تراب على مرقد الباجه جي مزاحم الأمين”، وقال فيه إن الوزير”لاحق المضربين بأسباب العنف، ووسائل الشدة، فصفرت الأسواق والشوارع، واكتظت بهم أرتال السيارات المصفحة، وجيش الشرطة المسلح، ثم أغلق جمعية أصحاب الصنائع، وختم على بابها بالشمع الأحمر، ثم زج الأبرياء في أعماق السجون، فتشنج الشعب، وتجهمت الحالة، فامتد الإضراب العام وساهمت فيه الألوية (المحافظات) الأخرى”.

 

ومن فورها أطاحت حكومة نوري السعيد بصحيفة “الأماني القومية”، فألغت امتيازها، ولم تكن قد أصدرت سوى عددها الأول هذا، واشتكى مزاحم الأمين الباجه جي في محكمة جزاء بغداد، متهماً رئيس التحرير والمدير المسؤول بتهمة القذف، فتطوع 35 محامياً للدفاع عنهما في جلسة سرية رفض الدفاع الاعتراف بها لأن الدعوى لا تتعلق بسلامة أمن الدولة لكي تكون جلسات المحكمة سرية. فحكم الحاكم شهاب الدين الكيلاني بالحبس لمدة سنة لإبراهيم ولمدة ستة أشهر لعبد الرزاق، استبدلها حاكم الاستئناف الإنجليزي فيما بعد إلى السجن لمدة أربعة أشهر لإبراهيم وشهرين لمديرها المسؤول عبد الرزاق شبيب، فأودعا في السجن المركزي ببغداد. قضى إبراهيم 60 يوماً منها داخل السجن، ثم أنهكه المرض فأفرج عنه.

 

ومزاحم الباجه جي، شغل منصب وزير الأشغال والمواصلات في وزارة ياسين الهاشمي الأولى في أغسطس 1924، وكذلك في وزارة نوري السعيد الأولى 1930، وأصبح وزيراً للداخلية بعد تعديل الوزارة، وشكل عام 1946 أول وزارة له، وشغل منصب نائب رئيس الوزراء في وزارة علي جودت الأيوبي الثانية عام 1946، وهو والد الدكتور عدنان الباجه جي النخرط في العملية السياسية التي فرضها المحتل الأميركي في العراق الآن.

إني إذ أشكر الدكتور مليح إبراهيم صالح شكر على هذه الإضاءات المهمة أحثه على طبع كتابه الذي يتناول سيرة والده المجاهد لأهميته في هذا الوقت، كما أعده بالكتابة عن والده متى ما تيسّر لي ذلك.