عجبا كيف ترتعد خوفا فرائص السلطة المحصنة في المنطقة الخضراء ,
والمحمية بثلاثة عشر جهاز أمني , ومليون جندي وشرطي , وفيالق من
المليشيات , وسلطة قرار وأموال , وأضخم محطة مخابرات أمريكية في العالم
, وأتفاقية أمنية , تعهدت فيها الولايات المتحدة الامريكية بحماية
الحكومة من الاخطار الداخلية والخارجية , وأكبر محطة ل(أطلاعات)
الايرانية , تتبعها المئات من الواجهات بأغطية ثقافية ودينية وأنسانية
, وسبع سنوات من التثقيف الطائفي , وعمليات غسيل الادمغة , بواسطة
عشرات الفضائيات , والصحف الصفراء , وكتاب الدولار ورجال دين السلطة ,
ومع كل ذالك يتحول من تطلق عليهم تسمية (فلول) الى فهود , يقضوا مضاجع
المسؤولين ليل نهار , ويجبرونهم على التواري في الجحور , والتنقل
بالطائرات أو بسيارات الاسعاف داخل البلد للتمويه , وهم الذين أسر
الامريكان قادتهم , فمنهم من قضى نحبه بأيدي السلطة ,ومنهم من ينتظر
وما بدلوا تبديلا , وأستخدموا المثقاب الكهربائي والمواد الكيمياوية
لاجتثاث أفكارهم , وهجروا عوائل أنصارهم ومؤيديهم في كل زاوية من خارطة
العالم , وأستباحوا دورهم وأموالهم , وغيروا أسماء الشوارع والساحات
والاحياء والمدارس التي تشير الى منجزاتهم , والغوا أيامهم التي كانوا
يحتفلون بها , وهدموا النصب التذكارية التي ترمز لهم , ونقضوا قوانينهم
التي لايستفادون منها .
أنها حقا صورة شديدة التناقض , بين أن تملك كل أسباب القوة المادية ,
وأجهزة العنف المنظم وغير المنظم , لكنك تكتشف بان هذه القوة خاوية ,
وعاجزة عن تحقيق أهدافك , بينما لايملك الاخرون شيئا من أسبابها , لكنك
تكتشف بأنهم قادرون على هزيمة أجنداتك ومن يقف خلفك , ويفرضون حضورهم
المادي والمعنوي على المسرح السياسي الذي تحاول أن تبدو سيدا فيه , تلك
هي المعادلة التي تحكم الحياة السياسية العراقية اليوم , وهي بمقدار
تناقضها فانها تكشف عن حقيقة حتمية الصراع التاريخي بين القوى الحية
التي تملك الماضي والحاضر والمستقبل , وبين القوى الطارئة التي حتى وأن
أمتلكت الحاضر , فأنها تبقى بلا قرار أو أن قرارها سيكون مجرد ردود
أفعال سلبية , ومحاولات طا ئشة لتأكيد الذات , أمام أصرار القوى
التاريخية على الثبات والمقاومة والتغيير .
لقد ولدت الاحزاب الحاكمة اليوم في العراق , وهي تحمل فيروسات موتها
وأندثارها , منذ أن تحكم الاخرون في ولادتها , وظروف نشأتها , وتمويلها
وتسليحها , وركبوا لها عقولا تفكر بمصالحهم وتنفذ أجنداتهم , ووضعوا
لها أهدافا وخططا ستراتيجية , تقضي ببعثرة النسيج الاجتماعي , والتلاعب
باللحمة الوطنية التي ولدنا عليها نحن وأبائنا منذ الاف السنين ,
وتدمير البنى التحتية للانسان , وافقاده هويته الجامعه , وجعله يعيش في
جو من الاستلاب الثقافي والتاريخي والاخلاقي والديني , كي تسهل قيادته
الى مستقبل مجهول تتحكم فيه تلك الاجندات لذلك لاغرابة أن تبرز كل هذه
الصور المأساوية في الحياة اليومية العراقية , وأن تتراجع كل المؤشرات
التي تدل على التقدم البشري فيه , مئات السنين الى الوراء , حتى تبدو
لغة الارقام خجلى مما حل به , وها هو وكيل وزير التربية يصرح ( ان
أعداد الاميين في العراق بلغ خمسة ملايين
عام 2008 و 2009 بينما في عام 1991 أنتهت ولم يبق أي أمي في العراق )
ويضيف ( أن قانون محو الامية الذي قدم منذ عام ونصف على طاولة مجلس
النواب لم يصادق عليه )
علما بأن موازنة العام 2010 خلت تماما من أي تخصيص مالي لاقامة دورات
محو الامية , لان هذا المجال هو أبعد مايكون عن تفكير السلطة
(الديمقراطية في العراق الجديد) , التي لاتتوانى عن هدر ملايين
الدولارات في تأمين الحمايات الخاصة لمسؤوليهم الذين وصل عددهم الى
4500 عنصر فقط لحماية طالباني , 2500 عنصر لحماية عمار الحكيم , 1200
عنصر لحماية الهاشمي , و140 عنصر لحماية رئيس البرلمان , ولايمكننا
أحصاء مايحيط بزعيم (دولة القانون) من حمايات لانها لاتعد , والذي بلغ
عدد مستشاريه فقط اكثر من ستين مستشار, بينما بلغت مخصصات مايسمى رئاسة
الجمهورية في هذه الموازنة 100 مليون دولار , ورئاسة الوزراء 140 مليون
دولار , ورئاسة البرلمان 570 مليون دولار , واذا أضيفت الى هذه المبالغ
رواتب الموظفين العاملين فيها , فأن مخصصات الرئاسات الثلاث تصبح مليار
و 113 مليون دولار فقط .
لقد أستسهل (قادة العراق الجديد) كيل الاتهامات الى البعث , حتى أصبحت
لازمة معتادة في كل خطبهم , لانهم قادة أقوال لاأفعال , وسراق لحظة
سياسية لارجال مرحلة , ومعاول هدم لابناء وباتوا يكتشفون يوميا بأنهم
أعجز من أن يأتوا بمثل ماجاء به الذين سبقوهم , فهاهي سبع سنوات مرت من
عمر ( العصر الديمقراطي ) والمواطن يتسول قوت يومه , ويعجز عن أرسال
أطفاله الى المدارس , ويعاني من المرض والبطالة , ويفتقر الى الماء
والكهرباء والمحروقات ولم يرتفع في البلد حجر فوق حجر , ليكون شاهدا
أمام شعبهم على أنهم رجال دولة , على الرغم من رفع الحصار الاقتصادي عن
العراق , وأطفاء الديون من قبل دول العالم , ومئات الملايين من
الدولارات كمساعدات دولية للاعمار , مضافا اليها مئات المليارات
كعائدات نفطية بينما لم تمر سوى أربع سنوات على حكم البعث حتى تحقق
التأميم , ذلك الانجاز العملاق الذي نقل العراق من مرحلة التخلف الى
مرحلة الخطط التنموية الانفجارية , التي رفعت المستوى المعيشي للانسان
العراقي , وجعلته من حيث قيمة الدخل مساويا لدخل الافراد في الدول
المتقدمة , كما نتج عنه مجانية التعليم التي قلصت الفوارق الطبقية في
المجتمع , وجعلت العلم في متناول الجميع , وكذلك الاشراف الصحي المجاني
في كل المؤسسات الصحية العراقية , وأنشاء الطرق الدولية السريعة ,
والسدود الاروائية , وتطوير الزراعة والصناعة والتجارة , بينما لم يكن
العراق تحت الحضانة الامريكية كما هو عليه الان , ولم يكن قادته من صنع
أمريكي وأيراني وأوروبي كما هم حال (قادته ) اليوم , كي يحضوا بدعم
قطبي دولي وأقليمي بل كانوا أصحاب قرار مستقل , ومشروع وطني وقومي .
لقد كشفت أزمة أستبعاد بعض الكيانات السياسية عن المشاركة في
الانتخابات القادمة , بدعوى شمولهم بقرارات الاجتثاث , عن ضحالة
القائمين على الشأن العام العراقي , وعن أنعدام التأييد الشعبي لهم
الذي حاولوا تزويره منذ العام 2003 , تارة بدغدغة المشاعر الطائفية ,
وتارة أخرى بالفتاوي الدينية , وأحيانا بتقديم الرشوة وشراء الاصوات ,
كما أنها كشفت مرة أخرى عن صلابة البعث , وحيوية تفكيره , وصلادة بنائه
التنظيمي , الذي أستوعب كل الضربات والمجازر الوحشية , وجاهزية جماهيره
في تغيير وسائل النضال حسب ماتقتضيه ظروف المرحلة , وأثبت مرة أخرى أنه
حزب المؤسسات القادرة على القيادة , حتى وأن غييبت قياداته الرأسية ,
وهو الاقوى في المشهد السياسي , وأن قرارات حظره وأجتثاثه لن تكبل
حيويته وفاعليته السياسية , مهما أحتشد خلفها من قوى دولية وأقليمية ,
الذين بان عليهم الاضطراب والتخبط بسبب فشلهم في أيقاف زحفه, فشرعوا
بأجتثاث حتى حلفاء الامس الذين شاركوهم (العملية السياسية) منذ سبع
سنوات , وساهم مداد أقلامهم في كتابة (الدستور) البغيض .
أن الخوف لاينتاب الا الفاشلين الخاوية عقولهم , الكليلة أذرعهم عن
الفعل المشهود , ولو كان حكام (العراق الجديد) يتسمون بأبسط صفات
الوطنية , ولو لم يقدموا على ظهور الدبابات الغازية , ولو كانوا صناع
منجزات حقيقيين , لكفى المالكي نفسه الصراخ والتحذير من قدوم البعث ,
لان منجزاته هي التي ستتحدث عنه , وستكون هي اللافتة الانتخابية
الحقيقية التي تعيد أنتخابه الف مرة , لان الاحتكام الى الاصوات هو
القرار الحاسم في العملية الديمقراطية , وليس القرارات التي تجتث
الاخرين , لكن الخوف من الحقيقة , والتشبث بالسلطة من أجل المزيد من
الاثراء اللامشروع , هو الذي يجعلهم يجنحوا الى القرارات اللاشرعية ,
وتغييب الاصوات الرافضة للمنهج التدميري الذي يقودونه اليوم في العراق
الجريح الاسير .
|