مكانة أهل العراق عند الله عزوجل عبر التاريخ

﴿ الجزء الخامس ﴾
 
 
 
شبكة المنصور
الرفيق رأفت علي - بغداد الجهاد

هل أمن العراقيين بعد إبراهيم عليه السلام

 

المقدمة :-

بعد أن اعتمدنا في الأجزاء الأربعة السابقة من بحثنا عن مكانة أهل العراق عند الله عزوجل ، على ما جاء في كتاب الله العزيز وأحاديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ما توصل إليه علماء الآثار والتاريخ من أدلة ووقائع تبين حقيقة إيمان أهل العراق . سنبين في هذا الجزء وبعونه تعالى بعض الحقائق التي تمكنا من جمعها وتحليلها والتي تتناول البعد الإيماني في الفكر السياسي لحضارة وادي الرافدين عامة ، ولتشريعات الملك حمورابي خاصة. وبمعنى أوضح فسنبين حقيقة إيمان أهل العراق في هذا الجزء على ضوء ترجمة علماء الآثار والتاريخ واللغات القديمة لبعض النصوص التي دونها أهل العراق القدماء في الألواح والرقم الطينية.

 

ورب سائلا يسال فيقول : بان علماء الآثار والتاريخ واللغات القديمة قد يبنوا لنا بان أهل العراق القدماء لم يكونوا مؤمنين إنما على العكس فقد كانوا من عبدة الأصنام والأوثان والكواكب حتى عبدوا أكثر من إلهة . كالإله انو ، انليل ، انكي ، سين ، مشمش ، عشتار ، ادد ، نركال ، ايريشكيكال ، مردوخ ، اشور ، نابو ..؟

 

وللإجابة على هذا التسأول المهم لابد لنا أن نعرض بعض مما جاء به علماء الآثار والتاريخ واللغات القديمة أنفسهم . فقد بين لنا أولئك العلماء العديد من الأمور الهامة والتي تعتبر دليلا على إيمان أهل العراق لا على كفرهم. ورغم تحفظاتنا على ترجمة بعض النصوص السومرية والاكدية والأشورية والبابلية والتي قد تعتريها بعض الأخطاء 1، إلا إننا سنستعين ببعض ما تمت ترجمته..

 

 

تحريم لحم الخنزير عند السومريين:-

من خلال قراءتنا لترجمة بعض كتابات الرقم والألواح الطينية التي اعتاد أهل العراق على تدوين إحداثهم وقوانينهم عليها ، يتبين لنا إن الملك السومري أبي سين والذي حكم بين عامي ( 2027- 2003 ) قبل الميلاد وهو أخر ملوك سلالة أور الثالثة حيث تمكن العيلاميين - وهم من الأقوام التي سكنت المنطقة الشرقية المجاورة للعراق أي ماتعرف اليوم بإيران - من إسقاط حكمه واحتلال عاصمته مدينة أور ومن ثم تدميرها وقتل كل من كان فيها حتى أسدل الستار على هذه المدينة إلى يومنا هذا ، و كنتيجة للظروف الصعبة التي مرت بها بلاد سومر قبل هجوم العيلاميين ولأسباب أخرى كارتفاع نسبة الملوحة في التربة وقلة الإنتاج الزراعي وانفصال وتمرد العديد من المدن التي كانت جزاءا من دولة سلالة أور الثالثة وهجمات قبائل المنطقة الشمالية الشرقية وقبائل المنطقة الغربية وانفصال اشبي ايرا وهو احد ابرز قادته ومعاونه في مدينة أيسن ؛ فقد اصدر أبي سين قرارا سمح فيه لأهل سومر بأكل لحم الخنزير حيث كان محرما من قبل . إن قرار الملك أبي سين بجواز أكل لحم الخنزير كان قرارا مهما لإنقاذ شعب سومر من المجاعة التي هددتهم نتيجة الظروف القاسية التي أشرت إليها أنفا 2.

 

وبالتالي فان قرار الملك أبي سين يكشف لنا عن حقيقة مهمة جدا ذات صلة  بمعتقدات أهل العراق حينذاك ، فما هو السبب وراء تحريم أكل لحم الخنزير على أهل العراق ؟

 

رب قائلا يقول إن سبب ذلك التحريم عائد إلى كون لحم الخنزير من القرابين التي اعتاد أهل العراق تقديمها إلى الإلهة .

 

إلا إنني أجد إنه من المفترض إن تكون القرابين المقدمة للإلهة ذات مكانة كبيرة وقيمة عالية ، أي وبمعنى أوضح إن تكون القرابين من مواد أو لحوم غالية الإثمان نادرة الوجود وليس من الخنازير التي يكثر وجودها منذ ذلك الزمان في القسم الجنوبي من العراق 3. فمثلا من غير المعقول إن يقدم الناس لإلهتهم حلي من النحاس أو الحديد إنما الأجدر وكتعبير عن مكانة وقيمة الإلهة واحترام إتباعها لها إن يقدموا لها حلي من الذهب . ونفس الحال ينطبق على لحم الخنزير فهو ليس أجود وأثمن من لحم الغزال مثلا أو حتى من لحم الأبقار والثيران .

 

ولو افترضنا أن تحريم لحم الخنزير عند السومريين كان سببه هو تقليد سومري متبع في ذلك الزمان حيث امتنع السومريين عن أكل لحم الحيوانات الكثيرة اللحم والخنزير هو من تلك الحيوانات ، ولكن تهديد المجاعة لهم جعلهم يحللون أكله .

 

فهذا الافتراض غير صحيح ، لان السومريين لم يحرموا ذبح الحيوان الكثيرة اللحم إنما حرموا ذبح تلك الحيوانات من قبل الفرد الواحد والسبب في ذلك لان الإفراد السومريين في ذلك الزمان لم يكن لديهم خزانات خاصة لحفظ اللحوم وبالتالي فان ذبح الحيوان الكثير اللحم من قبل فرد سومري واحد سيؤدي إلى التبذير في اللحم فيأكل جزء من لحم ذلك الحيوان ويرمي الباقي ، إما لو تم اجتمع عدد كبير من الإفراد لتناول الأكل فحينها فلن يمنع عليهم ذبح أي حيوان كثير اللحم لأنهم سوف يقدرون على تناول كل كمية اللحم تلك . أي بمعنى أخر فان لحم الخنزير كان محرما على الإفراد وعلى الجماعات في آن واحد وليس على الإفراد فحسب كما هو الحال مع بقية الحيوانات الكثيرة اللحم كالثيران والأبقار مثلا 4.

 

السومريين وحقيقة ايمان أهل العراق :-

ومن خلال اطلاعنا على الأبحاث التاريخية والتنقيبات الأثرية يتبين لنا إن العراق كان في عهد ملوك السومريين بلدا موحدا حتى أطلق على بعضهم ملوك سومر وأكد وأول من أطلق على نفسه هذا اللقب هو مؤسس سلالة أور الثالثة (2113- 2003 قبل الميلاد ) وهو الملك أور نمو. كما أطلق على بعض ملوك وادي الرافدين لقب ملك الجهات الأربعة ، كالملك نرام سين و اوتو حيكال .. 5.

 

بل إن ملوك العراق قد دأبوا على إقامة إمبراطورياتهم العظيمة والتي أخضعت مدن عديدة من بلاد الشام وعيلام والجزيرة فضلا عن أعالي نهري دجلة والفرات وهي المنطقة الممتدة مابين نهر دجلة ونهري الخابور والبليخ والتي تسمى اليوم بديار بكر وسواها من جنوب تركيا .. ولهذا فان المقصود في عبارة السومريين هم أهل العراق القدامى وليس سكنة مدنية أور وما جاورها فحسب . فقد اثر الملوك السومريين في باقي إرجاء العراق والمناطق المجاورة له حتى باتت لغة أهل العراق وعاداتهم وتقاليدهم متقاربة ومتشابهة إن لم نقل متطابقة 6.

 

ولهذا فأنني افترض بان تحريم لحم الخنزير في عهود الملوك السومريين الذين سبقوا الملك أبي سين أي قبل الظروف القاسية التي مر بها أهل العراق في عهد الملك أبي سين كان له بعدا دينيا عند السومريين ، أو لربما كان كتوجيه من قبل احد الأنبياء الذين بعثهم الله عزوجل للسومريين ممن لم يلاقوا ما لقاه سيدنا إبراهيم عليه السلام.

 

البعد الإيماني في شريعة حمورابي ملك سلالة بابل الأولى :-

المطلع على التشريعات القانونية التي سنها الملك حمورابي ملك سلالة بابل الأولى ، تعطي لنا انطباعا مماثلا عما وجدناه في قانون تحريم لحم الخنزير .

 

سيرة حمورابي :-

يعتبر الملك حمورابي وهو من ملوك سلالة بابل الأولى واحد من أشهر وأعظم ملوك العراق ، فقد حكم مدة 42 عاما ( 1793الى 1751 ) قبل الميلاد  ، تمكن خلالها من إعادة توحيد العراق واتخذ من مدينة بابل عاصمة لدولته العظيمة. فبعد إن كانت مساحة دولتهم لا تتعدى 80 كم ، نجح حمورابي من تأسيس إمبراطورية كبيرة فرضت سيطرتها على جميع إرجاء بلاد الرافدين وعلى أجزاء واسعة من الشام والجزيرة وأعالي مابين نهري دجلة والفرات ، وهي المنطقة المحصورة بين مابين نهر دجلة ونهري الخابور والبليخ . وعثر في اميدا – ديار بكر حاليا – على منحوتة قد تدل على وصول حمورابي هناك.

 

ومن أهم انجازات الملك حمورابي إعادة وحدة العراق ، وإقامة نظام إداري مركزي فربط جميع إرجاء إمبراطوريته بعاصمته بابل ، وحدد صلاحيات الكهنة حتى الغي محاكم الكهنة ، كما دأب حمورابي على معرفة كل صغيرة وكبيرة تجري في البلاد ، فكان يقوم بين الحين والأخر بجولات تفتيشية في شتى إرجاء إمبراطوريته ، كما عين موظفا خاصا لجمع الضرائب ، واهتم باستصلاح الأراضي الزراعية وشق قنوات الري ، ومن اجل توحيد البلاد ثقافيا فقد اهتم كثيرا بالتعليم فافتتح مدرستين على الأقل الأولى كانت في سبار والثانية في كيش بينما استمر تعليم الأولاد في المعابد ، واهتم أيضا بجمع التراث الفكري المدون بلغة بلاده كما دون في عهده العديد من القطع الأدبية والعلمية وفي شتى صنوف الحياة وكان بعضها باللغة السومرية  ويشتمل على كتابات من العصور السالفة ، وأعيدت كتابة ملاحم كثيرة حوت تاريخ الأرباب السومرية وملوك وإبطال سومر الأوائل ومنهم كلكامش وملوك سلالة أور الثالثة وايسن ولارسا وحكام بابل الأوائل . فضلا عن اهتمامه في الجيش حيث صار التجنيد في عهده إجباريا ولم يسمح قانون حمورابي لأي جندي إن يرسل بديلا عنه إلى الخدمة 7.

 

شريعة حمورابي :-

ولأجل إدامة وحدة إمبراطوريته العظيمة ومن اجل المحافظة على كل هذه الانجازات سن حمورابي قانونا موحدا للبلاد في عام 1780 عرف فيما بعد بمسلة حمورابي والتي تألفت من 282 قانونا - مع الإشارة إلى أن البند 13، والبنود من 66 لـ 99، و110، و111 مفقودة. و اعتبرت تشريعات حمورابي هي الأولى في التاريخ من حيث  تكاملها وشموليتها لكافة نواحي الحياة 8، وقد تضمنت تشريعات حمورابي الأتي:-

 

1- ما يخص القضاء والشهود ؛ منح حمورابي القضاة صلاحية إصدار العقوبة من دون الرجوع إلى موافقته ، ففصل بذلك السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية . وبسبب هذا الإجراء فقد منع حكام الولايات من الاستبداد في تصريف شؤون القضاء.

 

ومقابل هذه الحرية التي حصل عليها القضاة في ممارسة واجبهم فقد وضع حمورابي عقوبات صارمة على القضاة أنفسهم إن استغلوا القضاء لمنافعهم الشخصية أو حادوا عن تطبيق العدالة الحقة وخير شاهد على ذلك هي المادة 5 من شريعته ، حيث نصت على مايلي :

 

(( إذا نظر قاض في قضية قانونية واصدر بخصوصها حكما وثبت الحكم على رقيم مختوم ، وبعد ذلك غير قراره ، فإذا ثبت إن القاضي قد غير حكمه في القضية التي نظر فيها ، فعليه إن يتحمل عقوبة تلك الدعوى ويدفع اثني عشر مثلها ، وفضلا عن ذلك يطردوه بلا رجعة من مجلس القضاة ومن على كرسيه ولا يحق له إن يجلس مع القضاة للنظر في دعوى )) .

 

إما فيما يخص التهم الكاذبة التي تؤدي بالمتهم إلى الموت إذا لم يثبت كذبها ، فان عقوبتها الإعدام ، لان اتهامك للناس من دون أدلة ثابتة قضية سهلة يستطيع كل إنسان فعلها ، وذلك وجب على من يتهم الآخرين إن يكون متأكدا مما يقول ، لان المبدأ المعتمد في القضاء البابلي يقول : ليفلت من القضاء مئة مجرم ولا يذهب برئ واحد جراء الخطأ ، لان المجرم الذي يفلت من وجه العدالة مرة أو مرتين لابد له وان يمسك في المرة الثالثة أو الرابعة ، ولكن البرئ الذي يعدم فلا يمكن رد اعتباره حتى لو ثبتت براءته فيما بعد 9.

 

2- ما يخص السرقة والنهب ؛ تشير المادة 8 من قانون حمورابي على إن أي سرقة يقوم بها الإفراد مع سبق الإصرار على تنفيذها تكون عقوبتها الموت . إما إذا لم يتوفر في السرقة عامل سبق الإصرار على تنفيذها فعقوبتها لا تكون الموت بل غرامة كبيرة جدا. إما المادة 21 فنصت على  (( إذا احدث رجل ثغرة في دار ما – من اجل السرقة – فعليهم إن يعدموه إمام تلك الثغرة ويدفنوه في الجدار)) 10.

 

3- ما يخص بشؤون الجيش ، نصت المادة 33 على (( إذا وافق رئيس أو عريف على تخلف جندي عن حملة الملك وقبل أجيرا وأرسله عوضا عنه في حملة الملك ، فان هذا الرئيس أو العريف يعدم )). إما المادة 34 فقد نصت على (( إذا تقبل رئيس أو عريف حاجات من جندي أو اغتصب أموال جندي أو أعطى جنديا للمحكمة بتأثير شخص قوي ، فان هذا الرئيس أو العريف يعدم )) 11.

 

4- ما يخص بالمزارع والبيوت ؛ من خلال مواد هذا القسم يبدو واضحا إن العرف السائد في المجالات الزراعية هو إن الشخص الذي يتعهد في زراعة حقل لا يعود له ولم ينفذ تعهده ، عليه إن يدفع لصاحب الحقل حاصلا يساوي الحاصل المنتظر  من زراعة ذلك الحقل ، والشئ نفسه مع الأشخاص الذين يتسببون في إتلاف مزروعات حقول جيرانهم بسبب إغراقها بمياه السقي نتيجة الإهمال ، ومع ذلك فان شريعة حمورابي قد حمت الفلاح من الإضرار التي تصيب الحقل المتعهد بزراعته والتي تقع خارج إرادته مثل الفضيان والأعاصير ، حيث عفت الشريعة مثل هؤلاء الفلاحين من أي التزام اتجاه صاحب الحقل وعفته من الفائض المترتب عليه ، وفضلا عن ذلك فقد حمت الشريعة أصحاب الأراضي الزراعية من التجار والمرابين ، حيث منعت التجار من السيطرة على حقول الأشخاص المدينين لهم ولم تسمح لهم بالتصرف بمحاصيلها مقابل الدين الذي بذمة أصحابها ، بل عليهم الانتظار لحين إن ينمو المحصول ويباع ومن ثم تدفع لهم الديون .وإضافة إلى ذلك فان شريعة حمورابي كانت تعاقب كل من يسئ إلى بستان غيره من دون موافقة صاحب البستان وخير دليل على ذلك منطوق المادة 59 حيث ينص على مايلي (( إذا قطع رجل شجرة في بستان رجل من دون موافقة صاحب البستان فعليه إن يدفع نص منا ً أي 227.5غم من الفضة )).

 

وفيما يخص إيجار البيوت وعلاقة بعضها ببعض فان معظم المواد المتعلقة بهذا الموضوع قد أصابها التلف ولكنها مع ذلك قد وضحت لنا إن المالك الذي يؤجر داره لشخص ما ويدون بذلك عقدا ، فلا يحق له بعد ذلك المطالبة من المستأجر بإخلاء داره إلا بعد نفاذ مدة العقد أو عليه إن يعيد مبلغ الإيجار كاملا غير منقوص كي يتمكن المستأجر من استئجار دار أخرى ، وفضلا عن ذلك يبدو مما تبقى من المواد المتعلقة بالبيوت إن العرف السائد كان يلزم صاحب كل الدار إن يجعل داره بحالة لتؤثر على دار جاره أو تكون سببا لسطو اللصوص عليه ، وإذا لم يلتزم أصحاب الدور بذلك يكون لزاما عليهم إن يعوضوا جيرانهم الإضرار التي تصيبهم نتيجة السرقة 12.

 

5- ما يخص بالقروض والفائدة ؛ نصت المادة 102 على (( إذا اقرض تاجر بياعا متجولا نقودا من اجل الاشتغال ، ولكنه تكبد خسارة حيثما ذهب ، فعليه إن يعيد إلى التاجر رأس المال فقط ))13.

 

6- ما يخص بائعات الخمور ؛ نصت المادة 109 على (( إذا تجمع محتالون في بيت بائعة خمر ولم تلق القبض على هؤلاء المحتالين ولم تقدمهم إلى القصر ، فان بائعة الخمر هذه تعدم )) . كما نصت المادة 110 على (( إذا لم تقم كاهنة الناديتوم والاينتوم في الدير وفتحت حانة للخمر أو دخلت حانة للخمر لشرب الجعة ، فعليهم إن يحرقوا تلك المرأة ))14.

 

7- ما يخص الائتمان والديون ؛ تنص المادة 21 على (( إذا احدث رجل ثغرة في دار ما – من اجل السرقة – فعليهم إن يعدموه إمام تلك الثغرة ويدفنوه في الجدار)) ونصت المادة 122 على (( إذا أعطى رجل فضة أو ذهب أو أية أموال أخرى إلى رجل أخر للمحافظة عليها ، فعليه إن يشهد الشهود على ما يعطيه ، وعليه إن يدون عقدا بذلك ، عندئذ يستطيع إن يعطي أمواله للمحافظة عليها )) .. ونصت المادة 123 على ((فإذا أعطى أمواله بلا شهود ولا عقد مكتوب للمحافظة عليها ، وبعد ذلك أنكرها صاحب المكان الذي أودعها فيه ، فان هذه القضية لاتحتاج إلى إقامة دعوى)). ونصت المادة 126 على (( إذا لم يفقد رجل شيئا يعود له ، ولكنه ادعى – إن أموالي قد فقدت – وخدع بذلك مجلس بلدته ، فعلى مجلس بلدته إن يبرهن إمام الإله انه لم يفقد شيئا يعود له ، وعندئذ عليه إن يدفع مضاعفا لما اشتكى بسببه إلى مجلس بلدته ))15.

 

8- ما يخص الزواج والعائلة والتبني ؛ نظام الزواج خلال عهد حمورابي كان يعتمد مبدأ الزوجة الواحدة ، أي بمعنى إن الرجل ما كان يجوز له إطلاقا إن يحتفظ بزوجتين شرعيتين في إن واحد . إلا في حالة واحدة وهي عندما تصاب زوجته الأولى بمرض عضال فيحق له الزواج بثانية مع شرط الاحتفاظ بالزوجة الأولى . إما إذا فضلت الزوجة الأولى الطلاق والرجوع إلى بيت أبيها فيحق لها ذلك .كما حرمت شريعة حمورابي الطلاق الكيفي ولكنها إباحته في الحالات التي تنسجم والهدف الأساسي من الزواج ، ولذلك يحق للرجل إن يطلق زوجته في حالتين فقط ، الأولى عندما لأتملك زوجته القدرة على إنجاب الأطفال ، والحالة الثانية عندما تسئ سلوكيات الزوجة إلى سمعة زوجها ، وهذا الحق الثاني في طلاق الزوج زوجته تتمتع به الزوجة كذلك حيث إذا تبث للقضاة إن سلوكيات الزوج تسئ فعلا إلى سمعة زوجته فلها الحق في طلاق زوجها .ومادامت سمعة الزوج والزوجة تؤثر كثيرا على العلاقة الزوجية لذلك تشددت شريعة حمورابي مع من يسئ إلى سمعة النساء من دون مبرر حيث تنص المادة 127على (( إذا تسبب رجل في إن يشار بالإصبع إلى كاهنة الاينتوم أو إلى زوجة رجل ولكنه لم يثبت اتهامه فعليهم إن يجلدوا هذا الرجل إمام القضاة وان يحلقوا نصف شعر رأسه )).

 

ويشترط في الزواج الشرعي إن يكون مثبتا في عقد رسمي وهذا ما أكدت عليه المادة 128 حيث نصت على (( إذا اتخذ رجل زوجة له ولم يدون عقدها – أي عقد الزواج – فان هذه المرأة ليست زوجة شرعية )).

 

كما إن شريعة حمورابي لم تفرق على الإطلاق بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق الزوجية لكل واحد منهما فعندما منحت الشريعة الحق للرجل بطلاق زوجته غير القادرة على الإنجاب والزواج بامرأة ثانية قد منحت الحق نفسه للمرأة  عندما لا يستطيع الرجل إن يؤدي واجباته الزوجية اتجاه زوجته حيث منحت الشريعة الحق للزوجة التي يبتعد زوجها لأي سبب كان ولم يترك لها ما يعيلها فلها الحق في الزواج من رجل ثان وخير شاهد على ذلك المادة 134 حيث نصت على (( إذا اسر رجل ولم يترك في بيته طعام الكافي ودخلت زوجته في بيت رجل ثان فان هذه المرأة لأذنب لها )) .

 

وفيما يخص زواج الكاهنات فلا خلاف فيه عن زواج النساء الاعتياديات ما عدا حالة واحدة برزت واضحة في مواد شريعة حمورابي وهذه الحالة تتعلق بزواج الكاهنات من نوع الناديتوم والاينتوم حيث سمحت لهن الشريعة بالزواج ولكنها حرمت عليهن إنجاب الأطفال ومن خلال دراسة النصوص المسمارية التي سبقت شريعة حمورابي تبين لنا بان هذا النوع من الكاهنات كان يقوم بدور العروس في طقس الزواج المقدس الذي هو زواج يهدف إلى زيادة الوفرة في البلاد ولذلك كان العريس يقوم بتمثيل دور الإله تموز والعروس بدور الإلهة عشتار والأطفال الذين كانوا يتولدون عن هذا الزواج كانوا في الكبر يدعون الإلوهية على اعتبار أنهم نتجوا عن أبوين كل منهما كان يتقمص دور اله . وهذه الناحية كانت تؤثر على الملوك في إدارة شؤون البلاد وبالأخص عندما تستغل من الخصوم ولذلك يصعب على الملوك إن يحكموا شعوبهم ومن بينهم عدد يدعي الإلوهية .

 

ولهذا تشير المعلومات إن الملوك الأوائل لسلالة بابل الأولى قد منعوا هذا النوع من الكاهنات من إنجاب الأطفال لتفادي ظاهرة تأليه هؤلاء الأطفال في الكبر لأنفسهم وقد ظهر هذا التحريم واضحا في شريعة حمورابي حيث إن كاهنة الناديتوم أو الاينتوم إذا تزوجت رجلا عليها إن تهديه امرأة لتقوم هذه المرأة عوضا عنها بإنجاب الأطفال لزوجها وخير شاهد على ذلك المادة 144 التي نصت على (( إذا تزوج رجل كاهنة ناديتوم وأعطت هذه الكاهنة لزوجها امة وبذلك تسببت في إن يكون له أولاد فإذا عزم الرجل على الزواج من كاهنة الشوكيتوم فلا يسمح له بالزواج وعليه إن لا يتزوج الشوكيتوم )). ومنع هذا النوع من الكاهنات من إنجاب الأطفال قد تسبب فعلا في عدم ظهور من يدعي الإلوهية خلال فترة حكم سلالة بابل الأولى .

 

وفيما يخص موضوع التبني فان مواد شريعة حمورابي قد بينت لنا نوعين من أنواع التبني الأول يتمثل بتبني الأطفال منذ ولادتهم من قبل العوائل التي لم ترزق بالأطفال وفي مثل هذا النوع منن التبني بفقد الطفل علاقته بعائلته نهائيا ولا يحق لوالديه استرجاعه فيما بعد والمادة 185 توضح هذه الحقيقة (( إذا تبنى رجل طفلا ليسمى باسمه وقام بتربيته فلا يطالب بذلك الطفل المتبنى )).

 

والنوع الثاني من التبني يتمثل بتبني الأولاد وهم في سن السابعة من العمر ومن شروط هذا النوع من التبني هو إن يعلم الرجل حرفته للولد الذي تبناه وإذا لم يعلمه حرفته فيعتبر هذا التبني باطلا وفي الماديتين التاليتين الشاهد على ذلك ، فالمادة 188 قد نصت على (( إذا اخذ حرفي ولدا ليربيه – إي يتبناه – وعلمه عمل يده – إي حرفته – فلا يطالب به )). وإما المادة 189فقد نصت على (( فإذا لم يعلمه عمل يده يحق لذلك الولد المتبنى الرجوع إلى بيت أبيه )).

 

والسبب في هذا النوع من التبني راجع إلى طبيعة الحياة آنذاك حيث لم يكن هنالك إي ضمان اجتماعي للموظفين والحرفيين والعمال فرب العائلة لا يعتمد إلا على أولاده لان القانون يلزم الأولاد بإعالة إبائهم عند المرض أو العجز أو الكبر ولذلك فان أصحاب الحرف كانوا لا يعلمون حرفتهم إلا إلى أولادهم ليضمنوا بذلك مستقبلهم ومستقبل أولادهم . إما إذا لم يرزق الحرفي بولد فهو لا يعلم غريبا حرفته إلا بعد تبنيه حيث إن عملية التبني هذه تلزم الولد المتبنى بإعالة الشخص الذي تبناه في حالة المرض أو العجز أو الكبر .

 

وهذا النوع من التبني ما هو إلا نوع من الضمان الاجتماعي بالنسبة للحرفين الذين لم يرزقوا بولد والحقيقة إن شريعة حمورابي لم تحقق الضمان الاجتماعي للإباء فقط وإنما للأبناء أيضا حيث منعت الشريعة الإباء من حرمان أبنائهم من الميراث إلا في حالة إن يكون الابن عاقا فعلا والمادتان التاليتان شاهد ذلك فالمادة 168 نصت على (( إذا قرر رجل أن يحرم ابنه من الإرث وقال للقضاة أريد أن احرم ابني من الإرث فعلى القضاة إن يدرسوا سلوكه – إي سلوك الابن – فإذا لم يقترف الابن إثما كبيرا يستوجب حرمانه من الإرث فلا يحق للوالد حرمان ابنه من الإرث )) . إما المادة 169 فقد نصت على (( إذا اقترف الابن إثما كبيرا يستوجب حرمانه من الإرث عليهم إن يعفوا عنه لأول مرة وإذا اقترف إثما كبيرا للمرة الثانية يحق للوالد إن يحرم ابنه من الإرث ))16

 

9- ما يخص مبدأ القصاص والغرامات ؛ نصت المادة 195 على (( إذا ضرب ابن أباه فعليهم أن يقطعوا يده )) . ونصت المادة 196 على (( إذا فقأ رجل عين رجل أخر ، فعليهم أن يفقؤوا عينه )) . ونصت المادة 197 على (( إذا كسر رجل عظم رجل آخر، فعليهم أن يكسروا عظمه )). ونصت المادة 198 على (( إذا فقأ رجل عين مولى أو كسر عظم مولى ، فعليه إن يدفع منا واحدا من الفضة )). ونصت المادة 202 على (( إذا صفع رجل خد رجل ارفع منه ، فيجب إن يضرب علنا ستين سوطا من ذنب الثور )) . ونصت المادة 209 على (( إذا ضرب رجل بنت رجل أخر وسبب لها إسقاط ما في جوفها – أي جنينها - ، فعليه إن يدفع عشرة شيقلات من الفضة لإسقاط ما في جوفها )) . إما إذا توفيت بنت الرجل من جراء الضربة فالقصاص في هذه الحالة يتناسب مع الذنب ولذلك نصت المادة 210 على ضرورة قتل بنت الرجل الذي تسبب  في موت البنت الحامل يكون قد قتل نفسين في إن واحد ، ولكي يعاقب على قدر جرمه تقتل ابنته ليكون عبرة لمن يستهتر بأرواح الآخرين 17.

 

10- ما يخص الطب والطب البيطري ؛نصت المادة 215 على ((إذا أجرى طبيب عملية لرجل بسكين العمليات وأنقذ حياة الرجل وفتح محجر عين رجل بسكين العمليات وأنقذ عين الرجل فعليه – أي الطبيب – إن يستلم عشرة شيقلات من الفضة)) والناحية الملفتة للنظر في أجور العمليات الواردة في مواد هذا القسم هي أنها تتناقص مع نقصان المرتبة الاجتماعية للمريض فإذا أجرى الطبيب نفس العملية الجراحية الواردة في المادة 215 لمولى عليه إن يتقاضى خمس شيقلات من الفضة بينما الفرد البابلي يدفع عشرة شيقلات وإذا اجري نفس العملية إلى عبد فعليه إن يتقاضى من العبد شيقلين من الفضة فقط . إما إذا إهمال الطبيب عمله الجراحي فتكون عقوبته إن تقطع يده .

 

إما بالنسبة للطب البيطري فقد حددت الشريعة أجور العمليات الجراحية الكبرى التي يجريها الطبيب للثور أو للحمار بسدس ثمن الحيوان . وفي حالة فشلها وموت الحيوان فعلى الطبيب البيطري إن يدفع لصاحب الحيوان خمس ثمنه فضة 18.

 

11- ما يخص أجور البناء والسفن ؛ وضعت شريعة حمورابي الحد الأدنى المقبول من أجور بناء البيوت وصيانة السفن من اجل حماية البنائين من الاستغلال إما إذا أردا صاحب البيت أو السفينة إن يعطي مبلغا اكبر للعمال فان شريعة حمورابي لم ترفض ذلك . ونصت المادة 228 على (( إذا بني رجل دارا لرجل وأكمله له فعليه – أي على صاحب الدار – إن يدفع للبناء شيقلين– 16.8غم – من الفضة عن كل سار – 3متر مربع – من مساحة الدار مكافاءة له )). إما المادة 229 فقد أشارت على عقوبة عامل البناء إذا لم يتم عمله بشكل صحيح . والمادة 234 فقد نصت على (( إذا سد ملاح حزوز سفينة لرجل سعتها ستون كور – أي حمولة 6اطنان – فعلى صاحب السفينة إن يعطيه شيقلين من الفضة مكافاءة له ))19.

 

12- ما يخص أجور الحيوانات والإجراء ؛ نصت المادة 242 على (( إذا استأجر رجل ثورا لمدة سنة فاجرة الثور في نهاية السنة أربعة كور من الحبوب )) ونصت المادة 243 على (( وعلى المستأجر إن يدفع لصاحب الثور مقدما ثلاثة كور من الشعير )). كما اشترطت شريعة حمورابي على المستأجر من تعويض صاحب الحيوان من أي ضرر قد يلحقه به إثناء فترة الاستئجار . ونصت المادة 251 على (( إذا كان لرجل ثور نطاح وأعلمته إدارة بلدته بان ثوره نطاح ولكنه لم يقص قرنه أو لم يراقب ثوره فإذا نطح الثور ابن رجل وتسبب في موته فعلى صاحب الثور إن يدفع غرامة نصف المنا – 252.5غم – من الفضة )).

 

وفيما يخص أجور العمال المستأجرين فقد حددت شريعة حمورابي أجرة الراعي الذي يرعى بنوع واحد من الحيوانات بستة كور من الحبوب إما الذي يرعه نوعين من الحيوانات فان أجرته تكون ثمانية كور من الحبوب بالسنة20 .

 

13- ما يخص العبيد ؛ من خلال المعلومات المتوفرة عند العبيد في العراق القديم تأكد لنا إن جميع العبيد كانوا من أسرى الحرب وإما البابليون الذين يستعبدون بسبب عجزهم عن إيفاء ما بذمتهم من ديون فان عبودية هؤلاء لا يجوز لها إن تستمر أكثر من ثلاث سنوات مهما كان حجم الدين الذي بذمتهم . والعبيد البابليين لا يجوز بيعهم أو شراءهم . كما كان سائدا عند البابليين عدم جواز معاملة السيد لعبده معاملة غير إنسانية حيث إذا ثبت بان السيد قد أساء إلى عبده من دون مبرر مرتين فضرورة عتقه تصبح حقا قانونيا للعبد 21.

 

 

المشابهات بين شريعة حمورابي وشريعة التوراة :-

تتطابق بعض قوانين التوراة مع قوانين حمورابي وسنورد في ما يلي بعض الأمثلة على ذلك 22:

 

- قانون حمورابي 8

إذا سرق سيد ثوراً أو شاة أو حماراً أو خنزيراً أو قارباً، إذا كان المسروق يعود للإله أو للقصر، فعليه أن يعطي 30 مثلاً. أما إذا كان يعود إلى مسكين، فعليه أن يدفع 10 أمثال كاملة، إذا لم يكن لدى السارق ما يعوّض به فإنه يعدم.

 

- قانون التوراة

إذا سرق رجل ثوراً أو شاة فذبحه أو باعه فليعوض بدل الثور خمسة من القطيع. وبدل الشاة أربعة من الخراف. (خروج 21: 37).

 

- قانون حمورابي 129

إذا قبض على امرأة مضطجعة، مع سيد فيجب عليهم أن يوثقوهما ويلقوهما في الماء. ويمكن لزوج المرأة أن يبقي زوجته على قيد الحياة إذا رغب، كما يمكن للملك أن يخلّي حياة أمته.

 

- قانون التوراة

وإن أخذ رجل يضاجع امرأة متزوجة فليمُت كلاهما. (تثنية 22:22).

 

- قانون حمورابي 195

إذا ضرب ولد والده فعليهم أن يقطعوا يده

 

- قانون التوراة

من ضرب أباه وأمه فليقتل قتلاً (خروج 21: 15).

 

- قانون حمورابي 196

إذا، فقأ سيد عين ابن أحد الأشراف، فعليهم أن يفقؤوا عينه.

 

- قانون التوراة

الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن (لآويين 24:20).

 

- قانون حمورابي 197 ـ 200

إذا كسر سيد عظم سيد آخر، فعليهم أن يكسروا عظمه.

إذا قلع سيد سن سيد من طبقته، فعليهم أن يقلعوا سنه.

 

- قانون التوراة

هو ذات القانون السابق.

 

- قانون حمورابي 245

إذا استأجر أحدهم ثوراً وأماته بسبب الإهمال أو الضرب، يعوّض صاحب الثور بثور مثله.

 

- قانون التوراة

ومن قتل بهيمة، فليعوّض مثلها، نفساً بدل نفس (لآويين 24:18 ).

 

- قانون حمورابي 250

إذا عجل، وهو مار في الطريق، نطح رجلاً ما وأماته، هذه القضية لا تستوجب التعويض.

 

- قانون التوراة

وإن نطح ثور رجل أو امرأة فمات، فليرجم الثور ولا يؤكل من لحمه، وصاحب الثور براء (خروج 21:28).

 

- قانون حمورابي 251

إذا كان عبد أحدهم، يدفع ثلث منة، من الفضة (المنة: تساوي بابل 505 غرام).

 

- قانون التوراة

وإن نطح الثور عبداً أو أمة، فليؤد إلى سيده ثلاثين مثقالاً من الفضة والثور يرجم (خروج 21:32).

 

 

صحف إبراهيم عليه السلام وشريعة حمورابي:-

يعتقد البعض بان قصة إبراهيم عليه السلام كانت في زمن مقارب من زمن حمورابي ، وأعطوا دليلا على ذلك من خلال طريقة زواج سيدنا إبراهيم عليه السلام من سارة التي طالبت بإبعاد هاجر عنها .

 

إلا إنني ارفض هذه الآراء لكونها تغفل الكثير من الحقائق ، فزمن إبراهيم عليه السلام كان مصاحبا لزمن النمرود وهو أَوَّل جَبَّار كَانَ فِي الْأَرْض وأول من لبس التاج وادعى الإلوهية , وقد ملك ملكا عظيما حتى بلغ سلطانه أعالي الفرات والشام والجزيرة والعراق ، وكان في وقته فَكَانَ النَّاس يَخْرُجُونَ فَيَمْتَارُونَ مِنْ عِنْده الطَّعَام23.

 

ولو درسنا تاريخ الملوك السومريين لتبين لنا إن الملك نرام سين هو الأقرب لصفات النمرود التي ذكرها لنا أهل السير والتواريخ والإخبار واعتمد عليها علماء التفسير كابن كثير والطبري والقرطبي .. ونرام سين قد حكم 41 عاما ( 2291 – 2255 ) قبل الميلاد، ونتيجة لانتصاراته وفتوحاته الواسعة استخدم نرام سين بالإضافة إلى لقب ملك أكد لقبين آخرين هما ملك الجهات الأربع ( شار كبرات اربعيم ) وملك العالم ( شار كشتي ) . كما أضيفت على شخصه مسحة من التقديس بدليل استخدامه علامة الإلوهية ( النجمة ) في كتابة اسمه على غرار أسماء الإلهة . فالملوك الذين حكموا أور قبله لم يقرنوا أسمائهم بالإلهة إنما كانت مقرونة بأنها خادمة أو حامية للإلهة ، فلم يدعي الإلوهية كلكامش أو لوكال زاكيري أو  وسرجون الاكدي وهم من ملوك سومر الذين حكموا بلاد الرافدين قبل نرام - سين 24.

 

و تشير المعلومات إن الملوك الأوائل لسلالة بابل الأولى ( 1894 – 1594) ق . م قد منعوا بعض الكاهنات من إنجاب الأطفال لتفادي ظاهرة تأليه هؤلاء الأطفال في الكبر لأنفسهم وقد ظهر هذا التحريم واضحا في شريعة حمورابي حيث إن كاهنة الناديتوم أو الاينتوم إذا تزوجت رجلا عليها إن تهديه امرأة لتقوم هذه المرأة عوضا عنها بإنجاب الأطفال لزوجها وخير شاهد على ذلك المادة 144 التي نصت على ((إذا تزوج رجل كاهنة ناديتوم وأعطت هذه الكاهنة لزوجها امة وبذلك تسببت في إن يكون له أولاد فإذا عزم الرجل على الزواج من كاهنة الشوكيتوم فلا يسمح له بالزواج وعليه إن لا يتزوج الشوكيتوم)). ومنع هذا النوع من الكاهنات من إنجاب الأطفال قد تسبب فعلا في عدم ظهور من يدعي الإلوهية خلال فترة حكم سلالة بابل الأولى ، ولربما قد انتهى تأليه الملوك في وادي الرافدين والى الأبد .

 

إذن فمادام النمرود قد ادعى الإلوهية فهذا معنى وبما لا يقبل الشك إن زمن إبراهيم عليه السلام كان قبل زمن حمورابي بمئات السنين ، أو بالأحرى فقد عاصر إبراهيم عليه السلام زمن نرام سين وهو النمرود أي في حدود القرن 23 و22  قبل الميلاد25.

 

إما عن طريقة زواج سيدنا إبراهيم عليه السلام من سارة التي طالبت بإبعاد هاجر عنها فلربما كانت عادة اجتماعية في بلاد الرافدين وأصبحت قانونا بشريعة حمورابي فأي عرف اجتماعي يأخذ وقتا طويلا في الاستمرار قد يكون فيما بعد قانونا . ومن الجدير بالذكر هنا إن بلاد الرافدين شهدت عددا من القوانين قبل قانون حمورابي كقانون اورنمو وقانون لبت عشتار وقانون اشنونا .

 

يتبين لنا من خلال ما جاء أعلاه بان إبراهيم عليه السلام كان قبل حمورابي ، وبالتالي فان شريعة حمورابي هي من تكون قد تأثرت بما جاء به سيدنا إبراهيم عليه السلام وليس العكس . أي بمعنى أوضح فان أهل العراق بعد هجرة إبراهيم عليه السلام بمدة معينة قد تابوا إلى الله عزوجل حتى أقرت قوانينهم بعض مما جاء به إبراهيم عليه السلام وتوقفوا عن تاليه ملوكهم ومثلما توقفوا عن معاداة أنبياء الله سبحانه وتعالى فامنوا بهم ووقفوا إلى جانبهم ..

 

ولهذا وكما سبق وذكرنا في الجزء السابق بان عدم ذكر القران الكريم لقصص أنبياء الله عليهم السلام من الذين بعثوا إلى أهل العراق بعد إبراهيم عليه السلام ، هو لخلو تلك القصص من العبر . حيث امن أهل العراق بأنبياء الله عليهم السلام بدون إي إصرار على الكفر كما كان الحال في عهد إبراهيم عليه السلام ، كما أدى أنبياء الله عليهم السلام رسالتهم على أكمل وجوه. إما ما ذكرناه في هذا البحث فهو يعد تأكيدا لما سبق واشرنا إليه بان في أهل العراق كل الخير وبأنهم ارض صالحة لبذرة الإيمان ، أي إن الله عزوجل وهو عالم الغيب والشهادة يعرف بان أهل العراق هم أهل إيمان لا كفر ولذا فقد أوحى الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام حينما هم إن يدعوا على أهل العراق ، بان لا يفعل لان الله تبارك وتعالى قد جعل فيهم خزائن علمه وأسكن الرحمة في قلوبهم 26.

 

حمورابي خليل الرب :-

إن مايعزز اعتقادنا بان حمورابي كان مؤمنا وانه استند في تشريعاته القانونية على مبادئ نبي من أنبياء الله عزوجل ، هو عدم  زعم حمورابي انه سليل إلهة أو ذو ذات إلهية ، إلا أنه وصف نفسه بخليل الآلهة. ويرى باحثون أبرزهم رئيس قسم علم الأديان المقارن - المعهد الإسلامي في بريطانيا يرى أن حمورابي جاء بعد إبراهيم عليه السلام ب300 عام وليس قبله وأن تسمية حمورابي تعني (خليل الرب) وليس ( خليل الآلهة) وما شريعة حمورابي إلا نسخة متصرف بها من صحف النبي إبراهيم عليه السلام ولذا نجد التقارب بينها وبين التوراة ممكنا مع عدم أخذ اليهود أي من القوانين من البابليين بل هو الشبه الحاصل بين صحف النبي إبراهيم وصحف النبي موسى عليهما السلام وهذا الأمر الذي حاول الكثيرون الالتفاف حوله لأسباب دينية أو سياسية27.

 

وهكذا وكلما بحثنا عن حقيقة إيمان أهل العراق نجد أنفسنا في طريق منير بالكثير من الادلة والإشارات على إيمانهم لا على كفرهم . ونجد أيضا إن تداخل هذه الادلة يعطي انطباعا حول تماسك بحثنا وفرضياتنا ونتائجنا فما من فرضية أو نتيجة إلا وقد بدا لنا صحتها وتناسبها مع غيرها من الفرضيات والنتائج التي جاءت في بحثنا عن مكانة أهل العراق عند الله عزوجل وحقيقة إيمانهم .

 

الهوامش :

 

1- سنخصص بإذن الله عزوجل بحثا خاصا ملحقا عن لغات أهل العراق القديمة وعن ترجمتها وعن معنى مفردة الإلهة عند العراقيين القدماء. 

2- الدكتور فوزي رشيد ، أبي سين ، صفحة 30-53.   

3- المصدر نفسه ، صفحة 52. 

4- المصدر نفسه ، صفحة 51. 

 

5- العراق في التاريخ ، تأليف لجنة من كبار المختصين العراقيين برئاسة الدكتور صالح احمد العلي رئيس المجمع العلمي العراقي ،صفحة 78 - 81. رقم الإيداع في المكتبة الوطنية ببغداد 837 لسنة 1983 ، دار الحرية للطباعة. 

 

6- المصدر السابق ، صفحة 64. 

7- المصدر السابق ، صفحة 88- 94.

 

8- سبقت شريعة حمورابي القوانين التالية : قانون أور نمو وقانون لبت عشتار وقانون اشنونا، وهي كلها عراقية المصدر.

 

9- الدكتور فوزي رشيد ، الملك حمورابي ، صفحة 45-47.   

10-  المصدر السابق ، انظر الصفحات 48- 50.

11- المصدر السابق ، انظر الصفحات 50- 54. 

12- المصدر السابق ، انظر الصفحات 54- 55. 

13- المصدر السابق ، انظر الصفحات 57-60. 

14- المصدر السابق ، انظر الصفحات60-62 .

15- المصدر السابق ، انظر الصفحات 62-64 . 

16- المصدر السابق ، انظر الصفحات 64-69 . 

17- المصدر السابق ، انظر الصفحات 69-71 . 

18- المصدر السابق ، انظر الصفحات 71-73 . 

19- المصدر السابق ، انظر الصفحات 74-76 .

20- المصدر السابق ، انظر الصفحات 76-78 . 

21- المصدر السابق ، انظر الصفحات 78-80 . 

22- ويكيبيديا / حمورابي .

 

23- كتاب البداية والنهاية لأبي فداء الحافظ ابن كثير، المجلد الأول - الجزء الأول، صفحة -147-148- 149. وانظر كتاب مع الأنبياء في القران الكريم ، تأليف عفيف عبد الفتاح طبارة ، صفحة 118-119.وانظر سبائك الذهب في معرفة قبائل وانساب وتاريخ العرب ، تأليف الشيخ الفاضل أبى الفوز محمد أمين البغدادي الشهير بالسويدي ، صفحة 16.

 

24- العراق في التاريخ ، تأليف لجنة من كبار المختصين العراقيين برئاسة الدكتور صالح احمد العلي رئيس المجمع العلمي العراقي ،صفحة 72-78.

 

25- للمزيد من التفاصيل انظر مكانة أهل العراق عند الله عزوجل عبر التاريخ / الجزء الثالث / إبراهيم عليه السلام رمز أيمان أهل العراق .

 

26- الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، الجزء الأول ، صفحة 24-25.. 

27- ويكيبيديا / حمورابي .

 

والله اعلم ..

تم الجزء الخامس بحمد الله وتوفيقه

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس / ٢٨ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ١٤ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور