الاستبداد الثيوقراطي من اجتثاث البعث الى اجتثاث الشعب

 
 
 
شبكة المنصور
أ. د. عبد الكاظم العبودي
لا يختلف اثنان بأن فترة الاحتلال الامريكي للعراق سوف توصم بأنها من أكثر الفترات الدموية في تاريخ العراق، ادخلت المجتمع العراقي في نمط غير عادي من العلاقات التي أخرجت جملة من التناقضات إلى السطح بشكل عفوي أو تحت ضغط الافعال وردودها الأعنف.


إن إنهيار الدولة الوطنية، كناظم للعلاقات الداخلية، مَكَّن أدوات الاحتلال من إشاعة ثقافة الخوف والترهيب الجماعي بشكل غير مسبوق، وغير معهود. وان الصراعات التي أوقد نارها المحتلون بتكليف تنفيذي مُوَّكَل لمجموعات من عملائه المجندين لمهمة تصفية حساباتها داخل مجتمعاتها الصغيرة بصور وأساليب كانت تميل إلى حسم التناقضات خارج أطر الرقابة للدولة التي فقدت مركزيتها لحساب الأطراف والكتل الصغيرة التي اندفعت أولا نحو محو الدولة الوطنية وهيئاتها، ومن ثم انزلقت نحو العديد من المجابهات العرقية والطائفية الواسعة النطاق.


وفي خضم تلك المواجهات نما ميل جمعي لتلك الجماعات المنفلتة إلى التمرد على القانون، المشطوب أصلا، فسعت إلى تقنين قوانينها الخاصة بها، مُشَكِّلَةً لها أطر اجتماعية وسياسية وثقافية متعددة، واندفع في مقدمة صفوفها عدد من رجال الدين الشبان وخلفهم شيوخهم اللاعبين من خلف الستار دور المحرك الدافع بحماسة لمنح مهمات تنفيذ القتل والتنكيل، بصيغة التزكية والمباركة وكأنهم يمنحون وصفات التكليف بالواجب الشرعي أو ألديني.


وبذلك الدعم المعنوي وجدت تلك المجموعات المنفلتة من يحلل لها أفعالها ويباركها؛ مما دفعها الى التطاول على عدد من المُحَرَمات الوطنية الاجتماعية ممثلة بالقيم السائدة والمتعارف عليها في العراق، ولتجتاز العوائق والمحرمات التي يمكن أن تحول دون تنفيذ الكثير من مظاهر القمع المنفلت . إن تلك الافعال أرادت أن تتجاوز ما أُصطلح عليه شعبيا واجتماعيا [ كمقولة الظلم للأبرياء حرام، والعيب من السلوكيات الشائنة والمُخِلَة بالأعراف الاجتماعية، التقاعس عن نجدة المظلوم، وعدم حماية الأعزل واحترام الكبير، والرأفة بالخصم بفروسية المقتدر العافي... إضافة الى خصال عديدة عرفتها الشبيبة العراقية التي تربت في ظل قيم ألشهامة والمروءة... وإستنكار المعاصي... الخ].


لقد ترشحت الى قيعان المستنقع الاجتماعي قوى سُفلية ترسبت في خضم تلك الاندفاعات الطائشة جماعات منفلتة وجدت ضالتها في تنفيذ التصفيات الدموية مقابل المال أو الحصول على المناصب والرتب والجاه في مسؤوليات الدولة الجديدة. لذا استعدت هذه القوى لتنفيذ توجيهات مسؤوليها ولتحمل تبعات أفعالها المنفلتة والشائنة، وما ينفذ بواسطتها من افعال اتسمت بخسة العمل الاجرامي وقذارته الفضيعة.


ان تفاعلات "مبدأ الصدمة والترويع" الذي بشرت به ماكنة الحرب الاعلامية الامريكية بقصد الترهيب للمقاومين المحتملين للإحتلال، وجدت لها طرائق عدة للتنفيذ وألتفنن ببشاعة في إعتماد طرق التصفيات للخصوم والتي أفضت إلى أكثر من حالة مرعبة، قد توصف بالصدمة الاجتماعية الاولى التي يتوقع أن تتلوها صدمات ارتدادية أخرى سنشهدها الواحدة تلو الاخرى.


ربما تسود في بعض الاذهان، انه يمكن اختزال الخطاب الديني والاصولي السائد على المنابر في العراق والقول عنه : على انه جزء من خطاب إسلامي شمولي عام يعبر عن حقائق ورؤى عند أصحابه لأغراض التنفيذ لا التنبيه. وحسب ذهنية البعض، فان عقيدة العنف المطلوب ترويجها تقدمت على جوهر الخطاب لتكون واحدة من مظاهر الانتقام والتنكيل الشرس بالخصوم تم التعبير عنها عبر مراسيم طقوسية تستهدف إعادة تكييف وتأقلم أية جماعة أو طائفة إعتقدت أنها مقهورة ومضطهدة دون غيرها.


ذلك الخطاب وممارساته على الارض وظفه الاعلام الامريكي وتوابعه بإنتقائية مدروسة لتصوير أوضاع الفئة الضحية المنتقاة في الاخبار والتعليقات وكأنها إستهدفت لأسباب غير سياسية من قبل الحكم السابق. ويذهب الاعلام والمنابر المشاركة في حملة التعبئة تلك الى تهويل الاخبار والممارسات لتضخيم مبررات اضطهادها الموسومة بالطائفية الضيقة والجهوية، فحملها مثل هذا الشحن المتضاغط مزيدا من الشعور بالغبن واليأس من روح المواطنة والانتماء للبلد تذكي تلك الحالة من النكوص المحبط جملة من الرواسب الثقافية العميقة الجذور في المحيط الاجتماعي .


كما أن الممارس من أشكال ذلك الحراك والسلوك السياسي والاعلامي المرتبط بجهد تعبوي وتنظيمي مبذول بحبكة ودراية وتخطيط وسط شبيبة تائهة ويائسة تعيش وسط فئات إجتماعية واسعة مهمشة لا يمكن تجاهله عند دراسة الظاهرة وما قبلها ولما ستؤول اليه من نتائج وخيمة .


إن ذلك كله، سيتضاعف في تأثيراته في ظل هيمنة وإستمرار مثل ذلك الخطاب الديني والسياسي والذي مَكَّنَ أصحابه من سرعة تجنيد الأشخاص المطلوبين ودفع العديد من الفئات المستعدة للانخراط في تنفيذ المهام المطلوب انجازها. كما مَكَّنَ أيضا من قدرات التأثير وألتحكم والقيادة والتعبئة والتسلط على مصير قطاعات واسعة من تلك الفئات.


قد يبدو للبعض إن ما يجري في العراق مُحَدَّد ظرفيا بحملة عقائدية أو سياسية لإضعاف البعث أو المقاومة العراقية، لكن الوقت جرى متسارعا في تراكم معدلات الإبادة التي طالت فئات عراقية أخرى، منها خارج البعث، ومنها خارج تنظيمات المقاومة. والملاحظ أيضا إن قادة هذه الحملة الدموية نجحوا في عمليات غسل عدد لا يُستهان به من الأدمغة، وخاصة في الاستحواذ على قطاعات من الدهماء والبسطاء، بهدف تهيئتهم بالسرعة المطلوبة لتنفيذ المهام المطلوبة، ولتحويل كثير من عناصرهم من وضع الضحية الى حالة الجلاد.


إن ذاكرة الأفراد المشحونة بصور المظلومية التاريخية صارت تُزود الحشود بما يلزم من طاقات الصدام المرتقب، تدفعها يوميا وهي متخيلة معاركها، بدء من إرتداء أزياء الماضي في ركح وتمثيل المشهد التأريخي الغابر فتدفعها الى التسلح، بدل الحراب والعصي والمدي بإمتلاك الرشاشات والقاذفات ووسائل الاتصال والسيارات، لتستعد هذه الحشود بأوهام السطوة الابدية ولإعادة تمثيل المشهد السابق بالرصاص والقنابل، بصورة معكوسة تماما، فالضحية تقمصت دور الجلاد وأسقطت على نفسها مهمة تنفيذ القصاص بالآخرين، ولو من منظور رمزي مُرتَسَم في ذهن أصحابه أو متجسد في الافتكاك بعينة او ضحية مُستَلَبة يُراد الفتك بها.


إن سيادة روح اللامبالاة أرادت ان تقول لنا : "إنها مجرد موجة من موجات القمع الذي إعتاد العراقيون على تحملها"، ويرى فيها البعض "إنها ستفضي إلى لا شئ"، مُتناسين أن سعة الذاكرة الدموية لن تُنسى في مدى زمني قصير، أو خلال مرحلة محددة زمنيا، وإن تداعياتها متداخلة التعقيد. إذن لا بد من الانتباه إليها مُبكرا لوقف دولاب الدم من الاستمرار في دورانه العبثي الاستبدادي ومنعه من إعادة دوراته بأشكال واتجاهات اخرى قادمة إن لم يوقف بحزم.


هل كانت تلك الحملات الاستبدادية المعلن عنها في العراق تتطابق مع المسميات المتداولة إعلاميا وسياسيا وهي المحددة بأهداف اجتماعية وسياسية واضحة في أذهان أصحابها. ربما يحاول البعض أن يضعها في خانات من مجموعة "الاحداث المتفرقة" أو المنعزلة طالما أن الإعلام قد عالجها وتناولها بشكل مجتزأ ومتفرق؛ بل وانتقائي مقيت، من دون التركيز على الذهنية الموحدة لمنفذيها ومراميهم على المدى القريب والبعيد رغم اختلاف مشاربهم السياسية أو الاجتماعية.


ربما يميل البعض إلى تعليق الأحداث ووضعها على مشجب الإرث ألتأريخي للقمع الذي عالج به العراقيون صراعاتهم السياسية التي مرت على عراق الامس والحديث. وما سنرثه غدا من الصور المأساوية المُضافة، يراد له أن يكون شيئا غامضا ومنعزلا ومبهما ومعزولا عما يجري حوله. ان الذاكرة تجاوزت حدود الخزن لصور المأساة العراقية ، ومن الصعب أن نطلب من العقل المُؤرَّق بمأساة العراق أن يكتفي بحفظ جزء من أرقام البؤس والموت والاضطهاد والجوع والمرض والتشرد والهجرة التي يدفعها شعبنا ثمنا من أجل البقاء لا غير ويهرب من مواجهتها ودراستها.


وانه من الغرابة أن يدعونا البعض إلى السكوت عن خصائص تلك الفئات المتورطة بدفع الرحى بأقصى سرعة لتدفع باللحم المثروم الى مداه، والمطلوب تناثره بشدة وعنف عبر الأشلاء والجثث المقطوعة الرؤوس في صحن الحدث اليومي، ويدفعنا الى حالة من الحياد المستلب وللفرجة وحتى البلادة أمام مقامات أؤلئك الورثة من السفاكين الجدد ممن قبلوا ان يأخذوا على عاتقهم مهمة محاكم التفيش الثيوقراطي الجديدة والنبش في الذاكرة المُدماة و يجمعون محصلات حصاد المليشيات والانتقاء المقصود للمفردات التي توصم خصومهم بالكفر والخروج عن الملل ويعبثون وفق الخيار الشعوبي بالإساءة الى الميراث الحضاري العربي والاسلامي في العراق، ووصمه فقط من خلال صفحة أو صفحتين من صفائح التاريخ ووصمه بذلك الوجه الدموي الكالح السواد.


هم ذهبوا بعيدا في إستغفال العوام، يبررون للمشهد الدامي فضائعه وأهواله. وطرف آخر منهم، يبقون ساكتين إزاء استفحاله بصور ودرجات تعدت المنطق المقبول للتبرير أو السكوت أو التنظير عن حالات المظلومية التأريخية لأهل البيت ثم يضيفون إحتواء لا حق لهم فيه بالحديث عن مظلومية أنصار أهل البيت، وكأن أهل البيت مُلحقاً وجزء من إقطاعهم السياسي والفكري، من دون بقية طوائف المسلمين الاخرى.


بدأ العنف الدموي المعاصر في العراق بالحديث عن "المظلومية" وعن الاستبداد، ووصف الحكم المطلق، والاستئثار بالسلطة، وسيادة الطغيان الفردي أو الحزبي، والإفراط في الفردية الحاكمة، والتسلط، والإعتساف في استخدام السلطة،... وغيرها من مسميات الاستبداد ومُصطلحاته السياسية المتداولة عبر كل العهود. كل هذه المسميات ووقائعها بما فيها "المظلومية" عانى منها كل العراقيين من أهل بيت العراق.


ومن المفارقة أن يتحول دعاة "المظلومية" بأنفسهم الى جلادين وهم يتسامرون في قبو القمع الإحتلالي مشاركين في مخططات التصفية لمجتمعاتهم، فيجمعون بشكل إستئثاري كل تلك المواصفات التي قمعتهم، والتي نعتوها يوما بالمظالم البعثية ليُشكلوا منها مصطلحا جديدا علق لافتته الاولى بإمتياز ذلك الليبرالي العائد المدعو أحمد الجلبي، خلف دبابة أمريكية الى العراق في التاسع من نيسان/أفريل 2003 . عاد من منافي أوربا الديمقراطية بعد ان عاش في رغدها الثقافي والحضاري والمالي ليستأثر وحده بواجهة المشهد العراقي، وفي أولى لحظات الاحتلال متوجها نحو القصور الرئاسية الجمهورية لاستلام السلطة التي خطط هو ورهطه لإسقاطها. عاد الجلبي الى بغداد تسبقه دبابات الاحتلال الى ساحة الفردوس يرافق المرتزقة الذين مثلوا دور الكومبارس للمشهد الهوليودي المطلوب عرضه لاسقاط التمثال تمهيدا للاعلان الدرامي عن سقوط بغداد الرشيد.


لم يجد الجلبي في خراب العراق سلطة، لا في الدولة ولا المجتمع؛ ولا حتى البلاد المطلوب حكمها ديمقراطيا. فموجة "الحواسم" نهبت البلاد ممهدة للموجات التالية من النهب والاختلاس واللصوصية السياسية. وأضحت البلاد، غداة الاحتلال مُجَمَعاً للكيانات التي ظهرت وانتشرت كالفطريات الغازية فوق رغيف الخبز الرطب المتروك في الظلام لتمتد خيوطها نحو كل وسط ومحيط من حولها.


وهذا الدكتور الجلبي، الديمقراطي الى حد النخاع، عاد من "اوربا الديمقراطية"، الليبرالية، تحرسه أول مليشيا يعلن عنها رسميا في العراق الجديد. عاد الجلبي ولم تأت في ذهنه أو تتراود في أفكاره أية خطط لـ "للعراق الديقراطي الجديد". أعطى لنفسه مهمة نبش الصورة الابشع، لما ورثته أوربا الثلاثينيات والاربعينيات من صراع دامٍ بين أجنحة مجتمعاتها، في معسكريها: الديمقراطية من جهة، والفاشية والشيوعية من جهة أخرى.


كلا الجهتين المنتصرتين غداة إنتهاء الحرب العالمية الثانية في 8 ماي 1945، أي عودة الديمقراطية في أوربا الغربية وظهور الشيوعية في كل أوربا الشرقية، أيديولوجيتان مارستا بعد انتصارهما العسكري على الدولة الالمانية التسلط، وإستئثرتا بالحكم بمساعدة المعسكرين اللذين كوَّنا حلفيهما، الناتو في الغرب الأوربي، ووارشو في الشرق الأوربي، وكلتاهما رفعتا شعار " الاجتثاث" في وجه خصومهما بدلا من الشروع في الاصلاح السياسي لبلدانها المخربة التي خرجت من جحيم الحرب وهي مدمرة ومفككة. كل طرف شرع في طرح مواصفات سلطانه الجديد محروس بالدبابات العائدة من جبهات الحرب. وقعت بعضها في عدد من الممارسات الخاطئة التي إتسمت في العديد من الحالات بـ "الاستبعاد للغير " أو ممارسة " التطهير" لخصوم الأمس من السياسيين من بعض المواقع، ولكن في جميع الحالات لم تتطور تلك الحملات الى مستوى الاجتثاث او الاقتصاص من الحياة.


ومهما كانت الحملات الاعلامية المؤدلجة خلال سنوات الحرب الباردة ظلت اوربا الديمقراطية في منأى من روح الانتقام والثأر الشخصي لخصوم الامس، ولم تتفاعل في ثنايا التنفيذ لمثل تلك الحملات الشبيهة في أوج تصاعدها حتى مع تلك ألافكار إلإجتثاثية التي سبقت التي دعت إليها الحملة المكارثية في الولايات المتحدة في الثلاثينيات من القرن الماضي، التي وصفها الفكر الغربي الحر: انها كانت حملة حاقدة موتورة هزت مصداقية الفكر الديمقراطي في الولايات المتحدة عندما استهدفت ألمكارثية خصومها فدعت الى إستبعاد أفكار اليسار الديمقراطي الامريكي ومنعه من الوصول الى الإدارة والسلطة.


لفقت الحملة المكارثية تهما جاهزة ومفبركة شملت مئات المثقفين والفنانين والعلماء بتهمة الخطر الشيوعي المتصاعد في الولايات المتحدة.


لا المكارثية الامريكية، ولا حتى النازية الالمانية، أوالفاشية الايطالية، لم تتحول في أسوء أطوارها الى موجة شاملة ضد الانسان وحقه في الحياة أواستهدفت سحقه باعتباره هدفا للتصفية بحد ذاته. صحيح ان تلك الحملات السوداء إتسمت جميعها بصفات من القمع النسبي لخصومها، ولكنها واجهت الإدانة في كل مكان من العالم شعبيا وانسانيا طالما ان أغلب القوى الديمقراطية الصاعدة بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية خرجت بمنظومة من القيم الانسانية تمجد الحياة وتعتبر الانسان هو القيمة العظمى للوجود واحترمت ألمثل والافكار والعقائد لشعوبها من دون تمييز.


سجل الموروث الديمقراطي الأوربي ايضا ان أية موجة من موجات القمع التي مورست ضد أي تيار سياسي من الشعب، حتى تلك التنظيمات من بقايا النازية والفاشية والفرانكوية، قابلتها تلك الشعوب وقواها السياسية المتحضرة بالادانة والرفض واعتبرتها من ممارسات القرون الوسطى وبقايا القمع الكنسي والديني الذي شهدته اوربا.


وهكذا تعلم الديمقراطيون الأوربيون إولى الدروس الاساسية لضمان حقوق الانسان من خلال تطبيق النظام الديمقراطي. فبدأوا أولا بمصارحة الشعب بالحقائق ووفروا وثائق وهيئات وطنية عادلة غير منحازة لإدانة الاجرام والمجرمين او الطغاة. تم ذلك من خلال هيئات العدالة المستقلة. وبعد ان تمكنوا من عزل خصومهم وفضحهم أخلاقيا وسياسيا ذهبوا واحتكموا الى الصندوق الانتخابي وتركوا للشعب إختيار قادته وحاكميه، وبذلك ابتعدت أوربا كليا عن التفكير بالقمع أو الانتقام بطريقة مازوشية ومرضية تُسيئ الى سمعتها وتطورها الثقافي والحضاري.


إن اطرافا وتيارات عديدة في أوربا ممن كانت تعارض حكم الانظمة الشمولية في بلدانها عادت الى بلدانها بعد الحرب او الازمات او الانقلابات وهي تحمل مسبقا افكار الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لتطوير شعوبها، ونأت في ممارساتها من أن تفكر بمخططات الانتقام والابادة والاقصاء لأية مجموعة سياسية في مجتمعاتها.


ولم تساور نفسها بمجرد التفكير باحتقار عوام الناس في بلدانها أو وصم شعوبها بالتخلف مثلا. ولم تذهب في تفكيرها الى تكفير أحد أو حتى توجيه اللوم لمجتمعاتها المتسامحة. لم تطرح لوما او نقدا لتلك الشعوب وتفهمت كل ظرف سياسي. فلم تحضر قوائم الجرد والاحصاء بأسماء مواطنيها لأغراض الإقصاء والعزل والإيذاء المقصود ، لكل من كان، في نظرهم، يوما منحازا أومُضللا او مُندفعا نحو تأييد الحاكم او حزبه ، ففي الوقت الذي شهدت به بلدان اوربية عديدة أنماط من الاستبداد الشرقي وصلت إلى تأليه الحاكم، أوعبادة الشخصية، فكثير من الجماهير جرفتها المشاعر القومية وشعاراتها لتعلن تأييدها يوما الى هتلر أو موسولوليني أو فرانكو أو ستالين.


كل هذا كان معروفا لكل مثقف أو متعلم، ولكل من عاش أو أقام أو درس في أوربا والغرب، لكن مسار الاحداث في العراق يجعلنا نضع إستثناء عجيبا مثله عدد من الدكاترة العائدين الى العراق بعد إحتلاله من أمثال: احمد الجلبي وموفق الربيعي وليث كبة والجعفري... وما أكثر أمثالهم، في مجلس الحكم وبعده. لم يحمل هؤلاء أية صورة من تلك الصور الايجابية التي حلت بها أوربا كل مشاكل إرثها السياسي، وصراعاتها الاجتماعية السابقة التي سادت في فترة ما بين الحربين العالميتين أو ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وانهيار واختفاء الانظمة الشيوعية كلها. كل الحكام والقوى السياسية الجديدة تعاملت مع أبنائها بشكل ضمن المساواة للجميع واتاحة الفرصة لكل مواطن من دون تمييز عرقي أو ديني أو سياسي، لم نسمع عن إجتثاث الشيوعيين السابقين او الحزب الشيوعي لا في روسيا ولا غيرها . ولم نسمع أن سيق الناس الى المجازر أو المحاكم لأسباب تعود الى إرتباطهم السابق مع ماض سياسي معين أو عملهم ونشاطهم في دواليب حكم الانظمة البائدة.


حتى الفاشية، التي نعتها إعلام الحلفاء بالدموية، لم تكن صورتها في أوربا بمثل ذلك التضخيم الإعلامي الذي نتصوره عن بعد، ما عدا إستمرار حملات المنظمات الصهيونية واليهودية الشرسة على عهد ألمانيا الهتلرية؛ لاستدرار العطف الأوربي للحصول على التعويضات المالية، ولتعميق عقدة الذنب عند الأوربيين بمظالم اليهود، ولضمان دعم بقاء وأمن إسرائيل.


النازية الألمانية، وبدرجة أقل الفاشية الأيطالية، وكما صورهما الاعلام الغربي المنتصر بعد الحرب، بالبشاعة والغطرسة والاجرام، كان يراد بذلك منع الغرب المنتصر عسكريا من انبعاث التوجهات القومية لدى بعض الامم والشعوب التي هُزِمت مثل ايطاليا وألمانيا،لأن قطاعات واسعة من جماهير تلك البلدان تعلقت بتلك الاحزاب وشعاراتها، في فترة ما بين الحربين، وكان الخوف من انبعاثها من جديد. ومع هذا تم تجاهل حالة استمرار الجنرال فرانكو في حكم اسبانيا، رغم انه كان الحاكم الوحيد من حلفاء هتلر ممن ظل ماسكا لزمام السلطة في اسبانيا حتى وفاته.


لم يحدث الاجتثاث في أوربا الديمقراطية ضد الخصوم السياسيين رغم استمرار ماكنة الدعاية الديمقراطية في أوربا الغربية والشيوعية في أوربا الشرقية على إذكاء روح النقد والتشهير برموز النازية والفاشية. ورغم استمرار المعسكر الغربي والشرقي في حملاتهما الاعلامية والفكرية بهدف تسويد صورة الهتلرية والنازية ونعتها برسم ولون واحد هو الدم والحديد فقط ؛ الا ان تلك المجتمعات وقادتها تعايشوا مع كثير من الحالات بانبعاث أحزاب ومجموعات سياسية سمت نفسها بالنازيين الجدد او الفاشيين الجدد، فلم تتعامل سلطات تلك البلدان مع تلك المجموعات بروح من التطير أو ردود الفعل القمعية او الشرسة، واكتفت بتطبيق القوانين التي تعالج تلك الحالات حسب خطورتها على السلم الاجتماعي.


في صورة وحيدة الجانب يبدو انها رُسِمَت بعمق بشكل متطرف في الاذهان عن الفاشية، وبعدها الستالينية الشيوعية، عاد بها المنفيون العراقيون من بعض السياسيين، فاراد بها خصوم البعث فرصة لتصفية حساباتهم، لا مع البعث فقط؛ بل مع جميع الخصوم السياسيين والاجتماعيين في ما سمي بـ "العراق الجديد"، وكما يحلوا لهم أن يسمونه.


مسطرة "إجتثاث الفاشية والنازية" التي نقلها الجلبي وشركاه لم تكن بنفس الأبعاد الحضارية الاوربية في التعامل مع الانسان وحقوقه، ولم تقترب في تطبيقاتها من المسطرة الديمقراطية التي عرفتها اوربا المحررة من أغلال الحقد والانتقام الشخصي.


عاد الجلبي، وتبعه الحكيم والجعفري والربيعي وغيرهم بديباجة قانون الاجتثاث لتوزيعه، ومع كل نسخة منه وزعت مِدية أو خنجر أو رشاش، وكأنما أُريد تطبيق القانون وفق مقاسات الفرض القسري بالامر الواقع في جو من إستثارة معتمة للأحقاد والثارات الشخصية والعائلية، لتتوسع بعدها الى مديات أبعد لتصبح طائفية وجهوية، وتتصاعد معها حمى الاقصاء لتصبح حربا حقيقية ضد العراق كله بكل طوائفه وقومياته وسكانه.


إن أولئك "الافندية" من الذين عادوا بديباجة القانون من أوربا السوداء نسوا الفوارق الاجتماعية بين فئات السكان في العراق وطبيعة الموروث الثقافي والحضاري الأوربي؛ ناهيكم عن تجاهل حقيقة معروفة وهي أن كل نظام سياسي، سواء كان أوربيا أو عربيا، يحاول دائما أن يستمد مشروعيته في الحكم من مسوغات يضعها لنفسه ويحاول أن يفرضها على الآخرين. والعديد من الانظمة وطرائق تسيير دفة الحكم فيها، كثيرا ما وضعت لنفسها تشريعات وسُنَن لتبرير حقها في مشروعية إستلام السلطة أو التمسك بها، وبعضهم من برر لنفسه حق التعسف بها ضد الآخرين.


بدأ الاحتلال الامريكي للعراق بالخطوة الاولى لإشاعة قوانين الاجتثاث قبل الإعلان عنها وتبنيها رسميا بصيغ قانونية أو وضعها بدساتير. اعطى المحتل للغوغاء، سواء من المرتزقة الذين جلبهم مع القوات الغازية، أومن التحق بها لاحقا فرص الاقتصاص من كل مقاوم للاحتلال، ولتنفيذ "حالة اللا قانون" وإشاعة الفوضى الشاملة في قرار حل أهم مفاصل هياكل الدولة العراقية ومؤسساتها التي حلت بقرار البنتاغون.


إن قرار الغزو الامريكي للعراق هو قانون الدولة العظمى القاضي باجتثاث الدولة العراقية وإلغاء كيانها الوطني، وحل جيشها والغاء أجهزة أمنها واستباحة اموالها وسلاحها وسرقة آثارها والغاء حدودها وإنهاء سيادتها الوطنية والاقليمية. ومقابل هذا الاجتثاث الشامل للعراق تم إحلال البديل المعد مسبقا، ممثلا بتنظيم فرق الموت وإطلاق اليد الطولى للعصابات والمليشيات الطائفية والاثنية وتركيز السلطات بيد شركات الحمايات الخاصة والمرتزقة القادمون من خارج الحدود وتمكين مخابرات الدول المختلفة من اختراق العراق والعبث به طولا وعرضا.


لعب الاعلام الموجه دوره لتشكيل وتنظيم وتوجيه الأُطر اللازمة لإشاعة مظاهر الفوضى الموصوفة أمريكيا بـ "الخلاقة" التي كفل لها الاحتلال كل الحرية، إضافة الى المال والسلاح، وكل ما تحتاجه من الوجوه المطلوبة للتنفيذ والادوات وحتى توفير النصوص القانونية المطلوب تشريعها من قبل خُدام سلطات الاحتلال المنخرطين في العملية السياسية لينجز بواسطتها وعبرها الاجتثاث المطلوب، لا للبعث كحزب أو عقيدة سياسية؛ بل لكيان اسمه العراق التأريخي والوطني المقاوم.


والمفارقة ان الدولة العظمى، الدولة الديمقراطية الاولى في العالم، إستهوت مثل هذه اللعبة عندما مَكَّنَت احمد الجلبي من الاحتماء أولا بعبائتها الامريكية الليبرالية ثم دفعته وغطته بكساء أخضر في ملاذ عنوانه " البيت الشيعي"، لينطلق بعدها في غزوات بوهيمية غرائزية سادية تتستتر بالديمقراطية للعراق تارة وبمشروع فيدرالية الجنوب تارة أخرى، لتجنيد الدهماء وفق ذات الادوات والاساليب والتنظيمات التي استخدمتها الفاشية والنازية والشيوعية الستالينية...وغيرها لتصفية الخصوم السياسيين والوصول الى الحالة التي تُمَكنها من قمع الخصم الأقوى في الساحة، وبعدها تتسيد هذه القوى على الشعب نفسه، وهو هدفها النهائي من تلك الحملات القمعية والتصفوية الجارية منذ اليوم الاول للاحتلال.


ان الحديث اليوم عن وصايا أمريكية وعن نصائح توجهها الادارة الامريكية الى من يحكمون العراق اليوم لتعديل ما يسمى "قانون إجتثاث البعث" بعد ان حل محله قانون آخر" المسائلة والعدالة" : هو قانون فاشي يراد به اجتثاث الشعب العراقي من وطنه، مجسدا، بما يسميه المحتل وتوابعه، بأسماء عدة مثل "قوانين مكافحة الارهاب"، وتعليمات"حملة فرض سيادة القانون"، وصلاحيات واسعة لمن كُلفوا بتنفيذ الخطة الامنية.


وهذه كلها مؤشرات عن انفلات يعكس بوضوح: منها أن الاحتلال وعصابات الجريمة المنظمة أصبحت اليوم لا تحتاج إلى قانون يحكمها في تنفيذ القصاص بخصمها التأريخي البعث، وترفع شعارها المطلوب للاستهلاك المحلي والطائفي بعنوان "الاجتثاث للبعث" ولا لغيره؛ طالما ان لها اليد الطولى من خلال سلطة الدولة، لممارسة السلطة والقمع المنظم الممارس على ارض الواقع، من دون قانون او تشريع.


إن بغداد وسائر المدن العراقية تحكمها حالة "اللا قانون"، فحتى الغابات تحكمها نواميس وسُنن وعلاقات يحكمها التوازن البيئي لحفظ كل الانواع والاجناس ، طالما ان تلك الحيوانات بغريزتها الفطرية تحاول الحفاظ على بقاء الحياة. وهي لا تمارس عدوانها على بعضها البعض باستئثار وتوظيف قوة الغزاة معها من خارج الغابة.



ان الادارة الامريكية تريد مسح الموس بمجرمين تتوارد أسمائهم في لوائح يتداولها الاعلام . يشار بها الى قائمة لا حصر لها منهم هادي العامري وصولاغ جبر لدور منظمة بدر في التنفيذ الاجرامي، واشاعة القتل واسناده الى بعض المهديين الصدريين، وتتجاوز القائمة حدود الشيعة الى السنة باتهام عدنان الدليمي ومحمد الدايني وغيرهم باعتبارهم جميعا من الافراد والجماعات التي تمارس الاجتثاث بحق بعضهم البعض. وباقتتالهم، فهم يعرضون المشروع الامريكي والاحتلال الى الانهيار التام في العراق، لذلك يلجأ الاحتلال الى تقديم الرباعي المعتدل كحلقة للتوازن الشيعي الكردي والامريكي الايراني، بإنتظار تضمينها طرف سني، سيلتحق بها والتمسك بعروة الاعتدال الجديدة.


لم يرد في ثنايا النصائح الامريكية المملاة من البيت الابيض شيئا عن المسؤولين عن سياسة تطبيق "قانون تحرير العراق" سئ الصيت وهو يمثل في جوهره حقيقة "قانون اجتثاث العراق" كله.


وما دمنا نعيش فصول الغوص التدريجي في مستنقع الاحتلال المليئ بالوحل الأمريكي ونفاياته الدموية التي جلبتها سياسات وتطبيقات "بول بريمر" و"بونتي نيقرو" و"خليل زادة" ثم كروكر... الخ، فان تشبث البعض من السياسيين في الحديث عن براءآتهم من دم يوسف الصديق، هي من باب ألتهرب عن المسؤولية التأريخية بتخلفهم عن الانخراط الفعلي في المقاومة، وفي الاساءة لها، من خلال الإقرار بسيطرة الميراث الدموي للعراق بتشريعات مجلس الحكم ثم الجمعية الوطنية، وأخيرا البرلمان فهم في مناقشاتهم يقرون وجود لقانون اسمه "إجتثاث البعث" من دون خجل، ويطلبون تعديله وفق المقاسات الامريكية المطلوبة منهم الآن، وهم جميعا بذلك السلوك الانتهازي، كَمَن يُريد منح نفسه براءة ذمة عما يجري في العراق.


صحيح ان القمع قد انفلت من عقاله بشكل منفلت وموجه في آن واحد، ولا يعرف أي منا حقيقة ما يجري في العراق على وجه الدقة اليوم. وتجري التعمية أمام العالم للكشف عن عدد الضحايا من القتلى والمخطوفين والسجناء والمهجرين والعاطلين عن العمل. يجب التذكير ايضا : ان لكل من هؤلاء الأفراد من هذه العينة المنكوبة علاقات إرتباط بأسرة وأقارب وأصدقاء ومعارف، يشكلون في جمعهم كتلة من الآلام المضافة. فهي في الواقع حالة من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب بأسره، وهو ما يعادل مأساة لتأثير فعل أية كارثة نووية من عيار قنبلة هيروشيما.


الم تتحول فكرة اجتثاث البعث كموجة مُحَدَدة الأهداف لتصفية فصيل سياسي وطني محدود العدد الى موجة وطوفان دموي، تسانومي قمعي يجتاح العراق من أقصاه الى أقصاه . والكارثة هنا، أن لا أحد يقرأ الأرقام ويحلل أبعادها الكارثية ويقدم لنا مُعطيات متكاملة. والإعلام ومراكز الدراسات تحتفظ لأرشيفاتها بالأرقام والصور المرعبة وتكتفي بتسريب محدود ومقصود لبعض الأرقام لامتصاص ردود الفعل وغضب قطاعات عامة من الرأي العام المحلي والعالمي.


يجري الاكتفاء بتعداد قتلى المارينز وكأنهم يقتلون وهم يؤدون رسالة نبيلة في تحرير العراقيين من العراقيين، ويصورهم الاعلام الامريكي وكأنهم يؤدون رسالة سماوية مقدسة تنظر اليها الكنائس الامريكية من البيت الابيض بمنزلة القديسين. ولا يستبعد أن تقدم كنيسة "المحافظين الجدد" وبابوات البيت الابيض صلوات مباركة لهم وان يمنحوا جنرالاتهم رتبة القديسين.


وبمقابل المشهد الامريكي يرسم المشهد العراقي ألأكثر بؤسا صورة مخجلة ؛ فبعض الطوائف السياسية المتلبسة لبوس الدين وعباءات الطوائف، تنظر لجنود المارينز باعتبارهم "حماة الاسلام السياسي الحاكم في العراق" ولمن يشارك في العملية السياسية الموشكة على الانتحار . لذا يتم تجنيد بعض " المساجد" والحسينيات" والمراجع الدينية لأجل رفع وتائر الدعاء بإطالة عمر الاحتلال وحفظ بقاء جنوده، والنظر الى جنرالات القيادة العسكرية الوسطى وهيئة أركانها القابعة في بغداد بكونهم رُسُلا لحماية حقوق المظلومين والمستضعفين الذين يتوجب عليهم استكمال مهمات الاجتثاث المطلوب قبل الانسحاب لهؤلاء الرسل من الأمريكيين المُبَشِرين للثوابت الديمقراطية الأمريكية ومجلسها السياسي الموقر في سفارة دولة المنطقة الخضراء.


كم كذبت علينا وسائل الاعلام الامريكية والعربية والاسلامية، وهي تُقنع نفسها إن إلاجتثاثات المختلفة التي انتثرت كدمامل السرطانات والاورام الخبيثة في جسد العراق تشكل لنا مسميات ممرضة متعددة من الكيانات السياسية الهزيلة التي يرتهن بقائها في العملية السياسية في رعاية حشد من العصابات والقتلة والسماسرة الذين يتعايشون ويتناسلون ويتكاثرون تحت وصاية وولاية فقهاء الاحتلال وشاربي غليون النفط.


هم يريدون منا ان نُصدقهم أن بديل البعث المُجتَث هي العدالة في القصاص الرامي لتوزيع هذا الشتات من بقايا الشعب المُمَزق الاوصال، المتقاتل تحت رايات ممزقة وملونة بأطياف لا رابط بينها من رايات منظمات المجتمع المدني التي تبسمرت بمقاعد نشطائها في استوديوهات فضائيات الحرة والعربية والجزيرة والعالم والفيحاء والشرقية ومن امثالها الكثير والكثير.


وهكذا طفت على السطح آليات الاجتثاث الجلبي"الكلبي" وهو يتنفس فوق أكمام من نفايات الجثث والقتلى والخراب بشتى أشكاله. ولم يعد الحديث اليوم سليماً من الناحية المنطقية عن وجود شعب للعراق في ظل ليل الاحتلال، فهناك بقية من أقوام وكائنات بشرية يحلو للبعض منها تتحدث عن عراقات ما بعد التحرير، أو عن فيدراليات غارقة في الاوهام بلا مصيروعن اقوام وديانات وطوائف... كلها أصبحت اليوم مُجتَّثة من الكيان العراق الواحد الموحد بدولة وطنية محررة.


إن ألكانتونات التي تُريد ان تجتث نفسها من جسد العراق إحتمت بمظلات إعلامية غريبة. يكفي ان كانتونات كردستان وحدها تجاوزت ملكياتها حدود 42 فضائية. ولكل محمية عراقية فضائية أمريكية ناطقة بلغتها وخطابها وتوجهاتها. والفضاء الإعلامي الامريكي إجتث الالسن الوطنية ليعطي للعملاء الاصوات والألسن المطلوبة للتضليل.


كل فضائية تبث من الاعالي سمومها على هوى طائفتها من ألاقمار والتوابع ألارضية الامريكية التي تبث نحو الارض سيلاناتها الفكرية والايديولوجية الانقصالية ليكون لكل طرف مشيخته النفطية ودائرته الالكترونية والرقمية، ولكي يستظل كل إجتثاثي بفضائيته ويغني على ليلاه بلحن امريكي، يبث منها ما شاء له من التبريرات في الحق في اجتثاث الآخر.


لا ندري كم سيقتل بعد من العراقيين لكي تُستكمَل تطبيقات الإجتثاث المطلوب تنفيذها أمريكيا لعقاب الشعب العراقي، شعب ذنبه أنه خضع لقانون سلطته الوطنية وقبوله راضيا او مضطرا لسلطة للبعث التي حكمته لاكثر من ثلاثين سنة. هذا الشعب محكوم اليوم بقانون الاجتثاث الامريكي وتوابعه؛ ذنبه أنه لم يثر على سلطة بلاده ويقف ضد (دكتاتوره) المرفوض من قبل دوائر الغرب والادارة الامريكية وإسرائيل.


لقد وصلت الحالة النفسية ببعض العراقيين ان يرى في الموت نفسه قيمة وملاذا آمنا للتخلص من بؤس الحياة وجحيم كوابيس الاجتثاثات المتتالية التي تعددت وتنوعت وتم تقنينها في قوانين وتشريعات وتعديلات تتطور بها "فكرة فاشية جلبية" من عنوان فرعي في اجتثاث البعث الى اجتثاث البشر من حق الحياة في بلاد إسمها العراق.
إن النخب العراقية المتباينة غالبا ما تعيش في حالات انسلاخ كامل كأنها تُبَرأ نفسها عما يجري من حولها، فالمرجعيات الدينية ورجال الدين أخذت موقع ووظيفة الإشراف على تعداد الجثث وقبولها الصلاة على نعوش من تزكيهم المليشيات الامريكية.


ومؤسسات الدولة المسخ مشغولة بإخفاء اعداد وحصاد بيادر الجثث المُرماة في ساعات منع التجول من سيارات الشرطة والحرس الوطني فتلتقطها بعدها سيارات الاسعاف بمصاحبة الدبابات الامريكية لتنقلها الى مصالح حفظ الجثث في مشهد عجز بيكاسو من رسمه في لوحة غورنيكا الاسبانية.


الشعب العراقي يُفنى ويُجتث من الحياة، ويهتز أمامنا رهان التاريخ من جديد، نفتقد القوة القادرة على التوحيد رغم توفرها في الساحات العراقية المقاومة المختلفة. قد نحتاج الى فترة من الركود لننبعث من جديد، علينا ان نسترجع بعض من عقولنا لاستشراف رؤية واقعية لما تبقى من الشعب العراقي بعد الإجتثاثات القاسية المُرَّة بمعاول الاحتلال وتوابعه.


كل ما يحيطنا اليوم خطاب إقصائي مقيت وبائس، يحمل قدرا هائلا من الانفعالات لتصريف الضغوط النفسية وهواجس من الإحباط التي ترافق ممارسات القمع بكل أشكاله.


حتى القوى المعارضة للإحتلال، التي تُعلن عن مواقفها بالوقوف الى صف المقاومة، تؤذي المقاومة حين تساهم في عمليات الاجتثاث القائمة فيما بينها على قدم وساق. هذه القوى التي تبدو غير متماسكة رغم مكابرتها بالصمود وإعلانها الاستعداد للتضحية من اجل الشعب. قوى وفصائل وشخصيات واسعة، لا يُستهان بها وطنيا، منها تنتمي الى البعث نفسه وانشطاراته القديمة والجديدة، ومنها تنتسب الى الشيوعيين وانقساماتهم، والى الاكراد وفصائلهم، والى المرجعيات الطائفية والدينية، كلها من خلال اشتراطاتها في التحالفات على بعضها البعض تجتث نفسها ذاتيا عن الالتحاق الفعلي بحملة البنادق والمقاومة الوطنية الباسلة.


هاهي تلك القوى عبر عنها المواقع الالكترونية للقوى السياسية العراقية تجتث بعضها بعضا، ولا تقبل التعايش أو تجلس معا، وهي تفسد أية خطوة فعلية للتوحيد ودعم العمل المقاوم الموحد. وما فشل من مؤتمرات لاعلان الجبهة الوطنية المنشودة لحركة تحرير العراق من الاحتلال الا انعكاسا لانتقال عدوى امراض الاجتثاث نفسها بين صفوف ما تبقى من الشرفاء والوطنيين في هذا العراق الجريح.


وبعيدا عن منطق الثأر العشائري والسياسي، السائد بيننا، كسمة من سمات التخلف الحضاري، نتسائل: لماذا لا نتفق يوما من دون اجتثاثات دامية او فيتو مسبق على أحد؟؟. الكل مارس ويمارس الإقصاء على الآخرين. لقد بتنا وكأننا كلنا مقصيون من جميع معادلات التوازن. فمتى نقف دون أن نترنح أمام الهزات والهزات المرتدة؟.
وكلنا نقر ونعترف: ان الأمريكيين هم من ارتكبوا الفعلة الشنيعة بحق بلادنا؛ لكن الكثير منا، بقي في داخله، جزءاً من غفلة التواطؤ التي ركن اليها في لحظات الضعف والخوف والترقب من المجهول .


ومن الطبيعي ان نجتمع في القول: أن الاحتلال مرفوض، لأنه يُلغينا من الوجود، ولكن علينا ان نعترف بشجاعة هناك قصور : وفينا من أراده، وإن من بيننا من يريده أن يستمر؟.


وعلينا أن لا نلوذ بالصمت المريب، حينما تداهمنا الخطوب والمصائب مجتمعة وتجتاحنا الأعاصير من كل حدب وصوب. لنقل بصوت عال ومسموع : كلنا الآن مجتثون، بعثا ، وشيوعيين، قوميين، واسلاميين ، لائيكيين أو ملحدين. توزعنا في شعاب المنافي جماعات وافراد، بعيدون وقريبون من وطننا، نتسائل عما تبقى من تأريخنا وعن كيان لدولة شطب جواز سفرها.


لكننا لازلنا نحمل بطاقات تعريف تقر بمواطنة ذلك المسكون فينا. اسمه كان يوما جمهورية العراق. علينا ان لا نمارس الفعل المجاني الذي يريده الاحتلال منا ونفعله دون خجل كل يوم في حواراتنا الصاخبة والمتعصبة عبر متاهاة المواقع في الشبكة العنكبوتية وخلال الصحف والمقالات المحررة الكترونيا.


لنتسائل لماذا : لكل منا طريقته لاجتثاث الاخر؟.


رغم ان شعار وقانون إجتثاث البعث هو القانون الوحيد الذي نسمع به كل يوم في الاعلام والتصريحات الرسمية وغير الرسمية، ألا نُدرك بعد حجم الهاوية؟ وقد بتنا نتلمس ان الاجتثاثيين الجُدَد يدفعون بنا جميعا الى المحرقة والاقصاء. ربما تأكد البعض بالملموس ان البعث يدفع الان أكثر من ضريبة. يكفي مناضليه غضبا وهم يسمعون ان الارقام الآتية من العراق مرعبة بالنسبة لهم، وبما يضحى به البعث من مناضليه وطنيا، بدء بقياداته التأريخية وبقادة الجيش والحزب والاجهزة الامنية وانتهاء بالعلماء والطيارين والفنانين والرياضيين. نعم توسعت حلقات الاجتثاث من البعث الى ما يجاوره من محيط سياسي واجتماعي.


الاجتثاث السياسي، يشملنا كلنا الآن في "ديمقراطية القوائم الصماء" المُبارَكة والمُزكاة من أوثان كهوف ما قبل التاريخ.


والفرمانات المخففة لا توقف اندفاع البعض نحو دواليب السلطة المتهالكة. هناك من يعيش هذيانه الطائفي، ويوغل في الجريمة، ويبرر أفعاله بنصوص بول بريمر التي قدمها لمجلس الحكم البائس . وتَصَّدَر لها احمد الجلبي برئاسة لجنة اجتثاث البعث. كل الخطاب السائد لدى الحكام والمحكومين يسعى الى تعزيم الشر ونشره في كل مكان، والكتابات التي نقرأها لعدد من الأقلام العراقية تهرب من مواجهة الواقع لتطرح الموضوع كموضوع غامض غير خاضع لرغباتنا، في حين ان الواقع المقروء من نصوصنا المنشورة يعكس الحالة المأساوية لسعة موجة الاجتثاث التي تجرف الجميع بتواطؤ الكثير من ضحاياه أنفسهم.


ان الارهابيين، من كل مشاربهم في السلطة الحاكمة ببغداد وخارجها، يطرحون "المظلومية" والثأر من أجل استحقاق مُضْمَر للأهداف المُسطرة. لا شئ يتم عفويا في العراق، ولا يُنفذ شيئ من دون تحضير مسبق.


أقدمت الولايات المتحدة على هدم أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك لتبرر تصرفها القادم المعد له بدقة: وهو تنفيذ عقاب مُخَطط له، وصل الى حالتي غزو لكل من العراق وقبله افغانستان. وهكذا وضعت القوة الامبريالية نفسها في موقع الله القادر القدير وتفردت بالإدعاء بتنفيذ حكم السماء على الارض، فسعت الى إجتثاث العراق وافغانستان والغائهما تماما من خارطة الدول ذات السيادة.


اما المرجعيات الطائفية الهدامة وتوابعها في بلادنا فقد أقدمت هي الأخرى على نسف حرم ومرقد العسكريين بسامراء، لتنطلق بعدها عفاريت الجن الأسود، المُحَضَّرَة والمُدربة، لتعلن الجهاد الزائف حالا ضد وحدة شعب العراق، وتبدأ منذ الثواني الاولى للحدث في اجتثاث المسلمين بكل طوائفهم، ناسفة، في إندفاع غلوها وتطرفها أي مسجد في طريقها. وتلك المساجد نفسها، تلقت القذائف وهي تدعو الى الله الرحمة، وتُكبر من أجل دفن ودرء الفتنة الطائفية بين المسلمين.


قذائف الاسلام السياسي هدمت منائرنا، واستباحت صحائف قرآننا ومكتباتنا واجتاحت حرم جامعاتنا، وقتلت وسحلت بأئمتنا وعبثت بعمائمهم. ومع ذلك مر القتلة عبر الأزقة وهم يُكَّبرون ويُهَّللون للنصر ويرفعون الرايات ويعجلون بظهور الغائب المهدي، فأي مشهد سيكون لو قامت الساعة ونحن عنها غافلون؟.


في كلا الحالتين كان الفعل المُفزِع مصنوعا ومهيئا له بحجم رد الفعل المبالغ فيه. وهذا خلاف المنطق والقانون الطبيعي الذي عَلَّمنا به الصبيان يوماً في المدرسة: " لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه". هل علينا ان نُسكت نيوتن الآن ليعيد صياغة قانونه، مع استثناء نسبي مُعدل على تطبيقات القانون العام للميكانيك المطلوب اعادة صيغته الاجتثاثية في العراق.


ولأننا لاحظنا في كل الكوارث في الحالة العراقية، كان الانتقال المُعد لرد الفعل مُهيئا ووشيك الانفلات بانتظار الفعل مهما كان ذلك الفعل بسيطا. تلكم هي آليات الإجتثاث الكلي العابث بمصيرنا، ونحن متفرجين خائفين مصطفين خلف بعض اللافتات والدكاكين الحزبية الناطقة بلغة وطنية مترجمة عن نص آلي مترجم جاء من بعد او من عل .


علينا ان نعترف أن النظام الاجتماعي في العراق يتسم بأكمله بهشاشته الداخلية، لأن مجتمعنا لا كما عرفناه بات مُتعبا كليا ، فقد توالت عليه النكبات، واتعبته الدكتاتوريات والحروب والصراعات السياسية والنزق الفردي للحكام، ثم جاء الحصار وبعدها الغزو والاحتلال. وكما كتبت عنه في مقالتي السابقة : "دوامة المتاهة في أرخبيل الاحتلال" فان آليات الاحتلال بدأت تأكل ما تبقى من صلابة في جسد وطننا وشعبنا. كما ان أدوات الاحتلال من جيوش غازية مدعومة بشركات حماية خاصة لمؤسسات الاحتلال تُساعدها المليشيات المسلحة محاطة بالعشائر التي تتسلح الواحدة ضد الاخرى. الضعيف منها يحتمي بخيمة الاحتلال، ويعلن توبته أو صحوته لكي تتمكن الخيانة من نزع السلاح المقاوم للامريكيين عن اكتاف الرجال.


كما ان التشرذم الوطني بعد اربع سنوات ونصف من الاحتلال يولد شروطا موضوعية وذاتية ، إما باتجاه الوحدة، أو الذهاب في مزالق الاجتثاث نفسها، ليسود منطق ومنهج الاجتثاث الوطني للوطني الآخر.


ان الامريكيين، وقد قامروا بمصيرهم الكوني في العراق يحاولون الفرض على الجميع أن يلعبوا معهم وفق قواعد لُعب جديدة قديمة، هي لعبة ضارية وشرسة مع من يتورط فيها، واذا لم نجهض مشاريع الاجتثاث بكل اشكالها ونرفضها، فسيبقى الامريكيون هم السادة، طالما ظلوا هم المتحكمين في تغيير قواعد اللعبة وإدارة الصراع متى شاؤوا، فهم عندما يدعون الى مقاومة الارهاب، علينا ان نستنتج دون تردد، أنهم في ذات الوقت سادته ورعاته وحاضنته ومريديه.


علمتنا الفطنة الوطنية على الوعي بالمخاطر المُبيتة، والوعي ايضا بأن الإرهاب وتوجهات الاقصاء والاجتثاث كلها وجوه لمشهد واحد لم نرسمه نحن في واجهة بيوتنا ولا نستبعد عدم إستيراده من الخارج. وهو في أوقات كثيرة يشكل حالة مُستثارة في أوساطنا الإجتماعية والسياسية. وقد تنشأ من خصوصيات معينة، وتنبعث عن فئات اجتماعية يتم انتقائها بدقة. وعناصر الارهاب ليست عشوائية التكوين كما يظن البعض منا. القاعدة السائدة اليوم ضمن منطق الارهاب: "رُعبٌ مقابل رعب"، وباستخدام مثل هذا المبدأ يتم ترحيل الملايين من السكان عن بيوتهم ووظائفهم ومدنهم.


الم يفعل الاعلام الطائفي دوره في خضخضة وهز ما تبقى من الكيانات الاجتماعية الهشة فيغير صورة المشهد العراقي كليا.


الجميع مُتفق إن ما يجري لا يخضع للسياسة ولا للأيديولوجيات والعقائد السياسية والدينية التي الفناها متعايشة اومؤتلفة. ولهذا فان مفهوم اجتثاث البعث لم يكن يُقصد به البعث، كايديولوجيا، في زمن تنتشر فيه الفضائيات والانترنيت وسهولة النشر المعرفي والتداول الفكري.


لاول مرة تحدث المفارقة ، أن يطلب الجزار من ضحيته بأي المديات أو السكاكين سيتم الذبح. ولأول مرة يُعيد الجزارون اقتراحاتهم على اية قبلة من القبلتين الايرانية ام الامريكية يجب ان توجه رؤوس الضحايا من العراقيين قبل نحرها. ولأول مرة يُعيد صاحب المسلخ العتيد النظر في مبدأ حق المذبوح باختيار لحن التكبيرة عند ذبحه.


تلكم هي الوصايا التي يدفع بها كروكر ومن سيخلفه الى برلمان المنطقة الخضراء لمراجعة بعض فقرات الفرمان سئ الصيت؟ لا ينفع ذلك كله؛ فالكانون الذي كان مُعدا لحفلة الشواء الطائفي خرج عن موقده المحدد وانتشر ليشتعل في الهشيم الطائفي نفسه ويهدد باشتعال كل شئ من حول المعسكرات والقواعد الامريكية الحارسة للمسالخ البشرية في العراق.


وتلك محاولة أمريكية يائسة لإطفاء حرائقا، كان سبب اشتعالها بسياسات الاقصاء والاجتثاث، بدأت بالبعث لتمتد الى كل القوى السياسية، وخاصة تلك الرافضة للاحتلال.


والامر لا يمكن ان نُفسره كما يريد الامريكيون تفسيره ان الارهاب والقمع والاجتثاث اضحى قضية تمارسها قوى اسلامية معينة .سواء في العراق او في بلدان اخرى، ويحلو للتنظير الامريكي ان يُصنف انواع الارهاب، ويقسمه شريفا وغير شريف، وحسب الطلب والمقاس المُراد، فهذا ارهاب لقوى يتم نعتها بـ "شيعية أو سنية". والحقيقة ان الارهاب هو الارهاب لاطائفة له ولا دين له ولا وطن ولا شرف ولا قيم. إرهاب لم يعرفه العراق، جاء محمولا الى العراق على دبابات الاحتلال وبطائراته وعبر عملائه. وعندما تطلق ايادي المجرمين في العراق لم تعد هناك قدرة على الفرز بوجود خط فاصل بين ممارسات الضحايا والجلادين، طالما ان القتلة يختبئون خلف الواجهات الطائفية وتحميهم دبابات الاحتلال وأدعية المنابر وصلوات الاستسقاء بسفك الدم مدرارا فوق تراب العراق.


أضحى للاجتثاث مرجعياته وحوزاته بين واشنطن وقم بعد ان كان يُقاد في أول أيامه ويُسَّيَر من قبل لجنة أسسها وقادها أحمد الجلبي وساعده فيها موفق الربيعي ثم إختطفها هادي العامري وصولاغ واحتضنها برعايته السامية عبد العزيز الحكيم والجعفري ثم تَنَصَّبَ فوق تل ضحاياها نوري المالكي.


والاجتثاث العريض اصبح اليوم بمؤسسات ووزارات وكتل نيابية منها العلنية او السرية، وله سياسات وادارات وتشريعات معدلة بعناوين عديدة، تديرها مليشيات وشركات خاصة مستفيدة من ظروف الشرخ الداخلي في المجتمع الذي أوجده مناخ الاحتلال ورعايته.


هذا الشرخ أصبح يتطور ويتوسع لعزل مدن واحياء باتت مُحاطة اليوم بجدران الكونكريت والخرسانة المسلحة، ويتم المرور للمواطنين عبر بوابات خاصة بين حي و آخر. والمواطن اضحى رقما في الخرائط الرقمية، التي تُحدد مواطنيته أو عدمها لدى الاحتلال وتوابعه على ذمة المعلومات الامنية المنقولة عبر البطاقات الممغنطة.


لا مرور للعراقي بعد اليوم الا بواسطة وبمصاحبة بطاقته الشخصية الممغنطة. البطاقة الممغنطة في عصر الأمركة او العولمة المتأمركة هي هوية المواطن الاحتلالي، فهي توشم جلده ولون حدقة عينه ثم تسجله وتراقبه في رواحه ومجيئه عاريا عبر السونار، في دخوله وفي خروجه من هذا القطاع الى ذلك الشارع. والبطاقة الممغنطة أضحت هوية الطالب والجندي والموظف، لها وظيفتها الالكترونية، فهي تُرصده لعيون المحتل الكترونيا. اما محصلة المراقبة المسجلة عنه في حواسيب البنتاغون وأجهزة الداخلية ومليشيات الموت فهي التي تقرر مصيره في البقاء حيا أو الحكم عليه بالتصفية الجسدية.


هذا الاجتثاث الالكتروني الرقمي ينتقل مع الروبوتات البشرية المكلفة بوظيفة المتابعة والمراقبة التقليدية عن طريق الأعوان والعيون والعسس والوكلاء، مهمة تقوم بها تكنولوجيات الرصد التي يجري تطبيقها في العراق وتحددها العقول الالكترونية والحواسيب عالية القدرة والسرعة التي ستعرف مسار حركته وتجوله ومجموعة اصدقائه وأهله وأحبابه. وكذلك يمكنها اصطياده في الزمان والمكان المطلوبين عندما يتقرر اعتقاله أو تصفيته جسديا على يد المجتثين.


اننا امام تحديات أخلاقية وتقنية تستهدف هويتنا الوطنية. الارهاب يدفع الجميع من عملائه للاصطفاف وفق متطلبات وأرادات المحتل ومخططاته. ان الجهات المكلفة بالاجتثاث انتقلت من العزل والابعاد الوظيفي الى الاغتيالات والتصفية للبعثيين لتبدأ مرحلة متقدمة في الاجرام في تصفية آخرين من غير البعثيين. والأنباء الأخيرة التي تصل تتحدث عن تصفيات بينية في صفوف حَمَلَة مشروع الاجتثاث أنفسهم.


وهكذا فهم يصلون الى مرحلة متقدمة في تنفيذ الجرائم، شأنهم شأن صغار العقرب يركبون ظهر أمهم حال ولادتهم، ثم يبدأون بافتراسها وهم فوق ظهرها. وتلكم آفاق ومصير دعاة الاجتثاث في العراق وراكبي قاطرة الاحتلال الامريكية. لقد بدأت أدوات الاجتثاث الاجرامي تصفي بعضها بعض والاخبار المتسارعة من العراق تؤكد ما ذهبنا اليه من أنهم سيتآكلون حتما؛ طالما ان شهوة الانتقام والاجرام فيهم لم تتشبع بعد عندما قادتهم جرائمهم بالخوض بخضاب الدماء العراقية والعربية من جميع الطوائف.


هذا المشروع وأشباهه من القوانين والتشريعات والتعليمات في كل تفاصيله يظل ارهابيا ولا اخلاقيا،ولا وطنيا، وليس لديه أية معايير للشر او الخير. ولا يحتاج الى تفاسير او تأويلات فكرية او تقية فكرية أو الى فتاوى لتأويل أفعاله أو تبريرها.


كل فكرة ارهابية تقودها فرق الموت المتخصصة لقمع الشعب كهدف نهائي تبدأ في تصوير العدو الشبحي المطلوب ذبحه، ككبش فداء مقدس، ثم تُصاغ له المُسَمَيات والمواصفات المطلوبة للبدء في الحملة الاعلامية لاستثارة العواطف المكبوتة لكسب تعاطف فئات سكانية معينة، أو لتخويف فئات أخرى، وعندما يصبح الصمت سائدا، وما لم يواجه مثل هذا المشروع بالرفض الاجتماعي والسياسي والدولي سيحقق المجرمون سلطتهم حيث تسيطر ذهنية الارهاب، فتبدأ في استلام السلطة السياسية تحت واجهة المبادئ والايديولوجيا والاخلاق والدفاع عن "المظلومية".


وهكذا بدأت منظمات بدر وجيش المهدي والبيشمركة ومنظمات اخرى قد يميل البعض منهم الى الاختفاء المظهري مؤقتا لكنها، شأنها شأن كل عصابات الجريمة المنظمة، ستنتهي الى إشاعة القمع والارهاب كممارسة يومية ممتدة في جميع مفاصل الحياة.


ومهما حاول البعض التقليل من حجم إتساعها أو توجيهها نحو أهداف معينة، لكنها ستجد نفسها في النهاية، مندفعة في مطامعها لتكون هي السلطة بذاتها، دون غيرها، فتقف في مواجهة شعبها كسلطة قمعية مطلقة. وعندها يستلطف قادتها السلطة، ومنهم من سيدمن على ممارسة اللعبة السياسية، والتسلط، لذا فهم سيقايضون الناس إما بموتهم مقابل البقاء عبيدا للسلطة أو الرحيل عن الوطن.


وتتكشف يوما بعد يوم ان المفردات المستهلكة مثل "الشهادة" و"الامل في دخول الفردوس والجنة" هي مفردات بارزة لخطاب القمع الثيوقراطي في حث الأنصار والمُريدين وقد بدأت تتكشف للكثير من المراقبين، وباتت الظاهرة بكل مغرياتها لا تدفع الى صفوفها المزيد من المريدين والانصار من الذين لا يريدون التورط والعمل في مثل هذه المنظمات.


المنفذون الباقون غالبا ما يكونون من البطالين وحثالة البرولتاريا الرثة او من الذين تقودهم وتحفزهم ظواهر العماء الطائفي او المصلحة الذاتية الى حتف مجهول، لكن غالبيتهم سيكتشفون أنفسهم من جديد، بأنهم مجرد ضحايا اومنخرطين في كتل من الرعاع والقتلة والادوات المُضَلَلَة. وان البقاء لقادة هذه المنظمات وتشبثهم بملذات الحياة وامتيازات السلطة سيلغي ويزيح عنهم تدريجيا تلكم الهالات التي اضفوها على أدوارهم كقادة وقديسين يتظاهرون بورع الدنيا والقدسية والتظاهر في خدمة أهل البيت وحب المرجعيات والتشبث بالاسلام السياسي والجهاد. ستسقط الاقنعة التي تَقَّنَعوا بها لاجل الغايات التي اجتثوا لأجلها الشعب كله وليس البعث وحده.


وليس الامر كما ارادوا ان يوهموا الناس به. لقد اصبح كل شئ مُستهلكا بما فيه الشعارات والطقوس والممارسات الدينية، حتى وان تضمن بعضها نصوصا واقتباسات من القرآن الكريم أو الغوص في التفاسير المليئة بشتى الانحرافات العقائدية التي يتم انتقاءها من قصص دالة على مكر التاريخ وتآمره وكيدياته ووقائعه الدامية.


والمفارقة ان كثيرا من مظاهر الطهر والنزاهة والعفة التي يتجلبب بها البعض تذكرني بواحدة من مجموعات الطيور الوديعة التي ألفنا معرفتها ويتغزل بها المُبدعين والشعراء والعشاق الا وهي طيور النوارس . فهذه الطيور، رغم هالتها البيضاء، وشكلها البرئ الجذاب الوديع، فهي تشذ عن غيرها من مجموعات الطير، كونها تعتاش فقط على المزابل وبقايا القمامات والجيف البحرية التي ترميها سفن الصيد أو يجرفها الساحل. وهي تعيش ايضا على القمامة البرية في مزابل المدن البحرية وما يجاورها. انها باختصار، لمن لا يعرفها، طيور قذرة، وان كانت ناصعة البياض، وبدت غير مؤذية. وهي تذكرني ببعض من العمائم البيضاء أو السوداء التي تُسَّوِق لخطاب الاجتثاث والكراهية والحقد الطائفي، مثل جلال الدين الصغير الذي حول جامع براثا الى مسلخ بشري، يتبعه في خطبه عدد آخر من الخطباء الآخرين كالقبانجي وغيره ممن لبسوا جلابيب الطهر والإحرام وهم الى القتل والاجتثاث داعين صباح مساء.


ليست دائما من البراءة ان بعض الجماعات تُسوق للدين خطابا لفظيا، بحجة انها تحميه من الخصوم والانحرافات، طالما إنها ارتضت ان تذهب لتعتاش كالنوارس على بقايا لصوص وحطام الحواسم البحرية والبرية، وهي استحالت بعدها الى كائنات بشرية طفيلية في كل شئ في حياتها .قبلت في النهاية الى الذهاب عند ناهبي الجثث المغتالة غدرا، والى سماسرة الموت والخطف المنتظرين عند بوابات وزارة الصحة والمستشفيات، وعند مصالح حفظ الجثث التي استقبلت كل فئات الشعب منهم من كان جريحا أو قتيلا أو مقطوعي الرؤوس او الثكالى اللواتي يفتشن عن بقايا جثث قطعتها تفجيرات السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة.


وباتساع دائرة الاجتثاث بكل فنونه ومظالمه لم تعد مأساة كربلاء ومقتل الحسين "عليه السلام" تثير الغيظ والسخط عند الناس المنكودين على مظالم ورجال بني أمية وسلالة معاوية بن ابي سفيان وذريتهم. ولم تعد المظاهرات المليونية باتجاه كربلاء في اربعينية الحسين عليه السلام، وذكرى واقعة الطف المؤلمة، أو تشييع الامام موسى بن جعفر عليه السلام بمناسبة وفاته في الكاظمية تُثير غيظ العراقيين على ظلم بني العباس وهارون الرشيد، ولا على أولئك الزبانية والجلادين الذين إشتركوا مع حاشية الخلافة العباسية من الشعوبيين والبرامكة، وهم الذين قتلوا الامام الكاظم مسموما ورموا بجثته على الجسر ببغداد، من دون ان يتجرأ احد على إغاثة الامام المظلوم ودفنه في تلكم الاوقات.


ان هذه الصورة المجسدة للظلم والمرتسمة لاجيال عديدة في عقل العراقيين الباطني، سواء بحادثة مقتل الامام الحسين أو سجن الامام موسى الكاظم، لا تحتاج بعد اليوم الى مخيال يستدر العواطف، ويستثير الشجن المطلوب؛ طالما ان العواطف قد تحجرت من خلال محنة العراق اليومية الدامية. و للجماهير ترى اليوم في كل مدن العراق مسبية، وهي مثل كربلاء أو الكاظمية، فكل الرؤوس المقطوعة في الشوارع هي رؤوس الحسين والعباس، وكل الجثث الملقاة في الشوارع ليلا هم من الكواظم، وكل المتشردات والمسبيات في شوارع عمان ودمشق والقاهرة من ماجدات العراق هن زينبات وسكينات ورقيات، وثكالى أهل العراق، هن أسيرات في بلاط يزيد.


اما من يعيد تشغيل الاسطوانة ليستدر بها دموع المظلومين هو اليوم يسب مقام يزيد الاموي، ويذم قصرهارون العباسي، هو يجلس في أحد القصور الرئاسية المغتصبة بحراب الاحتلال في المنطقة الخضراء. وان من يدعو الاجتثاث لكل من يخالف سلطته فهو أَفاق مُتاجر بدء بدم الحسين وانتهاء بغيبة المهدي المنتظر وتغييب أحرار العراق.


والسلطة المغتصبة التي اجتثها المتاجرون في صفحات الحواسم تستصرخ العراقيين لكي يفيقوا ويخرجوا من دهاليز الإقصاء السياسي داخل وخارج العراق. وان اللوذ بمظالم اجتثاث البعث تسقط إدعاءاتهم بحق الاقتصاص من الناس من دون وجه حق أو شرع مقنن.


لقد سقط الترويج الاعلامي لمشاهد إعادة إخراج واكتشاف المقابر الجماعية ونبشها على يد الجلبي والطالباني، وبما تكرره مشاهد قنوات الفيحاء والفرات والعراقية وأشباهها، يكفي التجول ببغداد لنرى صور الاجتثاث مجسدة، تلجم دعاة "المظلومية" ممن تجاوزوا حدود المظالم نفسها. لقد مات زمن "الشعائر" المُفتَعَلَة لإستثارة الكامن من جراح المظالم السابقة. والتاريخ عندما يردم خطاياه سيحرم العودة للتلذذ في المتع الشاذة.


ان المُمارس اليوم هو الشكل المطبوع في ذاكرة الساعة العراقية التي لا تُريد الانزياح عن ردم المأساة المتراكب. ويقيني بأن الضحايا اليوم سوف لا يأبهون بمقولة "دروس التأريخ" ولا "التأريخ يعيد نفسه"، إن لم تكن تلك الدروس او تلك العودة ذات فائدة، وذات منفعة، أو صالحة للاستعمال بالاتجاه الايجابي لمسيرة التقدم الاجتماعي للشعوب.


والسلطة كما قال الحكماء عنها : هي الفتنة بعينها، لم تدم لأحد مهما طال عمره وطغى صولجانه، وقد تبادلها العراقيون وتداولوها من يد الى أخرى، ومن عهد إلى آخر،ومن حزب لحزب، وكما ساندوها يوما فقد رفضوها في أيام أخرى، وقد تقاتلوا من أجلها أو تجمعوا وتفرقوا من حولها، هم نفس العراقيين وقفوا مع الانقلابات المختلفة وأيدوها، ولكنهم في ذات الوقت قاوموها عندما انحرفت عن شعاراتها او إرتدت وأوغلت في ظلمهم وبطشهم.


والسلطة امام العراقيين لم تكن لها قدسية ابدا، كونها مُرذلة لأهلها إن لم تعدل، لذلك تمردوا عليها، ولم يخشوا في الثورة عليها لومة لائم، أو مناشدة ايا من كان، ومهما كان عدد الوعاظ من خلف سلطة الحاكم ،ومهما زاد عدد الداعين الى طاعة أؤلي الامر بعد الله.


والعراقيون لا يهمهم حين ينتفضون مدى الربح والخسارة عندما يشملهم الظلم. ولا يهمهم ان كان الحاكم خليفة من نسل قريشي او علوي، أو كان يحكم باسم الدين والسنة ويدعي انه يمتلك رضا الله عليه ومتمسك بتطبيق بما هو منزل وحكيم.


وبسبب تلك التمردات والانقلابات والثورات التي تكررت مع تاريخ العراقيين في تأريخهم الطويل، تعرضوا الى الخذلان والعدوان وحتى الابادات والمظالم، لكنهم يعودون كلما اشتد ساعدهم لمواجهة الطغاة والغزاة ليعيدوا العراق الى أهله.


لهذا كله كثر القول عنهم وتسلطت عليهم الالسن والوشايات فنعتهم الكتبة في دواوين وحاشية الحكام والجبابرة وفقهاء السلاطين الطغاة، بتسمية ثورات اهل العراق بالفتن ووصفهم بأنهم من "اهل الشقاق والنفاق". ذلك الوصف لا يعني في صفحات التاريخ الثوري للشعوب، سوى انهم شعب متميز، له حراكه الاجتماعي، يفتخر بانتفاضاته على المظالم.


ولهذا ظلت الثورة في هذا العراق هي القاعدة وليست الاستثناء.


هكذا هم العراقيون، قوم مجبولين على التمرد، ورفض الظلم، خلافا لما هو سائد عند بعض جيرانهم من الاقوام، سواء عند اهل الشام أو أهل مصر؛ فالعراقيون سريعوا الاشتعال، قليلوا العطب، ساعتهم قائمة لا محال بعد أن يصبروا ويصابروا، وعندما يثورون لا يقف في طريقهم حاكم أو غاز أو لص أو حتى إمام .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الثلاثاء / ٠٤ صـفـر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ١٩ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور