من أدب المقاومة العراقية - يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة
المفخخات تسلب حياتنا من جهة ، الأمراض من جهة ، الموت يتربص بنا من كل الجهات

﴿ الحلقة الحادية عشر ﴾
 
 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة العانس
حين تكون جالسة فوق المكتب، تغطُ هيام في سُبات صمتٍ عميق وتغرسُ رأسها في الأوراق التي أمامها، وتحنيها أرضاً عندما تكون واقفة، الخجلُ بادٍ على ملامحها وعينيها مغروقتين بالدموع؛ تحاول بشتى الوسائل أن لا تتلاقى أعيننا، تهربُ مني كما تهرب من الأخرياتُ. تكابر وتبلغ جهداً لتتجاوز المشكلة والنظراتُ المريبة نحوها.


أسمعُ صوت هيام الصامت وهي تردد في سرها: شقيقك عميل فلا يحق لك إلاّ الخجل، ويا أيتها الأرضُ الواسعة، انشقي شقين وابلعيني. نحن مجتمع عشائري، الخطأ عندنا يعمُّ، حين يخطئ أحد أفراد الأسرة ويرتكبُ شناعة عظيمة مثل العمالة لقوات محتلة، فإنّ العشيرة قبل الأسرة تدفنُ رأسها في وحل العار والانكسار.


في الحروب والغزوات، الأبناء والآباء هم الذين يرسمون خريطة العائلة ويختارون لها الموضع الذي يجب أن تكون فيه. فأماّ أن ترفع مكانة العائلة إلى أعلى القمم أو أن تنزل إلى أسفل الحضيض. الأشخاص أمثال صلاح، جعلوا العائلة تطأُ رأسها من الخجل. أشقاء صلاح يمشون في الطرقات وهم يحنون رأسهم من الخجل.


مضت أيام ثلاثة وهيام صائمة عن الكلام، شفتاها مغلقتان على جرح كبير لن يندمل. أيام وهيام مضربة عن الحديث والضحك والنظرات الحرة، تأخذُ حقيبتها وتغادر الغرفة قبلي، ولم تعد تتصل بي.


عمالة صلاح أحدثت شرخاً في العلاقة التي بنيناها لأكثر من عشرين عاماً. كنا صديقات بيت ودائرة، نتزاور ونتسامر لوقتٍ متأخرٍ من الليل. لم نفترق ولم نختلف. كنا نتفق دائماً ونترفع عن الخلافات مهما كانت كبيرة. تستعير مني قميصاً يعجبها وأستعير منها تنورة تعجبني. نتبادل الإكسسوارات والعطور وُحقائب اليد. كان هناك تصور من قبل الآخرين بأننا أخوات ولسنا صديقات. فرقتنا عمالة صلاح بل فرقنا الاحتلال بكل مخالبه وأنيابه المتوحشة، فقدتُ صديقتي المقربة.


سألتني هبة – صديقتنا المشتركة – عن سر الخلاف الذي نشب بيننا وجعلتنا نفترق، وكنا موضع حسد، صداقتنا كانت أكبر من أي شيء كان ممكن أن يشتتنا. أجبتها أن هناك مشروعاً للزواج لم يكتمل بيني وبين شقيقها صلاح. ابتسمت هبة وقالت هجست بذلك، صلاح دائما هو لُب المشكلة في هذه العائلة. أنت لست أول امرأة ترفض الزواج من صلاح، بشرى ونبيلة وفادية ودعاء وكميلة وراجحة – رفضن صلاح ايضاً بسبب سمعته. لا أحد يرضى أن يُزوج ابنته من رجل يشتهر بعمالته لقوات الاحتلال، المدينة برمتها تعلم أن صلاح جاسوس فأي أب مجنون سيرضى أن يرمي ابنته في برميل النفايات أو في محرقة نار مستعرة.


قالت هبة إن هيام نشطت منذ عامين لإيجاد زوجة لصلاح لكنها أخفقت، دولارات صلاح وشركاته لا تجلب له عروس. صلاح زوج لا يُشرف.


اتصلت بي دنيا وأنا في السيارة وألحت عليّه في العودة مبكراً إلى البيت، هناك ضيوف بانتظاري. شرح لي سائق السيارة إننا نحتاج لربع ساعة لنصل إلى المنطقة المحددة إن لم يعقنا عائق. وصلنا إلى نقطة تتجمع فيها السيارات وتتلكأ في السير، ظننتُ رتلا أميركيا أو رتلا لقوة أمنية عراقية، لكني اكتشفتُ لاحقاً مفرزة أمنية نصبتها قوة عراقية، قطعت الطريق بحواجز مرور من مادة البلاستيك. عقَّب السائق على كلامي باللهجة البغدادية: رفعوا الجدران الكونكريتية من شوارع بغداد وجاءوا بالبلاستيك، يضحكون على الناس، (عبالهم إحنا قشامر مثلهم).


استغرق قطع الطريق نصف ساعة، وصلت البيت وأنا منهكة. أمام باب المطبخ استقبلني سرمد وضياء وزهد أولاد رائدة بنت العم خليل، اعتادت رائدة على زيارة بيتنا والمكوث عندنا مع أطفالها ولاسيما عند سفر زوجها اثيل إلى سوريا لغرض جلب بضاعة لمحله التجاري في الشورجة. ورائدة هي الزوجة الثانية لاثيل.


بعد الاحتلال، اكتشفت رائدة أن اثيل متزوج ولديه بنت وولد. تزوج اثيل من أرملة عندما كان ضابطاً في الجيش في أطراف البصرة. العلاقة متوترة بين رائدة واثيل والخلافات تتجدد بشكل مستمر. الأولاد هم حبل الوصل بينهما. تقول رائدة إنها أصبحت تفضل أن تبقى البنت عانسا على الزواج برجل هوايته تعدد الزوجات. نتجادل ونختلف في الآراء. تعدد الزوجات ليست حالة سلبية بل أمست حاجة اجتماعية في المجتمع، الحرب خلفت الكثير من الأرامل والعانسات اللواتي صرنا عالة على عوائلهنّ ومجتمعاتهنّ. تضحك رائدة وتصفني بالمجنونة.


أدعو إلى الزواج وأنا عانس، أقول لها إني لست عانسا لكني أشعر بالعنوسة وعنوستي مسألة وقت لا أكثر. غداً تعود الأمور إلى طبيتعها. تتحرر بغداد وتشرق عليها شمس الحرية والاستقلال وتشرق على حياتي شمس الشبابية وتزهر روحي، سأعود صبية في ربيعها الخامس عشر، وسيقف (العرسان) طوابير أمام بيتي وسأتدلل، أرفض هذا وأعدُ ذاك.


تبتسم رائدة وترفع كفها إلى السماء (يا رب) ثم تعود وتطالبني أن أكف عن التنظير أمام اثيل أو أمام الآخرين، فالرجال اليوم يقتنصون الفرص للزواج بالأخرى.


اصطحبت رائدة في نزهة قصيرة خارج البيت مشياً على الإقدام. قطعنا شوطاً كبيراً من الشارع الرئيسي، كانت الشمس تسحب خيوطها الذهبية والظلام ينشر غطاءه الأسود الداكن ببطء. مساحات الظلام أقوى من مساحات الضوء والإنارة. عشرات المصابيح تنير مساحات صغيرة بحجم الثقب والشارع الطويل يبدو مظلماً أو هكذا تراءى لي. محل واحد مفتوح وعشرات أخرى مغلقة. ثلاثة محلات مفتوحة وعشرة أخرى مغلقة. سيارات تمرق مسرعة من الشارع، ثم تختفي جميع السيارات ويصبح الشارع مهجوراً، تمرح فوقها الأشباح. وتمر سيارة مفردة ثم تمر العشرات من السيارات والمركبات.


دراجة نارية تجتاز الشارع، وعربة يجرها حصان، ثمة أشخاص يتمشون فوق الرصيف. هل هذه هي اليرموك يا رائدة؟ هل أصبحت مدينة الأشباح؟ أين اختفت أسراب الطيور، أين اختفى الناس؟


تقول رائدة: الوقت أمسى ليلاً والناس أوصدت أبوابها على نفسها، انتهى وقت التسكع في الشوارع وحان وقت البيت. الخوف والرعب يسيطرانِ على الناس، حوادث الاغتيالات التي وقعت في هذا الحي أربكت الناس فلم يعد أحد يجرؤ على أن يبقى خارج بيته بعد السادسة مساءً. هنا كل شي يحصد أرواح الناس. سيارات ملغمّة وعبوات ناسفة ورصاص طائش. ومليشيات امتهنت القتل والاحتفال بدماء الناس.


الأخبار الحزينة تتسلل دائماً وتخترق الأجواء، تفرض نفسها بسرعة مدهشة، تسري آثارها سريان السرطان في الجسم. اكتشف قيس زوجة عمتي منى بأنهُ مصاب بمرض) للوكيمياء). قالت لي أمي بعد أن عادت من زيارته في البيت، إنه يستعد لاستقبال الموت، يرفض أن يتعالج ويقول إن العلاج الكيميائي سيستنزف الأموال والوقت والجهد وسيؤخر الموت بضعة أيام أو أشهر. ولداه رباح ومنذر مصران على أخذه لخارج العراق لغرض العلاج.
أخفيت دموعي أمام أمي لكني أطلقت العنان لها في غرفتي. جرت دموعي غزيراً أمام المرآة. احتشد أمامي كل شيء بسرعة برق. شعرتُ أني لا أشعر بالعنوسة بل صرت عانسا بالفعل، كبرت ألف عام في هذه اللحظة.


السرطان سيسلب من العم قيس حياته، وسيسلب منّا رجلاً طيبا، كريم النفس، سيخسر هذا الوطن فرداً آخر. اللعنة على الاحتلال، المفخخات تسلب حياتنا من جهة، والأمراض من جهة، الموت يتربص بنا من كل الجهات. خواتم حياتنا أصبحت مقلقة وكئيبة لا تسر العدو ولا الصديق، كفكفت دموعي حين شعرت بخطوات أقدام تقترب من الغرفة.


دخلت أمي وطلبت مني أن أهيئ نفسي للذهاب إلى بيت العم قيس لتوديعه، فقد طلب حضور جميع الأقارب لوجبة العشاء قائلاً إنه سيكون العشاء الأخير. ألححت على أمي أن لا أذهب لكنها كانت أكثر إلحاحاً، فالعم قيس خصني بالحضور.

 
Golshanalbayaty2005@yahoo.com
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد / ٢٣ صـفـر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٧ / شـبــاط / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور