هستيريا الخائفين من الغد

 
 
 
شبكة المنصور
نزار السامرائي
بتزامن لافت مع وصول وزير خارجية إيران منوشهر متكي لبغداد في السابع من كانون الثاني / يناير من هذا العام ، أعلن الطاقم القديم لهيئة اجتثاث البعث والذي لبس عباءة هيئة المساءلة والعدالة ( دون صدور مرسوم أو أمر من رئاسة الحكومة بذلك ، لأن الأمر ليس من صلاحية هذه الجهات ، على وفق نصوص الدستور الذي يحاكمون الشعب به في اليوم الواحد خمسا وعشرين ساعة ) ، أعلن هذا الطاقم قرارا باجتثاث خمسة عشر كيانا ومنعها من دخول سباق الانتخابات ، مما لا يسمح للمراقب أن يفصل بين الحدثين مهما امتلك من حسن النية ومن دوافع أخرى لأن يفعل ذلك ، فالقرار يؤكد  نفسه أنه سياسي ينطلق من خندق إقصائي بامتياز ولا يطيق وجود شريك سفر في سفينة تقاذفتها أمواج عاتية وخسر الشريك الملحق بالعملية السياسية ( دون واجبات محددة ) كل ما كان تبقى له من رصيد تحت لافتة ( موازنة العملية السياسية ) وعدم ترك صالوناتها وامتيازاتها ومراكز صنع القرار فيها لطاقم بريمر وحده ، فانزلقوا ولم يحسنوا طريقة التراجع ، فأصبحوا مرفوضين من الوسط الذي زعموا أنهم يمثلونه ، ولم يقبلهم الفريق القابض على هامش من الصلاحيات الممنوحة من المحتل .
وتحركت الولايات المتحدة راعية النظام الجديد الذي جاءت به بالدبابة ويرتدي في النهار القبعة الأمريكية وفي الليل العمامة الإيرانية ، واشتعلت الخطوط الهاتفية وبلا فاصلة بين المنطقة الأمريكية وسط كرادة مريم والتي أسماها فريق بول بريمر بالمنطقة الخضراء ، والبيت الأبيض في واشنطن بحثا عن حل يخرج الأزمة من عنق الرحم ، وهم معذورون فهم يحرصون على اجتياز ابنهم ( الذي ينازعهم في أبوته شركاء متشاكسون حملوه كرها داخل بلدهم ردحا من الزمن وأمدوه بكل أسباب الحياة وألقوا به بعد ذلك في البلد الذي يكرهون ليعبث به ) ، لاختبار الكفاءة والمقدرة بتفوق ، ويبدو أن اتصالات بايدن مع الأتباع لم تحقق كل أهدافها فقد وجد أن مياها إيرانية قد جرت تحت مبنى أكبر سفارة أمريكية في العالم وربما وصلت للبيت الأبيض ، البعض اتفق على أن يتم إخراج المسرحية دون انتقاص من أجر كل الممثلين بمن فيهم الكومبارس ، ولذا لم يرغب صنائع بريمر والذين كانوا على استعداد للعق حذائه إذا اتسخ ، أن يظهروا بمظهر التلميذ المطيع الذي يستجيب لإملاءات سيده الملقن لمجرد مكالمة هاتفية ، وكي تستكمل المسرحية كل فصولها ، فقد تجشم بايدن عناء السفر إلى بغداد في محاولة لحلحلة ملف الشركاء المفصولين ، وأمضى بايدن عدة أيام في بغداد ولكنه كان في كل تصريح يحاول أن يتحرك من وراء الستار ، فبلده تحدث كثيرا عن تسليم السيادة منذ سنوات طويلة ، وإذا أحصينا المرات التي جرت فيها فعاليات نقل السيادة ، فسوف تتزاحم الأرقام وسوف نضيف قضية جديدة للجدل في بلد يحب الجدل كثيرا .


وأقصى ما استطاعه نائب الرئيس لأكبر دولة في العالم مع بلد ما تزال قواتها تحتله ، هو أن يصار إلى تشكيل هيئة تمييزية وما أكثر الهيئات المستقلة في بلد غير مستقل أصلا ، يختارها برلمان أعجب ديمقراطية في عالم اليوم ، لتنظر بقرارات الاجتثاث الجديدة المستندة إلى قانون قديم ، وخرجت التصريحات من كل حدب ، بأن هذه الهيئة ستأتي بما لم يأت به الأوائل والمتأخرون معا ، واجتمعت وتداولت أو هكذا قيل لنا ، وخرجت بنتيجة مفادها ، أن قرار هيئة المساءلة والعدالة بتقليب صفحات المستبعدين من الانتخابات لتقرير الموقف منهم ، يمكن أن يتم بعد إجراء الانتخابات المقبلة ، وتعجل البعض بإبداء مشاعر البهجة بما صدر ، وكان الغضب يتفجر في صدور من وضع قدر المستبعدين على نار متقدة ، وأرادوا تمريره بأية وسيلة وبالتالي وعلى الرغم من التصريحات التي أدلى بها فريق بريمر عن عدم رغبة الحكومة بالتدخل  في قضايا ذات صبغة قانونية وبتقاسيم منبسطة أخفى ابتسامة نصر بما صنع ووعيد لمن سيفوت عليه فرصة الوصول إلى محطة القطار الأخيرة التي تختزن مالا وفيرا وسائبا ونفطا بلا عدادات وأموال بالمليارات من العملة الخضراء تتحول إلى عمارات وفيلات في الأحياء التي لا مجال لرئيس أمريكي زنجي أن يحلم بمثلها ، هذا الفريق نفسه وبعد صدور توصية الهيئة التمييزية يخرج من جلده بهستيريا وانفعال وعصبية ويظهر  عاريا ، ونسي شعاراته عن موضوعة استقلال القضاء وعدم التدخل في شؤونه ، وتدخل في شؤون القضاء لأنه شعر أن شماتته بشركاء الأمس أعداء اليوم والذين أمر باقتلاعهم من جذورهم ستتبخر فوق المنطقة الخضراء ، ولأن رئيس وزراء الزمن الغافل لا يحسن أية وظيفة ومهما كانت بسيطة ولا تتطلب أية مهارات ، ولأنه يعي جيدا أن خسارته لموقعه تعني خسارته لأثمن ما يمتلك من المكاسب التي انهمرت عليه دون استحقاق بل دون توقع ، وربما خسارته لسمعته جراء ما ارتكبه من مخالفات مالية أقل وصف يقال فيها هو الفساد ، ومن أعمال ذات طابع أمني أقل ما يقال فيها أنها جنايات ضد الإنسانية ، كان طبيعيا أن يظهر ما لديه من مخالب علها تنفعه في الاحتفاظ بموقعه .


ولأن القضاء العراقي المستقل المعروف بتاريخه تم نحره تحت أقدام المحتلين يوم دخلوا بغداد في نيسان / أبريل ، فكل شيء خاضع للمقاييس الموضوعة من المحتلين سواء كانوا أمريكان أو إيرانيين أو من أدواتهم ، وتحركت عجلة الائتلافات المعروفة بسرعة ، واقتبست من الفكر الصهيوني مزاعم المظلومية المقرونة بالتشكي بأعلى صوت حتى وهي تحز بسكين الجلاد رقاب الملايين من الضحايا ، وتعرضت الهيئة التمييزية السباعية لحملة تخويف منظمة ترافقت مع تظاهرات مدفوعة الثمن لبضع مئات من الغوغاء الذين كانوا أسوأ من طفا على سطح تاريخ العراق وهي تستعيد صفحات ما ارتكبه عملاء المخابرات المركزية الأمريكية في تشيلي بعد الإطاحة بالرئيس سلفادور الليندي بالانقلاب الذي قاده الجنرال بينوشيه ، من جرائم إبادة جماعية ضد أبناء الشعب ، ولكن بينوشيه ظل ملاحقا من بلد لآخر ولم يسعفه عمره الذي تجاوز أرذله في الإفلات من العقاب ، فعاش أعضاء الهيئة التميزية أياما عصيبة وتهديدا بالتصفية إن لم يرجعوا عن حكم القانون الذي اعتمدوه إلى الحكم الذي يريده بينوشيه جواد المالكي ، وهرولوا مسرعين للتبرؤ من الدخول في منطقة الحرام بين الحدود الفاصلة بين الظلم والحق مستندين في ذلك إلى أنهم صدقوا ما قيل عن دولة القانون ، وكادت عروشهم أن تسقط في بحر متلاطم من نوايا الشر الظلامية .


التحق بموكب النواح محافظون وأشرفوا على تظاهرات رفعت العلم الأمريكي بعد أن حذفوا نجومه ويبدو أنهم مأخوذون بكراهية النجوم ووضعوا بدلا عنها كلمة البعث ، ولا أحد يدري فيما إذا نسي هؤلاء أن أمريكا جيشت جيوشها لتدمير دولة البعث وهي التي جاءت بحزب الدعوة والمجلس الأعلى والحزب الإسلامي والحزبين الكرديين ، ومن التحق بهذه المجموعة من تيارات تم تصنيعها على عجل بعد الاحتلال وبقلم بول بريمر مثل التيار الصدري لإقامة النظام البديل ، ولم تكتف بذلك بل لاحقت البعثيين حتى برزقهم ومنعت عنهم مستحقاتهم القانونية ، ولكن الأمثال العربية لم تدع شأنا إلا وغطته ، ولعل أقرب مثل لهذه الفوضى القيمية هو المثل القائل ( إذا لم تستح فافعل ما شئت ) ، وأدت حركة إرهاب الدولة ضد المواطنين دورها على أكمل وجه .


في ذروة تصاعد الدراما  أصدر محافظ النجف قرارا بفصل الموظفين البعثيين ولم يتوقف عند ذلك بل قرر إبعاد عائلات البعثيين وهم بمئات الآلاف من المحافظة ، وحث محافظات الفرات الأوسط والجنوب لتحذو حذوه ، ولم تتأخر استجابة تلك الإدارات التي تفوح منها رائحة الدم والانتقام ، ولولا الفضيحة المدوية لجريمة تهجير سياسي على هذا النحو البغيض ، لما تأخرت حمامات الدم أن تفور تنانيرها بأجساد العراقيين المناهضين للاحتلالين الأمريكي والإيراني ، ومع ذلك فلم نسمع من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ، أو المنظمات الحقوقية والإنسانية ووزارة الخارجية الأمريكية التي تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا تعرض شخص واحد لاضطهاد دون التهديد بالموت بسبب معتقداته ، ولكن أن تهدد حياة الملايين من العراقيين ويخيروا بين الموت أو الهجرة إلى المجهول في عالم يتعامل معهم كمفخخات مؤكدة ، فإن هذا العالم بتلك المؤسسات والهيئات ظل صامتا صمتا معيبا شائنا ، مما أغرى أحد القتلة على الانضمام إلى حفنة الواقفين ضد تيار الإنسانية ، فكان قرار محافظ بغداد المنصب بقوة المال السياسي ودور أجهزة السلطة ، بفصل البعثيين من وظائفهم وحث الدوائر الأخرى على المضي في طريقه أيضا ، ويستمر صمت العالم الحر الذي تتزعمه الولايات المتحدة ، حسنا أين الاتحاد الأوربي ؟ هل يطمع بعقود نفطية ليتخلى عن مبادئه ؟


هذه ليست المحنة الوحيدة التي مر بها العراق ولن تكون الأخيرة ، فألف هولاكو وبوش مروا فوق أرض العراق وبعضهم بقي فيه ردحا من الزمن ، ولكن العراق بقي وهم ذهبوا ليستقروا في أسوأ صفحات التاريخ وأكثرها سوادا .


إذا كان البعث بالصورة التي يطرحها عنه أعداؤه هذه الأيام من قوة وقدرة على تخطي الصعاب ، فما أجدره أن يبقى ، وما أجدر أن يمضي صنائع أمريكا ووكلاء إيران ودون استثناء إلى المصير الذي يستحقون ، ولعل حالة انعدام الوزن التي تعيشها الطبقة الحاكمة وهواجس ترقب الآتي مما تلده الأيام الحبلى من تطورات دراماتيكية تكمن في ما قاله المالكي مؤخرا ، بأن البعثيين ينتظرهم يوم أسود ، وقول كهذا لا ينم عن ثقة بالقدرة على تحويل ألوان الأيام وإخافة الآخرين ، بقدر ما يعكس حالة الهلع التي تناب من جاء بهم الأمريكيون ووضعوهم في موقع السلطة ، ووضعوا تحت تصرفهم كل شيء ولكنهم أخفقوا في امتلاك الشعور بالطمأنينة والأمن ، فهل يقدر مثل هؤلاء على منح المواطن شيئا لا يمتلكونه هم من أمن داخل نفوسهم ؟ أم هو صراخ من يسير في الظلام ويحاول أن يطمئن نفسه بصراخه ؟ والمثل العربي يقول فاقد الشيء لا يعطيه .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء / ٢٦ صـفـر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٠ / شـبــاط / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور