صقر الغرب .. قناص ساحة جهاده الفلوجة ومدرسته مارينز الاحتلال !

﴿ الجزء الثاني ﴾
 
 
 
شبكة المنصور
حسين المعاضيدي - صحفي عراقي
وضع (جو) أول أقدامه على أرض بغداد الرشيد، وراح يبحث عمن يوصله إلى مدينة الفلوجة التي كانت قد أرتفع نجمها وسطع في سماء العالم بعد سلسلة العمليات التي استهدفت المحتلين فيها، كرد من أبنائها على الوجود الأميركي في المدينة، فتمكن (جو) من الوصول إلى جامع أبن تيمية (أم الطبول) عن طريق بعض الأشخاص الذين قدموا له يد العون والمساعدة، وهناك التقى بمجموعة من علماء الدين الذين كانوا متواجدين في الجامع، فسألهم (جو) الذهاب إلى الفلوجة ليجاهد فيها، وحدد لهم نيته الالتحاق بأتباع الشيخ (عبدالله الجنابي) الذي كان حينها قد حصل على تفويضاً من فصائل الجهاد للتحدث باسمها، وكان برفقة (جو) مدرس لغة إنكليزية يساعده في الترجمة تبرع بمرافقته.

 

حرص المشايخ، بعد تأكدهم من صدق نيته، وإصراره على الالتحاق بفيالق الجهاد، على إيصاله إلى الفلوجة وإدخاله إلى هناك، وهو ما كان، ففي مساء ذلك اليوم طرق ثلاثة أشخاص دار الشيخ (عبدالله الجنابي)، بُعيد صلاة العشاء، وكان لم يتناول طعام العشاء بعد.. أحد هؤلاء الأشخاص الثلاثة كان من مشايخ الفلوجة، والذي قتل في معارك الفلوجة الأولى، مقبلاً غير مدبر، تقبله الله، ممن كانت له مواقف وصولات وجولات في ميدان الجهاد منذ بداية الاحتلال، ومعه شخص يجيد الحديث باللغة الإنكليزية من أبناء الفلوجة عُهد إليه بمرافقة الضيف الجديد لتسهيل مهمته، إضافة إلى رجل طويل القامة، صحيح الجسم، أبيض اللون، مائل إلى السمنة غير المفرطة، يرتدي ثوباً، ويلبس ما نطلق عليه بلهجتنا (جاكيت)، وكان ذلك هو (جو) الذي تم تقديمه إلى الشيخ (عبدالله الجنابي) باسم (عبد الجليل)، وانه أخ مسلم أميركي طلب رؤية الشيخ الجنابي ومقابلته، فرحب الشيخ الجنابي بضيفه الذي جاءه من خلف البحار البعيدة بحرارة، وأوضح له أنه بين أهله وإخوانه، وقدم لهم طعام العشاء، فراح (عبد الجليل) يأكل برغبة حتى شبع، لكنه لم يتأكد من أن مضيفهم هو الشيخ (الجنابي) نفسه، حيث لم يكن الشيخ عبدالله يرتدي ملابسه المعتادة والتي ظهر بها على شاشة التلفاز حينما شاهده (جو) حينما كان يلقي إحدى خطب الجمعة، والتي تناقلتها القنوات التلفزيونية والفضائية، فيما كان (عبد الجليل) يردد بصوت منخفض: (جنابي، لا ليس جنابي)، مكرراً العبارة كثيراً، حتى لاحظ ذلك الشيخ الجنابي، الذي أبتسم وذهب ليرتدي الجبة والعمامة، وحينما عاد إلى الضيوف قفز (عبد الجليل) بعد أن وضع قدح الشاي من يده، وراح يُكبّر بحماسة وفرح، معانقاً الشيخ عبدالله الجنابي، قائلاً بلغة عربية ضعيفة (جنابي، والله العظيم جنابي.. الله أكبر وصلت لمن أريد)!

 

طلب الشيخ عبد الله من أحد مساعديه بعد فترة من الزمن تنسيب (عبد الجليل) إلى إحدى المجاميع الجهادية العاملة في الفلوجة بعد تأكدهم من صدق كلامه، فقد كانت المجاميع الجهادية تخشى محاولات المحتل خرق فصائل الجهاد ودس العملاء في صفوفهم.

 

كان (عبد الجليل) سعيداً باسمه الجديد، لكن لحظات السعادة ليست دائمة معه، فقد كان يجلس أحياناً ويبكي كثيراً وهو يتذكر أيام (جو) وخدمته في الجيش الأميركي، لأنه يستذكر الظلم والحيف الذي كان يتعرض إليه الناس على يديه، وأيدي زملائه من جنود الاحتلال، وهم يقومون بعمليات القتل العشوائي للمدنيين، وكيف أن أوامر البنتاغون تقضي بقتل كل ما يتحرك على وجه الأرض، بغض النظر عن هويته أو جنسه أو شكله، ومن هنا جاءت مذابح الغزاة بحق المسلمين في العراق، إذ راحوا يقتلون بلا أدنى رحمة أبناء وادي الرافدين، تماماً كما كانت الطائرات والمروحيات والمدفعية والصواريخ  تقصف بلا تمييز، سواء أكانت الأهداف عسكرية أو مدنية! كانت تلك الدمعات التي تتساقط من عينيه دافعاً له ليقسو أكثر وأكثر في العمليات الجهادية والاشتباكات التي كان يشترك فيها ضد قوات الاحتلال التي كانت يوماً ما قواته!

 

كان عبد الجليل يرى في القسوة على المحتلين وسيلة للتكفير عما كان يعيش عليه من ضلالة، رغم أن المشايخ وإخوته ورفاقه في الجهاد كانوا يؤكدون له أن الإسلام يجبُّ ما كان قبله، وأن تلك السيئات قد أبدله الله مكانها حسنات، أو هكذا يحسبون، لكنه كان يصر على الثأر من نفسه، ومن ماضيه، ومن الجرائم التي كان، وبقية جنود الاحتلال يرتكبونها ضد المسلمين في كل بقاع الأرض، قبل أن ينير الله قلبه بالإسلام ويهديه إليه.

 

كان ورغم لغته العربية الضعيفة يحاول التلذذ بالحديث بها، فقد أحبها بشغف رغم صعوبة نطقه بها، كونها لغة القرآن الكريم كما كان يقول، وهي لغة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان يعشق كل ما يقربه من الله تعالى، ومن رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم.

 

كان (عبد الجليل) يكثر من المزاح مع رفقاء الجهاد، ويؤكد لهم على الدوام أن علاقته بهم تجعله أسعد من خلق الله على ظهر هذه البسيطة، فهو لم يكن يرى في علاقته بجنود الاحتلال، ممن كانوا معه في خدمته العسكرية أية لذة، فلكل واحد منهم كان له شأن يغنيه، ولا يوجد سوى العلاقات السلبية مع الجنود،  وكثيراً ما كان يُفصّل ويشرح لإخوته التفكك الذي يعيشه الجيش المحتل من حيث العلاقات الإنسانية، وكيف أن كل واحد منهم يسعى للحفاظ على حياته بأية طريقة، عكس ما كان يراه في علاقته بعد إسلامه مع أخوة الجهاد، الذين كانوا يتسابقون فيما بينهم للتضحية بأنفسهم في سبيل إخوتهم ورفاقهم في الجهاد، وقبل ذلك من أجل أمة الإسلام.

 

زادت قناعة (عبد الجليل) في الإسلام ديناً ودستوراً للحياة من خلال معايشته له، ومن خلال حياته الجديدة مع الأسر الفلوجية، وأسلوبها الملتزم في حياتها اليومية، ثم بدأ في تعلم اللغة العربية، وقد أحرز في ذلك تقدماً ملموساً حيث أصبح يتحدث بها وأن كان بشكل بسيط، وباتت حياته تسير تبعاً لمبادئ الإسلام وروحانياته، وحينما أوشكت المعركة على البداية تم وضع (عبد الجليل) مع كتيبة قنص مهمتها استهداف الأرتال الأميركية وقطع طرق الإمداد التي تؤدي إلى الفلوجة، وكان هو على رأس مجموعة قنص مكونة من ثمانية مجاهدين على طريق (فلوجة_ كرمة)، حيث جلس في مزرعة للذرة في أحد البساتين وبيده سلاح قنص أميركي تم غنمه من قوات الاحتلال نفسها، وتم منحه إلى (عبد الجليل) كونه متدربا عليه أثناء خدمته في الجيش الأميركي، حيث كان أحد امهر قناصي الجيش المحتل، وطلب تأمين عتاد كثير له، وحينما بدأت المعركة وأخذت أرتال القوات الأميركية المحتلة تتقاطر على محيط الفلوجة، بدأت معركة (عبد الجليل)، فمع اقتراب أول رتل أخذت رصاصات (عبد الجليل) تتقاطر، وبدقة فائقة، على الجند المحتلين الذين يعتلون ظهر الآليات، فلم ينجو أي من أولئك الجند حيث كان يضع الرصاصة في الوجه والرأس، وبشكل دقيق جداً، فيما كانت قاذفات بقية المجاهدين تحصد الآليات كما يحصد المنجل سنابل القمح، فأحدث نكاية كبرى في صفوف جنود الاحتلال، حتى تمكن وزملائه من قطع الطريق على تلك الأرتال التي ما عادت تستطيع الوصول إلى الفلوجة، التي كان داخلها ملتهباً في معركة حامية الوطيس أطاحت بعرش أميركا وهيبتها، ومرغت انفها في تراب أرض الفراتين.

 

دامت المعركة عدة أيام، وحاول طيران المحتل تأمين انسحاب للقوات التي تحاصر مدينة الفلوجة، والتي تعرضت بدورها إلى حصار خانق من الخلف، وأصبح مصير تلك القوات بين كماشتي فصائل الجهاد، التي عملت وفق خطط عسكرية يعجز كبار جنرالات العسكر عن وضعها، وهو ما يدل على حنكة عسكرية كبرى تتمتع بها فصائل الجهاد، لولا تدخل شخصيات خانت الله ورسوله من تلك التي انضوت تحت لواء ما تسمى العملية السياسة، والتي عملت على تخليص قوات الاحتلال من شرك فصائل الجهاد التي أحكمت الطوق عليها، من تلك التي تنتمي إلى أحزاب تدعي أنها إسلامية شاركت في بيع العراق إلى أميركا والى إيران وبقية مخابرات دول العالم.

 

وضعت الحرب أوزارها، وخرج المحتلون بعار كبير بعد تعرضهم لصفعة على يد فصائل الجهاد جعلتهم يعيدون حساباتهم وهم يغزون بلاد الإسلام، حتى قال كبير جنرالاتهم واصفاً تلك المعركة بأنها كانت مسمار جحا الذي منع أميركا من مواصلة سيرها باتجاه دمشق وبقية عواصم الدول العربية التي كان مخططاً الاستيلاء عليها واحتلالها من قبل القوات الغازية، فكانت تلك المعركة بحق مسمار في نعش الغول الأميركي الذي انكمش بعد ذلك بفضل الله وقوة فصائل الجهاد في العراق.

 

(عبد الجليل)، والذي أردى أعداداً كبيرة من جنود الاحتلال كان يُكبّر مع كل رصاصة تستقر في جبين جندي محتل قائلاً: (الله اكبر.. الله أكبر.. هذه بتلك) قاصداً محاربته للمسلمين، واستهدافه لهم قبل أن يرى النور ويُسلم، وفي خضم تلك المعركة، وبعد أن أحدث خسائر كبيرة في صفوف المحتلين في تلك المنطقة كثفت قوات الاحتلال من أعمال الرصد حتى تمكنت إحدى الطائرات من رصد مكانه، فأطلقت عدة صواريخ على المكان التي كان يتخفى به ورفاقه، فأصاب أحد تلك الصواريخ مجموعة القنص تلك، وبعد لحظات وصل إلى المكان عدد من المجاهدين لاستطلاع ما جرى لأخوتهم، فوجدوا أن جميع إخوة الجهاد الثمانية قد قتلوا، أما (عبد الجليل) فقد وجدت جثته وقد تناثرت وتحولت إلى أشلاء بعد أن أصابه أحد صواريخ المحتلين بشكل مباشر، ليعثروا على إحدى يديه وهي لا تزال ممسكة بالقناص الذي كان يسوم أعداء الإسلام منه ألوان الهلاك.

 

قتل(عبد الجليل) وانتهت رحلته إلى الله، والتي عبر فيها آلاف الكيلومترات بحثاً عن مرضاة ربه، بنصر كبير لإخوانه في فلوجة العز، وشهادة نسأل الله أن ترفعه عند خالقه أعلى الدرجات، فكانت خاتمة مشرفة ما أحلاها من خاتمة، يستحقها بعد أن أشتراها بقوة أيمانه، وصبره، وتضحيته، ومجاهدته لنفسه، وهجرته من أقاصي الأرض إلى أقاصيها نصرة لدين الله الذي قدم له أعز ما يملك، روحه الطاهرة ودماؤه الزكية التي سالت على ثرى الإسلام، أرض الأنبار .. فسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً.

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٢٢ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ٠٨ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور