أكثر زعماء العالم إخلاصا ل " إسرائيل " يعتقد أنه يستطيع تحقيق المستحيل  
 

 أي سرّ وراء دعوة سركوزي إلى مؤتمر دولي جديد للسلام
في هذه الظروف بالذات ؟

 
 
 
شبكة المنصور
نبيل أبو جعفر

على عكس ما ذهب إليه بعض المراقبين السياسيين، لم تتراجع فرنسا عن إقتراحها القاضي بعقد مؤتمر دولي جديد للسلام في عاصمتها باريس . فالرئيس نيكولا سركوزي مصمم على المضي في هذا الطريق، وله دوافعه وأهدافه العديدة من وراء ذلك ، عدا عن أن الإسرائيليين يفضّلونه لاعتقادهم أنه أشدّ إخلاصا وأكثر ضمانة  من باراك أوباما . وهذا هو الذي شجّعهُ في الآونة الأخيرة على إبلاغ هذه الفكرة رسميا إلى بنيامين نتنياهو أثناء اجتماعه به في قصر الإليزيه  في 11 تشرين الثاني الماضي ، بهدف الخروج من حالة اليأس وإحياء العملية السلمية ، حسب وصف وزير خارجيته برنار كوشنير، الذي أعرب عن ثقته بقدرة رئيسه على صنع شيء ما، نظراً لقناعته بأن اليمين في إسرائيل هو الذي يصنع السلام دوماً، وأن سركوزي ونتنياهو يعرفان بعضهما البعض منذ فترة طويلة، وان صداقة فرنسا لإسرائيل تمثّل في نظره شرطاً أساسياً لقدرتها على مخاطبة العالم العربي بهذا الخصوص.

 

أما حديث المراقبين عن التراجع وتحوّل فرنسا نحو اعتماد أولوية أخرى جرى إبلاغها إلى المبعوث الأميركي للشرق الأوسط جورج ميتشيل ، أثناء زيارته الأخيرة لباريس ، فيعود ذلك إلى تفضيلها التركيز على جانب الدعم التمويلي لعملية السلام – في الظروف الآنّية – حرصاً على إبقائها حيّة إلى أن يحين وقت الإتفاق على كيفية الإنطلاق الجدّي بها.

 

عودة فرنسا إلى هذا الإطار الذي اضطلعت بدور بارز فيه منذ عقد مؤتمر مدريد في العام 1991، وشاركتها فيه الدول المانحة ، يعيده المسؤولون الفرنسيون إلى سببين أساسيين، أولهما تراكم المعوّقات والشروط المتقابلة بين إسرائيل وكل من الجانبين الفلسطيني والسوري، وقد زادها تعقيداً في الآونة الأخيرة توتّر الأوضاع مع حلول ذكرى العدوان على قطاع غزة، واتساع دائرة الإعتراض الشعبي على الجدار الفولاذي . وثانيهما أن أي خطوة باتجاه الحل تستدعي وجود إرادة سياسية لدى أطراف الصراع نحو هذا التوجّه، ونظراً لعدم تبلور هذه الإرادة بالشكل المطلوب ـ حسب رأي الفرنسيين ـ  فإنه لا بدّ من الحرص على إبقاء أجوائها حيّة على الأقل ، وهذا لا يمكن أن يحصل في حال التخلّي عن الإلتزامات الإنسانية والمالية الضرورية وترك السلطة الفلسطينية تحديداً، وهي التي تُعلّق عليها آمال التنازلات التسووية  دون دعمها ، خوفا من أن تصل الى حد العجز .

 

مؤتمر بلا جدول أعمال ولا شروط ؟

 

جديد إقتراح سركوزي لمؤتمر يُفتَرض أن هدفه تَجاوُز ما فشل في تحقيقه مؤتمر مدريد يتضّمن التركيز على حضور الرئيسين الفلسطيني والسوري –ومعهما نتنياهو طبعاً – على طاولة واحدة لبحث كل الإشكالات والمطالب والعقبات، دون أي إتفاق أو شروط مسبقة، ودون حتّى جدول أعمال متفق عليه، حسبما عبّر عن ذلك كوشنير لوكالة "آكي" الإيطالية في 16 كانون الأول الماضي قائلا  "إنه من غير الممكن إعداد وثائق مسبقة لمؤتمر دولي للسلام"!

 

وفي شرحه لهذا الكلام الذي لا يدخل عقل الكثيرين – مثلنا – قال كوشنير أن هناك أكثر من طريقة لتنظيم مثل هذا المؤتمر، كأن نعرف سلفاً ما الذي سنفعله، وأن نُحضّر البيانات والوثائق التي ستصدر عن هذا المؤتمر حسب الأسلوب التقليدي السائد ،  ثم يتمّ التئامه لأجل التوقيع على هذه البيانات والوثائق لكن هذه الطريقة  ــ والكلام لكوشنيرــ  لن تنجح بالنسبة لقضية مثل نزاع الشرق الأوسط ، فهل نحاول إعادة تجربة عملية السلام السابقة بالشكل الذي تمّت فيه بين الأطراف وما آلت إليها ؟

 

بالمختصر المفيد يقول الوزير الفرنسي "علينا أن نُجازف.. وإذا لم نتحرّك ولم نقم بشيء فإننا لن نُجازف بشيء"، ويؤكد حرص فرنسا على مواصلة السير في هذا الطريق حتى يتم إنعقاد المؤتمر الدولي.

 

صحيفة "هآرتس" التي كانت سبّاقة إلى إعلان مضمون ما تمّ بحثه في اجتماع سركوزي – نتنياهو في عددها الصادر يوم  15 تشرين الثاني ، أي بعد خمسة أيام من عقد هذا الإجتماع ، أعطت تفاصيل أخرى تتعلق بالأطراف المشاركة في المؤتمر المنوي عقده، كالملك عبد الله الثاني والرئيسين المصري واللبناني، بالإضافة إلى ممثلي اللجنة الرباعية المكوّنة من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة . وانفردت بالكشف عن خبر مسارعة سركوزي فور إبلاغ نتنياهو بمشروعه إلى الاتصال بالملك عبد الله والرئيس عباس.

 

جدير بالتنويه هنا أن الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف كان قد سبق سركوزي بخمسة شهور إلى إعلان رغبة بلاده باستضافة مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط قبل نهاية العام  2009. جاء ذلك أثناء زيارته إلى القاهرة التي تمّت بعد حوالي أسبوعين من زيارة الرئيس الأميركي باراك اوباما لها، وإلقائه خطابه الموجه إلى العالمين العربي والإسلامي بكثير من الوعود والعهود. لكن قُرب وصول العام المنصرم إلى نهايته دون تحقيق شيء على هذا الصعيد، شجّع سركوزي على طرح اقتراحه المجدِّد لاقتراح ميدفيديف برؤية فرنسية ، وهو ما لم يغب عن ذهن كوشنير الإشارة إليه في معرض شرحه لبعض تفاصيله بالقول إن هناك اتفاقاً بهذا الشأن مع روسيا التي سبق لها أن تقدّمت بمشروع مماثل.

 

واضح أن هذا التنسيق لم يكن قائماً منذ زمن، بل بدأ متأخراً، أي بالتزامن مع إفصاح سركوزي رسمياً عن مشروعه ، أو قبل ذلك بقليل .

 

دعوة فرنسا لمؤتمر بهذه المواصفات مهما بلغت درجة جديتها ، قد تنجح في جلب السلطة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات تحت وعود وكلام معسول ، إلاّ أن جلب سورية أمر يبدو مستحيلا إن لم يتعهد الكيان الصهيوني بموضوع الإنسحاب من الجولان، قبل الحديث عن الحضور إلى أي مؤتمر، وهذا ما تمّ إبلاغه مراراً للمبعوثين الدوليين والوسطاء الأتراك، وإلى جورج ميتشيل في زيارته الأخيرة لدمشق .

 

أبو عمّار ومحاولة التغيير 

 

ميتشيل الذي تقطّعت به السبل ولم يصل إلى أية نتيجة في محاولاته السابقة، يعرف جيداً – كما إدارته بالطبع – تفاصيل موقف سورية من فكرة المؤتمر ، ورأيها فيما تأمله بالنسبة للموقف الفلسطيني. كما يدرك عمق "عقدة" الجولان التي لا حلّ لها إلاّ بالإنسحاب، ويعرف أيضاً أنه إذا لم يجرِ لملمة التشرذم الفلسطيني وعودة اللحمة بين الضفة والقطاع فإن أي محاولة سلمية جديدة أو مؤتمر أو ما شابه في ظل استمرار هذا الوضع، لن يكون فيه الفلسطينيون على أهبة كاملة لمواجهة حملات الضغط وطلبات التنازل الجوهري من جديد، ذلك لأن استمرار الإنقسام فيما بينهم سوف يُضعف موقفهم التفاوضي، ويفتح الأبواب أمام إبتزازهم.

 

وبالإضافة لما سبق يدرك ميتشيل بداهة أن نظرة السوريين إلى الحل ليست كنظرة الأميركيين، ولا حتى "نصف الفلسطينيين" وباقي الرسمية العربية. عدا عن ذلك، فإن هناك مشكلة أخرى أساسية ليست بين سورية والأميركان فقط، بل بين كل العرب الذين ساهموا في مؤتمر مدريد والولايات المتحدة، وهي تتلخص بما حصل بعد مدريد، حيث حلّت أميركا محل الجميع بعد أن همّشت روسيا والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، وجعلت الرسميين العرب أتباعاً يبصمون على "العميان"، وأخذت تنفرد وحدها بقيادة عملية السلام على هواها، وهذا يعني دون تعمّق في التحليل تفرّد الكيان الصهيوني. وهنا صدقت مقولة "أنت الخصم والحكم" . وهذا ما أدركه "أبو عمار" وحاول تغييره ولو بعد عشر سنوات من مؤتمر مدريد، عندما اقترح على الأوروبيين في مركز اتحادهم ببروكسيل، أوائل تموز من العام 2001، عقد مؤتمر دولي جديد يتجاوز ثغرات مدريد ومتاهاته، ويكون معدّلاً لصيغته التي لم تُسفر عن تطبيق ما تم الاتفاق عليه فيما يتعلق بمبدأ الأرض مقابل السلام.

 

سعي "أبو عمار" لعقد مؤتمر مدريد آخر لم يكن سببه عدم وجود تغطية دولية له ، ولا إلى وجود بنود مبهمة فيه أو ما شابه. كل ذلك لم يكن وارداً، فالأمم المتحدة هي التي أشرفت على عقده، وبنود قراراتها هي التي اعتُمدت كأساس للحل، ولو من زاوية ترجيح الفهم الإسرائيلي – الأميركي لها، كما أن الدول التي ساهمت فيه وفي ترتيب ديباجته هي التي كان لها وما يزال نصيب الأسد داخل مجلس الأمن وفي إدارة "الشرعية الدولية". ولكن لأن كل هذه "المزايا" لم تصبّ في بوتقة تسهيل العملية السلمية، بل في طريق تعطيلها والتراجع عن تنفيذ بنودها الأساسية، من خلال الإنحياز الكامل للكيان الصهيوني، وهو ما تواصل بشكل صارخ وأكثر بشاعة بعد اتفاق "أوسلو" الذي قسّم هذه العملية  إلى مراحل كان من المفترض أن تُفضي إلى عدّة إجراءات عملية على الأرض ، بداية بالإنسحاب وانتهاءً بإعلان الدولة الفلسطينية، لكن ذلك لم يتحقّق، بعد أن استمرأت الولايات المتحدة – أي اسرائيل – الإستحواذ على كل الأوراق والقرارات ومواصلة الممارسات التعسفية.

 

مسلسل الدعوات لمؤتمر جديد

 

طبعاً، لم تكن محاولة أبو عمّار عقد مدريد آخر هي المحاولة اليتيمة، بل كانت الأكثر جدّية وجذرية باتجاه إيجاد صيغة أفضل، وهو أقصى الممكن لمن قبل التعلّق بحبال التسويات، فقد سبقها وتلاها العديد من المحاولات الأخرى التي لم تتوقف حتى الآن، وإن لم تنجح إحداها في إحداث أي ثغرة باتجاه إنهاء "الأزمة". فقد تلاها في أيار 2002 دعوة الملك المغربي محمد الخامس إلى دعم عقد مؤتمر دولي للسلام أثناء استقباله الرئيس الإيطالي كارلو أزيليو تشامبي، ثم عقد ندوة في الدنمارك للناشطين من أجل السلام في الشرق الأوسط بتاريخ 8 أيار 2003. وحتى آريئيل شارون اضطر في أتعس أيام حكمه بالنسبة إليه – أواخر العام 2004 – إلى طرح فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام يُقام في الولايات المتحدة، من أجل تجاوز العزلة التي أحاطته من كل جانب على أثر اعتداءاته الإجرامية المتتالية .

 

وعلينا أن لا ننسى في هذا السياق أن الرئيس الأميركي جورج بوش الذي سبق له أن رفض فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام أواخر العام 2006، وأبلغ ذلك إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق ايهود أولمرت في 14 تشرين الثاني من العام نفسه، عاد في أتعس أيام حكمه أيضاً – مثله مثل شارون – إلى تبنّي هذه الفكرة في تشرين الثاني من العام الذي تلاه 2007، حين دعا إلى "مؤتمر دولي جديد لمعالجة قضايا الشرق الأوسط"!

كما شهدت التحركات "السلمية" المشابهة، التي سبقت دعوة روسيا وسركوزي فرنسا، لقاءات وندوات دولية أقل أهمية ، كتلك التي عُقدت في العاصمة الإسبانية مطلع العام 2007 تحت عنوان "مدريد بعد 15 عاماً"، ولم يرشح عنها غير اللقاءات والخطابات التي أبرع فيها هواة الكلام المنمّق، مثل القيادي الكتائبي والرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل ، كما اعتبرها بعضهم فرصة "ذهبية" للتعارف مع الآخرين، كما ورد نصا على لسان مستشار الوفد اللبناني للمؤتمر!

 

وهكذا يمكن القول أنه منذ انعقاد مؤتمر مدريد قبل تسعة عشر عاماً إلى اليوم، دخلت القضية الفلسطينية ومعها الأمة العربية ممثّلة بأنظمتها – وإن لم تكن تمثّلها جوهرياً وحقيقة – في دهاليز ومنزلقات أودت بكرامة الإنسان العربي من جرّاء التهافت الرسمي المتتالي على التنازل تلو الآخر، مع أن هذا المؤتمر قد عُقد تحت مظلّة الشرعية الدولية وبحضور كبار قادة العالم، وفيه بنود ملزمة وواجبة التنفيذ، ولم يكن من المتوقع – كما هو مفترض – أن تُداس القرارات وبنود الاتفاق التي اعتُمدت فيه، وأن تصل العرقلة الصهيونية – الأميركية الى حدّ الإستخفاف بكل القيم والمواثيق، دون أن يتحرك أي نظام عربي أو جهة دولية لدعوة الأمم المتحدة ذاتها إلى تطبيق مبادىء مدريد، والخروج من وضعية شاهد الزور، الذي نامت عليه طوال السنين التي انقضت مثلها مثل أي نظام عربي هامشي.

 

دعوة سركوزي ... لماذا الآن ؟

 

لا ريب أن تكرار الدعوات الى عقد مؤتمر دولي جديد يحمل في طيّاته إقراراً صريحاً بالفشل التاريخي لمؤتمر مدريد. ومن هنا يأتي السؤال الواجب الطرح في هذه الأيام عن سرّ حماس الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي لعقد مؤتمر بديل في باريس، بالرغم من عدم نجاح الآخرين في عقده، وبالرغم من علمه وإدراكه أن ظروف هذه الأيام بكل ما تحمله من استمرار الإنشقاق الفلسطيني، وارتفاع وتيرة الصلف الإسرائيلي، والتراجع المهين من قبل "الدولة الأكبر" عمّا دعت إليه وتعهدت بتنفيذه على طريق التوصل إلى التسوية السلمية، والسكوت على التحدّي الإسرائيلي لها في مسألة وقف الإستيطان وغيرها من الاستحقاقات واجبة التنفيذ ؟

 

هل يمكننا أن نعيد سرّ هذا الحماس إلى تعاطف الرئيس الفرنسي مع قضية الشعب الفلسطيني، أو قضية السلام فحسب؟ أم أنه يعود إلى تحقيق مصلحة شخصية له، أو لبلده فحسب أيضاً، أم أنه يرى في الوضع الفلسطيني الحالي فرصة ماسيّة لتحقيق التسوية بأقلّ "الخسائر" الإسرائيلية الممكنة، على اعتبار أنه الصديق الذي لا ينسى تذكيرنا بصداقته للكيان الصهيوني ورموزه ومسؤوليه ؟

 

ألم يقل وزير خارجيته (صديق اسرائيل المميّز أيضاً) أن صداقة فرنسا لإسرائيل تمثّل شرطاً لقدرتها على مخاطبة العرب، وَحَدّثنا عن وثوقه بقدرة سركوزي على صنع شيء ما، واعتقاده بأن اليمين الإسرائيلي هو الذي يصنع السلام دوماً ؟

 

أي فرصة لتحقيق الحلم الصهيوني في ظل تشرذم الحلم الفلسطيني الموحّد أكبر من هذه الفرصة التي توفّرها الأوضاع الآنية فلسطينياً وعربياً ودولياً ثم إسرائيلياً ؟  فهل يمكننا أن نستقرىء سرّ حماس سركوزي في ضوء ما سبق، أم أن علينا إعادة تركيب "الصورة" من جديد لنقرأ من جديد أيضاً؟

 
n4jaafar@hotmail.com
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ٠٣ ربيع الاول ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٧ / شـبــاط / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور