من أدب المقاومة العراقية - يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة
( نار العنوسة يا أماه ولا ظل جاسوس )

﴿ الحلقة العاشرة ﴾
 
 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
صوبّ بندقيته باتجاهي وزعق في وجهي مثل الكلب المسعور: ادخلي البيت، أغلقي الباب. كان شاباً في مقتبل العمر لم ينبت له شارب، ولو كانت الفرصة قد سُنحت لي للزواج قبل سنوات الغزو، ولولا إضرابي المميت عن الزواج تحت حجج وذرائع واهية: الوقت غير مناسب الآن، هذا أسمر، هذا أشقر، وهذا شبه جاهل، وهذا ذو شخصية مهزوزة - لكنت الآن أماً لصبيٍ بعمره.


رمقتهُ بنظرات شرزة ثم دخلتُ البيت وتركتُ الباب يمضي إلى حتفه بقوة شديدة، أحسست أنه أرعب ذلك الشرطي (الزعطوط) أكثر مما أرعبه خروجي المفاجئ. سرت نحو الداخل، وأنا استعيذ بالرحمن الرحيم، ولسان حالي يردد (يا فتاح ياعليم، يا رزاق يا كريم).


أيقظ صوتي وصراخي العالي جميع النائمين في البيت، فمنهم من خرج حافي القدمين، ومنهم من خرج بقميص نومه، وهناك من خرج وهو يفرك عينيه بكلتا يديه، خرج طفلا عاصي، وهم يتباكون رعباً، أما أمي فخرجت وهي حاسرة الرأسُ (تبسمل).


خرج شقيقي عاصي بسروال داخلي، وكانت هند زوجته تحمل قميصه بيديها تحاول أن تقنعه بارتدائه، لكنه تجاهلها ولاحقني إلى باحة الدار ليستفهم عن زعيقي، وهوية المفرزة الواقفة في الباب، وعن سبب رجوعي وعدم التحاقي بالدوام، إلا إني قطعت عليه الطريق ودفعته إلى الداخل، توسلت به أن لا يفتح الباب، فما أدرانا من هؤلاء الذين يقفون أمام الباب، ومن أين لنا أن نتأكد أنهم قوات أمن حكومية وليسوا مليشيات ومختطفين.


اتصلت بي صديقتي هيام وقالت إنها لن تتمكن من الدوام اليوم، هناك مفرزة أمنية واقفة في رأس الشارع منعوها من الخروج من البيت، أخبرتها إني ٌمنعت ايضاً، حدث معي الشيء نفسه، قالت هيام وهي تمازحني سأضع رأسي وأنام واستمتع بهذه العطلة المجانية. إن الحكومة لطيفة جداً مع الموظفين ولاسيما في قضية العُطل. اليوم حظر تجوال يعني لن نداوم، وغداً عطلة العاشر من المحرم وبعده حظر تجوال آخر وجرمّ هلم.


اتصل بي يوسف، وهو موظف في القسم نفسه، فقال وهو يحدثني في الهاتف أن هناك حظراً للتجوال فجميع المنافذ المؤدية إلى بغداد أغلقت عن المارة والمركبات منذ الساعة السابعة والنصف صباحاً. وقال يوسف إن "القيامة قائمة في بغداد". هناك شائعات تقول إن انقلاباً عسكرياً قام ضد الحكومة. القوات الأميركية وقوات الحرس الوطني تنتشر في شوارع بغداد، وقاموا بإعادة الموظفين والطلاب ومنعهم من الدوام في المدارس والدوائر.


خلعت ملابس العمل وشغلتُ التلفاز، وقفت (الكونترول) عند قناة الشرقية فكان حرب الكلام لا يزال قائماً بين نوابّ البرلمان، مرشحون منعوا من المشاركة بالانتخابات البرلمانية والمعركة مشتعلة بينهم.


سرتني السحب السوداء في السماء، تخيلت حبات المطر تنقر النافذة، وثمة عاصفة هواء باردة تحرك الستائر، ترفعها بالتدريج إلى الأعلى، رائحة القداحّ اقتحمت أنفي، صوت فيروز صدح عالياً من جهاز الجوال، لحقت الجهاز قبل أن تنهي فيروز أغنيتها الشهيرة (سألتك حبيبي لوين رايحين، خلينا خلينا تسبقنا سنين)، كانت هيام مرة أخرى على الطرف الآخر من الخط. كانت تستفسر مني عن رأيي الأخير في موضوع شقيقها صلاح، أمهلتها بضعة أيام أخرى لأفكر في الموضوع. حاولت جاهدة أن تقنعني بالموافقة على الزواج من صلاح. قالت إن صلاح شاب هادئ، وسيم، تخرج من الكلية العسكرية، وكان ضابطا عسكريا قبل الاحتلال. أسس شركة مقاولات كبيرة بعد الغزو، انتهى من بناء بيته قبل شهر وهو ينام فوق جبل من الدولارات.


في الليل، اتصلتُ بهيام وأبلغتها بموافقتي، ووعدتها أن أفاتح والداتي بالموضوع. هيام صديقتي في الدائرة منذ سنوات، سرت أمي كثيراً عندما أخبرتها أن صلاح شاب غني لا ينقصه شيء وأنه ضابط عسكري قبل الغزو، لكنها أمهلتني لتفاتح عاصي بالموضوع وتأخذ رأيه.


في اليوم الثاني وجدت صلاح ينتظرني أمام باب الدائرة ليوصلني إلى البيت مع شقيقته هيام. دار حديث بيننا في السيارة، تحدث عن مشاريعه المستقبلية، وسفراته إلى سوريا ومصر وعن تصميم بيته الذي ليس له مثيل في المدينة. تلقى أكثر من اتصال أثناء قيادته للسيارة، وقال إنه مشغول ويجب أن لا يتأخر فلديه مواعيد عمل. جاءه اتصال وتحدث باللغة الإنكليزية، تصورته اتصال دولي من خارج العراق، لكنه أكد أنه تحدث مع المستر جو في القاعدة.


نزلت من السيارة، وكان صلاح لا يزال يتكلم في الجوالّ، أومأ لي بيديه وانطلق بأقصى سرعة. دخلت المنزل وكانت أمي جالسة مع شقيقي عاصي وثابت شقيق هند زوجة عاصي. توقفوا عن الحديث حين شعروا بوجودي، لكن ثابت إصرّ على الكلام.


قال: سُرى هناك موضوع يجب أن أحدثك به، هذا زواج ليس لعبة تنس.
قلت: وأنا أستمع إليك هات ماعندك؟


قال: إن صلاح يتردد إلى القاعدة الأميركية، صلاح جاسوس، سُمعته غير نظيفة في المدينة. إنه صديق حميم للضابط الأميركي جو.


قاطعت ثابت قبل أن يكمل حديثه، سحبت جهاز الجوالّ واتصلتُ بهيام وأبلغتها اعتذاري بلهجة هادئة: صلاح لا يصلح زوجاً لي، ليتزوج من مُجندة أميركية.


حاولت أمي أن تتدخل وتمنع اتصالي بهيام بحجة التأكد من المعلومات والتأني قبل إصدار الإحكام. أبلغتها أن ثابت لا يكذب، فقبل قليل كنت برفقة صلاح، وهو الذي أوصلني بسيارته إلى الباب، وتحدث مع شخص إنكليزي اسمه جو، الصورة واضحة لا لبس فيها.


قلت لها وأنا أدير وجهي باتجاه غرفتي: نار العنوسة يا أماه ولا ظل جاسوس.

 
Golshanalbayaty2005@yahoo.com
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس / ٠٦ صـفـر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢١ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور