من أدب المقاومة العراقية - يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

( من يمدّ الوطن بالمقاومين ونسائه عانسات )

﴿ الحلقة التاسعة
 
 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
مثل كل البنات المراهقات اللواتي يقبلنّ على الحياة والحب بشراهة، كنت في صباي أسلبُ قلوب الرجال وعقولهم. فاتنة أبهرٌ الناظر إليّ. أجمع قصائد الحب والحكم والمأثورات من القول من المجلات وأنقلها إلى الورق، ثم أطويها وأحتفظ بها في صندوق خشبي يحوي مفتاحاً.


ومثل كل البنات العاشقات والهائمات على وجوههنّ بالسر، كنت أكتب خواطر الحب في دفتر، وكانت لي مفكرة ومذاكرات، أدونّ فيها تاريخ كل نظرة أو بسمة أو ضحكة وسببها، ووقتها، أدون المواعيد والأحداث، وكل كلمة حب تصل إلى أذنيَّ. أنقل نزيف قلبي وجرحه إلى الورق وأحتفظ به في الصندوق.


ومثل كل الصبايا الفاتنات، أدهشني أول رجل التقيت به، وتبادلت معه نظرات الحب الأولى وابتسامة الحب الأولى. ومثل كل الصبايا، سمعت من كثيرين: أنتِ أول حب في حياتي، وأنتِ شمس حياتي وضوؤها وشمعة ليلي. كنت انبهر بأناقة رجل أو بابتسامته أو بشخصيته. أراهم في أحلامي وأتخيل أحدهم يمتطي جواداً أبيض، رآني فانبهر بني، ورأيته فصار فارس حياتي وصرت دقات قلبه ونبضه.


كان كل شيء يسير بشكل طبيعي لا تشوبه الغرابة والشائبة، وقبل الاحتلال بساعات فقط، كنت لا أزال أتبادل رسائل الحب مع من أحب، انتظر مكالمته على الهاتف وينتظر مني اتصالا. الدبابات التي كانت تهبط من جسر الجمهورية، أصوات المراسلين الإعلاميين وهم ينقلون هول الكارثة التي حلت ببغداد، يصفون روعة الديمقراطية التي ستحل بحياتنا، ينقلون أوجاعنا والموت الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من حياتنا وموتنا وزوالنا.


انقلب كل شيء، وانسكب الماء من القدح فاستحال جمعه مرة أخرى. فلم يعد هناك مواعيد ولا رسائل حب، صرت وكأنني لم أمارس الحب ولم يمر في حياتي أي رجل، ولم يكن هناك فارس يمتشق السيف ويمتطي الجواد الأبيض. وصرت كأنني لست سُرى التي تنبهر لطلعة رجل بهي، وتنال إعجاب أول رجل يلتقيها في أول لقاء.


لم يمض أيام على الغزو، حتى أحرقت صندوق رسائل الحب ومفكرة الذكريات، أحرقتهما دون أن أعاود القراءة في تلك الرسائل أو أتلمس بأناملي الهدايا التي كانت تأتيني عربونة صداقة أو محبة.


دوام الحال من ُالمحال، صرتُ سُرى العانس، لا أبالي بأشعار الحب، ولا بقصائد الهوى، لا أسهر على أفلام (عبدالحليم الحافظ) الرومانسية، ولا حتى أغاني أم كلثوم التي تذاع ليلاً لتنشر الحب والوئام. الحرب وأخبار الغزو وانتهاكات قوات الاحتلال حلت مكان الرومانسية في القلب. والرجل الأنيق في نظري يتحدد بموقفه من الاحتلال: أهو معه أم ضده؟!


لمحتُ البوم صور العائلة موضوعاً فوق إحدى الطاولات الموجودة في غرفة الصالة، وتحديداً، في المكان الذي تجلسُ فيهُ أمي. قالت دنيا إن أمي هي التي سحبتها من أدراج المكتبة وكانت تتمعن في الصور: صورة صورة، وقالت إن دموعها سال على وجنتيها كالعادة عندما وقفت على صورة أبي المتوفي وصورة خالي الشهيد سرمد.


دموع أمي لازالت تنهمر رغم مرور عشرين سنة على استشهاد خالي سرمد في حربنا مع إيران أبان الثمانينات. كان أصغر أشقائه، تخرج من الكلية العسكرية والتحق بالجيش برتبة ضابط، ترك خلفه زوجة وولد في العاشرة من العمر وبنتين كان عمر أكبرهنّ لا يتجاوز الخمس سنوات. تكهربت حياة العائلة، وكانت عزاء شقيقاته الأربع ـ إحداهن أمي ـ أن شقيقهم رحل شهيداً إلى جنات الخلد. والشهيدً حي ما عاشت البشرية على الأرض.


كانت أمي تقضي النهار متوترة كلما تأملت الصور في الألبوم. تستعيد ذكريات الأمس حين كان الأموات إحياء يتراقصون بيننا. زجرتُ دنيا وأنّبتها مراراًً وصعقت في وجهها لماذا أخرجت الألبوم من أدراج مكتبتي، وكنت قد أخفيته تحاشياً للوقوع في يدي أمي. قالت إن أمي كانت تبحث في أدراج المكتبة وألحت عليّ في إعطائها الألبوم.


ألتقطتُ الألبوم ورحت أتامل الصور، كانت لي أكثر من صورة، صورتي وأنا طفلة صغيرة لازلت أحبو على الأرض، وصورة عائلية تجمعني بأمي وأبي وشقيقاي عاصي وعمر وسهاد، وصورة أخرى وأنا جالسة في الحديقة التقطتها في العطلة المدرسية وأنا طالبة في الخامس الثانوي، وصور أخرى التقطتها مع صديقتي فاتن ونحن جالستين في حديقة كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة بغداد، وصورة وأنا مسترخية على الكنبة في صالة البيت، كانت بعد الاحتلال بسنة.


اختفى الألبوم من الصالة حين غادرت لتغيير ثيابي في الغرفة، عندما عدت كانت أمي قد أخفته في غرفتها، تسللتُ خلسة إلى غرفة نومها مخافة أن تسبب صوت أقدامي في إيقاظها، وكانت قد غطت في نوم عميق وأصابعها تشبك غلاف الألبوم.


صفحات الألبوم كانت تقف عند صورة لي، الصورة التي التقطتها قبل الاحتلال بسنتين في حفلة خطوبة نسمة ابنة خالي الشهيد سرمد الذي خطبها ابن عمتها المهندس صمد.


قلبت صفحات الألبوم كانت هناك صورة المهندس نبيل، صديق صمد، تقدم لخطبتي بعد لقائنا في حفلة الخطوبة لكني اعتذرت منه لسبب لازلت أجهله. كنت في الرابعة والعشرين من العمر، شابة، مرحة، بشوشة، يتقدم الشباب لخطبتي فأتعامل بلامبالاة، من دون أن يكون هناك سبب مقنع للرفض.


العمر يمضي إلى الزوال دائماً. والموت نهاية المطاف، لكل شيء نهاية، إننا نختم كل شيء في حياتنا، نختم الحياة ذاتها. ترد أمي على سؤال افتراضي يولد تلقائيا كلما اشتدد أوار الغزو وانتهاكاته. هل سيزول الاحتلال وتنقشع عن سماء حياتنا هذه السحب السوداء القاتمة. متى وكيف وهل ستنجلي هذه الليالي المظلمة الآسنة؟
الوطن مُكبل بقيود الاحتلال، وأنا مكبلة بالإحساس بالعنوسة وانعدام الرغبة بالحياة والحب والأنوثة.


تستطرد أمي في حديثها اليومي: إن الاستعمار لم يدم طويلاً في أراضينا، كنا أمة مستعمرة، شعوباً مكبلة بالقيود فتحررنا. ناضلنا حتى أشرقت شموس الاستقلال في سمائنا. تغوص أمي في أغوار التاريخ لتزرع في رأس عانس مثلي معنى أن لا تبقى العانس منا عانسا، فمن يهب الوطن مقاومين يغرسون في أحشائه بذرة التحرر؟إذا شعرت كل بناتنا بالعنوسة وأصبحن عانسات، صادات عن الرجال والزواج، فمن أين نأتي بالمقاومين لُنحرر ونتحرر؟

 
Golshanalbayaty2005@yahoo.com
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس / ٢٨ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ١٤ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور